أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - سرّ كافافيس 1 / 2















المزيد.....

سرّ كافافيس 1 / 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1513 - 2006 / 4 / 7 - 08:29
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في الوحي والإيحاء :

كان الشِعرُ ، دوماً ، كلمة َ الله ؛ الكلمة التي تلقاها بنو البشر عبْرَ وساطة النبوّة . بالمقابل ، فإنّ الوحيَ متمثلاً بملاك مُرسل ٍ ، هو الموصل تلك الكلمة إلى رسول الهداية . الشعرُ ، إذاً ، رسالة ُ عالم الغيب إلى عالم الموجود ، ساعيها وحيٌ ومبلّغها نبيّ . لا غرو ، والحالة هذه ، أن يُخلبسَ شاعرُ القرون الخوالي جمهورَهُ بخرافة الإلهام ومغامضه ؛ الإلهامُ المستعادُ بصورة الوحي ، الملائكيّة . وإذا نحينا جانباً إعتقادات الأولين الخرافية ، تلك ، فلا محيدَ لنا هنا إلا الإحاطة بإحدى إشتقاقات مفردة " الوحي " ؛ وهي " الإيحاء " . الشعرُ ، أبداً ، فعلُ إيحاء ٍ ؛ وبمفهوم المعاصرة _ كيلا نستعمل كلمة الحداثة ، جزافاً! وفي إصرارنا على أنّ الشِعرَ ، بالدرجة الأولى ، رسالة ٌ ما ؛ فلنرَ ما يقوله النقدُ الجديد ، تحديداً ، بخصوص الطبيعة الإيحائية ( أو الرمزية ) للأعمال الأدبية ، خلال مشادته مع سلفه ؛ النقد القديم : " فلقد تمّ التأكيد على الحقوق الشمولية للرسالة ، دون أن يُترك المجال أبداً لسماع أن الرمز يستطيع أن يمتلك حقوقه هو الآخر . وربما لاتكون هذه الحقوق هي بعض الحريات المتبقية التي ترغب الرسالة في تركها له . ونريد أن نسأل ، هل تقصي الرسالة ُ الرمزَ ، أم أنها تسمح به ؟ وهل المعنى في العمل حَرْفي أم رمزي _ أم هو أيضاً ، كما يقول رامبو ، " حرفي في كل الإتجاهات " ؟. (1)

لقد سالَ كلامٌ كثير على ورق تاريخنا ، فيما يخصّ مسألة إزدواجيّة المعنى في كتاب الله ؛ الظاهري والباطني . المدهش هنا ، ذلك التلازم في سيرورة الوحي والإيحاء ؛ بما أنّ هذا الأخير هو فعلٌ شعريّ خالص . فالمعنى الباطني ، دينياً ، يجدُ له مقابلاً أدبياً ؛ هو تعددية القراءة للكتاب نفسه ، شعرياً كان أم روائياً . وبهذا المعنى ، يأتي قول الناقد رولان بارت : " فالتعددية لا تشير إلى ميل المجتمع نحو الخطأ ، ولكنها تشير إلى إستعداد الكتاب نحو الإنفتاح . والكتاب يمتلك في بنيته ، وليس عجزاً من أولئك الذين يقرأونه ، عدداً من المعاني في الوقت نفسه . وهو بهذا يعتبر رمزياً : وليس الرمز صورة ، إنه تعددية المعاني نفسها " (2) . ثمة تلازم آخر في سيرورة النص المكتوب ؛ الديني والشعري : إنه " إستيحاءُ " الأسطورة ، المعبّر عنها دينياً في قصص الأنبياء . لغة الإيحاء ، الشعري ، في تخلقاتها وتهويماتها وهذياناتها .. ، تشابه إلى حدّ بعيد ، " في الواقع " ، لغة الوحي الإلهي ؛ بما هي عليه من ما ورائية غير خاضعة لقوانين الزمان والمكان . كلا النصان ، الشعري والديني ، يُشبه في هذا المجال ، عالمَ الأحلام والأساطير : " فهي كلها " مكتوبة " بلغة واحدة ، وهذه اللغة هي اللغة الرمزية ". (3)

