هشام القروي
كاتب وشاعر وروائي وباحث في العلوم الاجتماعية
(Hichem Karoui)
الحوار المتمدن-العدد: 1510 - 2006 / 4 / 4 - 09:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بريجنسكي ينتقد جورج بوش
ماذا بين بن لادن ولينين وماوتسي تونغ ؟
زبيجنيو برجينسكي, مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جيمي كارتر, له جملة من الآراء والتحاليل والتصورات التي مازالت تمارس تأثيرها في الولايات المتحدة وخارجها. يعتبر بريجنسكي نفسه منظر مرحلة ما بعد الصناعة. وهو يرى انه لا توجد سياسة في أي مجتمع غير المجتمع الأمريكي يتم تتبعها من قبل العالم بهذا الانتباه اليقظ. فرغم أن بريق اقتران أمريكا بالحرية قد أطفأته في نظره حرب فيتنام وعوامل أخرى, فقد بقيت أمريكا الموزع الرئيسي للثورة الإلكترونية. فهي بؤرة انتباه العالم وأعاجيبه ومحاكاته وحقده. انها مجتمع ذو امتدادات في كل مجالات المجتمعات الأخرى عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. وقد توقع بريجنسكي منذ أواخر السبعينات أن يأتي يوم يفرض المجتمع الأمريكي قيمه ومقاييسه على العالم بأسره، أي أن العالم سيجد نفسه مضطرا أن يكيل بالمكيال الأمريكي.
ويعتقد بريجنسكي أن جون كيندي قد امسك بروح الوضع الأمريكي الجديد في العالم عندما قال عن نفسه انه أول رئيس عالمي للولايات المتحدة. فروزفلت وبرغم اتجاهاته الدولية, إلا انه كان يؤمن أساسا باتفاق عالمي يكون فيه "للكبار" دوائر نفوذ خاصة. أما ترومان فلقد تجاوب قبل كل شيء مع تحد شيوعي معين, وأظهرت سياسته أنها تعطي أولوية واضحة للمشاكل الإقليمية. واستمر ايزنهاور على نفس الطريق مطبقا بين الحين والآخر سوابق أوروبية على مناطق أخرى.
وعندما نأتي الى المرحلة الحالية , نرى بريجنسكي في تحليله لما تواجهه الادارة الأمريكية من تحديات, يكتب ملاحظا أن الرئيس بوش حاول في سلسلة خطاباته الأخيرة إلى الشعب الأميركي، أن يساوي بين التهديد الإرهابي الحالي، الذي تواجهه أميركا والعالم، وبين التهديد الذي كانت تمثله التوتاليتارية الشيوعية في القرن العشرين· وكانت وجهة النظر التي استند إليها بوش في ذلك، هي أن التحدي الإرهابي الحالي عالمي النطاق، شرير الطبيعة، قاس تجاه أعدائه، ويسعى جاهدا إلى التحكم في كل مجال من مجالات الحياة والفكر· وللتدليل على صحة وجهة نظره هذه، استخدم الرئيس الأميركي كثيرا صفة إسلامي عند إشارته للإرهاب، كما قارن بين الإيديولوجية الدموية للراديكالية الإسلامية، وبين الإيديولوجية الشيوعية·
والسؤال الذي يرى بريجنسكي من الواجب طرحه في هذا السياق هو: هل كان الرئيس بوش على صواب من الناحية التاريخية في تحليله للأخطار المتماثلة- من وجهة نظره- والتي تشكلها الأصولية الإسلامية في الوقت الراهن، والتي كانت تشكلها التوتاليتارية الشيوعية على امتداد القرن العشرين؟ ويفترض أن الرئيس الأميركي قد لا يعرف أن أوجه الخلاف بينهما قد تكون أكثر أهمية من أوجه التشابه·· متسائلا: هل من الحكمة أن يقوم هو نفسه بتقديم هذا الطرح في الظروف التي تواجهها الولايات المتحدة في الوقت الراهن؟
بين بن لادن ولينين وماو
