|
تقاطعات بين الأديان 14العادل المعذب ....صبر أيوب
عبد المجيد حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 6018 - 2018 / 10 / 9 - 02:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقاطعات بين الأديان 14 العادل المعذب ....صبر أيوب
خلافا لما اعتدنا عليه في الحلقات السابقة ؛ التجوال بين أديان المعمورة ، والتنقل بين القارات ، سأكتفي في هذه الحلقة بالتجول بين ديانات الإقليم . ولأن الإمبراطورية البابلية ، في حقبتيها الأولى والثانية ، بسطت سلطانها على بلدان الإقليم ، ونقلت إليه حضارتها ، علومها ، فكرها ، آداب ديانتها ، ثقافتها ، وفي المقدمة لغتها الأكدية التي غدت لغة الإقليم السياسية والدبلوماسية ، من جنوب مصر إلى أواسط فارس ، لذلك كله ، سأكتفي بنقل أسطورتين للعادل المعذب ، أو ما نتعارف عليه شعبيا بصبر أيوب . واحدة تعود لمطلع إمبراطورية بابل الأولى ، إلى ما قبل أربعة آلاف سنة ، أي إلى ما قبل التوراة بألف سنة ، والثانية تعود لوقت مقارب لميلاد توراة موسى ، نعقبهما بروايتي التوراة والقرآن لذات الأسطورة المعروفة باسم أسطورة أيوب . 1 العادل المعذب : الأسطورة البابلية الأولى ، والتي حملت اسم "العادل المعذب "، و"لأمجدن سيد الحكمة "، و"العادل الذي يتألم " ، دَوَّنها مؤلفوها على لوحات فخارية ، تهشم أكثرها بفعل الزمن ، وجمعها علماء الآثار من كسر متفرقة بين متحفي استنبول وفيلادلفيا ، بعضها كامل ،وأكثرها مشوهة ، وتم نشرها في العام 1954 ، حسب ديوان الأساطير ، المجلد الثاني . تحكي الأسطورة قصة عذاب لا تحتمله طاقة البشر لشخص اسمه : شوبشي –ميشري – شاكان . لفت نظر مدوني الأسطورة أن شوبشي هذا اشتهر بصلاحه ؛ بإيمانه وطاعته للآلهة ، باتمامه لطقوس العبادة ، وتقديمه المنتظم للقرابين الحية ؛ العجول السمينة والخراف الوازنة ، الفواكه والثمار المختلفة ، وللقرابين السائلة ؛ الجعة الممزوجة بالعسل والنبيذ الصافي ..الخ ، يضاف لذلك خدمته للقصر وإخلاصه للملك ، وقناعته أن طاعة الملك هي الطريق لكسب رضا الآلهة ، وبالتالي حيازة رضا القصر فالمكانة السامية فيه تأتي كنتيجة مؤكدة . لكن الآلهة كان لها رأي آخر . أخضعته لامتحانها القاسي ، الذي لم ير هو ، وكل المحيطين به مبررا له ، واعتباره عقابا يتنافى مع ما عرفوه من عدالة الآلهة . تبتدئ الأسطورة بكلمات تمجيد شوبشي للإله ميردوك ، لينتقل منها إلى الشكوى من تخلي الإله عنه . يقول :" إلهي أهملني وغاب عني إلى الأبد . إلهي تحولتَ وابتعدتَ عني . وعني افترق الملهم الخَيِّر الذي كان يرافقني ، وهرب ملاكي الحارس الذي كان يرافقني . هرب ملاكي الحارس مفتشا عن غيري . سلبت مني حيوتي وأعتم مظهر رجولتي . ذهبت صحتي الجيدة ، ودفعة واحدة رُفِعت عني كل حماية " . ينتقل شوبشي للحديث عما بدأ يلاحظه من إشارات نذر شؤم لما سيحل به من نكبات يختمها بالقول : " مخيف هو حلمي عندما أنام ليلا " . ومنها ينتقل للحديث عن فقد حظوته في القصر وطرده منه . " والملك نفسه ، الكائن الإلهي ، وشمس شعبه ، لسوء طالعي لم أستطع تهدئة غضب قلبه . رجال البلاط لا يكفون عن مراكمة العداء ضدي " . ... "إنهم جسم واحد وليس لهم سوى فم واحد موجه ضدي " ....... " ولساني الذي كانت الثقة تميزه تمكنوا من لجمه . أنا الذي كانت شفتاي سهلة الحديث ، أصبحتُ مثل أصم – أبكم . ونداءاتي التي كانت مرفوعة الصوت أجبرت على الصمت . رأسي الذي كنت أحمله عاليا انحنى حتى الأرض " ..... " وأنا الذي كنت أتنقل متبخترا كسيد ، تعلمت أن أسير متسترا بالجدران . من السيد الرائع الذي كنته تحولت إلى عبد " . وبعد شرح لكيفية انفضاض الناس عنه ، وحتى تخلي أسرته وكأنه لم يكن من لحمها ، يشكو ظلم الإله قائلا :" الذي يتحدث عني بلطف تُعَد له حفرة قبره . يُرْفع إلى القمة من يعلن المخازي بصددي . يُعين الإله من يتحدث عني بأقوال لا يستحسن قولها ، ولكن الذي يتشفع لي يستعجل الموت طريقه إليه ، وأما الذي يردد المخازي بشأني فملاكه الحارس يحتفظ له بصحة جيدة " . وينتقل شوبشي إلى نعي ضياع أملاكه قائلا : " ولم أجد واحدا يرافقني ، ولم أر أحدا يشفق على حالي . وَوُزِّع كل ما أملك على العبيد والرعاع . طردوا من حقولي الألالا ، نشيد الحصادين المبهج ومثل نطاق عدو أحالوا إلى الصمت ملكي . جعلوا شخصا آخر يأخذ مكاني في الطقوس المقدسة ، وسمحوا لغريب إقامة طقوسي . لم يعد النهار غير تحسر ، والليل شاغله النحيب . الشهر كله أنين والسنة بكاملها يملأها الأسى ..........." تتوالى المصائب على شوبشي . يبحث عن تفسير لما يحل به من بلاء فلا يجد جوابا . يتضرع للإله ميردوك، لكن الإله يشيح بوجهه عنه . يتوجه بالرجاء للإلهة زربانيتو – زوجة ميردوك ، لكنها لم ترفع رأسها . لكل ذلك يصرخ :" الشر يتفاقم حولي ولا أجد أي بارقة للعدالة " . وتنتاب شوبشي الحيرة وهو العابد الزاهد المخلص ، لأن ما يحل به وكأنه الكافر الزنديق ، الذي لا يؤدي أيا من واجباته تجاه الآلهة ، وساردا تلك الواجبات والعقوبات المتوجبة على عدم القيام بها ، وليصرخ في ختامها :" وكنت أعتقد حقا أن كل ذلك كان مُرضيا للإله . ولكن ما هو حسن لنا ، هل يكون إذن مسيئا للإله ؟ وهل ما تكرهه أنفسنا يمكن أن يكون مرضيا للإله ؟ من الذي يمكنه التعرف على إرادة الإله في السماء ؟ ومن يستطيع تفهم المقاصد الإلهية في الأعماق السحيقة ؟ أين يمكن للبشر معرفة طرق الإله ؟........ أسائل نفسي أمام هذه التناقضات ، دون التعرف على مغزاها العميق ، وأنا المرهق تعبا فإن عاصفة تلاحقني " . والعاصفة التي تلاحق شوبشي تتمثل في سلسلة الأمراض التي بدأت تداهمه :" استولى علي مرض موهن ، وهبت نحوي ريح شريرة من أعماق الأفق . ومن سطح العالم السفلي انتشرت نحوي الحمى دي- أو " ، يعتقد المترجم أنها حمى الجدري . ويأخذ شوبشي في سرد ما أصابه من أمراض ، لم تترك جزءا واحدا من جسده دون إصابته بعلة مضنية . وطال زمن مرضه : " طُرحتُ في فراشي وكأنه السجن ، لم يعد الخروج يمثل سوى أنيني . وإلى معتقل تحول بالنسبة لي بيتي . صار جسدي غلاف شوائب " ..... و" أطرافي المقطعة الأوصال ممدودة في جهة وأخرى . في مزبلتي مثل ثور أمضيت ليالي ، ومثل خروف تمرغت في برازي " . ولأن علله أعجزت العرَّافين والمُعَزّْمين ، أخذ ينوح قائلا . " لم يأت الإله لعوني ، ولم يأخذ بيدي . ولم تشفق علي إلهتي ولم تقترب مني . كان قبري مفتوحا ، وزينتي الأخيرة كانت منذ الوقت جاهزة . وحتى قبل موتي كان قد تم إعداد مرثاتي . جميع أهل بلدي قالوا عني :" إنه عومل بشكل غير عادل ....." . وبالرغم من كل ما حل به ، لم يفقد شوبشي الأمل في رحمة الإله . ثم توالت عليه الأحلام . حَلُمَ أولا بشاب خارق الجمال جاءه بنبأ شفقة الإلهة عليه . وحلم ثانيا بالكاهن المكلف بالتطهير ،وقد ظهر له وهو يحمل بيده غصن الطرفاء المطهر . وفي حلم ثالث رأى فتاة جميلة المظهر جلست قرب فراشه . طلب منها أن تشفع له فاستجابت لطلبه . وفي حلم أخير رأى شابا ملتحيا وعلى رأسه عمامة ، وكان هو مُعَزِّم المملكة . قال :" ميردوك بالذات قال لي ، أرسلني لأقول لك :" إلى شوبشي – ميرشي – شاكان احمل اليسر " . وبدأت عُقَد عِلله تنفك واحدة بعد أخرى . استعاد عافيته . استعاد أملاكه واستعاد مكانته بين الناس . كما عاد يؤدي طقوس عبادته واستأنف صلواته :" وعلى بوابة الخلاص التقيت مردوك . وعلى بوابة منتهى الكمال قبلت رجل زرباتينو ، ولم أتوقف أمامهما عن الصلاة ، والرجاء والدعاء . وضعت أمامي البخور ذا الرائحة الزكية . كدست الهدايا والقرابين والهبات . ضحيت بثيران سمينة ، وذبحت خرافا وازنة . قدمت قرابين سائلة على قرابين سائلة ، من الجعة الممزوجة بالعسل والخمر الصافي . وإلى ملهم الخير ، وإلى الملاك الحارس ، وإلى المساعدين الإلهيين ضمن جدران الإيساجيل – معبد الإله مردوك – بواسطة تقدمات غزيرة نورتُ مزاجهم ، وبواسطة موائد طعام وفيرة أبهجتُ قلوبهم " . 2 حوارية بابلية حول العدالة الإلهية : يشير ديوان الأساطير ، المجلد الثاني ، أن مؤلف هذه الحوارية الفلسفية الوجودية ، شبه الدينية ، هو الحكيم ساجيل – كينا - موبيب الذي عاش في زمن الإمبراطور نبوخذ نصَّر الأول ( 1124 -1103 ق.م ) . الحوارية تدور بين متشكك – شكاك – في العدالة الإلهية ، يوصف بسيء الحظ ، وآخر مؤمن بهذه العدالة ، ولذلك يوصف بالحكيم . ولأنني تخيلت ردود الفعل على هكذا حوار لو حدث اليوم ، أي بعد 3100 سنة من الحوار الأول ، فقد استقر رأيي على نقله للقارئ كاملا ، بعد حذف مقدمات التبجيل والتكريم لكل فقرة حوار . بقي القول أن مسجل الحوار رَمَزَ للمتشكك بالحرف ش ، وللمؤمن بالحرف م . ش : " ..... لم أكن قد بلغت أشدي بعد عندما انقض علي العذاب . أنا آخر أخوتي ، وقد حرمني القدر من الذي ولدني ، وأمي التي ولدتني ذهبت إلى بلاد اللاعودة . أمي وأبي تركاني دون أحد لرعايتي ؟" م : " ....... وأراك بدلت تقاطيعك المنيرة بمظهر معتم . آباؤنا مآلهم السير على طريق الموت ، ومنذ الأزل اجتياز نهر العالم السفلي . ولكن إذا نظرت إلى البشر في مجموعهم ، فليست المصادفة أثرت بِكرا لا حيلة له . والسمين ممتلك الثروات من الذي يسَّر حاله ؟ وحده يبلغ النجاح من تطلع نحو وجه الإله . ووحده ،عند الآلهة ، المتواضعُ يراكم الكثرة " . ش : "........ عليك إذن سأطرح سؤالي . أصغ جيدا إلى حديثي . أعرني للحظة انتباهك ، استمع إلى كلماتي . جسمي منهار ، واستمرار الهزال حرمني من سيمائي . أُبْعِدَ عني نجاحي وزالت الكثرة من يدي . الانهيار العصبي والهموم أعتما تقاطيع وجهي ، وقمح حقولي أضحى بعيدا عن إشباعي ، والجعة القوية التي أملك ، الجعة حياة البشر ، هي قليلة جدا لكي تروي عطشي . هل ستتأمن لي حياة رغيدة ؟ أود معرفة كيفية التوصل إليها ." م :" ........لقد فرضت على عقلك التيه وعدم الصواب ، وجعلت من حكمك الممتاز حكما أعمى إلى الأبد وباستمرار . سوف يعاد إليك ما ترغب به ، ولكن حمايتك السابقة سوف تستردها بواسطة الصلوات ، وبتقديم تضحيات القرابين ، فإن آلهتك ، عندما يسكن قلبها ستعود إليك . والآلهة الذين لم يمنحوك الرخاء سوف تتملكهم الشفقة أمام تضرعاتك . أدر وجهك دوما نحو تطبيق العدالة ، وسيدك الكلي القدرة سيظهر نحوك طيبته ، ويبعد عنك غضبه ، ويمنحك عطفه " . ش : ".......... الحمار الأخدري ، هذا الحمار الوحشي الذي يتخم نفسه من نتاج حصادنا ، هل يعير أذنا صاغية للكاهن الذي يؤكد تحقيق إرادة الآلهة ؟ والأسد المفترس الذي لا يأكل إلا أجود اللحم ، هل يقوم بتقديم قربان طحين لتهدئة غضب الآلهة ؟ والحديث الثراء الذي تضاعفت حقا ممتلكاته ، هل يزن من أجل مامي – الإلهة الأم – الذهب الثمين ؟ أتقاعست أنا عن تقديم القرابين ؟ لقد صليت إلى الإله ، بكل تقوى قدمت للآلهة قرابيني بانتظام ، وكلماتي كانت صادقة " . م :" ......... أجل يمكنك أن تشاهد في السهوب الحمار الوحشي الرائع الجمال ، ولأنه يكحت الأرض التي يدوسها يتوجه السهم نحوه . هل تريد أن تتأمل عدو الماشية ، هذا الأسد الذي ذهب تفكيرك إليه ؟ من أجل الأضرار التي يرتكبها فإن الحفرة قد أعدت له . أما الحديث الثراء التي تتراكم أرزاقه ، فإلى النار وقبل دنو ساعته ، فإن الملك غالبا ما يحيله إلى اللهب . هل ترغب باتباع الطريق الذي اتخذه هؤلاء ؟ أحرى بك أن تسعى إلى محاسن نعمة الإله الدائمة " . ش :" .........رأيك ممتاز يا أفضل الشركاء ، إلا أن كلمة واحدة فقط أريد إضافتها أمامك . إنه لطريق سعادة هو الذي يتبعه من لا يبحثون عن الإله ، بينما يتحول إلى الفقر المتدينون المتحمسون للآلهة ، ويفقدون ممتلكاتهم . منذ أيام شبابي توجهت بنفسي نحو إرادة الإله بالتعبد والصلاة بحرارة وورع ، وفتشت عن الآلهة . ومثل نير حملت عبوديتي دون فائدة . لم يمنحني الإله غير العوز عوضا عن الغنى . الأكسح يفوقني ، والمجنون يسير أمامي . والنذل يبلغ القمة وأنا يُنتقص من قدري " . م :"..........على الرغم من ذكائك ، فكل ما تكرره هنا باستمرار لا معنى له . لقد تخليت عن الحق وهزئت بنوايا الإله ، ورغبت في داخلك أن تتوقف عن ممارسة الطقوس الإلهية . في داخلك نسيت الأنظمة الحقيقية لاحتفالات الآلهة . مقاصد الإله بعيدة عنا كما هي بعيدة أعماق السماوات . لا يسعنا أن نسمع ما يخرج من فم الآلهة ، ويبقى البشر عاجزين عن فهمها تماما . أفكار الآلهة تبقى متعذرة على البشر ، ومن المحال على البشر التعريف بطرق الآلهة ، لأن الأرض قريبة من عقلهم ......" . ش :" ........مهما نظرت إلى هذا العالم فالإشارات تتناقض . كلا ، فالإله لا يسد الدرب أمام الشيطان . انظر إلى الأب الذي يسحب القارب في القناة بينما كبير أبنائه يرتكب الفسق في فراشه . أما أنا الذي تذللت أمام الإله ما الذي ربحته بالمقابل ؟ هاأنذا راكع عند رجلي من هو أدنى مني مرتبة ، والرجل الفظ ميسور الثراء يعاملني بازدراء " . م :" ....ها أنت بسبب عذاب نفسك تسيء معاملة الإله . قلب الإله بعيد عن متناولنا كما هي بعيدة عنا أعماق السموات . شاقة هي معرفته والبشر يجهلونها . الذين خلقتهم أرورو – الإلهة الأم – بيدها هم كائنات حية بشكل متساوي . ولماذا إذن يولد البكر وهو أضعف من الذي يليه ؟ مهما حاول البشر التعرف على مقاصد الإله فإنهم يجهلونها " . ش :"انتبه إلى ما أقوله يا صديقي وحاول تفهم أفكاري . يشاد بكلمات الوجيه الذي انغمس في تجربة الجريمة وتُحَط قيمة البائس الذي لا يضر أحدا . يُستمر في تكريم الشرير الذي يمقت العدالة ، ولكن يطرد العادل المتنبه إلى إرادة الإله . يُملأ بالذهب كنز القرصان ، ولكن عنبر المسكين يفرغ من مؤونته . تُزاد سلطة الرجل المتعجرف الذي كل شيء لديه خطيئة ، ولكن الضعيف نقضي عليه ويُطرد الهزيل . أما أنا العديم الأهمية فإن حديث الثراء يضطهدني " . م :" ملك الآلهة نارو - إنليل – خالق البشر ، وزولومار – إيا – المجيد الذي شكل الصلصال ، والملكة التي صنعتهم مامي السنية ، وهبوا البشرية محاكمة عقلية مبهمة ، وما زودوهم به إلى الأبد ليس الحقيقة بل الخطأ . ولذلك فالكلمات الرنانة يتم التحدث بها لصالح الغني ، " إنه ملك ، يقال عنه الثروة ترافقه ". ولكن الفقير البائس تساء معاملته وكأنه لص . تُغدق عليه النميمة ويتم الاستعداد لقتله . تلصق به كل الشرور بشكل كاذب ، لأن لا حامي له وبالإرهاق يتم القضاء عليه ، ويُطفأ مثل شمعة ". ويختتم المتشكك الحوارية بالتوجه من جديد لطلب عون الآلهة ، لأنه لم يعثر على بديل ولم يكن لديه خيار آخر . يقول :" أنت شفوق يا صديقي فاعتبر إذن قلقي . تعال لمساعدتي . أنظر إلى ألمي . واعلم : أنني كنت ساهرا ، ومُحْتَرِما ، ، وراجيا ، ولم أجد قط ، ولو للحظة واحدة ، العون أو المساعدة . مشيت دون ضجيج في ساحات مدينتي ، وصوتي كان دون دوي وكلمتي منخفضة . لم أكن رافعا رأسي ، وكنت أنظر إلى الأرض . لم أكن متبجحا ، وكنت مثل عبد بين جميع زملائي . ألا فليمنحني الآلهة الذين أهملوني من جديد عونهم . والآلهة التي هجرتني لتعد من جديد إلى معاملتي بشفقة " . 3 التوراة – سفر أيوب : يمتد السفر في الكتاب المقدس – العهد القديم أو التوراة – على مساحة 42 إصحاحا . من غير السهل تلخيصه ، أو اختصاره ، دون المساس بجوهره الذي ، كما رأيت ، يتمثل في الحوار مع أصدقاء ثلاثة جاءوا لعيادته ومواساته ، وامتد على مساحة ثلاثين إصحاحا . يبدأ الإصحاح الأول بوصف أيوب :" وكان هذا الرجل كاملا مستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر ". ثم ينتقل لتعداد ثروته ، وبعدها يلخصها في عبارة واحدة :" فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق " . وتبدأ محنته على النحو التالي :" وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب ، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم * فقال الرب للشيطان من أين جئت . فأجاب الشيطان الرب وقال : من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها * فقال الرب للشيطان : هل جعلت قلبك على عبدي أيوب ، لأنه ليس مثله في الأرض . رجل كامل ومستقيم ، يتقي الله ويحيد عن الشر * فأجاب الشيطان الرب وقال : هل مجانا يتقي أيوب الله . أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية . باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض * ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدف عليك * فقال الرب للشيطان هو ذا كل ما له في يدك ، وإنما إليه لا تمد يدك . ثم خرج الشيطان من أمام وجه الرب " . بهذا التوكيل من الرب ، صب الشيطان النازلات على رأس أيوب . تعددت وسائل الشيطان في إبادة قطعان ماشية أيوب وأملاكه ، وحيث ظل واحد فقط ينجو من الكارثة ليبلغه خبرها . وجاءت خاتمتها بسقوط البيت على أبنائه التسعة وبناته الثلاث ومقتلهم جميعا . " مزق أيوب ملابسه وجز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد ، وقال : عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك . الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركا " . خاب ظن الشيطان ، ولم يجدف أيوب بحق الرب . وفي الموسم التالي لمثول بني الله أمام الرب ، تكرر وجود الشيطان ، وسؤال الرب عن كيفية وأسباب وجوده . كما تكرر جواب الشيطان ، وتحذير الرب له من التعرض لأيوب الذي خيب ظنه ولم يجدف . أجاب الشيطان بأن النازلات وقعت بمال أيوب وأبنائه ولم تصب لحمه وعظمه ، ولو أنها أصابت اللحم والعظم فإنه سيجدف في وجه الرب . هنا أعطى الرب الشيطان صلاحية مس أيوب في لحمه وعظمه . ضرب الشيطان أيوب بقرح رديء امتد من باطن قدمه حتى هامته . وما كان من أيوب إلا أن أخذ شقفة ليحك بها جسده وهو قاعد وسط الرماد . وكان أن حرضته زوجته على الخروج عن كماله ، ولكنه لم يستجب ولم يجدف بحق الرب . 4 حوارية أيوب مع الأصدقاء : وكان لأيوب ثلاثة أصحاب من ثلاثة بلدان مختلفة ، هم : أليفاز التيماني ، يلدد الشوحي ،وصوفر النعماني . سمع الثلاثة بما أصابه فجاءوا لمواساته وتعزيته . ولأنهم صعقوا لمرآه قعدوا سبعة أيام على الأرض إلى جانبه ، دون أن ينطق واحدهم بكلمة . بعدها بدأ أيوب الكلام شاكيا ، فمتذمرا من عدم التفات الرب لحاله ، مفتتحا حوارا معهم امتد من بداية الإصحاح الثالث حتى نهاية الإصحاح الثاني والثلاثين . ولأن الثلاثة لم يجدوا ، في خاتمة هذا الحوار ، ما يمنكهم من الرد على حجج ومداخلات أيوب ، فقد آثروا الانسحاب ، وليحل محلهم محاور جديد ، هو أليهو بن برخئيل البوزي . ولأن الحوار طويل ،عميق وغني في ذات الوقت ، ولأنه يشكل جوهر الموضوع كله ، كما أرى ، فقد اجتهدت في اختيار ونقل مقاطع قصيرة منه ، بادئا باسم قائله ، مؤملا وضع يد القارئ على هذا الجوهر . أيوب ، وفي أول كلام له قال :" ليته هلك اليومُ الذي وُلِدتُ فيه والليلُ الذي قال قد حُبِلَ برجل * ليكن ذلك اليوم ظلاماً ، لا يعتن الله به من فوق ، ولا يشرق عليه نهار ......... لِمَ لم أمت من الرحم . عندما خرجت من الرحم لِمَ لم أسلم الروح * لماذا أعانتي الرُكَب ولِمَ الثدي حتى أرضع ........" . وردا على أليفاز التيماني : " ليت كربي وُزِن ومصيبتي رُفِعت في الموازين جميعها لأنها الآن أثقل من رمل البحر ..... يا ليت طُلبتي تأتي ويعطيني الله رجائي * أن يرضى الله بأن يسحقني ويطلق يده فيقطعني * فلا تزال تعزيتي وابتهاجي في عذاب لا يُشفق أني لم أجحد كلام القدوس ......" ... " ... أنا أيضا لا أمنع فمي . أتكلم بضيق روحي ، أشكو بمرارة نفسي * أبحر أنا أم تنين حتى جعلت علي حارسا * إن قلت فراشي يعزيني مضجعي ، يفرج كربتي ، تريعني الأحلام وترهبني برؤى فاختارت نفسي الخنق الموت على عظامي هذه ....... حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما أبلع ريقي * أأخطأت . ماذا أفعل لك يا رقيب الناس . لماذا جعلتني عاثورا لنفسك حتى أكون على نفسي حملا * لماذا لا تغفر ذنبي ولا تزيل إثمي لأني الآن أضطجع في التراب ، تطلبني فلا أكون " . يلدد الشوحي : " هل الله يُعَوِّج القضاء أو القدير يعكس الحق * إذا أخطأ إليه بنوك دفعهم إلى يد معصيتهم * فإن بكَّرت أنت إلى الله وتضرعت إلى القدير * إن كنت أنت زكيا مستقيما فإنه الآن ينتبه لك ويُسلم مسكن بِرِّك * وإن تكن أُولاك صغيرة فآخرتك تكثر جدا .......". أيوب :" صحيح . قد علمت أنه كذا . فكيف يتبرر الإنسان عند الله * إن شاء أن يحاجه لا يجبه عن واحد من ألف * هو حكيم القلب وشديد القوة . من تَصَلَّب عليه فسلم " ...." هوذا يمر علي ولا أره ويجتاز فلا أشعر به * إذا خطف فمن يرده ومن يقول له ماذا تفعل * الله لا يُرَدُ غضبه " ... " لو دعوت فاستجاب لي لما آمنت أنه سمع صوتي * ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثر جروحي بلا سبب * لا يدعني آخذ نفسي ولكن يشبعني مرائر * إن كان من جهة القوة يقول هأنذا ، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني * إن تبررت يحكم علي فمي ، وإن كنت كاملا يستذنبي " . ..." إن أخطأت تلاحظني ولا تبريني من إثمي * إن أذنبت فويل لي ، وإن تبررت لا أرفع رأسي . إني شبعانٌ هوانا وناظرٌ مذلتي * وإن ارتفع تصطادني كأسد ثم تعود وتتجبر علي * تجدد شهودك تجاهي وتزيد غضبك علي . نُوَبٌ وجيش ضدي " . صوفر النعماني : " ...ولكن يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك * ويعلن لك خفيات الحكمة إنها مضاعفة الفهم فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك * أإلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي * هو أعلى من السموات فماذا عساك أن تفعل . أعمق من الهاوية فماذا تدري * أطول من الأرض طوله وأعرض من البحر * إن بطش أو أغلق أو جمَّع فمن يرده * لأنه هو يعلم أناس السوء ويبصر الإثم فهل لا ينتبه * أما الرجل ففارغ عديم الفهم وكجحش الفرا يولد الإنسان " . أيوب :"..... ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني إلى أن ينصرف غضبك وتعيِّن لي أجلا فتذكرني * إن مات رجل أفيحيا . كل أيام جهادي أصير إلى أن يأتي بدلي " ......" إن الجبل الساقط ينتثر والصخر يزحزح من مكانه * الحجارة تبليها المياه وتجرف سيولها تراب الأرض ، وكذلك أنت تبيد رجاء الإنسان * تتجبر عليه أبدأ فيذهب ، تغير وجهه وتطرده * يُكَرَّم بنوه ولا يعلم أو يصغرون ولا يفهم بهم * إنما على ذاته يتوجع لحمه وعلى ذاته ينوح عظمه " . أليفاز التيماني :" ألعل الحكيم يجيب عن معرفة باطلة . يملأ بطنه من ريح شرقية * فيحتج بكلام لا يفيد وبأحاديث لا ينتفع بها * أما أنت فتنافي المخافة وتناقض التقوى لدى الله * لأن فمك يذيع إثمك وتختار لسان المحتالين * إن فمك يستذنبك لا أنا وشفتاك تشهدان عليك " . 5 الرب يحاور أيوب : واستمر هذا السجال على طول الإصحاحات حتى كانت مرافعة أيوب الأخيرة ، والتي امتدت على طول الإصحاحات ؛ التاسع والعشرين ، الثلاثين ، والحادي والثلاثين . ولأن محاوري أيوب الثلاثة لم يجدوا ما يمكنهم الرد به ، انتقل الحوار إلى محاور جديد اسمه أليهو بن برخئيل البوزي . تواصل وعظ أليهو على طول الإصحاحات التالية حتى الإصحاح الثامن والثلاثين ، وحيث كان لا بد من تدخل الرب ذاته . ولأن حديث الرب عن تعداد معجزاته طويل ، ومن غير الممكن إيراده كله ، فقد اخترت مقاطع منه ، آملا أن تعكس جوهره . بدأ الرب إجابة أيوب من العاصفة ، قال :" من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة * أُشْدُدِ الآن حقويك كرجل ، فإني أسألك فتعلمني * أين كنت حين أَسستُ الأرض . أخبرْ إن كان عندك فهم * من وضع قياسها . لأنك تعلم . أو من مد عليها مطمارا * على أي شيء قُرِّتْ قواعدها أو من وضع حجر زاويتها " ....." هل في أيامك أمرتَ الصبح . هل عرَّفتَ الفجر موضعه * ليمسك بأكناف الأرض فيُنْفَضَ الأشرار منها " ......" هل انتهيتَ إلى ينابيع البحر أو إلى مقصورة الغمر تمشيت * هل انكشفتْ لك أبواب الموت أو عاينتَ أبواب ظل الموت * هل أدركتَ عرض الأرض . أخبِرْ إن عرفته كله " ......" أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد * التي أبقيتها لوقت الضر ليوم القتال والحرب * في أي طريق يتوزع النور وتتفرق الشرقية في الأرض * من فرَّعَ قنوات للهطل وطريقا للصواعق * "......" هل تربط أنت عقد الثريا أو تفُكُّ رُبُطَ الجبار * أتخرج المنازل في أوقاتها وتهدي النعش مع بناته * هل عرفتَ سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض * أترفع صوتك إلى السحب فيغطيك فيضُ المياه * أترسل البروق فتذهب وتقول لك ما نحن * " أجاب أيوب الرب وقال : ها أنا حقير فماذا أجاوبك * وضعت يدي على فمي * مرة تكلمتُ فلا أجيب ومرتين فلا أزيد " . " أجاب الرب أيوب من العصفة فقال : الآن شُدَّ حقويك كرجل . أسألك فتعلمني * لعلك تناقض حكمي فستذنبني لكي تتبرر أنت * هل لك ذراع كما لله وبصوت كصوته ترعد * تزين الآن بالجلال والعز والبس المجد والبهاء * فرِّقْ فيض غضبك وانظر كل متعظم واخفضه * انظر إلى كل متعظم وذلْلِهُ ودُسِ الأشرار في مكانهم * اطمرهم في التراب معا واحبس وجوههم في الظلام * فأنا أيضا أحمدك لأن بيمينك تخلصك " . أجاب أيوب الربَّ :" قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر * فمُرْ ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة ، ولكني نطقت بما لم أفهم ، بعجائب فوقي لم أعرفها * اسمعِ الآن وأنا أتكلم . أسألك فتعلمني . بسمع الأذن قد سمعت عنك ، والآن رأتك عيني * لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد " . وكان أخيرا أن أنهى الرب امتحانه لأيوب ، " ورفع الرب وجه أيوب ، ورد الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه ، وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا * فجاء إليه كل أخوته وكل أخواته ، وكل معارفه من قبل وأكلوا معه خبزا في بيته ورثوا له وعزوه عن كل الشر الذي جلبه الرب عليه وأعطاه كل واحد منهم قسيطة واحدة وكل واحد قرطا من ذهب * وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه وكان له أربعة عشر ألفا من الغنم وستة آلاف من الإبل وألف فدان من البقر وألف أتان * وكان له سبعة بنين وثلاث بنات * وسمى اسم الأولى يميمة واسم الثانية قصيعة واسم الثالثة قرن هَفُّوك * ولم توجد نساء جميلات كبنات أيوب في كل الأرض وأعطاهن أبوهن ميراثا بين أخوتهن * وعاش أيوب بعد هذا مئة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال * ثم مات أيوب شيخا وشبعان الأيام " . 6 أيوب في القرآن : كما هو دأب الرواية القرآنية في الإيجاز ، توزعت أسطورة أيوب على أربع سور هي : النساء ، الأنعام ، الأنبياء ، وص . في الآية 163 من سورة النساء جاء : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا لنوح والنبيين من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا } . أما في سورة الأنعام ، فقد نصت الآية 84 على : { ووهبنا له إسحق ويعقوب كلاً هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته > داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } . ولأن ذكر أيوب في سورة مدنية – النساء - وثانية مكية – الأنعام - اقتصر على تأكيد نبوته ، دون الإشارة لابتلائه ، فقد ورد ذكر بلائه في سورتي الأنبياء وص المكيتين . نصت الآيتان 83و84 من سورة الأنبياء على : { * وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم ورحمة من عندنا وذكرى للعابدين } . ونصت الآيات 41، 42، 43، 44 من سورة ص على :{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنُصْبٍ وعذاب * اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب * وخذ بيدٍ ضغثا واضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نِعم العبد إنه أواب } . ولأن الآيات السابقة أشارت لابتلاء أيوب ، كما لاستجابة الرب لدعائه وشفائه بإيجاز شديد ، اعتنى الحديث ، وتفسيرات المفسرين ، بمهمة الشرح والتفصيل . وبما أن الآيات أكدت على نبوة نوح فقد ركز الشراح والمفسرون على تقصي نسبه ونسب زوجته . أعادوا نسبه ليوسف – الجيل الرابع – ، ومن ثم عبر يعقوب وإسحاق إلى إبراهيم . كما اتفقوا على أنه كان على ثراء واسع ؛ مال وقطعان كبيرة من الماشية ، الإبل والبقر ، من حيوانات الجر ومن الخدم . كما اتفقوا على مكانته الاجتماعية الرفيعة ، وأنه كان له عشرة من الأبناء والبنات . لا يشير الشراح والمفسرون إلى أسباب ابتلاء الله لأيوب ، ولكنهم يتفقون على أن الضربات المتتالية ذهبت بما كان لديه من ثروة ، ومن مكانة اجتماعية ، فابتلاء جسده بالمرض . واختلف الشراح والمفسرون بخصوص مرضه ، منهم من قال أنه الجرب ، ومنهم من قال أنه الجذام ، واتفقوا على أن الناس ، حتى أهله وأخوته ، اعتزلوه بسبب ذلك ، ولم يبق له غير زوجته التي واصلت إطعامه وخدمته ولقيت بسبب ذلك عنتا كبيرا . إذاً ، وعن طبيعة المرض ، ينقل لنا الحديث عن ..