|
كيف يُقيّم اليسار التجربة الناصرية
رضي السماك
الحوار المتمدن-العدد: 6011 - 2018 / 10 / 2 - 18:31
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
أحتفل الناصريون العرب ولفيف من اليسار العربي بشتى تلاوينه الثامنة والأبعين لرحيل الرئيس المصري والزعيم العربي جمال عبد الناصر في أواخر الشهر الفائت ، وعادةً مايقترن الاحتفاء به عند الناصريين بعبارات التبجيل والتقديس ، أما اليساريين فلا يخلو تناول كتاباتهم عنه من نقده بدرجات متفاوتة من الشدة دون إغفال منجزاته ، أما اليسار العربي الجديد الذي تمركست فصائله القومية بعد نكسة 1967 ، فيكاد يقترب من الناصريين في تقديسهم للناصرية من الناصريين وتغييبهم في كثير من الأحيان أي نقد لأخطائه او الاكتفاء بالاشارة العابرة الخجولة إليها في أحسن الأحوال . أما فيما يتعلق باليسار الذي تمثله الأحزاب الشيوعية العربية فهي وإن اتفقت على وطنية النظام الناصري والابتعاد عن تقديس تجربته لكن لا تخلو مواقفها منه من التباين إلى حدما ؛ ففي البلدان التي عانى الشيوعيون فيها أشد صنوف القمع والتصفيات الجسدية على أيدي الانظمة القومية بل وبدعم من عبد الناصر - كما جرى في العراق أثناء الانقلاب البعثي الدموي الفاشي ( شباط 1963 ) على حكم الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم - فقد اتسم نقدهم للتجربة الناصرية بالشدة وبشئ من المغالاة . أما في مصر نفسها موطن التجربة وبعض البلدان التي كانت ساحتها السياسية هي الميدان الاكبر عربياً لترويج ونشر الافكار القومية والناصرية رغم ق فقد كان الشيوعيين اكثر انفتاحاً على التجربة الناصرية وأقل حدةً في انتقاداتها ، ولعل الحزب الشيوعي اللبناني أبرز مثال على ذلك ؛ أما الشيوعيون المصريون فقد اقتربوا من الناصرية إلى حد التماهي بعد إقدامهم على حزبهم فور خروجهم من معتقلات عبد الناصر والتي أمضوا فيها ست سنوات ومن ثم انخراط العديد منهم في حزب السلطة " الاتحاد الاشتراكي . أما بقية مواقف الاحزاب الشيوعية العربية فقد كانت تقترب بدرجة او باخرى من النموذج العراقي أو النموذجين اللبناني والمصري . وباعتقادنا فقد آن الاوان لكل قوى اليسار العربي إعادة تقويم هذه التجربة التاريخية الاستثنائية في تاريخنا الحديث بميزان دقيق بكل مالها وماعليها متوخياً أقصى درجات الموضوعية الممكنة ، لاسيما أنها مازالت تكتسب درجات من الالهام والجاذبية في نفوس قطاعات غير قليلة من قوى اليسار ومن الجماهير على السواء وبخاصة الأجيال التي عاصرت تجربته أو شطراً منها . وبادئ ذي بدء لنتساءل كيف يُقيّم اليسار الناصرية ؟ فإذا اتفقنا ان المأخذ المحوري عليها تغييبها للديمقراطية فهل يصح تقويمها بما بلغته قوى اليسار اليوم من نضج كبير في تطور وعيها الديمقراطي ؟ أوليس قبل أن نوجه انتقاداتنا الشديدة لنظام عبد الناصر لتبنيه نهجاً دكتاتورياً في حكمه ينبغي أن نتساءل ما مدى تطبيق الديمقراطية داخل الاحزاب الشيوعية نفسها ؟ هي التي اتفقت غالبيتها في مراجعاتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بأن من عوامل انحسارها تغييب الديمقراطية في حياتها الحزبية الداخلية ؟ ولنكن أكثر صراحةً : وهل كانت تجارب المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي ( ولا سيما إبان الحقبة الستالينية في هذا الأخير ) أقل دكتاتوريةً من الحكم الناصري ؟ وفي الواقع لم تكن حتى الجماهير المصرية التي عاشت في ظل نظام ديمقراطي صوري محدود خاضع للعبة الثنائي المهيمن ( السراي والانجليز ) تتمتع بحد أدنى من الوعي الديمقراطي الكافي حينما نجح انقلاب 23 يوليو / تموز 1952 الذي عُرف لاحقاً ب " الثورة " وهو مصطلح يحمل قدراً كبيراً من الوجاهة اجتماعياً ، لا سياسياً ، لحمل قادة الانقلاب وعلى رأسه عبد الناصر على تبني النهج الديمقراطي في حكمه الجديد بل ولتعميق الديمقراطية بالنظر الى شكلانيتها في العهد الملكي المقبور ، وهذا ما ينطبق تماماً على الاحزاب والجماهير العراقية غداة نجاح انقلاب 14 تموز 1958 الذي يحمل هو الآخر حقق قدراً كبيراً من التحولات الاجتماعية أكثر من التحولات الديمقراطية خلال حكم قائده الوطني عبد الكريم قاسم القصير ؛ ولولا غياب هذه التحولات الأخيرة لما تم الإطاحة به في 8 شباط 1963 ، ولما وقعت أيضاً على الجانب المصري نكسة حزيران 1967 ، ولما تمكن انور السادات خليفة عبد الناصر وأحد الضباط الاحرار من الاجهاز بالكامل على المكتسبات التقدمية الاجتماعية لثورة يوليو في سرعة قياسية لا تتجاوز الخمس سنوات ! وبالتالي لايمكن لنقدنا الناصرية أن يكتسب أكبر قدر من المصداقية إذا كانت الجماهير نفسها مُغيّبة الوعي الديمقراطي ، بل وإلى حد كبير قواها السياسية ، فلئن افترضنا على أقل تقدير توافقياً بأن عبد الناصر هو واحد من طغاة الحكّام القوميين فلا أعتقد ثمة يساريان يختلفان حول أنه اقلهم طغيانا تجاه شعبه ، وأنه صاحب الدور المحوري في مناوئة مخططات الاستعمار واسرائيل والامبريالية في المنطقة العربية اكثر من أي حاكم قومي آخر. ويمكن القول إن المكاسب الاجتماعية والسياسية ذات المنحى الاشتراكي التي حققته ثورة يوليو المصرية تحت قيادته أكبر من أي نظام قومي آخر، خُذ على سبيل المثال لا الحصر : قانون الاصلاح الزراعي في ايلول 1952 ، والذي تبعه قانون ثانٍ أكثر توسعاً في ضرب الإقطاع وفي توزيع الأراضي على الفلاحين وزيادة مساحات الاراضي الصالحة للزراعة عام 1962 ، ثم قانون ثالث في 1969 ، تأميم قناة السويس 1954 ، وتأميم " بنك مصر" أكبر البنوك المصرية وكل الشركات الخاصة الكبرى المٰستغِلة ، بناء المشروع العملاق "السد العالي " بمعونة سوفييتية والذي بفضله تمت كهربة معظم الريف المصري ومد المصانع بالطاقة الكهربائية ، خلق قاعدة ضخمة من الصناعات الثقيلة وغيرها من الصناعات الاخرى بلغت نحو 1200 مصنع ، تحقيق نسبة نمو سنوي مقداره 7% باعتراف البنك الدولي ، بناء مجمع لمصانع الالمنيوم في نجع حمادي ، مصانع الغزل والنسيج ، مصانع عربات السكك الحديدية والكابلات الكهربائية ، مصانع الحديد والصلب ، تخفيض نسبة الامية وإلحاق أعداد هائلة من الطبقات الفقيرة بالمدارس والجامعات بفضل مجانية التعليم ، ولولاها لما أنجبت مصر علماء وعباقرة عالميين كبار من أمثال الراحل يحي المشد ، وأحمد زويل ، ومجدي يعقوب ، ومحمد النشائي ، ومصطفى السيد وسعيد بدير وغيرهم من كبار اساتذة العلم والثقافة والادب في مختلف الحقول . ولئن يصح القول إن ثمة ثغرات خطيرة الخطيرة شابت التجربة الناصرية وتتمحور جميعها حول تغييب الديمقراطية فإنه لا يصح في المقابل أن تحجب هذه الثغرات عن أعيننا المنجزات الكبرى التي حققتها على الصعيدين المصري والعربي ، سواءً تجلت في المكتسبات الاجتماعية الهامة التي حققتها للشعب المصري أم في النهوض العارم لحركة التحرر الوطني