وينبري برينجنسكي الى مناقشة هادئة لوجهة النظر هذه, فيقول ان الرئيس بوش بتأكيده على أن الأصولية الإسلامية- مثلها في ذلك مثل العقيدة الشيوعية- هي التحدي الأكبر لقرننا الجديد، يقوم ضمنيا برفع منزلة أسامة بن لادن وأهميته ، إلى مستوى الشخصيات التاريخية الكبيرة التي صاغت الفكر والتطبيق الشيوعي في القرن العشرين مثل فلاديمير إيليتش لينين وجوزيف ستالين وماو تسي تونج على سبيل المثال لا الحصر· وهذا يوحي في المقابل بأن المنشق السعودي الهارب، والذي ربما يتخفى الآن في أحد الكهوف، كان يعبر عن عقيدة سياسية ذات دلالة وأهمية عالمية· والعنصر الأساسي في المقارنة التي عقدها الرئيس بوش، هو تلك الفرضية التي تقول إن جهاد ابن لادن قد يتمكن يوما من السيطرة على عقول وقلوب مئات الملايين من الناس عبر الحدود الوطنية والأطياف الدينية في أركان المعمورة الأربعة· وهو بذلك يضفي أهمية كبيرة على ابن لادن لا مبرر لها من وجهة نظربريجنسكي, الذي يعتقد أن التيار الإسلامي الجهادي - في أحسن الأحوال- ليس إلا حركة محدودة ومتشظية بالكاد تجد صدى لها في معظم أنحاء العالم وليس كما تصورها الكثير من التحاليل السياسية التي تتسم بالمبالغة·
في مقابل ذلك , يرى أن الشيوعية كنظرية كانت تحظى بقبول عالمي واسع النطاق· فبحلول عقد الخمسينات من القرن الماضي، لم تكن هناك تقريبا دولة واحدة في العالم ليس بها حركة شيوعية نشطة- أو حتى مؤامرة شيوعية- بصرف النظر عما إذا كانت تلك الدولة ذات أغلبية مسيحية أو مسلمة أو هندوكية أو يهودية أو بوذية أو كونفوشيوسية· وفي بعض البلدان مثل الصين وروسيا على وجه الخصوص، كانت الحركة الشيوعية هي أكبر تشكيل سياسي مسيطر على ساحة الحوار الفكري في هذين البلدين· وفي الدول الديمقراطية في أوروبا مثل إيطاليا وفرنسا، كانت الشيوعية تمثل حركة حزبية قوية تتنافس بشراسة مع غيرها من الأحزاب من أجل الوصول إلى السلطة السياسية من خلال انتخابات حرة ومفتوحة·
التحدي الشيوعي··· والمصير
من المعروف تاريخيا، أن الشيوعية نشأت كرد فعل على المظالم ومظاهر التخلخل الاجتماعي التي رافقت نشوء الثورة الصناعية، وذلك من خلال طرحها لصيغة مجتمع تسوده العدالة الكاملة بين البشر وتذويب الفوارق بين الطبقات· ولا يشك بريجنسكي في أن تلك الصيغة كانت زائفة، وأنها قد استخدمت لتبرير العنف الذي قاد في النهاية إلى ما اصطلح على تعريفه بمعتقلات الجولاج السوفييتية (الاسم الذي كان يطلق على معسكرات الاعتقال والتعذيب السوفييتية الرهيبة التي كانت تجبر المعتقلين على العمل الإلزامي والسخرة باسم بناء الاشتراكية ودولة البروليتاريا والتي كتب عنها الأديب الروسي العالمي الكسندر سولجنستين رواية ذائعة الصيت تحت اسم أرخبيل الجولاج)· كما قادت الشيوعية أيضا إلى معسكرات العمل، وإلى ما يعرف باسم معسكرات إعادة التعليم في جمهورية الصين الشعبية، وأدت أيضا، سواء في هذين البلدين أو في غيرهما من الدول التي اعتنقت العقيدة الشيوعية، إلى أشكال وحالات واسعة أخرى من مظاهر انتهاك حقوق الإنسان· ومع ذلك كله، فإن تعريف الشيوعية للمستقبل كان هو تحديدا الذي ساهم لفترة طويلة من الزمن في جعلها أيديولوجية تحظى بقبول عالمي عابر للحدود والثقافات· علاوة على ذلك، كان التحدي الفكري والسياسي الذي تمثله الشيوعية مدعوما بآلة عسكرية جبارة مزودة بأحدث أنواع الأسلحة والعتاد في حينه· فقد كان الاتحاد السوفييتي يمتلك ترسانة نووية ضخمة يستطيع إطلاقها خلال دقائق قليلة لشن هجوم نووي كبير على الولايات المتحدة الأميركية· وكان ذلك يعني أنه في حالة استخدام مثل هذه القوة، فإن ملايين الأمريكيين والسوفياتيين كان محتما أن يلقوا حتفهم في أي تبادل لإطلاق الصواريخ النووية بين الغريمين اللدودين· كانت تلك هي الحقيقة الرهيبة في عصر الرعب النووي·
