الأحد 16 مارس 2003 17:40
حال النخب العربية الإسلامية الفكرية والسياسية كحال من غص بعظم فلم يستطع أن يبتلعه أو أن يتقيأه فراح يتخبط في جميع الاتجاهات. أحد الشواهد علي ذلك هو موقف هذه النخب من صدام حسين منذ 14 عاماً. ما أكثر المثقفين – مثل عابد الجابري – الذين تعرفوا فيه علي فارس أحلامهم الكابوسية وما أكثر النخب السياسية الموزعة بين الخوف من رحيله الذي قد يكون سابقة مشئومة عليها والخوف من بقائه الذي سيجر عليها حرباً تخشى عواقبها الوخيمة فأصيبت بالشلل! تأخذ الموقف ونقيضه تطالب برحيله سراً وتتمسك ببقائه علناً تطبيقاً لسياسة النعامة التي هي ماركة عربية إسلامية مسجلة. القاسم المشترك لهذه السياسة هو قصر النظر الملازم للجبن الفكري والسياسي وتخلف صناعة القرار.
فيما يخصني طالبت صدام بالاستقالة سنة 1998 في رسالة مفتوحة وجهتها له في "الحياة" اللندنية جاء فيها : "رغم استحالة إقناع بارانوي عنود وانتحاري تعريفاً بالانسحاب من حلبة الصراع حياً فإنني مع ذلك أجازف بدعوتك إلي الاستقالة لأنه في البلدان الحديثة حسب الزعيم السياسي أن يخسر معركة انتخابية ليعتزل الحكم والسياسة أصلاً. عشرات الأمثلة منها مثال شارل ديجول وأخيراً الرائع محمد بوستة زعيم حزب الاستقلال المغربي. فكيف حال من خسر حربين دمويتين مثلك وأدخل بلاده إلي نفق مظلم وبقاؤك علي رأسها قد يجرها إلي مزيد من التفكك والدماء والدمار!! لعلك تعرف منذ الآن أن سياسة واشنطن العراقية تكاد تنحصر في خيارين أحلاهما مر بالنسبة لك، تصفيتك وإذا لم تستطع ذلك الآن، أو إرغامك بالسياسة أو بالحرب علي قبول شروطها المذلة للتعايش مؤقتاً معك ووضع العراق تحت وصايتها العسكرية والسياسية والاقتصادية. إقامة قواعد عسكرية في شمال العراق وجنوبه علي حدود إيران لتطويقها ووضع حد لحكم الملالي فيها. فرض خبراء عسكريين أمريكيين لإعادة هيكلة جيشك ومراقبة تسليحه، تلزيم الشركات الأمريكية بدلاً من منافسيها الأوربيين واليابانيين إعادة إعمار العراق وأخيراً إرغامك علي احترام حقوق الإنسان وإجراء انتخابات تعددية مما سيعني دفعك ونظامك إلي الانتحار بشق البطن. أما بقاء الوضع الراهن لبضع سنوات أخرى فكفيل بتقكيك آخر ما تبقي من النسيجين القومي والإجتماعي. تعميق انفصال الشمال و الجنوب عن الوسط لإنضاج شروط إلحاقه بالأردن، تدمير البني الاجتماعية العائلية والعشائرية التي لاذ بها العراقيون بعد أن حولت الدولة إلي دولة عائلية حصراً... [ الحياة 5 / 4 / 1998 ].
