بشير جاسم
الحوار المتمدن-العدد: 6026 - 2018 / 10 / 17 - 23:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابا من النظام الدكتاتوري والقمعي الذي يمارس القتل ضد أبناء شعبه (تشي جيفارا)
من الصعب تعريف المثقف بشكل مرضي, فمن الممكن القول انه ذلك المتعلم المنغمس في العمل الذهني المعقد الهادف إلى نقد وتشكيل البيئة السياسية والثقافية المسيطرة في المجتمع . لكن البعض مثل المفكر الفرنسي جوليان باندا يضيق نطاق من يصح أن نطلق عليهم لقب مثقفين, فيجعلهم ليسو أكثر من نخبة صغيرة من ذوي المواهب الفذة والأخلاق السامية ,من طراز الفيلسوف اليوناني سقراط ,في العالم القديم, أو الفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير, في العصر الحديث, من الذين نذروا أنفسهم لمواجهة السلطة والدفاع عن المهمشين ومن لا صوت لهم . أما المفكر والمناضل الايطالي الماركسي انطونيو غرامشي فيرى إن جميع البشر مثقفون بمعنى من المعاني, نضرا لكون الإنسان, عموما, منتج للأفكار وناقل لها بدرجة معينة .لكن غرامشي يعتقد إن ما يميز المثقف هو دوره في المجتمع والذي تحدده, أساسا, الطبقة التي ينتمي إليها ويدافع عن مصالحها. وسمى هذا النوع من المثقفين ب (المثقف العضوي).واعتبر أن هؤلاء يتوزعون بحسب الطبقات المختلفة التي ينتمون إليها, لكن بما أن هناك طبقتين أساسيتين (طبقة العمال والمسحوقين والطبقة البرجوازية الحاكمة) فان أغلبية المثقفين ينقسمون إلى مجموعتين: تضم الأولى المدافعين عن مصالح وحقوق الطبقات الكادحة, التي تعاني من الفقر والاستغلال فيما تضم الثانية ممثلي الطبقة الحاكمة, التي تحتكر السلطة والثروة .والى جانب المثقفين العضويين فان هناك مجموعة أخرى سماهم غرامشي ب (المثقفين التقليديين) ويمثلهم رجال الدين والمعلمون ,وهؤلاء لا ينتجون جديدا في مجال المعرفة, بل يقتصر دورهم على تكرار ما هو موجود من فكر سائد ,وذلك على النقيض من المثقف العضوي, الذي يتصف بالنشاط وعدم الركون إلى الراحة في إنتاجه للفكر ونشره لأيديولوجيا الطبقة التي ينتمي إليها .في حين يعتبر المنضر الأدبي والباحث الفلسطيني - الأمريكي ادوارد سعيد أن المثقف هو شخص ذو قدرة خاصة على مخاطبة الجماهير,و يحمل رسالة يريد إيصالها للمجتمع, تستند إلى مبادئ الحرية والعدالة ذات الطبيعة العالمية .وهو يعتقد أن على المثقف أن ينأى بنفسه عن تأثير الحكومات والأحزاب وعن أي جهة قد تكون ذات مصلحة في تقييد حريته الفكرية . فالمثقف, كما يصوره سعيد, لا بد أن يكون مقاوما للسلطة ولما هو سائد في مجتمعه,لذلك فهو يشعر بأنه (لا منتمي ) نضرا لاستبعاده عن دوائر السلطة و تعرضه للعزل من جانب الثقافة المهيمنة .
وهنا نناقش بعجالة أوضاع المثقف العراقي بعد عام 2003 ,والذي وجد نفسه وسط دوامة لا تنتهي من انعدام الأمن وسفك الدماء وانهيار قطاعات الاقتصاد المختلفة وتفشي الفساد والبطالة وانتشار القيم الهدامة والظواهر الاجتماعية الشاذة, على خلفية صراع أحزاب الإسلام السياسي على السلطة والثروة وانصياعها لإرادة القوى الإقليمية والدولية .إذ تقاسمت هذه الأحزاب الحكم على أسس طائفية وقومية وعشائرية, الأمر الذي أدى إلى تفكك المجتمع وفقا لذات الأسس .وإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق من سنوات الحصار الاقتصادي التي عاشها المثقف ,أسوة ببقية العراقيين ,وما تخللها من عزلة فكرية, وتضييق النظام السابق على حرية التفكير والإبداع, نجد إن قدرة هذا المثقف على أداء ما هو منتظر منه في مجالات النقد والإنتاج الفكري وتوعية الجماهير يصبح أمرا في غاية الصعوبة . لكن على الرغم من ذلك, يضل للمثقف دور لا غنى عنه إذا ما أريد للعراق أن ينجح في معالجة المشاكل التي تواجهه في هذه المرحلة الصعبة من تاريخه المعاصر .
