|
الدروس المستخرجة من العامية المدْرجة
علي بوراس
(Ali Bouras)
الحوار المتمدن-العدد: 6032 - 2018 / 10 / 23 - 17:58
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
أثار إدراج بعض الألفاظ العامية في الكتاب المدرسي "مرشدي في اللغة العربية" نقاشا، امتد من الوسط التربوي إلى الوسط السياسي، ومنه إلى الساحة الثقافية والاجتماعية، وخلق زوبعة من الردود الرافضة أحيانا، والمؤيدة؛ ولكن وفق شروط وضوابط معينة. المُسجل حول هذه الردود والاقتراحات أن أغلبها قد صدر عن أشخاص غير متخصصين في مجال التعليم وتعلم اللغات، ومجال التعلم باللغة، سنميز بين هذين المجالين بعد حين. ولِما لا نقول أن أصل هذه الزوبعة، هو إعطاء مهمة التأليف المدرسي لغير الأكفاء بها، مما أحالنا على هذا الوضع الذي أصبحنا عليه تربويا وتعليما.... إن مسألة إدراج مفردات عامية في المقررات الدراسية؛ تفرض بداية أن نكون على بيّنة من أمرين أساسيين، وهما: أولا: لابد أن نميّز بين العامية والفصحى، أو ما يسمى باللهجة واللغة المعيار؛ ثانيا: لابد أن نميز بين تَعلُّم اللغة والتعلم باللغة. 1. بين العامية واللغة المعيار: اللهجة (أو العامية) عبارة خليط لغوي انبثق من اللغة الفصحى وأصبح خليطا تكوّن من الفصحى ومن لغات أخرى محلية، ومن لغة المستعمر. فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي علاقة عام بخاص، حيث تشمل اللغة عدة لهجات، تشترك في مجموعة من الخصائص اللغوية والنطقية تشكل بدورها لغة مستقلة. كما تربطهما علاقة أصل بفرع، فاللغة هي الأصل، أما اللهجة فهي فرع منها تَكَوَّن نتيجة كثرة استعمال اللغة المعيار بالتصرف في قواعدها وفي صيغها النطقية، وفي تراكيبها ودلالات ألفاظها. ويحصر إبراهيم أنيس الاختلافات بين اللغة المعيار واللهجة، وبين اللهجات أيضا، في ما يلي: اختلاف في مخرج بعض الأصوات اللغوية؛ اختلاف في وضع أعضاء النطق مع بعض الأصوات؛ اختلاف في مقياس بعض أصوات اللين؛ تباين النغمة الموسيقية للكلام؛ اختلاف قوانين التفاعل بين الأصوات المتجاورة، حين يتأثر بعضها ببعض. ويشير مصطلح اللهجة dialect، أيضا، إلى وجود اختلافات أكبر بكثير من مجرد وجود اختلاف في طريقة النطق ، مثل اللهجة الصحراوية واللهجات الداخلية بالمغرب. أما الاختلاف في طريقة النطق فيتجلى، مثلا، في لهجة آل فاس ولهجات الشرق على سبيل المثال. ما نقصده من هذه المقارنة هو التنبيه إلى أن الدارجة أو اللهجة العامية التي يستعملها المغاربة لم تأت من حيث لا ندري، وإنما هي خليط لغوي تولد بسبب منضّدات اجتماعية وثقافية وسياسية وتعليمية. إذ تَجسد العلاقة بين العامية والعربية الفصيحة علاقة ثنائية لغوية؛ تستعمل فيها إحدى اللغتين التي لها علاقة بالحالة السوسوسياسية السفلى وهي حالة العامية،... كما تعكس هذه العلاقة قدرة شخص ما على استعمال لغة أخرى بطلاقة إلى جانب اللغة الأم. فالعربية المعيار والعامية هي مقابلة "بين ضربين بديلين من ضروب اللغة، تُرفع منزلة لأحدهما "فيعتبر المعيار"، ويكتب به الأدب المعترف به، ولكن لا تتحدث به إلا الأقلية، وتُحط منزلة الأخر، ولكن تتحدث به الأكثرية" . وبسبب تلك المنضّدات الاجتماعية مثل التفاوت الطبقي بين الأفراد وتدنّي المستوى التعليمي لديهم، وارتفاع نسبة