النصّ الدينيّ ، كما أسلفنا ، هو " وحيُ " عالم الغيب إلى عالم الموجود . هذه الصفة ، تتجرّد في النصّ الشعريّ ، وبدون أن نبسّط الأشياء ، إيحاءً رمزياً خالصاً لعالم الموجود _ أيْ الواقع . جدلية الرمز والواقع ، هيَ قدَرُ الشعر قديماً وراهناً ؛ وبغض النظر عن أغراضه ومعانيه وأساليبه . إنّ التأكيد على الرمز هنا ، لا علاقة له بتلك المدرسة الشعرية ؛ الرمزية ، بله ما يتحدد في " تعددية القراءة " ، بحسب تعريف الناقد رولان بارت ، آنف الذكر . كلّ نصّ شعريّ ، إذاً ، يكمن أصالته وفرادته في قراءاته المتعددة ، المختلفة ، جيلاً وراء جيل . كأنما هي ولادة ٌ متواترة ٌ لمخلوق واحد ؛ وكلّ خلق ٍ إبداعٌ .. كأنما الشاعرُ على موعدٍ دائبٍ مع خلوده ؛ خلود نصّه : هاهنا سيرورة التلازم بين الشاعر والنبيّ ، في أسطع أمثلتها .. هاهنا ، أيضاً ، شاعرٌ ؛ هو اليوناني قسطنطين كافافيس ، الذي إستحق لقب " شاعر المدينة " ، بحسب ما أسبغته عليه الرواية الخالدة " رباعية الإسكندرية " (4) . هو من إبتده رسالته _ كأيّ نبيّ _ في مستهل الأربعين من عمره ؛ من أسجى نصّه ببرقع الرمز الشفيف ، المتماهي مع واقع حياته ، الممضّ المبتئس الضائع .. هاهنا ، بعد كل شيء ، قراءة جديدة لعالم شاعرنا الإسكندراني ، القديم الرائع .. الشاعر المُحتفى به أبداً على ضفتيّ المتوسط ؛ البحرُ الذي إنتمى إليه وأحبّه :

" نحنُ أهل الإسكندرية ، وأهلُ أنطاكية
نحن أهل سلوقية .. نحن إغريق مصر وسورية
وأولئك الذين في ميديا ، وفارس .. والآخرون جميعاً .
بسيطرتنا الممتدة بعيداً
بنفوذنا المتنوّع ، والمكيّف بحكمة
ولغتنا الإغريقية المشتركة
حملناها إلى أواسط باكثيريا ، وحتى إلى الهنود " (5)

في روح " شاعر المدينة " :

لم ينتم كافافيس ، روحاً وإبداعاً وجسداً ، إلا للإسكندرية ؛ المدينة الأفريقية ، السمراء ، المتسقة بوداعة وجلال على ضفة المتوسّط ؛ بحرُ العالم . منذ بداياته ، قدّر له وعيَ إكتناه سرّ المكان المحتبي قدَرَهُ ، كفنان ذي رسالة فريدة . على أنّ الزمن الذي تعايشتْ في طيّه حياة كافافيس ، وتجربته الشعرية بشكل خاص ، كان في طور متطرف من الإبتذال والسقامة والغثاثة . فلا غرو ، والحالة هذه ، في تعويض تجربته الشعرية لزمنها الراهن ، بأنْ أسحقت بعيداً ، إلى أزمان غابرة ، مجيدة ، بحثاً عن رموزها ودلالاتها . وكأي إغريقيّ ، أصيل ، فخور بأسلافه وحضارتهم المتنوّعة ، ما كان لكافافيس سوى الإيغال بالماضي المستعاد تعويضاً عن حاضره الضائع . هذا مع إدراكه ، على الأغلب ، بأنّ ذلك الماضي ، المُرتجى ، كان هو الآخر قد ضاع ، وفقدَ أبداً :

" حظكَ يتعثر الآن ، أعمالك التي أخفقتْ
وخطط العمر التي غدت كلها أوهاماً _
لا تأس بلا جدوى .
بل مثل من إستعدّ منذ زمن ، وبكل شجاعة
قل لها وداعاً ، للإسكندرية التي تغادر "

