|
أبواي - من سيرة الغياب
فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة
(Falasteen Rahem)
الحوار المتمدن-العدد: 5979 - 2018 / 8 / 30 - 00:30
المحور:
سيرة ذاتية
أبواي اللذان تعاركا على مقعد قرب النافذة ، كانا يشبهان ولدان صغيران وهما يتناوبان على مقعد يستطيع ان يريهم الارض التي صارت تحتنا ونحن نحلق في سماء مشهد متوجهين الى طهران ،ابواي اللذان أفزعتني شيخوختمهما التي حكت لي كم من الوقت غبت عنهما ، فبديا لي من خلف الحواجز الزجاجية في مطار مشهد كهلين جدا للحد الذي ارتجف قلبي وسقطت مني كلماتي فداهمني خرس موجع ، جعل من موظفة الاستقبال تسمح لي بالعبور صوبهما وهي تحاول ان تستفهم مصدر حشرجة زجاجية طغت على صوتي وانا احاول ان اشرح لها ان العجوزين التائهين واللذين يدوران خلف الحزام المتحرك الذي ينقل الحقائب دون ان يفلحا في إنزال حقيبتها ، ابواي ، لكنه الإحساس الذي ينتقل فجاة من قلب لقلب ، خضها هي الاخرى فخلعت بطاقتها وعلقتها على معطفي وفتحت لي الباب كي ادخل إليهما ، حين ابصرني ابي هدئت حيرته واطمئن لوجودي فرفع عصاه وهو يشتمني ويقول لي ، ليش يا بوية، كانت اقسى كلمة عتب سمعتها في حياتي ، وكانت امي تبكي وهي تراني بعد غياب طال كثيرا الى حد ارتجاف يديها وضعف بصرها لكنها مازالت قادرة على التعرف إليّ . الفندق الذي نزلنا في احدى اجنحته كان متعاطفا مع والداي ، فكان والدي الذي يتحدث اليهم كل الوقت دون ان يفهموا مايقوله جعلهم يكنون له مودة خاصة ، فكانوا يأخرون مائدتنا على الفطور ، لان والداي الذين يفيقا فجرا وهذه هي عادتهما مُذ كنت طفلة ، حيث كانا يفيقان مع نجمة الصبح ، يحضران الشاي وبعد ان ينتهي حديث صباحمها الذي غالبا ما ينتهي بشجار بينهما لموقف مضى عليه ثلاثون أو حتى خمسون عاما ، كانا يدوران علينا لإيقاظنا ، وكثيرا ماكانت امي تصيح بِنَا ، گعدوا شوفوا باب الله ، گعدوا الدنيا صارت ظهر ، في الوقت الذي لم تشرق به الشمس بعد ، والداي الذين غدرت بهما قوتهما دون ان تفقدهما هذا الطقس الفجري ، كانا يحتاجان وقتا طويلا ليصلا الى صالة الطعام ، وكان العمال ينتظرونهم ويجلسون احيانا ليشاركونا المائدة حين يفرغ المكان من الزبائن مستمتعين ومستمعين الى حكايات ابي التي لم يفهموا منها شيئا. امي التي تتسند على عكاز بعد ان نخر السكر عظامها ، تصر ان تلمس بيديها ضريح سيدنا الرضا ، والذي كان الوصول اليه يعني ان تخوض حربا شعواء مع الزائرات اللواتي كن يركلن ويلطمن وينتفن شعر من تمر بينهن ، خفت عليها ان تسقط تحت ارجل النسوة فطمئنتها من انني أستطيع فعل ذلك نيابة عنها ، وأعطتني امي خيطا اخضرا كانت تتحزم به وطلبت الي ان ألقيه في شباك الضريح ، ودخلت بين تلك الجموع ولا اذكر كم من الرفس والضرب والركل احتملت كي أحقق لامي رغبتها ، وحين عدت لأمي التي وجدتها تبكي لانها اعتقدت ان ارجل النسوة داستني ، بكت فرحا لرؤيتي ثم اخرجت خيطا اخضرا آخراً كان تحت ملابسها وقالت نسيت ان اعطيك هذا أيضا انه لخالتك وقد وعدتها ان ألقيه في الضريح ، انا الخارجة من معركة للتو فقدت فيها شالي وأسوارة فضية وانقطعت فيها آزرار معطفي كان يجب ان اعود مرة اخرى ولكني هذه المرة مهاجمة ومتبعة مبدء العين بالعين والسن بالسن ووجدتني أشق بجسدي الصغير جمع النساء الذي يتدافع ويهز المرقد من كل الجوانب ، في الحقيقة زرت من قبل مزارات عدة ، لكن النساء في مشهد متوحشات ، كأنهن يتبارزن والضريح عبارة عّن عرين ، همهن ان يمنعن الراغبين بالزيارة من الوصول اليه ، لم أر نساء عنيفات مثل تلك النسوة اللواتي يفترض إنهن في روضة روحانية لا يسمع لهن صوت ولا يصدر عنهن فعل قبيح . بعد ان أتممت مهمتي للمرة الثانية بنجاح كان علينا أن نعود لابي الذي تواعدنا معه في مكان بداخل الصحن الرضوي ، وهو الساحة التابعة للمرقد ، تاخر ابي فقلقت عليه وبدئت ابحث عنه ، ومرت ساعات اربعه وانا أدور بين المصلين وادخل على أماكن