هكتور شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 1507 - 2006 / 4 / 1 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يمكن للمرء أن يلاحظ أن استعمال مفردة الحداثة في الفكر العربي وبمثل هذه الكثافة جاء متأخرا وهو يشابه في هذا مسألةاعادة قراءة التراث العربي, والتي بدأت بشكل جدي بعد هزيمة 76 مع مشاريع حسين مروة وطيب التيزيني والجابري وغيرها. اعادة قراءة التراث العربي جاءت ردا على الهزيمة التي كشفت خواء في الفكر الثوري, وتخلف المجتمع العربي وعدم قدرته على المواجهة, ومن هنا كانت ضرورة اعادة قراءة التراث - كما بدا للقائمين عليها- من أجل كشف جوانب التخلف في بنية الوعي العربي والنهوض به.
وقراءة التراث العربي تفاوتت من محطة الى اخرى, فالبداية كانت محاولات القراءة المفعمة بالتوجه الراديكالي مثل قراءة مروة والتيزيني, ومساهمة الأخير حملت عنوانا لافتا وهو من التراث الى الثورة. لكن هذه المحاولة لم تستمر وحتى أن الطيب تيزيني يستكشف اليوم مسألة النهضة العربية عوضا عن مسألة الثورة العربية. فيما بعد انطلقت محاولات أخرى ومن نقاط مغايرة, استبعدت الهم الثوري وحاولت قراءة التراث لاستكشافه عبر قراءة ابستمولوجية على أمل ايجاد مخرج من داخل التراث أو داخل تراث فرعي منه,كقراءة الجابري
ان الحصيلة النهائية لمثل هذه المحاولات والتي رفدتها أسماء لامعة لم تكن قادرة على انجاز أي من الأهداف التي وضعتها لنفسها, حيث لم تترك تأثيرا يذكر على المستوى السياسي والاجتماعي بغض النظر عن اهميتها الأكاديمية. والسبب لا يتعلق مباشرة بطبيعة هذه المساهمات وان كان بعضها مفعم بالايديولوجيا الكثيفة, بل بطبيعة السياق الذي ارتبطت معه هذه القراءة للتراث العربي. فقراءة التراث العربي وتطورها لا ينفصل عن الهزيمة العربية وتطورها.
قراءة التراث العربي استبطنت منذ البداية فرضية أساسية وهي محورية هذا التراث بخلق واقع الهزيمة وكونه الحصن الأساسي لقوى التخلف العربي. وهذه المسألة هي التي جعلت كل قراءة تكون قراءة سياسية وبراغماتية منذ البداية, فالتراث تراثان (أو أكثر) احدهما يحمل جانب ثوري, أو تنويري, أو نهضوي.... وهذه المفاهيم لا تحيل الى التراث انم االى تطور سياق قراءة التراث, وبالمقابل هناك تراث آخر هو تراث الرجعية, أو الغيبية, أو الظلامية...
وهكذا تصبح قراءة التراث مسألة صراع سياسي أكثر من كونها مسألة علمية, يل ان الصفة التراكمية التي تسم القراءة العلمية للتراث هي الغائبة أو غير الغالبة, فكل قراءة للتراث تحمل طابعا تأسيسيا معها وهذا نابع عن سياسيتها, فالقراءة لا تحيل الى العلم بالتراث, انما الى تثوير الوعي العربي ومفهمة التراث لهذا الغرض, وعند الفشل بالمهمة تبدأ محاولة قراءة جديدة للتراث وهذا التتابع شبه التأسيسي يدلل على الطابع السياسي على عكس الطابع التراكمي ذو الهدف العلمي.
نقطة البداية لسياق قراءة التراث كانت الهزيمة العربية عام 1967, أي هزيمة القوى العربية و المفترض انها كانت حاملا لمشروع الثورة العربية والدولة الوطنية. عجز هذه القوى عن التغيير واصطدامها بقسوة الواقع وفشلها في تغييره على الرغم من استلامها للسلطة جعلها , أو القسم المثقف منها, تبدأ بالمراجعة, ولكنها وخاصة في السبعينيات والنصف الأول منه بقيت محتفظة بمواقع السلطة أو مواقع قريبة منها ولهذا استمرت ضمن سياق الاندفاع الثوري في قراءتها للتراث, فالسياق لم يكن سياق هزيمة تامة, يل ان معارك الكرامة وتشرين وبداية الحرب الأهلية اللبنانية والمواجهات المتواصلة مع السادات والقدرة الكبيرة على التحكم بالشارع المصري وتعبئته, ابقتها ضمن سياق التغيير الثوري ولهذا بقيت قراءة التراث مفعمة بالتوجه الثوري.