بعد خمس سنوات عجاف عدت الصيف والخريف الماضيين إلي مشروع المطالبة باستقالة – إقالة صدام ضمن مشروع سياسي متكامل تبنته الإمارات علناً والسعودية سراً بعد أن منعتني من الكتابة في "الحياة" ولا شك أنه راق لأمين عام الجامعة العربية "لكن في فم عمرو ماء" كما يقول المثل. فماذا يقول هذا المشروع ؟: "سيقول كثيرون أن صدام كعرفات، لا يفهم إلا لغة القوة، استجاب عرفات لخطاب بوش الذي طالبه باعتزال السياسة بعد ثلاث دقائق من سماعه. وها هو صدام يستجيب بلا قيد أو شرط لعودة المفتشين بعد خمس أعوام من العناد العصابي. هل سيلعب اللعبة حتى النهاية ويتحرر نهائياً من أسر واقعه الداخلي، أي هواجسه ووساوسه وهذيانه العظامي والفصامي الذي قاده إلي المأزق الذي وجد نفسه فيه ومعه العراق وبلدان المنطقة ؟ هل مازال قادراً علي وعي متطلبات الواقع الدولي والتمييز بينهاو بين أمنياته وتخيلاته؟
الموافقة علي عودة المفتشين ليست إلا مقبلات الوجبة الدسمة التي ما زالت برسم التناول. التكيف الحقيقي مع الواقع الدولي يتطلب من صدام أن يقوم بانقلاب ثوري علي نفسه يغير به نظامه من النقيض إلي النقيض، أي السياستين الداخلية والخارجية المتواصلتين بلا انقطاع منذ 35 عاماً والقيادة المسئولة عنها : كأن يتعهد صدام لمجلس الأمن الدولي وللجامعة العربية القيام بإصلاحات جوهرية خلال 100 يوم يقدم في نهايتها استقالته شرط أن يغادر هو وعائلته وأقطاب نظامه العراق إلي مصر أو روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية ويتعهد مجلس الأمن بعدم ملاحقتهم كمجرمي حرب مكافئة لصدام ولهم علي تجنيب العراق والمنطقة ويلات الحرب. وكأن يتم تكوين حكومة وحدة وطنية مؤقتة تمثل فيها جميع الإتجاهات وجميع الأقليات برئاسة شخصية مستقلة تتعهد باسم حكومته تحقيق المهام التالية : تحرير من مازال حياً من السجناء السياسيين والأسري الإيرانيين والكويتيين، عودة جميع اللاجئين السياسيين دونما قيود،إلغاء جميع القوانين الاستثنائية، فتح وسائل الإعلام للنقاش الحر والتفكير والاقتراح، إقرار التعددية السياسية والنقابية والجمعاتيه وفي مقدمتها جمعيات حقوق الإنسان، تحرير البحث العلمي والإبداع الفني من كل رقابة، تحديد موعد معقول بالتشاور مع مجلس الأمن والجامعة العربية لإنتخاب مجلس تأسيسي تحت رقابة الأمم المتحدة والإعلام العالمي مهمته الأساسية إصدار دستور يعلن ميلاد الجمهورية الفيدرالية، يستلهم الدساتير الديمقراطية وخاصة دستور ألمانيا الإتحادية غداة تصفية النظام النازي، التعهد دستورياً بالامتناع عن تصنيع أسلحة الدمار الشامل أو السعي للحصول عليها والحد من التسليح التقليدي وتحويل المبالغ الهائلة التي كانت تهدر فيه إلي الصحة والتعليم ومقاومة الفقر. ويلتزم العراق الجديد بأن لا يكون مصدراً لأي تهديد استراتيجي لجيرانه أو للعالم وبالعمل من أجل السلم في الشرق الأوسط وفي العالم، ويتعهد بالتخلي إلي الأبد عن المطالبة بضم دولة الكويت ويعترف بحدودها الحالية، ويلتزم بالقانون الدولي وبمواثيق الأمم المتحدة التي طالما انتهكها نظام صدام، وبالمعايير الدولية في معاملة المواطنين والمقيمين والنساء والأقليات.
هذه الإصلاحات الضرورية لجعل العراق معاصراً لعصره كفيلة بقطع الطريق علي الحرب التي يبدو أن واشنطن مصممة عليها لتحقيق مآرب أبعد من مجرد إسقاط نظام صدام. قد يقول قائل ما الحكمة من انقلاب صدام علي نفسه وتصفيته لنظامه بيده ؟ أليس هذا هو بالضبط ما تريده الولايات المتحدة ؟ هذا أيضاً ما يريده المجتمع الدولي وخاصة الشعب العراقي الرهينة. أما الحكمة كل الحكمة من هذه الإصلاحات فهي تجنيب العراق وشعوب المنطقة الحرب وعواقبها الوخيمة خاصة علي الشعب الفلسطيني الذي قد يصاب تحت دخانها بنكبة ثانية أعد لها شارون واستعد. لكن صدام كعظامي هاذى أي ذي ضمير أخلاقي ميت، لا يبالي بمصائر شعوب المنطقة أو بمصير شعبه الذي تباهي بتحويله إلي ذراع بشري لحمايته (... ) لا شيء في تاريخ صدام أو خصائص شخصيته النفسية يؤهله لتحقيق الإصلاحات المطلوبة منه. وقد لا يكون قبول عودة المفتشين، الذي لم تطالب به واشنطن التي لن ترضي بأقل من زوال نظامه، إلا مجرد مناورة قصيرة النظر. فهو كعظامي مدمن علي ارتكاب الأخطاء الإستراتيجية والتوغل دائماً أبعد في العمي السياسي، لا يري في السياسة أبعد من أنفه، وكما كان بعد غزو الكويت غير مقتنع بحتمية الحرب وجازماً بحقيقة انتصاره فيها إذا حدث وأعلنت فإنه هذه المرة أيضاً يستبعد الحرب ولا يستبعد انتصاره فيها إذا اندلعت، فما العمل ؟ علي أمين الجامعة العربية عمرو موسى أن يستجمع شجاعته فيطلب من صدام علناً تطبيق جميع قرارات مجلس الأمن المتوقعة في الأيام والأسابيع القادمة. شخصية صدام مهووسة بانتهاك القانون الدولي وقلب القيم الإنسانية، فشلت الأمم المتحدة وقبلها الجامعة العربية في إقناعه بالخروج من الكويت بالتي هي أحسن إذاً فرص النجاح معه ضئيلة لكن لا بديل من مطاردته بالمطالب لكشفه أكثر أمام شعبه وشعوب المنطقة والعالم عسي أن يتجنب الشرق الأوسط والعالم أهوال حرب ذات مجاهيل عديدة. مطلوب من المثقفين الإعلاميين المشاركة أيضاً في توعية العناصر الأقل عمي في النظام العراقي بضرورة التضحية بنظامهم المدان في جميع الأحوال، إذا لم يتشجعوا علي تصفيته بأيديهم سلماً، تطبيقاً للمثل الحكيم : " بيدي لا بيد عمرو " فإن الولايات المتحدة الأمريكية مصممة علي إزالته حرباً، وإقناعهم بأن الشارع العربي الذي يعولون عليه لنسف استقرار الشرق الأوسط وإلحاق الهزيمة بالثنائي الأمريكي _ الإسرائيلي لن يحرك علي الأرجح ساكناً خاصة إذا رأي علي شاشات الفضائيات الشارع العراقي المسحوق _ وهذه احتمالية عالية _ يستقبل الجنود الأمريكيين لا كمحتلين بل كمحررين له من كابوس نظام صدام العائلي الدموي الذي جثم علي صدره ثلاثة عقود ونصف (... ) [ الحياة 22/9/2202 ].
ووجهت نداء لا إلي شعب العراق الرهينة، ككثير من شعوب المنطقة، بل إلي القوات المسلحة العراقية عسي أن تصحي من غيبوبتها فتعي الضرورة المطلقة لإقالة صدام تفادياً لخطر الموت الذي يحوم فوق رأسها لتغدو الطريق سالكة أمام فوضي يختلط فيها الحابل بالنابل : الشيعي بالسني بالكردي بالتركماني بالآشوري...
وختمت مقالي بالموال الذي لا يفارقني كلما فكرت في مصير الشرق الذي يبدو وحتى الآن مظلماً : "الوقت يعمل ضد العراق وضد فلسطين وضد شعوب المنطقة فلماذا يكون العرب آخر الأمم التي لا تحسن إلا تفويت الفرص السانحة والهروب إلي الأمام وسياسة النعامة وعدم استباق الأحداث وعدم ترتيب سلم الأولويات وعدم قطع الطريق علي الكوارث قبل حلولها".
مضت الآن علي هذا المشروع خمسة شهور ولكنه لا يزال راهناً : يوم 10 / 10 / 2003 طلب وزير خارجية فرنسا وروسيا من "اللجنة العربية " إبلاغ صدام بضرورة استقالته تفادياً للحرب. ما العمل؟ أن ينتفض الفكر العربي السياسي الإعلامي والديني الخامل علي نفسه. كيف؟ بتجنيد تلفزيون أبو ظبي والجزيرة لتوجيه نداء علي مدار الساعة يعاد كل 20 دقيقة يشتمل علي 50 كلمة علي الأكثر يطالب صدام بالإستقالة والقوات المسلحة العراقية بالتدخل لفرضها عليه.
حبذا لو أن الأزهر الذي مازال يغط في نوم الحنين إلي الجهاد، يعود إلي رشده " فالحق والرجوع إليه خير من الباطل والتمادي عليه " كما قال بن الخطاب، فيوجه بدلاً من "إعلان الجهاد فرض عين علي كل مسلم ومسلمة دفاعاً عن العراق " الصدامي، نداء آخر إلي صدام، سبب أسباب هذه الحرب الحبلى بالوعد والوعيد، بالرائع والمريع ليخرج من العراق علي جناح السرعة.
إذا حصلت المعجزة وزال كابوس صدام علي صدورنا بسلام فإنني أطالب عمرو موسى بترشيحي لجائزة نوبل للسلام. ظلمتموني الدهر كله فانصفوني ولو مرة واحدة! هذه ليست دعابة سوداء. صدقوني.
إيلاف خاص