العربية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم دون إنكار ، ما للدورالسوفييتي من أهمية قصوى باعتباره الداعم الأول للنظام الناصري ولمجمل حركة التحرر العربية على السواء . ورغم حكم الفرد الذي عُرف عن عبد الناصر انتهاجه ، لكن عوّضه ، إلى حدما ، بتمتعه بالقدرة على القيام بهامش من المراجعة والتقييم لمواقفه وسياساته ، ولعل أكثر تجلياتها برزت في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته بعد نكسة 67 ، على عكس نظرائه الحكّام القوميين الذين يكاد حتى مثل هذا الهامش مُغيّباً تماماً من نهج حكمهم لفرط نزعتهم الدكتاتورية الشديدة المستبدة ، وعلى رأسهم بطبيعة الحال الدكتاتور الدموي العراقي المقبور صدّام حسين . صحيح " أن عملية التصحيح وإعادة التقييم توقفت برحيل الزعيم التأريخي لثورة يوليو ، مُحرّك اليقظة القومية العربية الحديثة ، بل أجهضت الثورة نفسها ، وتعرّض زعيمها إلى أوسع حملة تشهير تعرض تعرّض لها زعيم عربي " على حد تعبير الناشر والإعلامي اليساري فخري كريم ( النهج ، خريف 2000 ) ، وصحيح أيضاً ما ذهب إليه من أن المسؤولية الأكبر يتحملها الناصريون لانقطاعهم الطويل عن التقييم والتصحيح للتجربة الناصرية منذ رحيل زعيمهم ، إلا أن ذلك باعتقادنا لا ينفي مسؤولية كل قوى اليسار والتي هي من حيث القوة في وضعٍ أفضل نسبياً من وضع القوى الناصرية رغم حالة الوهن التي تعتري مجمل الحركة اليسارية بكل قواها الماركسية والقومية ، ولا سيما اذا ما تذكرنا ان تيار الناصرية - وبخصة في مصر - كان شديد الاقتراب والتأثر بالفكر اليساري ومُلهمه الأول ، اعترف بهذه الحقيقة أم كابر ، ناهيك عن تحولات وتبني كثرة من الناصريين أنفسهم لهذا الفكر ، وعلى الأخص من خلال تجربة العمل التنظيمي المشترك في حزب السلطة " الاتحاد الاشتراكي " ثم بعد الغاء السادات لهذا التنظيم من خلال تجربة العمل التنظيمي المشترك في حزب التجمع التقدمي الوحدوي بعد إقرار التعددية الحزبية المحدودة ، وغيرهما من الاطر النقابية والسياسية الاخرى .
#رضي_السماك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل رحل حقاً محمود درويش عن عالمنا
-
اليسار بين النقد والجلد الذاتي .. - حشع - نموذجاً
-
الارهاب الرسمي بين افريقيا والعالم العربي
-
درويش وكنفاني .. وإشكالية الإبداع في ظل الإلتزام الحزبي
-
دور اليسار العراقي في بناء الوحدة الوطنية
-
وداعاً للكاتب والمناضل المصري صلاح عيسى
-
الديمقراطية هي السبيل الوحيد لاشتراكية المستقبل
-
مئوية ثورة اكتوبر الاشتراكية .. آفاق نهوض الشيوعيين العرب من
...
-
مئوية ثورة اكتوبر .. كيف تحققت نبؤة ستالين في الشرق الأوسط -
...
-
مئوية ثورة اكتوبر .. الشيوعيون العرب وقرار تقسيم فلسطين - 4
...
-
مئوية ثورة اكتوبر .. مراجعات الشيوعيين العرب للتجربة السوفيي
...
-
مئوية ثورة اكتوبر .. إلهامها في العدل الإجتماعي عالمياً ( 2
...
-
مئوية ثورة اكتوبر .. تأثيرها الحاسم في تاريخ القرن العشرين (
...
-
البحرينيون والعرب بين الضحك والاكتئاب
-
مئة عام وعد بلفور .. نصف قرن على التقسيم
-
مستقبل المعارضة البحرينية بعد حل - وعد -
-
مغزى ثلاثة مواقف عربية مناوئة لإسرائيل
-
دروس انتزاع المرأة في السعودية حق السياقة
-
آفاق نزع فتيل أزمة أستفتاء كُردستان
-
محنة المغردين في العالم العربي
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|