"الوصايا العشر" إلى الحكومة العراقية القادمة*
لقد مر الشعب العراقي، منذ تأسيس الدولته الحديثة ولحد الآن في مراحل اتصفت بالعنف وعدم الاستقرار السياسي، دفع الجميع خلالها ثمناً باهظاً. ولو أمعنا النظر لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء هذه الكوارث، التي نزلت على شعبنا وفي مختلف العهود، الملكي والجمهوري، لوجدنا أن هناك أسباباً عديدة نذكرها بإيجاز ونقترح الحلول لها، نضعها أمام الحكومة القادمة راجين الأخذ بها من أجل تفادي كوارث الماضي وهدم تكرارها في المستقبل. وهي كما يلي:
1- التمييز بين المواطنين ومكونات الشعب العراقي: لم تعترف الحكومات المتعاقبة بالمساواة بين المواطنين وبين مكونات الشعب العراقي في الحقوق والواجبات. إذ إن هذه الحكومات كانت تمثل القومية الكبرى فقط دون الاعتراف بحقوق القوميات الأخرى المكونة للأمة العراقية. و نتيجة لاعتقادها الخاطئ في إتباع سياسة المحافظة على الوحدة الوطنية، تبنت تلك الحكومات سياسة الصهر القومي للمكونات الأخرى (غير العربية) من الشعب العراقي في بوتقة "الوحدة الوطنية" واستخدمت العنف والقهر والتنكيل والإستلاب لتحقيق هذا الغرض. إضافة إلى سياسة التمييز الطائفي بين هذه المكونات. وكانت النتيجة المزيد من الحروب الداخلية وعدم الإستقرار وتمزيق الوحدة الوطنية ولجوء الحكومات إلى الإفراط في المركزية وإضطهاد الآخرين لفرض سياساتها بالقوة والقمع.
ومن نافلة القول أن بلغت سياسة التمييز العرقي والطائفي وممارسة العنف والإضطهاد، الذروة في عهد نظام البعث الصدامي الفاشي. ونتيجة لعدم الإعنراف بحقوق المكونات الأخرى للأمة، أدت سياسة السلطة البعثية إلى نتائج معكوسة، أي خلافاً لادعاءاتها أنها تعمل لتحقيق الوحدة القومية العربية، فأعادت العراق ليس إلى ما قبل المرحلة الصناعية فحسب، بل وإلى ما قبل المرحلة القومية، أي إلى مرحلة العشائرية والقبلية، حيث أحيت حكم العشيرة والعائلة، النظام الذي كان سائداً في العصر الجاهلي والذي حاربه الإسلام. إضافة إلى تفتيت النسيج الإجتماعي وتفشي الجريمة بشكل غير معهود في المجتمع العراقي من قبل.
2- زعزعة ثقة المواطن بالوطنية العراقية: ونتيجة لسياسات فرض الفكر الشمولي على الدولة والمواطن ومعاملته على أساس انتماءه الحزبي وليس لكونه مواطناً عراقياً، ومعاملة العراقيين غير الحزبيين كمواطنين من الدرجة الثانية، وتعرض كل أبناء العراق للمظالم، نجح النظام في زعزعة روح المواطنة لدى المواطن العراقي وثقته بوطنه فصار همه الأول مغادرة الوطن إلى غير رجعة.
لذلك نرى من واجبنا كأعضاء في (الحملة من أجل المجتمع المدني وحقوق العراقيين) والمنظمات المدنية العراقية العديدة المساندة لها أن نسترعي انتباه السلطة القادمة أن تعمل كل ما في وسعها لإعادة ثقة المواطن بنفسه وشعوره بإنتمائه الوطني العراقي، وذلك بنبذ سياسة الفرض الفكري والسلوكي الشمولي وعدم التمييز بين المواطنين على أساس أفكارهم وانتماءاتهم بل على قدر كفاءاتهم وخلق البيئة الصحية للمواطن في توفير الأمن والخبز والمأوى والحرية والإتزام بحقوق المواطنة الأساسية.
3- الدستور: لقد عاش العراق مرحلة طويلة بدون دستور دائم. وهذه الحالة خلقت وضعاً شاذاً في البلاد لما يقارب من نصف قرن. يجب أن يعترف الدستور القادم المؤقت و الدائم بحقوق المواطن الكاملة وبحقوق جميع مكونات الشعب العراقي الأثنية والدينية والمذهبية بالتساوي ودون أي تمييز في الحقوق والواجبات فيما بينهم., ومن حق أي عراقي وعراقية الترشيح لأي منصب في الدولة، بما فيها رئاسة الحكومة، دون أي تمييز، والعمل بمبدأ الكفاءة والشخص المناسب في المكان المناسب وتكافؤ الفرص للجميع كمواطنين عراقيين.