الرجال دون ان اهتم لتنبياتهم وتعليقاتهم بعدم جواز ذلك ، كان الأهم بالنسبة لي ان اجد ابي ، وحين عجزت عن ذلك صرت ابكي مثل طفلة ، تجمهرت حولي نسوة يعملن في أمن المكان ، وتعاطفت معي سيدة شابة برتبة ضابط فصارت تتصل بكل التابعين لها وتعطيهم مواصفات ابي ، ثم جائتنا به بعد اربع ساعات من الرعب وكانت قد قبضت عليه وهو راكعا يصلي عند أعمدة الروضة خارجا ، كان ابي كلما ابصر خطا كوفيا اعتقد ان المكان يعود لولي ما، فلا يتركه حتى يصلي لصاحب المرقد، وكانت مشهد تغص بالأعمدة والمخطوطات الكوفية . ابي الذي خشيت ان أفقده في اَي مكان كتبت له معلومات على ورقة ووضعت له بطاقة تعريف بمكان الفندق الذي نقيم فيه كإجراء احترازي ، وطلبت اليه فيما لو حدث اَي شي ان يستقل أية سيارة اجرة ويعطيهم فقط بطاقة التعريف وهم سيتولون الامر ، ابي لم ينتظر ان يحدث الامر صدفة ، فكان ان استغل فرصة خروجنا لمكان للتنزه فتركنا من اجل الصلاة ولَم يخرج من المسجد القريب ولَم يعد ابي ، فعرفت ان يوما شاقا ينتظرني ، فقررت اعادة امي للفندق اولا كي اعود للبحث عنه وكانت المفاجاة اني اول دخولي للفندق فإذا بعامل الإستعلامات يقول لي لقد عاد والدك ودفعت له اجرة التكسي التي أقلته الى هنا ، وضحكت ملء قلبي حين عرفت ان ابي ومن باب التجربة والاختبار قرر ان يعيش الموقف مجددا ويرى ان كان سينجح التدبير الذي فكرنا به لو حدث وضاع مرة اخرى . ابي الذي كان يفر من بائع الفواكه المجففة الذي يجبره على تذوق المشمش والإجاص المجفف، والذي كان يعلق بفك الأسنان المتحركة الذي يستخدمه ابي لمساعدته في المضغ ،فلما علقت الأجاصة بفكي ابي فاشاح بوجهه للجهة الاخرى ليتسنى له نزع فكيه وإزاحة ماعلق بهما ، وكان صاحب المحل يظن ان ابي يبحث عّن صنف اخر من الفواكه المجففة ، فيدور من الجهة الاخرى مواجها لابي وهو يحمل بين كفيه أصنافا جديدة ، ولما كان ابي غير قادرًا على الكلام كان يطلب الي ان أساعده ، فيما كنت اغص بالضحك حد البكاء وان أتلقى شتائم ابي لصاحب المحل الذي يركض خلف ابي ويطلب اليه ان يتذوق ألمزيد وهو يقولها بعربية فارسية ( حجي زووق ، زووق) ابي الذي اصر ان يعود الى النجف يوم الأربعاء كي يمكنه حضور مشهد الاربعينية هناك ، كان قد اشترى حذاءا جلديا إيراني الصنع ، وجهاز هاتف جديدا وكان سعيدا جدا وهو يدور معي في قم التي أقمنا فيها يومين ، كنّا نبحث عّن مطعم بمواصفات يحددها ابي لنأخذ طعامنا الى امي التي تركناها في الفندق ، كان ابي خفيفا جدا ومرحا وهو يكتشف ان أهالي قم يتحدثون العربية بشكل أفضل من اهل طهران ومشهد ، وكان يفرح جدا حين يرى الحسد والغيض بحسب تعبيره يتطاير من عيونهم وهو يتحدث عن أرضه وبيته في الكوفة التي يعتبرونها اطهر بقعة على الارض كما كان يفهم من حديثهم . ابي الذي ودعته في مطار طهران ، ظمني بحنان وهو يطلب الي ان اعود معه ولو لأسبوع ، كانت اخر كلماته ان قال لي قد لا اراك مرة ثانية قالها وهو يتبع كرسي امي المتحرك الذي تدفعه مساعدة تم استأجارها لمساعدتهم على الوصول لمقاعدهم على متن الطائرة التي اعرف إنهما سيتخاصمان حال دخولهم اليها حول الجلوس على المقعد المجاور للنافذة ، في الوقت الذي بقيت جالسة في صالة المطار الى ساعة وصولهما بيتنا هناك حيث جززت أيامي وذاكرتي وبقيت بلا انتماء ، أفكر في كلماته الاخيرة وفِي عدد السنوات التي مضت والتي ستمضي دون أراه مجددا.
#فلسطين_اسماعيل_رحيم (هاشتاغ)
Falasteen_Rahem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عرب الصغيرة وأم سالم- من حكايات الحي القديم
-
مومس - من حكايات الحي القديم
-
عرس - من حكايات الحي القديم
-
معسكر التدريب - من حكايات الحي القديم
-
الشامية ووردة الدار -من حكايات الحي القديم
-
كابينة الهاتف - من حكايات الحي القديم
-
الجيران - من حكايات الحي القديم
-
من حكايات الحي القديم
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|