الأمية... اتسعت الهوة بين الضربين، فابتعد النسق العامي، من حيث أساليب توظيفه والمصطلحات المستعملة فيه، عن المستوى الفصيح. مما صعّب محاولة احتواء هذا النسق في البرامج التعليمية، وأفشل المحاولات، الشبيهة بالمغامرة، التي أقدم عليه واضعي المقررات الدراسية لهذا الموسم الجاري. إذ لم يأخذوا بعين الاعتبار هذا التحول الكبير في النسق العامي بسبب الاحتكاك بوسائل التواصل الاجتماعي، والتطور التكنولوجي.... ومنه، فإن محاولة نقل التراث الشعبي الاجتماعي المغربي للبرامج التعليمية أصبح من الصعوبة في هذه الفترات الأخيرة، بسبب تدني المستوى العامي وبعده البيّن عن النسق المعيار تصويتا وتصريفا وتركيبا ودلالة وتداولا. ويمكن نقله عبر آليتين: أ. نقله كما هو في صيغته العامية، على شكل حوارات أو مفردات أو تعابير كنائية أو مسكوكات، ب. محاولة تقريبه من العربية المعيار، أي تفصيحه بأسلوب بين العامية والعربية، لتيسير فهمه من طرف المتعلم؛ ولكن؛ إن نقل هذا التراث ما كان يجب أن يتم بتلك الصورة، حيث تم إدراج مفردات عامية في الكتاب المدرسي الخاص باللغة العربية وهو "مرشدي في اللغة العربية"، وإنما من المفيد إدراجها لمساعدة المتعلم على الفهم فقط، ومحاولة تذليل التعقيدات التي يواجهها في تمثلاته فحسب. في حين أن كتاب "مرشدي في اللغة العربية" كما يبدو من اسمه هو كتاب خُصص لتعليم اللغة العربية وليس العامية، لذلك وجب حفظ اللغة العربية الفصحى من المصطلحات التي لا تندرج في نسقها، ولا تحترم قواعدها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية. ولو وضعت تلك الأسماء (مثل أسماء بعض المؤكولات) في كتاب آخر غير الكتب المخصصة لتعلم اللغات لما حدثت تلك الضجة وتلك الردود المتباينة في الوسط التعليمي والسياسي والاجتماعي المغربي. وهذا ما يتطلب التمييز بين تعلم اللغة والتعليم باللغة. فـ "مرشدي في اللغة العربية" كتاب خصص لتعلم اللغة العربية وليس الثقافة الشعبية أو ما شابه ذلك، وأمام هذا الوضع الذي وضع عليه؛ فإنه يمكن أن يخلق للمتعلم نوعا من الازدواجية اللغوية داخل اللغة الواحدة، وهي العربية، ويُحدث لديه تشويشا على مستوى تمثلاته للنسق العربي الفصيح. 2. تعلم اللغة والتعليم باللغة حينما نكون بصدد مادة خاصة بتعلّم اللغة، كالعربية أو الفرنسية وغيرهما، فإن اللغة حينئذ تصير هي الغاية في ذاتها وهي الأداة أيضا؛ أي هي اللغة المُدرَّسة، لأننا نتعلمها هي ونتعلّمها عبرها لا بواسطة لغة أخرى. ولذلك من الواجب الحرص على إدراج مفردات بسيطة تناسب المستوى العمري والإدراكي للمتعلم، ثم الحرص على توظيف أمثلة من نفس النسق، وهي أمثلة من اللغة العربية (حين يتعلق الأمر بتعلم العربية مثلا)، اللهم إن أراد المدرس أو مؤلف الكتاب توظيف أنساق لغوية أخرى على سبيل المقارنة، وشرح الشيء عبر نقيضه، أخذا بمبدأ "الأشياء تعرف بأضدادها" مثلا. أما حالة أن ندرج مفردات من العامية لضرورة بيداغوجيا –حسب أصحاب هذا الرأي – كتقريب الحياة العامة من الحياة المدرسية للمتعلم، فإن الأمر يبدو أكبر من ذلك، لأنه لا يجب أن يتم هذا في كتاب مخصص لتعليم اللغة، وإنما يمكن تقبّله في مقررات أخرى مثل كتب "النشاط العلمي" و"التربية الفنية" و "الثقافة الشعبية" ففي هذا الكتب تعد اللغة أداة فقط