العراق اليوم بحاجة لحضور ذلك المثقف العضوي, الذي يسعى إلى إيصال الجماهير إلى حالة من الوعي تمكنها من اتخاذ المواقف التي تنسجم مع المصلحة العامة, و الذي يحمل فلسفة الدفاع عن الفقراء, ممن يحتلون الطبقات الدنيا في الهرم الاجتماعي .وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من العراقيين هذه الأيام .أما بقية المواطنين فأوضاعهم ليست بأفضل, إذ إن اغلبهم من ذوي الدخل المحدود, والذين يجدون صعوبة بالغة في تلبية متطلبات الحياة اليومية من تعليم وصحة وسكن وغيرها من الحاجات الأساسية .وهذا يفرض على المثقف مواكبة التطورات على مختلف الأصعدة, ومراقبة الخطوات التي تتخذها الأحزاب الحاكمة, ومدى تأثيرها على واقع الحياة اليومية للمواطن العادي, من خلال دراسة وتحليل الأحداث بشكل موضوعي ومن دون المساومة على الحقيقة, ثم محاولة إذاعة ما توصل إليه من استنتاجات, إذا ما أراد أن يكون فاعلا في التأثير على الشارع وضاغطا على السلطة السياسية . ويحتم الواجب الأخلاقي على المثقف الذي يقرر الخوض في الشأن العام الدفاع عن حقوق المهمشين والأقليات الدينية والقومية, التي وقعت ضحية التحيزات النابعة من الثقافة التقليدية, وإيديولوجيا الأحزاب الإسلامية, ومصالحها غير المشروعة. وقد زاد الصراع الدائر بين الدولة والميليشيات من جهة والجماعات الإرهابية من جهة أخرى من معاناة الأقليات, الأمر الذي يتطلب المزيد من تسليط الضوء على أوضاع هذه الفئات, التي تتعرض للاضطهاد بشكل مضاعف دون أن تملك القدرة على الدفاع عن نفسها. وتشكل مواجهة الثقافة السائدة ذات الجذور العميقة بثقافة جديدة لها مضمون تقدمي, واحدة من اشد المهام صعوبة وأكثرها حاجة إلى بذل الجهد والوقت من قبل المثقف التنويري .إذ عليه محاربة الجمود الفكري, وأسلوب التفكير النمطي ,ودراسة ما يحتويه التراث من أساطير وعادات وقيم أنتجتها فترات سابقة وفي ظروف لم يعد لها وجود ,فيبين طريقة تكون هذا التراث بأسلوب علمي, ويوضح الأضرار التي قد يلحقها التمسك بالثقافة التقليدية,كما هي ومن دون نقد وتمحيص , على تقدم المجتمع وتحقيق العدالة والتعايش السلمي بين أبنائه .مع ملاحظة إن التراث يشتمل على العديد من القيم والأفكار الايجابية, التي يتوجب الحفاظ عليها .ولعل النصوص الدينية التي تستند إليها كل من الأحزاب السلامية الحاكمة, والجماعات الإرهابية, في تبرير انتهاكاتها بحق النساء, والمختلفين في الدين والمذهب, وبحق من يقررون العيش بطريقة مختلفة, واحدة من الأمثلة الصارخة على ما يمكن ان يجره التقيد الحرفي بالموروث الثقافي من كوارث, إذا ما أصبح التوظيف السياسي لذلك الموروث مصلحة للطبقة الحاكمة أو لمجموعة طامحة في الصول إلى السلطة .وهو ما يفرض على المثقف توعية المواطن وتحذيره من الانجرار وراء هذا الفكر الخطير وغير الإنساني .لذلك فان إشاعة الرؤى التي تتبنى النهج العلمي والنزعة الإنسانية في أوساط الجماهير تعد واحدة من أولى المهام التي ينبغي على المثقف أدائها.
