|
لن نتخلى عن اختراعنا
عماد مجيد محمد
الحوار المتمدن-العدد: 1510 - 2006 / 4 / 4 - 10:18
المحور:
حقوق الانسان
المشروبات الروحية واحد من أخص اختراعات العراقيين التي قدموها للبشرية . ولكن قبل الاستطراد في هذا الموضوع ، دعونا نلقي نظرة خاطفة على الإرهاب في العراق . يتظاهر النشاط الإرهابي الحالي في العراق بسمات كثيرة منها ما هو متناقض ولا يجمعه جامع مع الأشكال الأخرى ، مثلا ما هو الرابط بين تفجير دور العبادة وتفجير محلات بيع المشروبات الروحية ؟ وأول استنتاج يمكننا استنباطه من هذا التناقض هو أنّ وراءه قوى متناقضة في تركيبتها وعناصرها ودوافعها ، أو أنّ القوى التي تقف وراءه تتخبط ولا يوجد عندها أهداف واضحة وكلّ ما تريده هو زرع شيء ما من وراء الفوضى . يعني هدفها الفوضى للوصول إلى هدف غير معلن ، كأن يكون الفتنة أو الخوف أو الإقناع أن العراقيين غير قادرين ، أو تمرير مخطط لم يعلن عنه حتى الساعة . ومهما يكن الهدف ، فالنشاط الإرهابي يتواصل ، ويهدأ ثم يفجر . ويحلو للبعض ربطه بنظرية مؤامرة تارة ، وبأهداف انتخابية تارة أخرى أو بانتقامات تاريخية ( يصلوه حتى بالكويت وإيران ) أو بالخوف من الديمقراطية والحرية ( المرعبة لكثير من الحكام العرب ) أو بتداعيات حزبية ( سوريا ) أو بالطائفية ( لبنان وإيران ) أو قومية ( تركيا ) أو بالنفط ( أميركا ) ... وقد يكون الجميع على حق ، وأنّ الإرهاب في العراق كل هذا مجتمعا أو بعضه .. وفي هذا المقال لا يمكننا أن نناقش جميع تداعيات الإرهاب ، إضافة لهذا فالصحف العراقية والعربية والأجنبية والفضائيات النظيفة والمشبوهة ورجال الدولة والأحزاب السياسية في العراق والعالم والفلاسفة والسياسيون يتناولونه يوميا ويشبع نقاشاً . ونشرة (حقوق الإنسان ) هي الأخرى ناقشت جوانب متعددة منه . ومع ذلك نطرح تساؤلاً واحداً في هذا الصدد : كيف تريد أمريكا أن تجعل من العراق واحة للديمقراطية وفي نفس الوقت تجعله ملعباً للإرهابيين بحصرهم هنا لإبعادهم عنها ؟ . مسألة لم يتطرق لها أحد ، ولها أهمية من وجهة نظر حقوق الإنسان ، نناقشها في هذا المقال ، هي مسألة تفجير محلات بيع المشروبات الروحية . أولا : الكحول من وجهة نظر طبية : في مسالة مضار المشروبات الروحية ، يقول الأطباء الأمريكان أنّ قنينة بيرة واحدة تدمر حوالي عشرة آلاف خلية عصبية من خلايا حفظ الذاكرة ! وفي حالة الإدمان على الكحوليات يصل الأمر إلى تشمع الكبد الكحولي، والتهاب البنكرياس الكحولي، وتضخم القلب الكحولي ( بما في ذلك تضخم القلب عند محبي البيرة )، ويترافق الإدمان على الكحول إلى انهيار الشخصية (Degradation of Personality)، وضعف الذاكرة ، وقلة التركيز الذهني ، وضعف الأداء الجنسي .. الخ . وفي مسألة ( وفيها منافع .. ) : معروف أنّ مريض السكّر ، إذ لم تنفعه الأدوية ، فإنّ الخمرة ( وهذه الخاصية موروثة عند الإنسان ) هي التي تنقص نسبة السكّر عنده في الدم بإدخاله إلى