4-الألتزام بالدستور، سواءً المؤقت في المرحلة الإنتقالية، أو الدائم في مرحلة الحكومة البرلمانية المنتخبة. فمن قراءتنا للتاريخ، علمنا أن كان في العهد الملكي دستور دائم جيد وعادل نسبياً إذا ما أخذنا في نظر الإعتبار المعايير السائدة في تلك المرحلة من تاريخ العراق وهو ينهض من ركام قرون من الدمار والتخلف منذ غزو هولاكو عام 1258 وحتى تأسيس دولتنا العراقية الحديثة عام 1921. فكان ذلك الدستور يرقى إلى دساتير الدول العريقة في الديمقراطية. ولكن الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي هي التي كانت تتجاوز على الدستور بإستمرار، فكانت تزيف الإنتخابات وتسيطر على البرلمان وليس العكس. ونتيجة لهذا الخلل، فقد الشعب ثقته بالمؤسسات الديمقراطية واستهان بالدستور والإنتخابات والبرلمان، الأمر الذي دفع الأحزاب الوطنية إلى تبني سياسة العنف والإنقلابات من أجل التغيير المنشود. وقد أدى هذا الوضع إلى عدم الإستقرار وانفجار إنتفاضات ووثبات ولجوء الأحزاب إلى تسييس القوات المسلحة واسخدامها كأدات ضاربة ومنفذة لتحقيق أغراضها السياسية عن طريق الإنقلابات العسكرية. لذا فالعبرة ليست بوجود دستور دائم فحسب وعلى أهميته، بل دور الدستور في الحياة والعمل به، وليس المهم إجراء الإنتخابات بل الحفاظ على نزاهتها والقبول بنتائجها. وكذلك البرلمان يجب أن يكون هو المسيطر على الحكومة وليس العكس.
صحيح أن تلك السياسات كانت خاضعة لشروطها الزمنية والأمور مقرونة بأوقاتها كما تفيد الحكمة، ولكن في زماننا هذا، وبعد كل هذه الكوارث التي نزلت على الشعب بسبب الديكتاتورية، وتصاعد المد الديمقراطي في العالم، وتبني القوى السياسية العراقية للديمقراطية والإعتراف بحق الإختلاف والتعايش السلمي بين جمييع المكونات حتى مع الإختلاف، لذا نعتقد أن السبيل الوحيد لوضع حد لدورات العنف هو تبني الحقوق الدستورية للمواطن وممارسة الديمقراطية الحقوقية من قبل السلطة القادمة والإلتزام الكلي بها وبالمؤسسات الدستورية.
5- الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية ومن المفيد التأكيد على أنه يجب أن تكون السلطة التنفيذية خاضعة للمحاسبة والمراقبة من قبل السلطة التشريعية ومنظمات المراقبة للمجتمع المدني و الاعتراف باستقلال القضاء الذي حاولت السلطات وخاصة البعثية مسخه وإخضاعه لإرادة سلطة الحزب الحاكم وأيديولوجيته.
6-حرية الصحافة والتعبير: يجب أن تتمتع الصحافة (السلطة الرابعة) بالاستقلالية والحياد المهني لتكون العين الساهرة والرقيبة على سلوك الحكومة والمؤسسات والناس لفسح المجال للنقد البناء وكشف أخطاء المسؤولين. فبدون نقد لا يحصل التقدم. وهذا يعني إطلاق حرية التعبير والتفكير للمثقفين وشغيلة الفكر من أجل نشر الفكر التنويري والتعويض عن الزمن الضائع في عهد الديكتاتورية التي صادرت حرية التعبير وأممت الصحافة، الرئة التي يتنفس منها الشعب. ولذلك فحرية الصحافة والتعبير في منتهى الأهمية من أجل نشر الثقافة الإنسانية والعمل على إعادة ثقة الإنسان العراقي بنفسه وبوطنه والإطلاع على ما فاته من التطور في مختلف مجالات الفكر والمعرفة في عهد الظلام والعزلة عن العالم.
7-الاستفادة من أصحاب الاختصاص: لا شك أن السلطة القادمة ما بعد النظام الصدامي ستواجه إرثاً ثقيلاً من المشاكل السياسية والإجتماعية والإقتصادية. وهذه التركة لا يمكن حلها بعصا سحرية بين عشية وضحاها، بل تحتاج إلى حكمة وخبرة ودراية بالأمور إضافة إلى الصبر والروية. ولا يمكن أن تتوفر للشخص الواحد مهما أوتي من علم ومعرفة أن يلم بكل شيء، لذلك نهيب بالسياسي الذي يتبوأ منصباً عالياً في السلطة التنفيذية أن لا يفرط بخبرة التكنوقراط. إذ يتعين على المسؤول الحكومي أن يحيط نفسه بأصحاب الخبرات من ذوي الإختصاص، ويتخذ منهم مستشارين ليستفيد من خبرتهم في حل المشاكل في مجال مسؤوليته.