هذا المقطع ، المقتطف من قصيدته " الإله يخذل أنطونيو " ، يحيلنا إلى حِيَل كافافيس ، الشعرية ، وكيفية تعامله مع الواقعة التاريخية ، وأحياناً الأسطورية ، تعبيراً عن واقعه المعاش . إنّ مأساة أنطونيو ، القائد الإغريقي المتحالف مع الملكة كليوباترا سعياً لإستعادة إمبراطورية أسلافهما ؛ تلك المأساة ، كان شاعرنا يخوضها في المكان ذاته ، وإن في زمان آخر أكثرَ جدّة : في إسكندريّته المفتقدة ماضيها البتولمي والبيزنطي معاً ، والتي تعيش حاضرها المتدهور وإضمحلالها المضطرد كمدينة ذات ثقافات متعددة . في غمرة هذا التاريخ المفقودُ والمستعادُ في آن ، يعثر كافافيس على حقيقته الضائعة ؛ عبر أحد الرموز الأثيرة في تجربته ، كـ " شاعر المدينة " ، المعاصر . لقد عبّر النقاد ، دائماً ، عن دهشتهم إزاء إهمال كافافيس لرموز الإغريق ، الأكثر بريقاً وتألقاً عبر التاريخ ؛ كبريكليس وهوميروس وسقراط والإسكندر الأكبر .. وغيرهم . حتى فيما يخصّ ماضي مدينته ، البتولمي الوثني على سبيل المثال ، تراهُ يهمل عن عمدٍ التطرقَ لتلك الشخصيات البارزة ، المكلل رؤوسها بسِعَف المجد . هاهنا ، في قصيدة " ملوك إسكندريون " ، أولادُ كليوباترا ، يُعرضون كدمىً جميلة ، مزركشة ، على مرأى من أهالي المدينة :

" إسكندر ، لقبوه بملك أرمينيا وميديا والبارثيين .
بتولمي ، ملك كيليكيا وفينيقيا وسوريا .
قيصريون ، كان يقف إلى الأمام قليلاً
مرتدياً الحرير الأحمر
وعلى صدره أكاليل زنابق
وحزامه صفان من الياقوت والجمشت
وحذاؤه مشدود بأشرطة بيض
مطرّزة بلآليء وردية ،
وكانوا يلقبونه أكثر من شقيقيْه ،
كان يلقب بملك الملوك .

الإسكندريون فهموا بالطبع
أنّ هذا كله ، كلمات وتمثيل ، حسب "

لم يتكلف شاعرنا ، في عرضه المتخيّل ذاكَ ، لغة ً مفخمّة ، فخورة ، في وصفِ أسلافه من سلالة البطالمة الإسكندريين . بل على العكس تماماً من ذلك الشعور المفترَض ، فإنّ لذعة السخرية واضحة ٌ في نهاية المقطع ؛ كما في خاتمة القصيدة ، سواءً بسواء . فالإسكندريون ، رغم سابق معرفتهم وتوجسهم من النهاية القريبة لمُلك سلالتهم الإغريقية ، البطولمية ، إثر الخلاف مع الرومان العتاة ؛ بالرغم من ذلك ، فلم يحرموا أنفسهم من متعة اللحظة الزائلة فشاركوا في الإحتفال بحماسة :

" مع أنهم يعرفون ، بالطبع ، قيمة هذه الملكيات
وأي كلمات فارغة هي "

ولكن ، أين هي كليوباترا _ رمز المدينة الإغريقية ، الأشهر _ من هذا كله ؟ إن فنّ كافافيس ، بما هو إلتقاط ٌ لشواردَ اللحظةِ التاريخية المُفصحة ، في موقفٍ ما ، عن ضعفٍ بشريّ بشكل خاص ؛ هذا الفنّ ضربَ صفحاً عن الأسماء الكبيرة ووجدَ ضالته في أسماء اخرى ، مهملة على ناصية التواريخ . لعلنا نجدُ مثالاً عما ذهبنا إليه ، في قصيدة " قيصريون " ؛ المُفتتحة بلذعة معتادة من توصيفات الشاعر لتلك الشخصيات الإغريقية اللامعة :