الذي ربط الهزيمة بالتراث هو الادراك بأن للواقع بنى صلبة قادرة على الاستمرار والبقاء على الرغم من ابعادها عن السلطة السياسية, و استلام قوى راديكالية لهذه السلطة. وهكذا أصبح الصراع ضد تخلف الوعي وخاصة ان الراديكالية العربية هي راديكالية تطور لحاقي ويشكل المثقفون طليعة هذه القوة الراديكالية.المثقف تعاطى مع الوعي السياسي بشكل براغماتي وقد شرحه ومثله بأكثر الأشكال وعيا عبد الله العروي في العرب والفكر التاريخي.
قراءة التراث لن تتحول أو ترفدها من ناحية أخرى قراءة للواقع العربي أو قراءة لوعي قوى التغيير العربي على الرغم من عدة محاولات, فعلى الرغم من الماركسية المعلنة للقسم الأكبر من هذه المساهمات الا انها بقيت مثالية حتى النخاع في جل قراءاتها. هذه ما يثبت مسألة محورية بنى الوعي العربي في انتاج الواقع العربي وهذه البنى ليست الا استمرار للتراث العربي, وهكذا يكون ابن تيمية مؤسسا للوعي في قرائتين متناقضتين للتراث. الأولى ذات الطابع العقلاني والتغييري والتي رأته مؤسسا للفكر التكفيري والاقصاء, والثانية الاسلاموية والتي رأته شيخ الاسلام والمدافع عنه أمام الهرطقات والبدع.
فكلا القراءتان أحالتا الى التراث على انه المنتج للوعي, الذي بدورة يعيد انتاج الواقع العربي, وهذه القراءة مثالية بقدر ما هي سياسية ( وكل قراءة سياسية تتضمن جانبا مثاليا) بالمقابل اقصيت ولحد كبير المحاولة الجدية لقراءة الواقع العربي. وهكذا بقيت فكرة ان الوعي العربي ليس الا استمرارا, ان بشكل أو آخر, للتراث العربي هي السائدة, ومغيبة امكانية أخرى وهي ان الوعي العربي الحالي انما هو نتاج حديث لواقع جديد تشكل منذ مئتي عام, وهكذا لا يكون ابن تيمية سلفا لابن لادن مثلا.
هذه القراءة للتراث والتي عظمت من دور الوعي في انتاج الواقع ودور التراث في تشكيل هذا الوعي, ارتبطت بالتراجع الفعلي لحجم القوى في صراعها المادي (الواقعي) فبقدر ما تراجعت قوى التغيير العربي حولت صراعها الى ساحة الوعي وابتعدت عن البنى المادية للمجتمع من ناحية, ومن ناحية أخرى حولت الهدف الى طابع أكثر عقلانية, وهو تثوير الوعي العربي, ثم النهضة, وهذه الأهداف ليست معقلنة الا بقدر ضعف هذه القوى وتبنيها لأهداف أضغر حجما من أهدافها عند الانطلاق.
تطور شكل قراءة التراث ارتبط بتطور سياق الهزيمة, وهذه الفكرة هي المحورية هنا, ولكنها لا تعني ان فكر ما قبل الهزيمة كان عقلانيا , انما أن قراءة التراث لم تكن مطروحة كمسألة علمية بقدر ما كانت مسألة سياسية, ومفهمتها للتراث,أي صياغته مفهوميا, لا تحيل الى التراث بقدر ما تحيل الى السياق الواقعي لقراءة التراث, هذه المسألة هي التي ستساعدنا في استكشاف مسألة الحداثة في المحاولات الحالية للانتلجنسيا العربية.
الحداثة كما تحيل اليها أغلب الاقلام العربية لم تكن هي الأخرى مسألة جديدة, فقط المفهوم الذي وضعت تحته كافة الخصائص والمهام والمفاهيم التاريخية والتي كانت قوى التغيير العربي على وعي بها,لكنها لم تكن تحت اسم الحداثة, انما استخدمت تعابيرأخرى للدلالة عليها مثل الثورة الوطنية الديمقراطية, الثورة البرجوازية, المرحلة الأولى من الثورة, التحويل الاشتراكي....