الخلايا ولهذا يصحو مريض السكّر إثر جرعة إضافية معينة من الكحول ثم بعد 90 دقيقة تقريبا ( يسقط من فوق الجبل / على حدّ تعبير دستييفسكي ) . ويفيد الخمر كمادة لدرء نوبات الشيزوفرينيا ( انفصام الشخصية ). وكان يعطى بالوريد بنسبة معينة للقضاء على تشنجات تسمم الحمل عند بعض النساء . ويعطى الكونياك لتوسيع الشرايين القلبية للمرضى المصابين بالجلطات القلبية ( وصفة طبية ) . ونتائجه رائعة في اليوم الأول من الإصابة بالأنفلونزا : ( مائة غرام كحول + حبتين أسبرين + حمام ماء حار + ودثار جيد حتى الصباح ) وهذه وصفة طبية أيضا ، ولكنها لا تجوز بداية من اليوم الثاني للإصابة لأنّ نتيجتها : مستشفى . ويضاف الكحول صيدلانيا إلى كثير من السوائل الطاردة للبلغم . ويفرز الجسم نسبة من الأنزيمات ، التي لا يمكن أن تتكون بدون وجود جذر الكحول في تفاعلاتها الكيميائية ، بل حتى أن الجسم البشري يفرز مادة مخدرة هي الاندرفيرون .. الخ ..الخ . في العراق تاريخيا ، لو رجعنا إلى ( ألواح سومر ) ، لوجدنا أنّ الفلاحين والمصنعين في بلاد سومر كانوا ينتجون ثلاثة عشر نوعا من البيرة . ويبدو أنهم كانوا يستوردون الحشيشة من بلاد عيلام ولكنهم لم يستهلوكها على طريقة أهل عيلام بل استفادوا منها وأدخلوها في صناعة البيرة . يعني العراقيون أو بشكل أدق أسلافهم هم الذين اخترعوا البيرة للبشرية ولأول مرة في التاريخ ، ربما بسبب كثرة الحنطة والشعير في هذه البلاد ووفرة المياه وهذا ليس مهما بالنسبة لهذا المقال ، المهم أنه ورد ذكر لهذه المادة قبل نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد ، يعني قبل أن يظهر أسامة بن لادن بخمسة آلاف سنة . وفي ملحمة جلجامش تظهر المرأة ( صاحبة المقصف ) وهي تبيع الخمرة لجلجامش ، وهو في طريقه نحو غابة الأرز للبحث عن سر الحياة والخلود الذي لم يكتشفه وتوصل العراقيون من حينها إلى استنتاج أن الإنسان يخلد بأعماله ومآثره ولا توجد حياة ثانية وأن الموت هو النهاية الحتمية لكل إنسان ( هذا ما يدرسه طلاب الصف الأول متوسط في المدارس العراقية الآن – لم ينتبه رجال الدين عندنا إلى هذه الأفكار لحد الآن ) . وتقدم المرأة الخمرة لجلجامش مع النصائح ، التي يستمع لها جلجامش باحترام ويناقشها . يعني شعبنا اخترع الخمرة من أكثر من خمسة آلاف سنة ، وكان يتقبل أن تبيع النساء الخمور ، ويتعامل ملك مثل جلجامش معهن باحترام ، بدليل أنه كان يستمع لنصائح تلك المرأة . ووافق أن يدونها في ملحمة تتحدث عنه ... وفي محافظات العراق ، في ديالى مثلاً ، كان العرق المصنّع منزلياً وفي البساتين هو المفضل رغم نوعيته المتدنية ( هل كان العرق السومري ، الذي تناوله الملوك ، أحسن ؟ )، ربما لأسباب اجتماعية أو لأنه أرخص . ولا أحد ينسى عرق هبهب ( HibHib ) أو كما يحب أن يسميه أهالي ديالى : أبو الواوي . وكان لكل قرية ومدينة مصنعوها الخمريون . وليس في ديالى أو الوسط والجنوب فقط بل وفي كردستان أيضاً . ومن ينسى عرق ديانا الشهير ( بيك واحد يساوي عقوبة حزبية ) أو نبيذ ألقوش ، مثلاً ...؟ وعلى الرغم من منع بيع أي نوع من المشروبات الروحية في مدن مقدسة مثال النجف وكربلاء إلا أن المشروبات تصل ، إلى من يشرب فيها ، من المدن المجاورة . والخمور تباع في سدة الهندية المجاورة . ولا أدري معنى تفجير محال بيع الخمور في بعقوبة مثلاً ، إذا كانت بغداد تبعد مسافة ساعة واحدة ، وألقوش تبعد ثلث ساعة عن الموصل. ولا أحد يعلم هل مَنْ وراء هذه التفجيرات ، حصراً ، هم باعة ( القجغ = غير الرسمي ) ، بسبب البطالة المنتشرة حاليا ! أم هم أصحاب معامل جديدة في طريق الفتح ! ثم أليس محاربة مسائل أخرى مثل : الفساد الإداري والاهتمام بالجانب التربوي والاجتماعي والأخلاقي في مكافحة هذا الفساد ، والرشوة ( التي تحولت إلى سلوكية اجتماعية ) والسرقات ، وسوء التربية الاجتماعية الملحقة بهذا ، الدعارة التي تنتشر كالوباء كما يقول المطلعون على خبايا الأمور ، والكذب والاشاعات والصحف التافهة ، والفضائيات المشبوهة ، ومن يأخذ ( الخاوة ) من المواطنين ، ومن يعيق تشغيل العاطلين وينهب مؤسسات الدولة ، ومن يتواطأ مع المجرمين ولصوص الحواسم ... أليس هذه الأمور ومئات غيرها أولى بالمحاربة من مسألة لا قيمة لها كالمشروبات الروحية ؟ ولا ندري هل تتعلق المسألة بزيادة أسعار الخمور . وأن من يقف وراء هذه الحملة في محاربة المشروبات الروحية مافيات يوجههم تجار من وراء الكواليس ؟ بالمناسبة مثل هذه الحملات في محاربة الخمور ليس الأولى في تاريخ العالم وكلها فشلت واحدة وراء الأخرى ( فشل بمرتبة الشرف ) . وكأمثلة على الهامش ، لمن يعتقد أنه يمتلك براءة اختراع في هذا المجال : فقد سنت قوانين منع بيع الخمور في الولايات المتحدة الأمريكية في الثلاثينيات من القرن الماضي أدّت إلى ارتفاع أسعاره وزيادة بيعه وحرب مافيات طاحنة بين التجار . فالغي القانون . وهذه دولة مسيحية . ومنع الحزب الشيوعي العراقي أعضاءه من شرب الخمور في الخمسينيات من القرن الماضي ولم تنجح الحملة بشكل باهر . وعلى الرغم من أنّ عددا من الشعوب المجاورة تتعاطى الحشيشة والمخدرات وتتاجر بها ( وكان منها نظام طالبان السابق ، الذي كان يصدّر ، كما تقول الاحصائيات ، ما يعادل 90 بالمائة من الحشيشة إلى العالم بحجة واهية : تدمير المسيحيين الكفار (!) كما كان يُنظّر " الشيخ " بن لادن لتبرير عار زراعة الحشيشة وتصديرها من قبله وطالبان ) ، وعلى الرغم من أنّ عددا لا يستهان به من تجار المخدرات المصريين حاولوا إدخال الحشيشة إلى العراق إلا أنهم فشلوا . السؤال الذي يطرح هنا : هل يكون المقصود من تفجير محال الخمور هو مخطط لئيم لتوجيه العراقيين نحو استعمال الحشيشة بدل المشروبات الروحية ؟ هذا لن ينفع ! لأنّ العراقيين يكرهون المخدرات . لماذا ؟ هل بسبب طبيعة الطقس أم التربة أم مياه الرافدين أم لسباب تاريخية ؟ لا أعرف . المهم أنهم يفضلون شرب الخمور . فالبيرة والخمور هو اختراعهم وليس منطقيا أن يطلب منهم التخلي عن هذا المنجز الحضاري . هل بالإمكان للروس أن يتخلوا عن الأقمار الصناعية ؟ هل بإمكان أميركا أن تتخلى عن مايكروسوفت ؟ كيف تريدون للعراقيين أن يتخلوا عن اختراعهم ، الذي هو واحد من أروع اختراعات البشرية ؟ وهم يشربونها منذ ستة آلاف عام ولن يستطيع شذاذ الآفاق هؤلاء منعهم . وهناك توازن . لا احد يستطيع زيادة المستهلكين ولا إنقاص عددهم. من يشرب سيشرب ، وهو الذي سيقرر المواصلة أو تركها أو معاودتها . يقول البعض : إنّ الحياة بدون نبيذ مضجرة . وهذا حق من حقوقهم كبشر ، لا يجوز لأحد التدخل فيه غير الزوجة والأولاد . ولن نقبل بخنقنا ببركات الشمولية بعد الآن . ونحن لم ننسَ حملة صدام الإيمانية المنافقة التي طعمها بدعارة أبناءه وعصابته التي زكمت جيفتها الأنوف . ثمّ أن الحساب ، من وجهة نظر دينية ، يقرره ربّ العالمين وليس أصحاب العبوات الناسفة . ونحن لا نستطيع أن نقبل بالواقع الليبي مثلاً ! حيث أدى منع بيع واستيراد المشروبات الروحية إلى ممارسات رهيبة ، إليكم بعضها : يوضع دهان الأحذية على الخبز ويؤكل مثل السندويج ، تنقع في الماء الجواريب التي لبست لعدة أيام ، ثم يشرب هذا السائل كمادة مسكرة .. عندما أخبروا القذافي بأن هناك من يبيع الويسكي في الأزقة أجاب : اتركوهم فهذا أحسن من السموم التي ( يهببوها ) . طبعا ( شريبة ) محافظة ديالى مثلاً لن يصلوا إلى هذا المستوى ، ذلك لأنّ لديهم ، في أسوأ الأحوال ، تموينات HibHib المجاهدة .
#عماد_مجيد_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل بقي شيء من السيارة ؟!
-
ما الذي يؤجج الأمور ..أو منظمات على قدر القياس
-
من هموم مؤسسات المجتمع المدني
-
النواح على اللغة .. والواقع العالمي
-
ديمقراطية بدون مؤسسات مجتمع مدني حلم يقظة غير قابل للتحقيق
-
هل هي مقاومة ضدّ الاحتلال .. أم ضدّ شعبنا ؟
-
المخادعة ليس سمة مقبولة لقادة انتخابيين
-
الأدوار الاجتماعية وحقوق الإنسان
-
الخسارة أيضاً !..
-
مقارنة بين المجتمع الاهلي والمجتمع المدني
المزيد.....
-
بورل: أندد بالقرار الذي اعتمده الكنيست الاسرائيلي حول وكالة
...
-
بوريل: اعتقال نتنياهو وغالانت ليس اختياريا
-
قصف الاحتلال يقتل 4 آلاف جنين وألف عينة إخصاب
-
المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا
...
-
المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا
...
-
إعلام إسرائيلي: مخاوف من أوامر اعتقال أخرى بعد نتنياهو وغالا
...
-
إمكانية اعتقال نتنياهو.. خبير شؤون جرائم حرب لـCNN: أتصور حد
...
-
مخاوف للكيان المحتل من أوامر اعتقال سرية دولية ضد قادته
-
مقررة أممية لحقوق الانسان:ستضغط واشنطن لمنع تنفيذ قرار المحك
...
-
اللجان الشعبية للاجئين في غزة تنظم وقفة رفضا لاستهداف الأونر
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|