" المجد يتلو المجد ، الكل شهير ، قوي ، مليء بالفعال النبيلة ،
وكل ما قام به ، قمة الحكمة .
ونساء القصر ... كلهن بيرنيس ، وكليوباترا "

بيْدَ أنّ الشاعر ما كاد يهملُ الكتاب التاريخي ، الذي كان يقرأ فيه ويدعه من يديه ، حتى يومضُ إسم غامض منه : إنّه " قيصريون " ، إبن كليوباترا ؛ مَنْ عرَضته قصيدة كافافيس " ملوك إسكندريون " ، السالفة الذكر ، كـ " ملك الملوك " ؛ هذا الإبنُ ، يقبع الآن أسيراً بيد الرومان الغزاة ، أعداء قومه . في إستحضاره صورة ذاك الأمير الفتى ، كأنما الشاعرُ يماهي مصيرَه بمصيره هو ، الشخصي ؛ هنا في إسكندرية العصر الحديث ، المجددة مستعبديها ومعاناتها تحت وطأة الغزاة :

" ظننتكَ تدخل غرفتي ،
وتقف أمامي ، مثل وقفتك في الإسكندرية المهزومة ،
شاحباً ، متعباً ، مثالي الحزن ،
آملاً في أنهم سيرحمونك ،
أولئك الوضعاء ، الذين يرددون :
" قياصرة أكثر مما ينبغي "

الجملة الأخيرة من تلك القصيدة ، المبوّبة بين هلاليْن ، ليست من إختلاق الشاعر ؛ بل هي ترديدٌ لقول أحد معاوني اوغسطوس ، قيصر روما ، الذي دخل الإسكندرية فاتحاً بعيْد إنتصاره على أنطونيو وكليوباترا . كان إبن هذه الأخيرة ، قيصريون ، هو وليّ العهد ، كما سبق وذكرنا . إن حداثة سنه ، أو جماله ربما ، كادت تشفع له عند القيصر المنتصر ؛ لولا تلك النصيحة الخبيثة المتلاعبة ، بذكاء ، على إشتقاق إسمه _ أيْ قيصريون : نسبة لأبيه يوليوس قيصر . ولكن كافافيس ، عمد إلى بتر تلك الجملة الناصحة ، المنسوبة للقائد اريوس ، والتي هي بحسب المصدر التاريخي : " قياصرة أكثر مما ينبغي ، أمرٌ سيء " . إنّ من الأهمية بمكان ، برأينا ، التوقف عند هذه المسألة ، بما نفترضه " حيَل " كافافيس الشعرية وكيفية إجتياسه لمجاهل التاريخ الإغريقي ؛ هذا التاريخ ، المتسم بالإثارة والغنى بما فيه من تماهٍ بالأساطير غالباً . لقد إستغل شاعرنا حقيقة أنّ تاريخ اليونان ، شأن أساطيرها ، كان وما فتيء معروفاً على نطاق واسع من لدن المثقفين في المعمورة ، والأوروبيين منهم ، بشكل خاص . لقد أمدّه ذلك بحريّة التصرف بالواقعة التاريخية ، من بتر أو إضافة ، وهو مطمئن لجهة إطلاع قارئه عليها كما هيَ ؛ أيْ بنسختها الأصلية ، العلمية ، المجردة . إلا أنّ هذه الحقيقة ، يجب ألا تجعلنا نتوهّم بأنّ كافافيس كان يسير على أرض سهلة ، ممهدة . نحن ندرك من خلال ناقديه أنه عانى كثيراً من المشاق ، فضلاً عن طول تردده ، قبل أن يتأتى له إكتشاف عالمه ذاك . وحينما خط أولى قصائده ، في هذا الإتجاه ، كان ذلك بعد العام 1911 ؛ أيْ أنه كان قد تجاوز الأربعين من عمره (6) . نستطردُ إذاً ، على ضوء ما سلف من ملاحظات ، في محاولتنا تقصّي عالم كافافيس الشعري . لقد نوّهنا بفرادة رموزه ودلالاته ، ويهمنا هنا إكتناه كيفية تصرّفه بالواقعة التاريخية ، المطلوبة . وعودة إلى قصيدته تلك ، " قيصريون " ، التي يدهشنا فيها للحقيقة ، أنّ واقعتها الأصلية ليست مختزلة في القصيدة وحسب ، بل تكاد أن تكون غير موجودة بالمرّة ؛ اللهمّ إلاّ في ذهن قاريء القصيدة ، نفسها ، المفترض معرفته أو على الأقل إلمامه بالتاريخ الإغريقي / الروماني :

