أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالةِ















المزيد.....


الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالةِ


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 6027 - 2018 / 10 / 18 - 11:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالةِ
عبدالجبار الرفاعي
يتفوق الكائنُ البشري على غيره من الكائنات بالرحمةِ. الرحمةُ خلاصةُ المشاعر الحميمية الدافئة وجوهرُها النفيس. أما العقلُ فعلى الرغم من أنه كان وما زالَ من أهمّ ما يتميزُ به الإنسانُ، غير أن "الروبوت" صار يقوم ببعض الأعمال الدقيقة والمعقّدة بواسطة عقل إلكتروني. ويعدنا الذكاءُ الصناعي اليومَ بالكثير مما يمكن أن ينجزه هذا العقلُ الإلكتروني غدًا من مهمات، فهو يشارك عقل الإنسان وأحيانًا يكون بديلًا عنه في تنظيم وإنجاز أعمال متنوّعة. لكن "الروبوت" مع امتلاكه لعقلٍ يظل يفتقر للمشاعر الحميمية الدافئة. ومعنى ذلك إن الكائنَ البشري يتفوّقُ على غيره من الكائنات في الأرض بالرحمة، بل لا تتحقّق إنسانيته إلّا بالرحمةِ.
الرحمةُ حالةٌ، وهي أسمى من العدالة، بل تسمو حتى على الإحسان. ولولاها لنضبت الطاقةُ المتدفّقةُ التي تغذّي الشفقةَ والروحَ الخيريةَ وحوافزُ العطاء والبرّ والإنفاق في الحياة، وكلُّ ما يشكّل منبعًا للعواطف المتدفّقة الفياضة في حياة الناس، وما يبني علاقاتِهم الاجتماعيةَ ويرسّخها على ركائز عميقة صادقة.
الرحمةُ أشملُ وأوسعُ من العدالة. العدالةُ تنشد التوازنَ والمساواةَ والإنصافَ في الحكم، وهي مفهومٌ يبتني على القانونِ والحقوقِ والأخلاقِ. أما الرحمةُ فهي "حالةٌ"، و"الحالةُ" هي ما يتلبّس بها الإنسانُ ويعيشُها بوصفها حقيقيةً وجوديةً كما يعيشُ الحبَ والإيمان، الحالةُ تصيرُ مكوّنًا لهويتِه الشخصيّةِ.
العدالةُ ضرورةٌ لحماية حقوقِ الإنسان وحرياتِه، وهي شرطٌ لازمٌ لكلّ عمليةِ بناءٍ مجتمعي سليم، وهي ضمانةٌ للأمنِ والسلمِ الأهلي من كلّ أشكال العنف والتعدّي على حقّ الآخَر في العيش المشترَك، وخلقِ فرصٍ متكافئةٍ للأفراد في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لذلك لا يمكن أن يقوم مجتمعٌ سليمٌ من دون قوانين تُنظّم الحياةَ الاقتصادية والسياسية وتحقّق الأمنَ والعدالةَ الاجتماعية، وأنظمةِ عقوبات عادلة تُنصِف المظلومَ وتردع الظالم، بنحو تتسم فيه بالانصاف والتوازن، وتحمي مصالحَ الفرد والجماعة، ويتساوى فيها الأفرادُ في حقوقهم وحرياتهم.
لا يمكن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالة في بناء أيّة جماعة بشرية أو في بناء أيّة دولة، لأن الظلمَ مقيمٌ في الأرض، وأن عيشَ الإنسان وتأمينَ متطلباته الحياتية يفرض عليه الكدحَ والتنافسَ والصراع، والعدالةُ تمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دموية وحروب عدوانية.
إن افتراضَ بناء مجتمع على الرحمة وحدها افترضٌ غير واقعي، لأن مثلَ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحققَ مادام البشرُ بشرًا، لكن تظل الرحمةُ قيمةً إنسانية رفيعة، تسمو بحياة الفرد والجماعة، بوصف الرحمةِ تنفي بعضَ العقوبات عفوًا، أو تخفض من شدّة بعض العقوبات الأخرى القاسية، وبوصفها هدفًا نبيلًا ينشده الدينُ ليوقظ به ضميرَ الإنسان ويسمو به إلى أجمل حالة إنسانية يمكن أن تتحلّى بها شخصيتُه.