لاكتساب معارف ومضامين أخرى غير لغوية، مثل خصائص الثقافة المغربية من طبخ ولباس وفن... وتسمى لغة التدريس. إذ لا بأس أن يلمس المتعلم في هذه المضامين مفردات عامية يصادفها في حياته الخاصة وفي بيته. من جهة أخر؛ قد يتحجج، المتورطون في هذا المأزق الذي أحدث ضجة، زعزعت ثقة المواطن المغربي في المدرسة العمومية، بغياب المقابلات الفصيحة لتلك الأسماء المدرجة، نقول لهم إن هذه المسألة يجب طرحها على المختصين في الشأن اللغوي، والباحثين اللسانيين بالتحديد، حيث من شأنهم أن يقدموا إجابة عن ذلك، باقتراح مسميات جديدة لتلك المأكولات، انطلاقا من النسق الفصيحة أو قبولها كما هي عليه في النسق العامي إذا كانت تحترم الشروط الصوتية والتركيبية والدلالية للغة العربية. ونظرا لغياب هذه الاستشارة اللسانية، وعدم الأخذ بمخرجات الأبحاث اللسانية والمعجمية على الخصوص، بقد بهُتت حججهم وفقدت مصداقيتها، وعكست تدني المستوى المعرفي واللغوي لديهم، ويؤكد ذلك تسمية أحدهم أسماء تلك المأكولات بأنها "أسماء أعلام". نخلص مما سبق ذكره إلى ما يلي: أ. ضرورة مراعاة الفرق بين مسألة تعليم اللغة والتعلّم باللغة؛ فالأولى تعتبر فيها اللغة هي الأداة والغاية وهي مضمون المقرر الدراسي، أما في الثانية فتعد اللغة أداة فقط لتبليغ مضامين المادة، وقد لا تُختبر فيها الكفاية اللغوية للمتعلم، وإنما حسبه أن يبلُغ مراده بالنظر إلى اللغة في وظيفتها التواصلية. ب. ضرورة الاستفادة من الدراسات اللسانية والسوسيولسانية لنهج سياسة لغوية ناجحة في التعليم والإدارة والحوار الاجتماعي.... ت. يجب الحرص على تطوير العامية المغربية والارتقاء بها إلى مستوى أقرب للعربية المعيار، على الأقل من حيث التصويت والدلالة، إذا أرادنا تدرسها، أو إدخالها للبرامج الدراسية، ث. إن مسألة نقل الموروث الشعبية للبرامج الدراسية يجب أن يُبنى على شروط وضوابط محددة منها: ألاّ يتم هذا النقل على حساب اللغة العربية، أو لغات أخرى متعلمة، وإنما يمكن تخصيص مواد لهذا النقل، كمادة "الثقافة الشعبية" أو "التربية الفنية" مثلا. ج. إن السياسة اللغوية والسياسة التعليمية تقع في يد الدولة والحكومة وهي من شانها أن تسن القوانين التي تحفظ هذه السياسات، قوانين يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الهوية المغربية، وطبيعة نظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وموقعه الجغرافي أيضا، قوانين تحترم المنهاج التعليمي، وضوابط الميثاق الوطني للتربية والتكوين. قوانين تنطلق من مخرجات دراسات ميدانية – لغوية واجتماعية- شاملة لخصوصيات المجتمع المغربي. الهوامش: ـ إبراهيم أنيس، في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط 8، 1992، ص 19. ـ جين إتشسن، اللسانيات مقدمة إلى المقدمات، ترجمة عبد الكريم محمد جبل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 1، 2016، ص 233. - Jean Dubois et autres, 1973, Dictionnaire de linguistique, Librairie Larousse, Paris. p 155. ـ لويس جان كالفي، حرب اللغات والسياسات اللغوية، ترجمة: حسن حمزة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008، ص 79.
#علي_بوراس (هاشتاغ)
Ali_Bouras#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|