البعض يجد العزاء في أنه لا ينتقل إلا خمس خطوات إلي الوراء
كنت، وأظلّ حتي إشعار آخر طويل كما يلوح، في صفّ الذين يؤمنون بأنّ الرئيس السوري بشار الأسد هو إبن الماضي وصنيعته ورهينته في آن معاً، وهو مشارك فاعل وأساسي في عمليات إعادة إنتاج الماضي وتكريسه وشرعنته، بل وإسباغ القدسية عليه أيضاً. كذلك، استطراداً، أظلّ مؤمناً بأنّ النظام الذي يمثّله الأسد (أياً كان معني التمثيل هنا) ليس عاجزاً عن التطوير والتحديث والتغيير والإصلاح فحسب، بل هو في طبيعته البنيوية مناهض لعناصر التبدّل تلك، عازف عنها إرادياً ومعادٍ لها موضوعياً بسبب أنّ أية بارقة تحوّل جوهري سوف تهزّ الكثير من أركان عمارة النظام، ولعلها تؤذن بأولي علائم تفسّخه وتداعيه.
ولقد انصرم، في يقيني، زمن كافٍ لاختبار هذه القناعات ووضعها علي محكّ التدقيق والتحقق. كذلك حلّت مناسبات عديدة أثبت فيها الأسد الإبن أنه لا ينوي المسّ بتقاليد ومؤسسات ورجالات سلطة دكتاتورية (قمعية ـ عسكرية ـ أمنية، قائمة علي الفساد والنهب وانتهاك القانون) كان الأسد الأب الراحل قد أرسي دعائمها طيلة ثلاثة عقود. وإذا كنتُ شخصياً لم أعقد أية آمال علي عهد الأسد الابن، منذ بدء تدريبه وتنصيبه وحتى اليوم، فإنني تفهمت علي الدوام أسباب تمسّك شرائح واسعة من أبناء الشعب السوري بالأمل في أن يكون هذا الرئيس الشاب شاباً حقاً، بصرف النظر عن السياقات التوريثية اللاشرعية التي اكتنفت تسليمه السلطة.
ففي المناسبة الدستورية الأولي لعهده، أي الاستفتاء الرئاسي، كانت نسبة الـ 97.29% بمثابة لطمة عنيفة ذكّرت المواطنين بما كان يتكرّر في الماضي من نِسَب مماثلة عند التجديد لانتخاب الأسد الأب، الأمر الذي شكّل ــ في كلّ مرّة ــ مصادرة صريحة للعقل الطبيعي والمنطق السليم، وإهانة مباشرة للمواطن السوري الذي لم يكن له من حول أو إرادة في ما يُزوّر باسمه من نتائج الـ 99%. وكانت تلك النتيجة دليلاً مبكراً علي انطباق الحافر علي الحافر في ما يخصّ علاقة السلطة مع الشعب، ثمّ مع القانون والشرعية والحقّ، كما كانت خطوة مبكرة علي طريق وضع سورية في فجر السنة الأولي في عقود الحركة التصحيحية ـ 2 .
وفي المناسبة الدستورية الثانية، أي خطاب القسم الشهير، أعلن بشار الأسد أنه لا يملك عصا سحرية لتحقيق المعجزات . وفي الواقع لم يكن أحد يطالبه بإشهار عصا سحرية، أو يفترض الحاجة إليها، قبل أن يتمكن الرئيس الشاب من إلزام نفسه أمام الشعب بإلغاء الأحكام العرفية، أو إعادة تنظيم الحياة السياسية بما يكفل بعض التعددية وبعض الحريات في التعبير والتجمّع والتنظيم، أو إصدار عفو عام، أو سنّ جملة من القوانية الإدارية والتنظيمية التي بات المجتمع بحاجة ماسة إليها، علي سبيل الأمثلة فقط.
وقبل أيام، وفي المناسبة الدستورية الثالثة المتمثلة في بدء أعمال مجلس الشعب الجديد، شنّ بشار الأسد حملة شعواء علي المعارضة السورية، بحيث بدا وكأنها السبب الوحيد في بلاء سورية، والورم الخبيث الذي يتوجب استئصاله علي الفور دون تهاون أو شفقة أو تردد! النظام الراكد العاجز عن التبدّل والتطوّر والإصلاح ليس جوهر المشكلة، أو أمّ المشكلات جميعاً ربما، بل هي المعارضة التي تجهل معني مصطلح الديمقراطية. والفاسدون الذين ينهبون الوطن ويستنزفون طاقاته وثرواته ليسوا مصدر قلق أو سخط، بل هم المعارضون الذين يرون أنّ الديمقراطية حلّ لعقدهم النفسية علي حساب الآخرين !
