|
استنطاق الأفكار وآفاق التأمل
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 1508 - 2006 / 4 / 2 - 05:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تبدو الحياة في الجانب المرئي منها مسرحاً تحتدم فيه أطياف متنوعة من الرؤى والاتجاهات والممارسات ، ولكنها في نهاية المطاف تعكس جملة من أساليب استجلاء الأفكار وطرائق التعامل مع الحياة ..
وقد ينساق الكثيرون خلف الأوهام والأساطير والتخيلات غير مكترثين بجدوى أحقيتهم في التفكير عن سبل التقصي والبحث والتساؤل ..
وهناك الكثيرون أيضاً يبقون رهن التواصل الدائم مع الأفكار والأنساق الثقافية المتعددة التي تنتجها طبيعة المماحكة المستمرة مع عالم المتغير بعيداً عن رتابة الثابت ..
وهناك أيضاً ممن يركنون قسرياً إلى فعل الانشداد الذاتي للقبول بما هو متاح وبما هو سائد ومتعارف عليه ، دون مجاهدة النفس لتحريك المياه من مساراتها المعتادة أو فتح قنوات أخرى تزيد من شدة انسيابها وتدفقهـا ..
وإذا ما استعرنا على سبيل المثال عبارة ميلان كونديرا في إحدى رواياته ( الحب هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا ) قد نفهم أن هناك ممن يجيدون احتراف البحث عن الجانب المفقود من النفس بالرغبة الشديدة في تجلي الأشياء من حولهم والتي قد تكون بمثابة المكمل للنصف الآخر من الذات ..
وإذا نظرنا إلى أولئك الذين يجدون متعة كبيرة في الاستدلال على الأفكار وأعماق الحياة من خلال استثارة الذاكرة المفعمة بمكنوناتها السابقة الموغلة في البعيد والتي تشتمل على جملة من الأحاسيس والتفاعلات والعواطف والأفكار فأنهم بتلك الاستثارة لمخزونات الذاكرة قد يعثرون على ما يجعلهم يقفون بوضوح أمام ما تتكشف لهم من أفكار جديدة تكون بمثابة الفتح الأكثر انبهاراً لذاكرتهم الراهنة ..
أما أولئك الذين لا يخشون عن الإفصاح عن أفكارهم وآرائهم ويتحلون بشجاعة المغامرة ، وهم يعلمون بإنها صادمة للفكر المتداول ببلاهة السائد ويجدونها خروجاً عن أنساق المألوف فإنهم يراهنون على أن ما كان مختلفاً وشاذاً سيقبله الناس ذات يوم ، ربما تمثلاً بقول الفيلسوف برتراند راسل :
( لا تخش أن تكون شاذاً في آرائك ، فكل رأي مقبول اليوم ، كان شاذاً يوماً ما )
لا أدري قد يكون أولئك الذين يعتمدون على الغريزة الروحية في استنطاق عالم الأفكار يتمتعون براحة نفسية وانسجام يتوحد مع ذواتهم أكثر من غيرهم كما يعتقدون ، ربما لأنهم في انشغالهم الفكري على مستوياتهم الذهنية يؤمنون عميقاً عن طريق الغريزة الفطرية الروحية أن باستطاعتهم الوصول إلى حقائق الكون الكبرى كالله مثلاً دون الحاجة إلى وسطاء ، وقد يبدو على أساليب حياتهم الإتزان الداخلي لأنهم ليسوا مضطرين للوقوع تحت الاكراهات الأيديولوجية أوالمسبقات الذهنية أوالتحايل على نزوعهم الفطري للحقيقة التي يؤمنون أنهم قد توصلوا إليها من خلاله ، ويجدون إنها يجب أن لا تتأثر بما تتبدى لهم من ظواهر الأمور ولذلك عادةً ما يفضلون العزلة والابتعاد قدر الامكان عن الاحتكاك بالناس ويمقتون النفاق الاجتماعي وبريق الأضواء الكاشفة لأنهم يعتقدون أن مَن يريد أن يحظى بتصفيق الجمهور ويفكر بالجمهور عليه أن يعيش في الكذب بطريقة أو بأخرى ..