عزلة القاعدة
ولكن الإرهاب المعاصر- وبصرف النظر عن كونه إجراميا وقذرا- وبصرف النظر أيضا عن كونه إسلاميا أو غير ذلك·· فهو لا يمتلك ذلك النفوذ السياسي، ولا تلك القدرات المادية التي كانت تتمتع بهما الإيديولوجية التوتاليتارية الشيوعية, برأي بريجنسكي· علاوة على ذلك, نجد أن جاذبية ذلك الإرهاب محدودة، حيث لا يقدم إجابات محددة عن الكثير من الإشكاليات المستحدثة الخاصة بالتحديث والعولمة وغيرهما من الظواهر المعاصرة· ويؤكد بريجنسكي أنه حتى إذا ما أردنا أن نقول إنه يمتلك إيديولوجية ما، فإن تلك الإيديولوجية في حقيقة أمرها ليست سوى مزيج غريب من الأفكار القدرية والعدمية·
وفي حالة تنظيم القاعدة على وجه التحديد، فإن الدعم الذي يحظى به هذا التنظيم، يأتي في الأساس من جماعات معزولة نسبيا، كما أن أفعاله ووجهت بإدانة شديدة من قبل جميع الشخصيات الدينية الرئيسية في العالم بدءا من بابا الفاتيكان وحتى المفتي الأكبر في المملكة العربية السعودية·
ويضيف بريجنسكي مذكرا بأن قوة ذلك التنظيم لا تزال محاصرة , كما أنه ظل يعتمد إلى حد كبير على أدوات العنف المألوفة· فهو(أي تنظيم القاعدة)، وعلى النقيض من التنظيمات الشيوعية التوتاليتارية، لا يستخدم العنف كأداة منظِمة ولكنه يستخدمه- ونتيجة لضعفه التنظيمي- كتكتيك تخريبي· والشيء الذي يوحد بين أعضاء هذا التنظيم وغيره من التنظيمات التي تدور في فلكه هو هذا التكتيك تحديدا- وليس الإيديولوجية· وفي التحليل الأخير، يرى أن القاعدة أو أيا من التنظيمات الإرهابية المرتبطة بها، قد يكون لديها قوة تدميرية حقا، ولكن يتوجب بأي حال من الأحوال عدم الخلط بين ما تقدر عليه القاعدة بالفعل، وبين ما تدعيه لنفسها من قدرات، أي أن نتحاشى الخلط بين الواقع الفعلي وبين الاحتمال·
منظر مرحلة الاستقطاب
تتأتى هذه النظرة لدى بريجنسكي من كتاباته وأفكاره السابقة, التي صاحبت في الواقع معركة الحرب البادرة والمراحل التالية مرورا بالتعايش السلمي والانفراج وما بعد الحرب الباردة. ويمكن القول ان هذا الخبير له دراية واسعة بالموضوع الذي يتحدث عنه, طالما تعلق الأمر بالشيوعية كايديولوجية وكممارسة. فهو الذي كتب ان أزمة المعتقدات المؤسسة هي المرحلة الأخيرة في عملية العلمنة التقدمية للحياة، أي في انفصال الوجود الاجتماعي للمرء عن إطار المعتقدات. وهو الذي سبق أن لاحظ كذلك إن الشيوعية أصبحت آخر الأفكار الجامدة المطلقة,لأنها تستطيع أن تستعمل القوة لتجعل الأفراد يؤمنون. وتوقع لها أن ترفض كما رفضت الحرب الدينية بعد حرب الثلاثين عاما ومعركة فينا في عام 1683 لما سببته من إرهاق مادي للناس.
وقد كتب مرة يقول إن القرن التاسع عشر يمثل التفوق الفكري لفكرة الحرية، ولكن القرن العشرين يشهر انتصار المساواة، مؤكدا أن الرغبة في المساواة هي التي جعلت معظم القادة في الدول الجديدة (أوروبا الشرقية والعالم الثالث) يتبعون الاشتراكية، ولكن النخب الحاكمة هناك حظرت الحرية على أساس أن مثل هذا الحظر ضروري لإنجاز المساواة. ولان المساواة لايمكن تحقيقها خاصة في بلدان تعاني من انخفاض الإنتاجية, بقيت هذه الدول منجذبة نحو الغرب "موطن الحرية"،ولم يبق تلك الشعوب تحت قيادة نخبها إلا القمع المحلي (والسوفيتي سابقا) المباشر وغير المباشر.
و لبريجنسكي رؤية خاصة فيما يتعلق بالعالم الثالث, نلخصها كما يلي : في قمة الهرم تجلس نخبة ذات تعليم جيد ولكنها ضيقة الأفق تحافظ على الوضع الراهن وتكافح من اجل تحقيق الاستقرار ومنع الإصلاحات، وتعيش هذه النخبة حالة تناقض. فهم إن اعترفوا ببطء التغيير وقلة الإنجازات سيحرمون أنفسهم من مساندة الجماهير ويتيحون الفرصة أمام الراديكاليين، وإذا عبأوا جماهيرهم بأهداف لايمكن تحقيقها فسيواجهون انفجارا لا مفر منه. وفي العالم الثالث تتجه المسافة بين الوعد والإنجاز دائما إلى الاتساع. وتحاول القيادات السياسية في العالم الثالث تغطية هذه الهوة بإثارة العداء للأجانب. ورغم أن العالم الثالث بحاجة إلى رأس المال والعقول والخبرات إلا انه يشهد هجرتها إلى البلدان الصناعية الغربية المتقدمة. والوضع المتوقع في بلدان العالم الثالث هو إضطرابات متناثرة في الدول كل على حدة. ثم الاتجاه في معظمها نحو الديكتاتورية الفردية على أمل الجمع بين كراهية الأجنبي وتعظيم شخصية الزعيم على أمل توفير الحد الأدنى من الاستقرار.
وقد أتى بريجنسكي بمقولة غريبة حول الماركسية . فهو يقول إن تراجيديا الشيوعية كمنظور عالمي أنها جاءت متأخرة جدا ومبكرة جدا، متأخرة جدا بالنسبة للغرب الصناعي لان القومية والمفاهيم الليبرالية من خلال الدولة الأمة أجهضت الجاذبية الإنسانية للماركسية، ومبكرة جدا بالنسبة للزمن لدى ما قبل الصناعيين ، فلم تخلق لديهم حسا امنيا بل حركت فيهم قومية راديكالية متزايدة. ولأنها كانت متأخرة جدا في الغرب ومبكرة جدا في الشرق لم تجد الشيوعية فرصتها لا في الشرق ولا في الغرب وإنما في موقع وسط هو روسيا وأوروبا الشرقية.
بين بريجنسكي وسخاروف
وكان بريجنسكي ممن أعطوا أهمية لبيان الفيزيائي النووي السوفيتي أندريه سخاروف الذي أصدره في أواسط 1968وتوقع به أربع مراحل سيمر بها العالم قبل نهاية هذا القرن, وهي كما يلي :
المرحلة الأولى : تصبح البلدان الشيوعية، وبالذات الاتحاد السوفيتي أكثر ديمقراطية، ويتم التغلب على ديكتاتورية الحزب الواحد.
والمرحلة الثانية : تشهد نهوض وتطور حركة السلام في أمريكا والدول الرأسمالية.
والمرحلة الثالثة : تسجل تعاونا سوفيتيا أمريكيا لمواجهة مشاكل العالم الثالث.
أما المرحلة الرابعة : فيتم فيها هجوم على المشاكل العالمية الباقية هجوم يقوم على أساس تعاون دولي واسع , أي تنتهي والى الأبد فكرة المعسكرين .
ومن الجدير بالذكر أن سخاروف عاش حتى شهد وضوح المرحلة الأولى من المراحل التي توقعها.
وأما بريجنسكي, فقد وضع من جانبه مخططا للتطور السياسي كما تصور قوعه في البلد الذي كان يدعى سابقا الاتحاد السوفيتي, والذي سيشهد في نظره البدائل الخمس التالية :
1) تعفن الأقلية المستبدة الحاكمة.
2) تطور تعددي.
3) تكيف تكنولوجي مع الغرب.
4)عودة إلى الأسر النضالية أي العنف.
5) تفسخ سياسي.
ويمكن أن نلاحظ أن بعض هذه الاحتمالات تحقق فعلا.