" ها أنتذا تجيء ، بسحرك الغامض .
ليس في التاريخ سوى سطور قليلة عنك
ولذا جلبْتك ، بحرية أكثر ، في ذهني
جبَلتك جميلاً لذيذاً "

إنّ مسألة المصير الإنساني ، لهذه الشخصية التاريخية أو تلك ، هي ما كان يشغل عالم كافافيس الشعري ؛ العالمُ المناقض لمثيله البطولي ، المُقترَن بمجايليه من شعراء اليونان ذوي النزعة الغنائية المنتصرة ، كـ " بالاماس " وأضرابه (7) . لا غروَ أن تتسلسل قصائد كافافيس بهذا الإتجاه الإنساني ، الفريد ، وأن يؤوب المرة تلو الاخرى فيها ، إلى موضوعه المفضل : نهاية العهد الذهبي لإغريق الإسكندرية ، المتمثل بسقوط انطونيو وكليوباترا ( " الإله يخذل انطونيو " ، " ملوك إسكندريون " ، " قيصريون " ، " في الإسكندرية عام 31 ق . م " .. وغيرها من القصائد ) . وعلاوة على المصير الإنساني ، ثمة مسألة اخرى لم تكن لتقل أهمية عند كافافيس : البوح بميله الجنسي ، المثلي ، صراحة ً كان أو إبطاناً . وليس في هذا الأمر أي مبالغة أو إفراط في التنظير . لأنّ الفنان كائناً ما كان ، لا يستطيع عن رغباته الدفينة إلا إزدلافها خلل قصيدته أو روايته أو لوحته ؛ سواءً بسواء إذا كانت رغبته تلك للجنس الآخر أم للجنس المثلي . لنرَ إذاً بإتكائنا على ما سلف ، ما في قصائد كافافيس ، المذكورة ، من تلميحات حميمة وأثيرة بالنسبة لفنه . هذا ما يمكن لنا إستيفائه من وصف تنصيب أبناء كليوباترا ، والتركيز على أحدهم ؛ وهو قيصريون ، بحلته وزينته ( قصيدة " ملوك إسكندريون " ) . وربما أنّ قصيدة " قيصريون " ، هي المثال الأوضح لما ذهبنا إليه ، بخصوص إحتفاء كافافيس برغبته الجسدية ، السريّة ، تلك . ها نحن نقارن وصفه لبطل تلك القصيدة ، " قيصريون " _ التي سبق ونقلنا القسم الأوفى منها _ بوصفٍ لبطل آخر ، في قصيدة " المرآة في القاعة " ؛ وهو وصفٌ على درجة مدهشة من التماثل ، لا في السياق الخارجي فقط ، بل وخاصة في الإسلوب الفني ، الداخلي :

" في قاعة البيت الثري
مرآة ضخمة ، عتيقة ،
إشتريتْ منذ ثمانين سنة ، في الأقل .

فتىً بهيّ ، مساعد خياط
( رياضي هاو ٍ أيام الآحاد )
كان يقف حاملاً الطرد .
سلّمه لبعض من في البيت ، فأخذه ، وذهب ليحضر الوصل .
بقي مساعد الخياط ، ينتظر ، وحيداً .
وبعد خمس دقائق ، أتوه بالوصل . أخذه ومضى .