وقد يكمن عذاب الإنسان وخلاصه في تلك المساحة الصغيرة من رأسه ، فكثيراً ما أقول ماذا لو إننا تمتعنا بعقل يساعدنا على نحو آخر أكثر إشراقاً في تبني ما يجعلنا نتطلع لخير الإنسان عامةً والتمتع بمباهج الحياة وممارسة المعاني الإنسانية الجميلة الراقية ، وفي المقابل لا أعرفُ تحديداً كيف يصبح العقل مصدراً لعذابات لا تنتهي حينما يكون مقيّداً بعراقيله وواقعاً في مطباته ومستسلماً لهناته ، ففي هذه الحالة يسير بالإنسان إلى عتمة الحماقات وشرور الويلات ..
وربما هنا علينا أن نتساءل عن حقيقة خلق نوع ٍ من التناغم التواصلي بين الذات والعقل المسكون بجنوحه الشهي نحو الامتلاء بالأفكار والأحاسيس وذلك للتعبير الخلاق عن حقيقة انعكاساته الداخلية الوجدانية وللتعبير عن مجمل تجاربه الإنسانية في الحياة بما يتناسب مع واقع التحولات الزمانية والتغيرات المكانية وقد يكون الإنسان في هذا المسعى أكثر انسجاماً وتصالحاً مع ذاته التي تبحث حثيثاً عن مستويات نقية ورفيعة من الرضى والتوافق والتلاحم العميق مع جوهر الوجدان الإنساني ..
ولذلك أعتقد أنه كلما كان الإنسان قريباً من تأملاته ومتداخلاً فيها وباحثاً عنها في نفس الوقت ، فأنه يكون أكثر قرباً من تلمس المعاني العميقة خلف الأشياء ويكون أكثر استنطاقاً لجوهر الأفكار وقيمها المعرفية وأعمق استجلاءً للمشاعر والرؤى ، فالتأمل يحيل التفكير الإنساني إلى مستويات رفيعة من البحث والغور عن الحقائق الكامنة في التصورات ووجودات الأشياء من حوله ومدى توافقها مع سعيه النبيل للكشف عن جماليات الحياة والكون ، وليس صحيحاً أن كل بحث في التأملات يقع خارج نطاق الحقيقة الوجودية للذات التي تميل بطريقة أو بأخرى لممارسة وجودها الفعلي الحقيقي في مجالات التصور والتجريب ، فكل تأمل باحث عن الحقيقة هو تجسيد عميق لوجود الذات على قيد الممارسة الحقيقية الباعثة للجمال الداخلي في استنطاق عوالم الأفكار من حولها ، ولذلك قد نكون بحاجة ماسة لممارسة فعل البحث التأملي الحر الذي لا يتوقف عند سطحية الأشياء بل ينفذ إلى أعماقها ويتلمس دروبها الغائرة في مسعىً جمالي لاستيلاد مكامنها الجوهرية ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدنيا في عيونهم
-
يموت الزمار وأصابعه تلعب
-
كيف أرسمُ وجه حبيبتي
-
المجازفة خَلقٌ جميل
-
هزيمتان في الغرام
-
الحب اخترعه المترفون
-
المسلمون والعقلية الانفعالية
-
المرأة وتجليات الأصوليين
-
الفضاء تحت الوصاية الدينية
-
كيف تراني ؟
-
امتزاج الثقافات وضرورة الحوار
-
نعم للبقصم لا للإرهاب
-
فبراير وتجليات الذاكرة
-
نقرأ القرآن ولا نقرأ الحياة
-
الحسين في المزاد العاطفي والأسطوري
-
حينما تصبح هويتنا الدينية رصيدنا الوحيد
-
زبدة لوبارك تحت المقاطعة
-
هل تسير شعوبنا في ركاب الإرهابيين
-
متى انهزمنا لكي ننتصر ؟؟
-
أين الشيطان ..؟؟
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|