مقارنة عرجاء
نعود لموضوعنا الأصلي ونردد سؤال بريجنسكي : هل كان الرئيس جورج بوش محقا فيما يتعلق بعقد المقارنة بين الشيوعيين والاسلاميين؟
ويجيب مستشار الامن القومي السابق قائلا إن مقارنة الأصولية الإسلامية بالتوتاليتارية الشيوعية فعل قد يكون له فائدة سياسية في الأمد القصير، حيث يمكن لمثل هذه المقارنة أن تحيي مجددا مخاوف الماضي أي مخاوف التعرض لخطر داهم تواجهه الأمة الأميركية كما كان الحال مع الشيوعية، كما أنها تضع الرئيس بوش في نفس الوقت في نفس القالب مع الشخصيات التاريخية المنتصرة في الحرب الباردة، مثله في ذلك مثل الرئيسين هاري ترومان ورونالد ريجان· بيد أنه ينبغي التنبيه في هذا السياق إلى أن نشر الخوف بهذه الطريقة قد يكون له أيضا رد فعل سلبي كبير لم يكن مقصودا, وهو إنتاج أمة مدفوعة بهاجس الخوف، تعاني من فقدان الثقة بالنفس، مما يجعلها أقل قدرة بالتالي، على بث الثقة بين حلفاء أميركا، بما فيهم المسلمون الذين تحتاج أميركا إلى دعمهم بشكل خاص من أجل تحقيق استجابة فعالة وذكية للظاهرة الإرهابية التي تواجه مختلف دول العالم·
والشيء الذي كان باعثا على الانزعاج بشكل خاص في خطب بوش الأخيرة, حسب بريجنسكي, هو أن الرئيس قد اعتمد بشكل خاص على لغة كان من المحتم أن تبدو في نظر المسلمين في النهاية على أنها لغة معبرة عن نوع من الهوس المرضي تجاه الإسلام الإسلاموفوبيا · فتلك الخطب- حتى وإن كانت تتضمن من حين لآخر عبارات كان بوش يذكرها كي يؤكد لمستمعيه أنه لا يتحدث عن الإسلام بشكل عام- إلا أنها كانت حافلة بإشارات منها على سبيل المثال لا الحصر الإيديولوجية الدموية للراديكاليين الإسلاميين و الراديكالية الإسلامية ، و الجهادية المقاتلة و الفاشية الإسلامية أو حتى الخلافة الإسلامية ·
ومثل هذه الصياغات التعبيرية كان لا بد أن ينتج عنها في النهاية عواقب غير مقصودة· فبدلا من أن تؤدي إلى حشد المعتدلين المسلمين للوقوف بجانب الولايات المتحدة في الحرب التي تخوضها حاليا ضد الإرهاب- وهو الهدف الذي ربما كان الرئيس بوش يهدف إلى تحقيقه- فإن إصراره على العودة بشكل متكرر في نطاق تلك الخطب إلى استخدام عبارة الإرهاب الإسلامي لم يكن فقط يحمل في طياته إهانة للمعتدلين المسلمين، ولكنه كان محتما أن يساهم في النهاية في خلق انطباع قوي لديهم، بأن الحملة العالمية ضد الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة هي في جوهرها ومنتهاها حملة ضد الدين الإسلامي ككل وليس ضد الإرهاب فقط كما يحاول الرئيس الأميركي أن يوحي· فهؤلاء المعتدلون المسلمون قد يلاحظون مثلا أن الولايات المتحدة لم تقم في الماضي بشجب إرهاب الجيش الجمهوري في أيرلندا الشمالية أو إرهاب منظمة الباسك في إسبانيا، ووصفهما بإنهما يمثلان إرهابا كاثوليكيا , وهي عبارة كان الكاثوليك في مختلف أنحاء العالم سينظرون إليها دون أدنى شك على أنها عبارة مسيئة·
عندما يركب بوتين "حصان" بوش
يلاحظ بريجنسكي أن بوش في خطبه الأخيرة قد أغفل تماما التطرق للفكرة التي تقول إن هناك مجموعة من المظالم والشكاوى التي يجب العمل على معالجتها والتخفيف من آثارها حتى يمكن في النهاية تجفيف منابع الإرهاب·