لكن المرآة التي رأت ، ورأت ، عبر سني حياتها الطويلة
آلاف الأشياء والوجوه ،
هذه المرآة العتيقة ، فرحة الآن ، وفخور
بأنها إستقبلت هذا الجمال ، دقائق قليلة "

في كلا الحالتيْن ، بحسب فهمنا الخاص ، ثمة رموز مشتركة في دلالاتها : الكتاب التاريخي ، في قصيدة " قيصريون " ، والمرآة الأثرية ، في القصيدة الاخرى . كلاهما " شهَدَ " على الواقعة الخاصة به ، وعن طريقه حسب ، أمكن للقاريء " معرفة " ما جرى فيها . بغض الطرف عن حيادية المصدريْن / الرمزيْن ، هنا وهناك ، إلا أنّ تعاطف كل منهما مع البطل غير خافٍ ؛ لجهة وصفه ومصيره : إنّ قيصريون ، وبالرغم من أنّ سطوراً قليلة في " كتاب التاريخ " تتكلم عنه ، بحسب القصيدة ؛ فإنه حظيَ على كل حال بنعمة الخلود ، من خلال نفس الكتاب الذي تخطى شخصيات عصره ، ممجداً جماله ومتأس لعمره الغض ، المهدور على مذبح المكائد والمطامع السياسية . كذلك يمكننا القياس نفسه ، بشأن رمز المرآة الأثرية : فهي مركونة بإهمال في منزل الأثرياء ذاك ، ولا بدّ أنها رأت الكثير من الوجوه المتورّدة بالرخاء والعافية ؛ بيد أنّ وجهاً واحداً ، لفتىً فقير ، من أفرحها وجعلها فخورة بإستقبال جماله ، ولو لدقائق معدودة . إنّ فنّ الشاعر ، في قصيدة " قيصريون " ، هو من أهمل ، في الواقع ، شخصيات ذاك العصر البطولي ، متكفلاً ، بالمقابل ، بتخليد إبن كليوباترا ، التعِس ؛ هذا الفنّ ، نفسه ، من " إختلق " واقعة المرآة ، لكي يتغنى بالجمال الحقيقي ، لهذا العشيق القديم أو ذاك ، الذي ما كان لكافافيس إلا أن يفتقده ، دوماً ، وهو في شيخوخته . (8)

هوامش ومصادر :

1 _ رولان بارت ، نقد وحقيقة _ الطبعة العربية في حلب 1994 ، ص 70
2 _ نفس المصدر ، ص 82
3 _ إريك فروم ، اللغة المنسية : مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير _ الطبعة العربية في بيروت 1992 ، ص 12
4 _ لورنس داريل ، رباعية الإسكندرية ( الرواية الأولى : جوستين ) _ الطبعة العربية في القاهرة 1969 ، ص 54
5 _ كافافيس ، وداعاً للإسكندرية التي تفقدها / ترجمة سعدي يوسف _ بيروت 1979 : وجميع المقاطع الشعرية ، الواردة في المقال ، مستلة من هنا
6 _ البروفيسور س . م . بورا ، قسطنطين كافافيس والماضي الإغريقي : من كتاب " التجربة الخلاقة " _ الطبعة العربية في بغداد 1977 ، ص 40
7 _ ريكس وارنر ، مقدمة لأشعار كافافيس ، " وداعاً للإسكندرية التي تفقدها " ، مصدر مذكور ، ص 5
8 _ كتب كافافيس هذه القصيدة ، " المرآة في القاعة " ، عام 1930 : أنظر ديوان كافافيس ، شاعر الإسكندرية / ترجمة عن اليونانية للدكتور نعيم عطية _ القاهرة 1995 ، ص 138



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
- طغم وعمائم
- علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
- بلقنة سورية : جذور 8 آذار
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
- مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
- أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
- الوثنيّة الإسلاميّة
- الموساد ، من كردستان إلى لبنان
- التعددية ، في وصفة بعثية
- عيدُ الحبّ البيروتي
- عبثُ الحوار مع البعث ، تاريخاً وراهناً
- المقاومة والقمامة : حزب الله بخدمة الشيطان
- رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية 2 / 2
- رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية
- إعتذار صليبي من قلعة الإسلام
- التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية
- الإجتماعيات الكرديّة : تقاليدٌ وتجديد
- الإجتماعيات الكردية : طِباعٌ وأعراف


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - سرّ كافافيس 1 / 2