عن ..عن عبد الله بن عبيد بن عمير : " كان لأيوب عليه السلام أخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه ، من ريحه ، فقاما من بعيد . فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا ! فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط . فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني . فصدق من السماء وهما يسمعان . ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني . فصدق من السماء وهما يسمعان . اللهم بعزتك وخرَّ ساجدا . ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف عنه " . وعن ، عن .....أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أيوب النبي ، عليه السلام ، لبث بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه به ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين . قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به . فلما رأى حال أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب : ما أدري ما تقول ، غير أن الله يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكَفِّر عنهما كراهية أن يُذكر الله إلا في حق . قال : وكان يخرج لحاجته ، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ . فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، فأوحى الله إلى أيوب أن اركض – اضرب – برجلك هذا مغتسلك بارد وشراب ، فاستبطأته فبلغته تنظر ، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من بلاء وهو أحسن ما كان . فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى وإنه على حال ، فوالله ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أنا هو . وكان له أبدران ؛ أبدر القمح وأبدر الشعير ، فبعث الله سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أبدر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأخرى في أبدر الشعير الوِرْقَ – الفضة – حتى فاض " . وعن ابن عباس قال : " وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله ، أين ذهب المبتلى الذي كان هاهنا ؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب . فجعلت تكلمه ساعة فقال : ويحك أنا أيوب ! قالت : أتسخر مني يا عبد الله ؟ قال : ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي . وقال ابن عباس : ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم . " وعن وهب بن منبه :" أوحى الله إلى أيوب : قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسلْ بهذا الماء فإن فيه شفاءك ، وقرِّبْ عن صاحبتك قربانا ، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك " . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" بينا أيوب ، عليه السلام ، يغتسل عريانا خرَّ عليه جراد من ذهب فجعل يحتثي في ثوبه ، فناداه ربه : يا أيوب ، ألم أكن أغنيك عما ترى ؟ قال : بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك " . رواه البخاري . وفي رواية أخرى : خرَّعليه رَجْلُ جراد من ذهب . وأخيرا وفي رواية للإمام أحمد بن حنبل ، فقيل : يا أيوب ، ألم يكفك ما ما أعطيناك ؟ قال : أي ربي ، ومن يستغنِ عن فضلك ؟ 7
قراءة : والآن ، ونحن نعرف الكيفية التي تنتقل بها الرواية ، أية رواية ، من جيل لجيل ، بذات اللغة ، وفي إطار ذات الثقافة ، ما يضاف لها وما يحذف منها ، وما يستبدل من لغة السرد فيها ، حتى يأتي وقت لا يتبين القارئ صيغة الأصل منها ، يخطر لنا سؤال : إذاً كيف يكون الحال ، وهي تنتقل من لغة إلى لغة ، ومن ثقافة إلى ثقافة ، وأيضا حين يطول امد هذا النقل لقرون وقرون ؟ وإذاً مجددا ، والقاريء لا تفوته ملاحظة الصنعة الإنسانية ، شديدة الوضوح ، في الروايات السابقة كلها ، فهل يجانبه الصواب حين يستنتج أن الرواية البابلية هي الأصل ، وان الروايتين ؛ التوراتية والقرآنية هما الفرع ؟ لا يقلل من قدر مثل هذا الاستنتاج أن الرواية البابلية لم تعر انتباها لمبرر الإله في ابتلاء العادل المعذب ، فيما تعيد الرواية التوراتية أسباب ابتلاء الله لأيوب إلى كيد الشيطان ، واستجابة الإله لهذا الكيد . هذه الاستجابة التي لا بد تذكر القارئ برفض إبليس لأمر الله بالسجود لآدم ، وباستجابة الله لطلب إبليس بأن ينظره إلى يوم يبعثون ، وبرد الله على تهديد إبليس بإغواء البشر وبإخراجهم عن طاعة الله ، بوعيد ملء جهنم ممن ينجح إبليس في إغوائهم – الآيات من 12 إلى 18 من سورة الأعراف - ، وليتساءل القارئ من بعد ذلك : من يسير من ؟ أالله يسير إبليس أو الشيطان أم العكس ؟ وأيضا لا يقلل من قدر الاستنتاج أن القرآن أضفى صفة النبي على العادل المعذب ، أو أيوب ، فيما تتطابق الحوادث الرئيسية في الروايات الثلاث . كما لا يقلل من قدر الاستنتاج أن الرواية التوراتية ، والمحدثون ، في الرواية القرآنية ، اعتمدوا أحداثها الرئيسية ، أن هذه الرواية التوراتية مزجت بين أسطورة العادل المعذب والحوارية البابلية . إذ يلاحظ القارئ أن حوار الرواية التوراتية ، يتقمص فيه أيوب دور الشكاك في الحوارية البابلية ، يطرح ذات الأسئلة من حيث الجوهر ، فيما يرد محاوروه الأربعة بذات طرح المؤمن في الحوارية البابلية . وبالرغم من أن الرواية القرآنية لا تشير من قريب او بعيد إلى تذمر أيوب وشكاواه ، وحتى شكوكه ، ورفضه لحجج وتمنيات محاوريه ، كما ترددت طويلا في الرواية التوراتية ، وعلى العكس نزهته الرواية القرآنية ، من منطلق نبوته ، عن مثل هكذا زلل ، إلا أن القارئ لا يعثر في أي منها على مبرر منطقي معقول ومقبول ، لعودة الإله ورفع ابتلائه عن العادل المعذب ، في الرواية البابلية ، وعن أيوب في الروايتين التوراتية والقرآنية . ونختم بسؤالين : 1-هل تعرض المرء لكوارث مادية ، وهو ما يحدث لملايين البشر في كل حين ، ولرزء في الولد والأهل ، وهو أمر متكرر الحدوث في الماضي والحاضر أيضا ، ووهل تعرضه للإصابة بمرض جلدي فتاك ، مثل الجدري ، الجرب أو الجذام ، وهو أيضا ما حدث لملايين البشر في السابق ، قبل كشف علوم الطب عن االوقاية منها ، واضطرار المبتلى ، كما حدث لأيوب ، للصبر على بلواه ، ثم البرء من المرض واستعادة الثروة ، هل يستحق التفسير الذي ذهبت إليه الروايات الثلاث ؟ 2- ترى ما الذي تكون عليه ردات الفعل الآن ، لو نشر موقع فكري ، أو ثقافي ما ،حوارا مماثلا للذي طالعناه في الحوارية البابلية ؟ أترك الجواب ، كما المقارنة بين فكر أجدادنا قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفكر معاصرينا الآن ، لك عزيزي القارئ .
#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقاطعات بين الأديان 13 الصعود إلى السماء
-
تقاطعات بين الأديان 12 الروح والموت
-
تقاطعات بين الأديان 11 المرأة في روايات الخلق
-
تقاطعات بين الأديان 10 غايات الآلهة من خلق الإنسان
-
تقاطعات بين الأديان 9 خلق الإنسان
-
تقاطعات بين الأديان 8 قراءة في رواية حلق الكون القرآنية
-
حدود الدولة
-
تقاطعات بين الأديان 7 قراءة في روايات خلق الكون
-
تقاطعات بين الأديان 6 نظرية الخلق 1 خلق الكون
-
تقاطعات بين الأديان 5 قراءة مقارنة في روايات الطوفان
-
تقاطعات بين الأديان 4 الطوفان
-
في البحث عن الأمل والسقوط في الأحضان االقاتلة
-
تقاطعات بين الأديان 3 الأضاحي البشرية
-
الإستراتيجية الفلسطينية .....وضرورة التغيير 3/3 البديل تقصير
...
-
الإستراتيجية الفلسطينية ......وضرورة التغيير 2/3 الحركة بفعل
...
-
الإستارتيجية الفلسطينية .......ضرورة التغيير 1/2 النشأة والأ
...
-
في السياسة ......حديث ذو شجون
-
الحجاب بين الاجتماعي والفرض الديني 2/2 القرآن ومجتمع المدينة
-
الحجاب بين الموروث الاجتماعي والفرض الديني 1/2
-
أوروبا ، الغرب .....والإسلاموفوبيا 2-2 تشخيص النبي ومفهوم ال
...
المزيد.....
-
حماس: منع الاحتلال اعتكاف المصلين للمرة الثانية في المسجد ال
...
-
على أنغام -طلع البدر علينا-.. وفد من رجال الدين السوريين من
...
-
شاهد.. الزعيم الروحي للدروز يتهم الإدارة السورية بالتطرف
-
قوات الاحتلال تقتحم مناطق بالضفة وتمنع الاعتكاف بالمسجد الأق
...
-
بالصلاة والدعاء.. الفلبينيون الكاثوليك يحيون أربعاء الرماد
...
-
100 ألف مصلٍ يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى
-
مأدبة إفطار بالمسجد الجامع في موسكو
-
إدانات لترامب بعد وصفه سيناتورا يهوديا بأنه فلسطيني
-
الهدمي: الاحتلال الإسرائيلي يصعّد التهويد بالمسجد الأقصى في
...
-
تزامنا مع عيد المساخر.. عشرات المستعمرون يقتحمون المسجد الأق
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|