ومن الأشياء التي يجب أن تثير قلق صناع سياسة الولايات المتحدة، أن يحاول زعيم دولة أجنبية رئيسية الاقتراب من تقليد رئيس بلادهم في تركيزه في خطبه على الجوانب الإسلامية ذات العلاقة بالتهديد الإرهابي المعاصر وهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين· فبوتين تمسك بفكرة الإرهاب الإسلامي، كي يقوم بتبرير الحرب التي يشنها بلا هوادة على طموحات الشيشان في تحديد مصيرهم بأنفسهم· وكان لهذه الحرب تأثير خطير في الحقيقة لم يكن بوتين يقصده وهو توليد توتر تتزايد حدته تدريجيا بين العدد الكبير من السكان الروس المسلمين وباقي مواطنيهم·
وفي نظر بريجنسكي أنه ليس من مصلحة أميركا بتاتا، وخصوصا في الشرق الأوسط , أن يتسبب الرئيس الأميركي في إحداث نوع من الدمج بين مشاعر السخط لدى المسلمين ضد أميركا، وبين المشاعر الأقوى والأوسع نطاقا الخاصة بالهوية الدينية الإسلامية· فعندما يتحدث الرئيس عن العراق باعتبار أنه قد أصبح الجبهة المركزية في الحرب ضد الإرهاب الإسلامي، فإنه في الحقيقة يساعد على دمج مشاعر الوطنية العراقية والقومية العربية المناوئة لأميركا، مع المشاعر الدينية الإسلامية الغاضبة، مما يعزز بالتالي من وجهة النظر التي يطرحها أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة وغيره من منظري التنظيم، بأن النضال هو في حقيقته وأساسه نضال ضد الصليبيين الغزاة ·
فهذا الدمج في الحقيقة يمكن أن يسبغ على الإرهاب في النهاية نوعا من الزخم التعصبي الذي يمكن أن يعوض عن الضعف الهيكلي الذي تعاني منه التنظيمات الإرهابية والقاعدة على رأسها، بالمقارنة مع القوة التنظيمية والعسكرية التي كانت تتمتع بها شيوعية القرن العشرين·
استراتيجية للفهم
ويعتبر بريجنسكي أن القيود والمحددات التي يعاني منها تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات التي خرجت من عباءته يمكن أن تتغير، خصوصا إذا أخفق الرئيس بوش أو غيره من رؤساء الدول الكبرى الذين يحاولون تقليده ومنهم فلاديمير بوتين, في إتباع سياسات تهدف إلى عزل الجماعات الإرهابية وتقليص حملات تجنيد المزيد من الأنصار التي تقوم بها·
وهو يأسف لكون الطبيعة العسكرية للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط قد تساعد على إحداث مثل هذا التغيير في النهاية· ففي هذا السياق يذكر بقيام روبرت إيه· بيب أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو بتحليل العوامل الدافعة للمهاجمين الانتحاريين ،حيث وجد أنه في غالبية الحالات، كان الدافع الأساسي للمهاجم الانتحاري هو مشاعر العداء التي يحملها ضد الغزاة الأجانب الذين جاءوا لاحتلال بلاده، وقد خلص بيب إلى محصلة مؤداها إنه كلما طالت مدة بقاء قواتنا على أراضي الجزيرة العربية كلما ازدادت مخاطر حدوث 11 سبتمبر آخر يصيب الأمة الأميركية بأفدح الأضرار ·
من هذا يستنتج بريجنسكي أن بوش سيخدم أميركا بشكل أفضل إذا ما تجنب الفخاخ اللفظية التي يقع فيها من آن لآخر، والتي تؤدي إلى خلق حالة من عدم اليقين حول دوافع الولايات المتحدة الحقيقية، والتي يمكن لها أيضا أن تكون وقودا لأسوأ مشاعر الشك والارتياب بخصوص استراتيجية الولايات المتحدة العامة في الشرق الأوسط· فلا المصطلحات المعبرة عن وجود حالة من الخوف المرضي من الإسلام، ولا تحريك مشاعر الشعب الأميركي من خلال التغني بأمجاد الانتصارات التي تحققت على الشيوعية، يمكن أن تساعد على خلق فهم أفضل بشأن نوعية السياسات المطلوبة لتهدئة الشرق الأوسط، وتسريع عملية إزالة ظاهرة الإرهاب التي تكمن معظم جذورها في هذه المنطقة من العالم·
#هشام_القروي (هاشتاغ)
Hichem_Karoui#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