أسماء متغايرة, اختلفت باختلاف فهم هذه القوى لسياق الثورة, هل هي ثورة دائمة أم ثورتين متلاحقتين؟ وأهمية كل من هذه الثورتين وقيادة أي من الطبقات أو شكل التحالف الطبقي الذي سيتولى المهمة؟
الحداثة هي وعي المجتمع البرجوازي الحديث, لكن سابقا وفي السياق العربي لم تستخدم هذه المفردة للتدليل عليها, وقد استخدمت مفردة الثورة للاحالة الى العملية التي سيتم في نهايتها تحقيق الحداثة بما تتضمنه من ديمقراطية أو علمنة أو مواطنة وهلم جرا. طبعا هناك اختلافات على فهم الديمقراطية أو شكل الدولة الوطنية, لكن هذه الخلافات لم تكن لتمس جوهر المسألة ,أي الوعي الحداثي, بقدر ما تعلقت بالسياق التاريخي لطرح المهمات, ومن ناحية ثانية باختلاف موازين القوى الواقعية للفاعلين الاجتماعين في السياق الراهن عنه في الفترة السابقة.
الثورة تفترض دوما قوة كبيرة, مع تقدم الطبقات الوسطى ودخول الجيش (الوطني) الى المجال السياسي وتوسيعه القسري, امتلكت الفئات التي يفترض انها تحمل مشروع التغيير الوطني الديمقراطي (الحداثي بالتعبير الراهن) الى مقدمة المسرح واستطاعت أن تحقق انتصارات في أماكن مختلفة أهمها ادخال الشارع الى مجال الفعل السياسي وكسر احتكاره من قبل قلة, تأميم الأرض وتحطيم الطبقات القديمة, فالناصرية كأكثر التعبيرات عن قوى التغيير العربي استطاعت انجاز الديمقراطية الاجتماعية وادخال الجموع الى المجال السياسي, أي خطوة متقدمة في حساب الديمقراطية. فهذه القوى وانطلاقا من تمتعها بالقوة الفعلية طرحت مسألة الثورة.
لكن مع الهزيمة تراجع ميزان القزى قليلا وبدأ اكتشاف الضعف,فكانت قراءة التراث ولتنتهي فيما بعد وتحل مكانها مسألة الحداثة
الحداثة ولهذا السبب ليست تطورا للفكر العربي انما انحطاطه التام, هي الانعكاس لنهاية تطور الهزيمة لتصيح اشبه بالمستنقع. فهو قد قطع صلته بمسألة التغيير ودفع بانفصال الوعي عن الواقع الى اقصاه, ليصبح هو الانعكاس للفكر الاسلاموي كشكل آخر لانحطاط قوى التغيير العربي و نهاية تطور سياق الهزيمة. كلاهما يقدم قراءة وهمية للواقع وينتهي الى تفسيره بالوهم, يحيل الى ما يجب أن يكون دون اهتمام بما هو موجود, نحن متخلفون لأننا لسنا كذلك (اوربا للحداثيين, وفترة الاسلام الأول للاسلاميين), بمعزل عن السؤال عن واقعية ما هو واجب, او كيف نحققه.
اننا ننهزم لأننا نؤمن بكذا وسننتصر عندما نؤمن بكذا, هذه هي القراءة المشتركة بين الحداثيين والاسلامييين, فقط كذا الاولى عند الحداثيين هي كذا الثانية عند الاسلاميين والعكس صحيح
ما هو موجود , ما هو عياني غير موجود بالنسبة الى كليهما الا للشجب و الرقض. والمسألة تأخذ عند الليبراليين الجدد الشكل الأقسى لفصام الوعي عن الواقع, فالحداثة تصبح دينا مضادا يمكن بواسطته تحديد الأتباع, أو المؤمنين في شراكة روحية تمتلك حدود صارمة تفصلهم عن الاخرين, و الايمان بالدين (أو الوعي وهما ذات الشيء بالنسبة لليبراليين) يفسر كل الأمور
تغيير الوعي تصبح هي المهمة المطروحة على الحداثيين, دونما احالة الى تغيير الواقع المادي (الا اذا تدخلت الولايات المتحدة في الأمر) تغيير المناهج الدراسية هي المسألة الموجودة دوما. السبب هو انعدام الثقل الواقعي لهذه القوى, ضعفها يجعلها تطرح جميع المسائل على مستوى الافكار, عندها تتصور نفسها تطرح خصمها أرضا وتقضي عليه, سياقها يشبه السياق الذي حلله ماركس للايديولوجيا الالمانية, تخلف اجتماعي واقتصادي وقومي, وضعف القوى التي ترغب بالتغيير واصطدامها بالواقع العنيد على أية محاولة, يدفعها الى صياعة صراعها على مستوى الايديولوجيا ولتنتصر على مستوى الايديولوجيا.