والأسد يبدأ بلوم المعارضة لأنها أساءت فهم خطاب القسم الذي ألقاه عشية انتخابه، ويقول (مرتجلاً، ونحن نقتبسه عن نصّ وكالة الأنباء السورية سانا ): تحدثوا عن خطاب القسم ورفعوه كعلم.. وجعلوه خطة تنفيذ.. بينما هو منهج تفكير.. والفرق كبير بين منهج تفكير وخطة تنفيذ.. منهج تفكير هو كيف يفكر هذا الشخص الذي ألقي الخطاب.. وهذه هي آلية تفكيره.. لا بد للمواطن أن يعرف كيف يفكر هذا الرئيس. هناك العديد من المصطلحات التي طرحت في خطاب القسم.. وكلها مصطلحات متداولة.. لا يوجد فيها أي مصطلح جديد.. كلها تم تعريفها بالشكل الذي فهمتها أنا.. فإذاً منهج التفكير بحاجة لخطط تنفيذ وليس خطة تنفيذ.. ربما تربط بجدول زمني.. ربما لا تربط.. هذا موضوع اخر ...
ولا ريب في أنّ خيار الخطابة ارتجالاً، والذي يبدو أنّ الرئيس السوري يفضّله علي القراءة من نصّ مكتوب، جعل الأفكار تتدافع علي هذا النحو الذي لا يتماسك تماماً في صيغة ملموسة. ولكن لنفترض أنّ هذه مسألة أسلوبية ، ولنذهب إلي سلسلة من التساؤلات المستمدّة من جوهر ما يعنيه الأسد: هل يقصد القول إنه كان من الخطأ التعامل مع خطاب القسم كخطة تنفيذ، وكان الخير اعتبار الخطاب الرئاسي الأوّل مجرّد منهج تفكير ؟ متي تنفّذ السلطة التنفيذية، إذاً، واستناداً إلي أيّة سياسات وخطط وتوجّهات؟ وهل يكفي أن يعرف المواطن كيف يفكر هذا الرئيس ، لكي تشتغل الدولة وتخطط وتنفّذ؟ وإذا كان منهج التفكير هذا يستلزم خطط تنفيذ وليس خطة تنفيذ ، فما الذي منع الدولة من رسم تلك الخطط؟ وفي الأساس، ما جريرة المعارضة هنا؟
الحقّ أن الأسد يتناسي، أو لعله نسي بالفعل، أنّ الذين تحدثوا عن خطاب القسم ورفعوه كعلم لم يكونوا في صفوف المعارضة، بل في كانوا ويظلّون حتي اليوم في صفوف السلطة، وفي عداد المطبّلين لها هنا وهناك، في وسائل الإعلام الرسمية مثل وسائل إعلام أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية . كذلك يبدو وكأنه يسقط ذريعة أساسية استخدمها الذين لم يكونوا من أنصار السلطة أو محازبيها، ولكنهم عقدوا الكثير من الآمال علي وعود التغيير التي أوحي بها خطاب القسم. ولقد مضي اليوم زمن كانت فيه مقالات هؤلاء، المستبشرة خيراً علي صفحات صحيفة الثورة أيّام الراحل محمود سلامة، لا تخلو أبداً من اقتباس هنا أو استشهاد هناك بما جاء في خطاب القسم!
كذلك يقول الأسد، في الخطاب ذاته أمام مجلس الشعب الجديد قبل أيام: تحدثنا في خطاب القسم عن الديمقراطية وقلنا ان الديمقراطية هي اخلاق ففهموها تهجماً علي التاريخ.. وتهجماً علي رموزنا الوطنية التي نفتخر بها جميعا. قلنا ان الديمقراطية هي تعزيز للأمن والاستقرار. فالبعض فهمها تعميماً لعدم استقراره النفسي علي الوطن ومساساً بالوحدة الوطنية. قلنا ان الديمقراطية هي صناعة وطنية. قالوا انها عبارة عن مصطلحات نضع الوطن داخلها.. مصطلحات مستوردة. قلنا انها حلّ لمشاكل عامة. قالوا انها حلّ لعقدهم النفسية علي حساب الآخرين ...
وفي الواقع يعود الرئيس السوري القهقري إلي مشكلة المصطلحات التي يحلو له السجال حولها (وكأنّ المأزق يكمن هنا!)، ومشكلة استيراد الديمقراطية أو صناعتها محلياً، وهو في الحالين لا يقوم بما هو أكثر من إعادة إنتاج لنقاش مغلق سبق أن خاض فيه وزير إعلامه عدنان عمران (حين اتهمّ المعارضين باستيراد المفاهيم من الخارج، وقبض الفلوس من السفارات الأجنبية)، كما أبلي فيه بلاء حسناً الرئيسُ السوري نفسه. ومن المدهش أنه يمتدح ديمقراطية النظام، مقابل ديمقراطية أخري تؤمن بها المعارضة ويُفترض أنّها من مستوردات الخارج، في مناسبة نقيضة تماماً لأنها تعيد التذكير بالذكري الأربعين لحدَثين مشؤومين يكنّ لهما الشعب السوري كلّ المقت والبغضاء: انقلاب الثامن من اذار، الذي جاء بحزب البعث إلي السلطة؛ وفرض قوانين الطواريء والأحكام العرفية في سورية. وليس أفضل من هذا السياق الراهن، أي مهزلة انتخابات مجلس الشعب التي لا تحمل من معني الإنتخاب سوي الاسم، لكي يدرك الشعب زيف تشدّق السلطة بمقولات فضفاضة مثل الديمقراطية و الشفافية و قبول الرأي الآخر .