لعل الشريحة الأكبر ممن يزاولون أعمالا ذات طبيعة ذهنية, وينطبق عليهم وصف المثقفين, تتمثل بحاملي الشهادات الجامعية من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعات ومدرسين وضباط ومحامين وغيرهم .ويعمل اغلبهم في المؤسسات الحكومية إذ يشكلون الجهاز البيروقراطي الذي يدير هذه المؤسسات.وعلى الرغم من مساوئ البيروقراطية والتي يتجسد جزء منها في الروتين الذي يستهلك الوقت, فضلا عن سعي الأنظمة الحاكمة لاستغلالها لفرض إيديولوجيتها ومصالحها على حساب الأغلبية, إلا أن المعرفة الأكاديمية التي يتمتع بها هؤلاء الموظفون تشكل حاجة لا غنى عنها بالنسبة للمجتمع. نظرا للخدمات الكبرى والمتنوعة التي يقدمونها وعلى مختلف الأصعدة .إلا إن تجاهل الأحزاب الحاكمة لبناء إستراتيجية واضحة حول كيفية إدارة المؤسسات الحكومية, بالإضافة إلى رغبتها العارمة والمرضية في الاستحواذ على السلطة والثروة, واحتدام الصراع فيما بينها على النفوذ, جعلها تلجأ إلى مختلف الأساليب غير القانونية لبسط سيطرتها على المؤسسات العامة, ومنها قيام هذه الأحزاب بتسهيل عمليات تزوير الشهادات الدراسية لصالح المنتمين اليها, وبشكل منضم وواسع النطاق, وذلك بدئا بشهادات المرحلة الابتدائية, ووصولا لشهادة الدكتوراه .وعلى سبيل المثال, فقد صرح وزير التعليم العالي والبحث العلمي, آنذاك, في 22/9/2009 ان وزارته كشفت 1393 شهادة مزورة عام 2007, و 1374 شهادة أخرى عام 2008 .أما وزارة التربية فأعلنت رصد 2560 حالة تزوير للشهادات عام 2016 وحده .وهكذا تسرب حملة هذه الشهادات الزائفة لدوائر الدولة المختلفة ومؤسسات القطاع الخاص, فكان ذلك احد الأسباب الرئيسية لعجزها عن أداء عملها بشكل سليم, كما شكل صفعة موجعة لعمل وزارتي التعليم العالي والتربية, المفترض بهما إنتاج الثقافة والمعرفة . ونالت وزارتي الدفاع والداخلية حصتهما من التخريب المعرفي المتعمد, إذ عين عدد كبير ممن يسمون ب (ضباط الدمج)في هاتين الوزارتين ,واغلبهم من المنتمين للميليشيات المسلحة ألتابعة للأحزاب الإسلامية. وقد حصل بعضهم على أعلى الرتب العسكرية وشغل أكثر المناصب خطورة, من دون امتلاكه للمؤهلات العلمية ,بل إن الكثير منهم أميون لا يجيدون القراءة والكتابة .ولعل من الأسباب الأساسية التي أدت إلى انهيار القوات المسلحة إمام شرذمة قليلة العدد من إرهابيي داعش, عام 2014 ,يعود إلى ضم هذه العناصر التي تفتقر إلى الثقافة العسكرية . وعلى هذا النحو تحولت الوزارات والدوائر الحكومية المختلفة إلى مغانم للأحزاب الحاكمة. وجرى تقاسم المناصب العليا بناءا على حجم النفوذ السياسي وقوة الميليشيات التي يملكها كل حزب . أما الموظف (العادي) ذو المعرفة الأكاديمية والثقافة المهنية, والذي يشغل منصبا مهما, فقد تم (استبداله) بآخر مدجج بالشعارات الدينية والقوة الحزبية المسلحة .واتخذت عمليات الاستبدال هذه أساليب مختلفة منها : اتهام الموظف المراد إقصائه بقضايا فساد مفبركة, أو اعتباره مشمولا بقانون اجتثاث البعث .وفي بعض الأحيان يهدد الموظف المطلوب إزاحته بالقتل في حال عدم تركه العمل,وفي أحيان أخرى تجري تصفيته من دون سابق إنذار .وهذا أدى إلى إصابة المؤسسات الحكومية بالشلل والفوضى نتيجة لإقصاء ذوي الكفاءة والاختصاص.لقد كانت معاناة المثقفين من العاملين في دوائر الدولة كبيرة, على الرغم من إن اغلبهم ليسو من الناشطين سياسيا, إلا إن شهوة الإسلاميين للهيمنة على كل ما في البلد جعل هؤلاء في مقدمة الضحايا .