لكن هذه القراءة هي حصرا قراءة ايديولوجية, مزيفة للواقع, فهي تخلق واقعا افتراضيا على مقاسها, يسوده الظلام فيما تحمل هي شعلة الحرية والنور, وهي لا تحمل من أشلاء فكر الثورة العربية الا رسوليتها.
الفكر الحداثي العربي ليس فكر للتغيير, انما انحطاط وتفسخ فكر التغيير, لايحيل الى الثورة, ليس بسبب عقلانيته, انما لضعفه ولا عقلانيته, لا يحيل الى الواقع لأنه غير قادر على مصارحة نفسه بالحقيقة وخاصة ان الحداثيين ينحدرون مما يمكن اعتباره النخبة التاريخية في المجتمع العربي, وهم يملكون من المؤهلات والامكانيات ضمن السياق العالمي أكثر بكثير من متوسط المواطن العادي, أي انهم يحيلون الى امكانية نخبوية ذات دور تابع في السياق العالمي, ونخبة سابقة ذات تاريخ الهزيمة الطويل على السياق العربي. هم نخبة لكنها متفسخة ومنحلة.
مسألة أخرى تدفعهم الى الابتعاد عن الواقعية كونها تتعاطى مع الدولة الوطنية, والتي ولدت داخل الفكر الحداثي ولم يكن انحطاطها الا انحطاط لهذا الفكر ذاته. فالدولة العربية الحديثة ليست وريثة الخلافة الاسلامية, انما دولة التنظيمات ذات الارث الاستعماري (الاوربي الحداثي) أو الوطني الثوري (المحلي الحداثي) وقراءة واقعها وتاريخها هو قراءة للتفسخ الذاتي, ولهذا يتعاطون معها شبهة, فهي مسروقة اما من لصوص أو من الارث الظلامي.
الحداثة (أوالثورة الوطنية الديمقراطية) ليست أمرا سيئا بحد ذاته, انما تطورها العربي هو الذي يهمنا. كيف تحولت أشكال وعي قوى التغيير العربي وصاغت مفاهيمها وضمن هذا السياق يحيل فكر الحداثة الى فكر الهزيمة. والفكر الحداثي (وكذلك مسألة اعادة قراءة التراث) لا يحيل الى أهدافه العلنية أو موضوعاته ( التراث أو تشريح الوعي التقليدي ) انما الى الصراع الاجتماعي الواقعي للقوى الاجتماعية وتطور أشكال الهيمنة والاقصاء والصراع, بل ان فكر الحداثة تحديدا يصبح موضوعا بشكل تام. فقراءتنا للاعمال التي استكشفت التراث لا تفيدنا بمعرفة التراث وحسب, انما اكتشاف تطور وعي النخبة الحديثة بالتراث وبالتالي لهيمنتها وصراعها المادي في مجتمعها الواقعي, وكذلك القراءة الحداثية, فهي لا نساعدنا بالمرة في معرفة واقعنا, بل معرفة تطور هذه القوى وصراعها الواقعي.
ومن هنا أرى أن فكر الحداثة كانحطاط لفكر الهزيمة, لايساعدنا على الخروج من واقعها. بل عبر تجاوزها كفكر للهزيمة ومحاولة وعي الواقع الفعلي للمجتمع العربي وصراعاته الحقيقية واكتشاف وعيه, وليس عبر احالته الى تراث ظلامي أو تقليدي .... بل كوعي حديث نتاج بنية حديثة مدمجة في النظام العالمي , وله جذور في التراث أوالتقاليد. عندها سنرى ربما صلات القربى بين أناس لطالما افترض ان ما يبعد بينهم غير قابل للعبور, وربما احالة الحداثة الى وعي ديني, أي وعي منفصل تماما عن الواقع, كما هو الوعي الديني (بشكل عام ) العربي اليوم يحيل الى مسألة الواقع العربي وشكل اندماجه في النظام العالمي بطريقة تستدعي هذه الأشكال من الوعي أو اغتراب الوعي التام, ولكن هذا موضوع آخر
#هكتور_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