ألا يدخل في صلب إعلان الرأي الاخر، وليس ارتكاب جرم أو جناية أو مخالفة قانونية، أن يصرّح رياض الترك بأنّ نظام حكم حافظ الأسد كان دكتاتورياً، وأنّ هذا النظام ينبغي أن ينتهي الآن؟ ولماذا تكون ممارسة هذا الحقّ تهجماً علي التاريخ.. وتهجماً علي رموزنا الوطنية التي نفتخر بها جميعا ؟ وأين انعدام الأخلاق في سلوك سياسي خالص، يصدر عن رجل اعتقله النظام ذاته قرابة 18 سنة، معزولاً تماماً عن العالم الخارجي، ولكنه اليوم يكبر علي جراحه ويدعو إلي المصالحة الوطنية؟ ومَن، بالله، أولئك الذين طالبوا بتحويل الديمقراطية إلي حلّ لعقدهم النفسية علي حساب الآخرين ؟ ما الذي يقصده الرئيس السوري، علي وجه الدقة؟ وفي الحصيلة العامة لأقوال مطالع العام 2003، ألا يبدو بشار الأسد وكأنه يتراجع عملياً عن أقوال أعلنها بنفسه في خطاب القسم أواسط العام 2000؟
وما الرأي في خطاب يبلغ أكثر من 8500 كلمة، ولكنّ مفردة الفساد لا ترد فيه إلا مرّتين، علي استحياء وغمغمة وغموض: مرّة في سياق الحديث عن الهدر والفساد والبيروقراطية وجمود العقل ، ومرّة في الإشارة إلي الإنتهازية التي تمتزج بالعقد النفسية أو بالأنانية أو بالحقد أو بالفساد المادي والأخلاقي . هل نسينا أنّ محاربة الفساد كانت فرس الرهان في ترقية صورة بشار الأسد وتبرير تصعيده كخليفة وحيد لأبيه في سنوات التدريب؟ وهل ننسي أنّ الفساد بات جزءاً من أكلاف العيش اليومية التي تثقل كاهل المواطنين، وضريبة غير مباشرة مفروضة بحكم الأمر الواقع، و طريقة عيش عند المئات، وربما الآلاف، من أزلام النظام في مختلف مؤسساته الأمنية والعسكرية والإقتصادية؟ وكيف يريدنا الرئيس الشاب أن نتناسي الفاسدين الكبار الذين يتعاملون بصفقات خرافية تبلغ ملايين أو مليارات الدولارات، ويتمتعون بحصانة مطلقة مقدسة لأنهم إمّا في هرم السلطة أو في هرم العائلة الرئاسية؟
وهذا رئيس شابّ لم يبلغ سنّ الأربعين بعد، يؤمن بأنّ العلاقة بين الدولة والمواطنين كالعلاقة داخل الأسرة الواحدة، عندما يخطئ أحد أفراد هذه الأسرة ستتعامل معه الأسرة بشكل عام وخاصة الأبوين انطلاقاً من المحبة يُعاقب ، ولكنه مستعدّ علي هذا الأساس لفرض المزيد من العقاب علي إبن بارّ في الأسرة، قيادي وطليعي ومثال يُحتذي مثل رياض الترك، تجاوز السبعين؟
وما الرأي في استمرار معاقبة هذا الأب الشاب ــ الذي يُفترض، حسب مجازاته، أنه قائد الدولة وكبير الأسرة في آن ــ لاثنين من أعضاء مجلس الشعب السابق (مأمون الحمصي ورياض سيف) لم يرتكبا من جريرة سوي ممارسة دورهما كنائبين عن الأمّة، فطالبا ببعض حقوق المواطنين؟ ألم يكن لائقاً بقائد الدولة وكبير الأسرة أن يتسامح مع هذَين الإبنَين، ومئات المعتقلين الآخرين، هو الذي يقول اليوم إنّ المبدأ في العائلة السليمة هو الانطلاق من المحبة ؟ وكيف حدث أنّ محافظة اللاذقية شهدت، منذ أيام فقط، اعتقال المواطنين بسام سعيد يونس وأسامة العلي، والتضييق علي آخرين من أمثال المحامي محمد رعدون والدكتور عصام سليمان والسيدين علي بركات وبشير الدواي واخرين، لا لشيء إلا لأنهما اعترضا علي مهازل انتخابات مجلس الشعب؟ متي يتسامح كبير الأسرة، إذاً؟
ومن أسف، حقاً، أنّ أحداً من الذين راهنوا علي اختلاف عهد بشار الأسد عن عهد أبيه سوف يتجاسر اليوم علي المجاهرة بأنّ خطاب افتتاح مجلس الشعب الجديد ينتقل بسورية خطوة واحدة يتيمة إلي الأمام. وممّا يثير الأسي الفائق أنّ معظم هؤلاء الآملين قد يبحثون اليوم عن العزاء في حقيقة أنّ خطاب الرئيس لا يتراجع إلا خمس خطوات إلي الوراء.
أي ليس عشر خطوات مثلاً!
2003/03/14
القدس العربي