عملت أحزاب الإسلام السياسي على شراء بعض المثقفين: من الإعلاميين والأدباء والفنانين والباحثين في المجالات المختلفة. و وضفتهم في القنوات الفضائية, والإذاعات, والصحف, ومراكز الأبحاث التي أسستها بعد عام 2003, بأموال الدولة التي استولت عليها ,وحولت هؤلاء إلى أذراع دعائية بهدف السيطرة على الرأي العام, والترويج لفكرها, وتلميع صورتها, ومهاجمة الخصوم سواء أكانوا من الأحزاب الحاكمة المنافسة أم من المعارضين للسلطة, وتلطيخ سمعتهم, ووضعهم في قفص الاتهام .وبذلك تحول البعض إلى أبواق تمجد الأحزاب وقياداتها وترسم صورة وردية للأوضاع في البلد في ضل حكمها .فكان الضرر الذي سببته هذه المجموعة من أصحاب الأفكار والأقلام المأجورة لا يقل عن الضرر الذي تسببت به أحزاب السلطة ذاتها. إذ إنهم لم يكتفوا بتضليل الشعب وتشويه الحقائق, بل و قفوا أيضا إلى جانب لصوص المال العام ومنتهكي القانون, بدل دعم المواطن العادي, والدفاع عن حقوقه المهدورة .وفي المقابل تعرض المثقفون الذين اتخذوا موقفا معارضا للطبقة الحاكمة, وانحازوا للشعب, لشتى أنواع الانتهاكات والضغوط .وفي هذا الصدد نتذكر ما حصل للناشط جلال الشحماني, الذي اختطف وغيب منذ سنوات دون أن يظهر له اثر .إما الناشطة سعاد العلي, فقد اغتيلت في وضح النهار لأنها تجرأت على التظاهر والمطالبة بمحاسبة الفاسدين وتوفير الماء الصالح للشرب لأهالي البصرة . في حين تمت تصفية المسرحي هادي المهدي في شقته بمسدس كاتم للصوت عام2011, وهو احد قادة حركة المظاهرات الجماهيرية في بغداد, والتي طالبت بالإصلاح وتوفير الخدمات .واغتيل الكاتب كامل شياع عام 2008, وكان عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي, ومستشارا لوزير الثقافة .أما الناقد والباحث الماركسي قاسم عبد الأمير عجام, فقد اغتيل عام 2004,وكان مديرا لدائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة. وتعرض الكثير من الناشطين للخطف والتعذيب قبل أن يطلق سراحهم بعد (تعهدهم )بعدم العودة للتظاهر .وفي جميع الحالات المذكورة, وفي غيرها من القضايا المماثلة, قيدت الجريمة (ضد مجهول), وضل الجاني حرا طليقا .وعلى هذا النحو, سعت الأحزاب الإسلامية إلى إسكات المثقفين العلمانيين من ذوي التوجهات اليسارية والليبرالية ,خصوصا, بهدف إعاقة انتشار الوعي بحقيقة هذه الأحزاب, من جهة, ومنع ظهور أي تيار سياسي تقدمي, يمكن أن يهدد هيمنتها على المشهد السياسي, من جهة أخرى .لذلك يتعرض فالمثقفون المعارضون للسلطة القائمة لهجوم شرس يشنه الإسلاميون, من خلال الماكينة الدعائية الهائلة التي يملكونها, إضافة إلى استخدامهم للمساجد وخطب الجمعة كوسيلة للتحريض ضد المثقفين وتشويه صورتهم في أذهان الناس.والأحزاب الإسلامية معبئة بسيل من الاتهامات الجاهزة لكل من يتناول الموروث بالنقد والتحليل, أو يدعو إلى اعتماد الأسلوب العلمي في التفكير, أو يتبنى الدفاع عن الحريات الشخصية .فهم يتهمون هؤلاء بالإلحاد والترويج للاستعمار الثقافي والتشكيك فيما يسمونه ب (ثوابت الأمة).ونظرا للانفلات الأمني, وانتشار الميليشيات المسلحة, فان هذا التحريض كثيرا ما يتحول إلى عمليات تصفية جسدية لمن يختلف مع الأحزاب الحاكمة في الايدولوجيا والموقف .
لا شك ان المثقف العراقي الملتزم بقضايا الشعب يسير على صفيح ساخن, بل وملتهب أيضا .فالأحزاب الحاكمة تتربص به أينما حل, والثقافة السائدة كثيرا ما تحوله من باحث عن الحقيقة ومدافع عن المضطهدين إلى متهم, أما زملائه الذين امتهنوا تجميل وجه السلطة القبيح فأنهم لا يتورعون عن نعته بأبشع الأوصاف .لكن على الرغم من ذلك, فان ما قدمه المثقفون من تضحيات منذ الغزو الأمريكي يثبت ان الكثيرين منهم لن يستسلموا لا لليأس ولا لإغراءات الحكام .وقديما تجرع الفيلسوف اليوناني سقراط السم رافضا أن يتخلى عن مبادئه وأفكاره.
#بشير_جاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