8-معالجة مشكلة الفقر: كانت الطبقة الوسطى تشكل الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي ويتمتع بمستوى معاشي لائق. ولكن حروب النظام العبثية وسياساته العشوائية قد دمرت الإقتصاد الوطني وقضت على الطبقة الوسطى وأحالتها إلى طبقة فقيرة معدمة. لذلك فالفقر من أهم المشاكل الإجتماعية التي ستواجهها الحكومة القادمة. وقد أثبتت التجارب أنه من الصعوبة بمكان تحقيق الديمقراطية والسلام الإجتماعي في مجتمع يسوده الفقر الشديد.
لذلك نهيب بالسلطة القادمة أن تولي الناحية الإقتصادية أهمية بالغة، وتسارع في معالجة الفقر المتفشي في المجتمع العراقي وتجعل حل هذه المشكلة من أولوياتها. ومن حسن الحظ أن العراق يتمتع بثروات طبيعية هائلة وإمكانيات وخبرات بشرية كبيرة، لذلك فلو توفرت السياسات العقلانية والنوايا الصادقة في معالجة التركة الثقيلة التي يخلفها النظام البائد، فمن الممكن تحقيق مستوى معاشي لائق للعراقيين والعيش بكرامة وحل هذه المعضلة في فترة قصيرة نسبياً.
9- نشر ثقافة تنمية روح المواطنة والديمقراطية وروح التسامح: السلطة القادمة مطالبة بتبني سياسة التصالح والحوار الاجتماعي وتطوير المؤسسات المدنية والدستورية على أسس الديمقراطية. وفي مثل الظروف القاسية التي عاشها الشعب عقوداً طويلة من الظلم والجور في ظل الديكتاتورية، فنتوقع أن تحصل تجاوزات على سلام وأمن الأفراد والمجتمع وتهديد الوئام الاجتماعي وحريات الناس وحقوقهم. ومن هنا تحتاج السلطة شن حملة إعلامية واسعة مكثفة ومستمرة في جميع وسائل الإعلام، لتثقيف الجماهير بالديمقراطية وكيفية ممارستها ونشر روح التسامح وإزالة أثار الآيديولوجية البعثية الشمولية من المجتمع كما حصل في ألمانيا بعد سقوط النازية. كما يجب عدم استخدام العصا الغليظة إزاء المخالفات الصغيرة، لكي تساعد على إحلال السلم واستقرار الاجتماعي ويتعود الناس على ممارسة الديمقراطية بالتدريج. فمن المعروف أن الديمقراطية هو من الأمور التي يتعلمها الناس ليس بالتثقيف فقط بل بالممارسة ورجال السلطة يكونوا القدوة في ممارستها.
10- النزاهة والشفافية والمرونة: يتعين على رجال السلطة أن يتحلوا بالنزاهة والشفافية والصبر والمرونة، ليس بالقول فقط، بل بالعمل وأن يظهروا للمجتمع نزيهين. ونظراً لما تعرض له المواطن من قهر واستلاب طيلة عهود طويلة، نتوقع من الكثيرين من المواطنين أن يظهروا نوعاً من التهكم والسخرية على الديمقراطية ورجال الحكم وذلك نتيجة لإعتقادهم بوجود حلول سحرية سريعة للمشاكل المتراكمة الكبيرة التي سترثها السلطة القادمة. لذلك مطلوب من رجال السلطة أن يتحلوا بالصبر والنزاهة والشفافية. فقد يكون الإنسان نزيهاً ولكن لا يعرف أحد بنزاهته فيتعرض للإجحاف، لذلك من المفيد له وللمجتمع أن يكشف نزاهته للناس بالممارسة والتطبيق العملي. وهذا مهم له وللمجتمع، حيث يكسب ثقة المواطنين بحكامهم. وهذا يعني التفاني في خدمة المصلحة العامة وتقبل النقد بروح رياضية، وعدم الاهتمام بالمصالح الذاتية وعدم التساهل إزاء جرائم الرشوة والفساد. ولتحقيق هذا الغرض نحتاج إلى صحافة حرة تعمل على مراقبة المسؤولين وفضح المفسدين من أجل حماية المصلحة العامة وكذلك فسح المجال للناس أن يعبروا من خلالها عن مشاعرهم المكبوتة لتكون هذه الصحافة صمام أمان للتعبير عن معاناتهم وما يعانون من ضغوطات نفسية تراكمت خلال عقود طويلة من الكبت والحرمان.
*- كتبت المقالة بناءً على طلب (الحملة من أجل المجتمع المدني وحقوق العراقيين) والتي قدمتها ضمن وثائق أخرى إلى مؤتمر لجنة المتابعة والتنسيق للمعارضة العراقية في مؤتمرها في صلاح الدين أوائل الشهر الجاري.
**-صحيفة بغداد اللندنية
http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliq.html