الرحمةُ تنتج ما لا تنتجه العدالةُ، من الرحمةِ يتوالدُ الغفرانُ والعفوُ والعطفُ والرفقُ واللينُ والشفقةُ، لذلك يستطيعُ من يمتلك الرحمةَ تحمّلَ الأقوالِ والأفعال المؤذية الصادرة عن الآخر، كما يستطيعُ العفوَ عنها. الرحيمُ يتحملُ ما لا يتحمله غيرُهُ، ويعفو عمَّ لا يعفو عنه سواهُ من البشر. وما أجمل تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي لمنطقِ الرحمةِ في القرآن، إذ يكتب في الفصّ الزكرياوي من كتابه "فصوص الحكم": "والرحمةُ على الحقيقةِ نسبةٌ من الراحمِ، وهي الموجبةُ للحكمِ، وهي الراحمةُ، والذي أوجدها في المرحومِ ما أوجدها ليرحمه بها، وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به" . بمعنى أن الحقَ سبحانه إذا رحمَ إنسانًا أوجدَ فيه الرحمةَ، أي جعلَ الرحمةَ تقومُ به، بحيث يصبح قادرًا على أن يرحمَ غيرَه من المخلوقات، وبذلك يصبح المرحومُ راحمًا. الحقُ لا يوجِدُ الرحمةَ في المرحومِ ليرحمه بها، بل ليكسبه الصفةَ الإلهية التي بها يرحمُ غيرَه .
وبموازاة الرحمة حضرت كلمةُ "الْإِحْسَان"، فقد ورد "الْإِحْسَانُ" والكلمات ذات الصلة به بشكل لافت في القرآن، إذ جاءت بحدود 200 مرة . والإحسانُ يعني ما إذا عمِلَ الإنسانُ عملًا يتضمّن خيرًا للغير. وكما يقول الراغب: "الإحسان على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسنَ إلى فلان. والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علّمَ علمًا حسنًا، أو عمِلَ عملًا حسنًا" . وحثَ القرآنُ على الْإِحْسَانِ في الأقول والأفعال، الجدال مثلًا ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن، فهو يقول: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" . وعلى الرغم من أن الإحسانَ مفهومٌ أخلاقي ينشد تقديم ما هو أجمل من القول والفعل، وهو يقعُ في مرتبة تفوق العدالة، لكن يمكن تخصيصه في بعض المواقف دون سواها، فلعل المرء يكون مُحسنًا في مقام فيما لا يكون مُحسنًا في مقام آخر. لذلك لا يربو الإحسانُ لمرتبة الرحمةِ، من حيث هي حالة وجودية لمن يتلبّس بها، فلا تُخصّص الرحمة بمواقف معينة، لأن الرحيمَ يكون رحيمًا حيثما كان الموقفُ.
الكائنُ البشري ليس رحيمًا بالطبع، ولعل في ذلك سرَّ تركيزِ القرآن على الرحمةِ وكثافةِ حضورها فيه، ووضعِها إطارًا مرجعيًا وبوصلةً دلاليةً تُرشِد لما تؤشّر إليه مدلولاتُ سورِه وآياتِه. الرحمةُ حالةٌ لا يستوعبها الكائنُ البشري ولا يتّصفُ بها بيسر، ولا يتمثّلها بسهولة، بل لا يطيقها أكثرُ الناس، لأنها شديدةٌ على النفس، وطالما عجز الكائنُ البشري عن التحققِ بها، إذ إن نزعاتِ العدوان التي تترسّب في أعماقِ هذا الكائنِ تمنعه من امتلاكِها.
الإنسانُ كائنٌ طالما تغلّب في شخصيته الشرُّ على الخير، والتوحشُ على الرحمة. ولولا الدينُ لم تكن الحياةُ ممكنة. الأديانُ خفّضت كثيرًا من الطاقة التدميرية للتوحش في الأرض، فأضحت حياةُ الإنسان ممكنة. لا يتأنسنُ الكائنُ البشري إلّا بالرحمةِ، ومن دونها يتساوى هذا الكائنُ وأيَّ وحشٍ مفترس.
الجلّادون الدمويون الذين ظهروا في الأديان في العصور المختلفة كانوا تعبيرًا عن طبع هذا الكائن المتوحّش أكثرَ مما كانوا يعبّرون عن رحمة الأديان. وإلّا فكيف نفسّر ظهورَ شخصياتٍ روحانية مُلهِمةٍ في الأديان، مثل: الحلاج والنفري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وايكهارت والأم تريزا، وغيرِهم ممن يمثلون أجملَ النماذج الرحيمة الملهمة، وممن تفوّقوا في تجسيدهم لكيفية تمثّل الكائن البشري لمغزى الأديان وندائِها الروحاني العميق.
الكائنُ البشري ليس خيّرًا بالطبع، إنه مستعدٌ بالقوة أن يكون خيرًا أو أن يكون شريرًا، ونادرًا ما يتخلّص إنسانٌ في نشأتِه من آثار العواملِ التي تكوّن نواةَ السلوك العدواني في شخصيته، ولولا ذلك لكان معظم الناس رحماء. يتطلّب خفضُ تأثيرِ هذه العوامل على سلوكِ الإنسان أن ينشأ في بيئةٍ تربويةٍ صحيةٍ، وتنمو شخصيتُهُ في فضاءِ تربيةٍ أخلاقيةٍ صالحة، وحياةٍ روحيةٍ مُلهِمة، وثقافةٍ حيويةٍ ديناميكية، كي تترسّخ في شخصيته النزعاتُ الخيرية، وتولد في روحه بذرةُ المحبةِ وتنمو وتتجذّر باستمرار، بوصفها طاقةً ملهمةً لأجمل معاني الحياة، ولكلِّ ما يُكرّس الرحمةَ وما يتوالد عنها من قيمِ العفوِ والغفرانِ والشفقةِ على الخلق، وما يحمي الكائنَ البشري من الاغترابِ الوجودي.
وكلُّ ذلك لا ينجزه إلّا فهمٌ بديلٌ للدين، وموقفٌ مختلف لنمطِ الصلةِ بالله، ورؤيةٌ جديدة للعالم، وإرادةٌ جديّةٌ في تبنّي العلومِ والمعارفِ والخبراتِ الإنسانيةِ الجديدة، والخلاصُ من الغرام بعلومِ ومعارفِ الموتى التي نسخت أكثرَها العلومُ والمعارفُ الحديثة، لكن المؤسفَ أن أكثرَ ذلك ما زالت تفتقر إليه مجتمعاتُ عالَم الإسلام.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعةُ الرحمةِ الإلهية
- من آثار التديّن الشكلي
- المدياتُ التي ينجزُ فيها الدينُ وعودَه
- كتاب الدين والنزعة الإنسانية
- الدين والظمأ الأنطولوجي
- في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى - 2
- تلاعبُ الهوية المغلقَة بالمعرفة
- رحيل داريوش شايغان
- فالح عبدالجبار
- الجامعة اللبنانية تمنح أعلى تقدير لأطروحة دكتوراه باحث عراقي ...
- ضياع تفكيرنا الديني في تلفيق ثنائيات متنافرة
- ليست الكتابة عملاً فردياً
- رحلة جلال آل أحمد الى الحج
- الاستبداد ينتج نمطه الخاص للتدين
- محمد عبده ومحمد اقبال رؤيتان في تحديث التفكير الديني


المزيد.....




- قوات جيش الاحتلال تقتحم مدينة سلفيت في الضفة الغربية
- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...
- اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو ...
- الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
- صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
- بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021 ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالةِ