|
بلزاك..(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب والسياسة (2)
ماجد الشمري
الحوار المتمدن-العدد: 5971 - 2018 / 8 / 22 - 21:20
المحور:
الادب والفن
كان بلزاك أميناً جداً و صادقاً في عرضه السردي لماهية و طبيعة المجتمع الفرنسي: أجتماعياً - اقتصادياً و سياسياً من خلال نتاجه الادبي - الروائي الواقعي المشخص نقدياً ، و لم يكن راغباً لا بتجميله و لا امثلته بخيال مجنح . فقد دون روائياً و بحرفية فذة كل تفاصيلها الدقيقة حتى التافه منها، و عكسه بكل قبحه و لا انسانيته. و قد لمس انجلس ذلك ايضاً بادراكه أن بلزاك أدان ارستقراطيته الغالية الغاربة بوعي و رغم انفه! . و التي :" تعتبر احدى الانتصارات الكبرى للواقعية " - على حد قول انجلس - فبلزاك كان اقرب لباحث منه لأديب روائي . باحثاً في مختبر المجتمع يسعى لاقصى قدر من الدقة العلمية في وصفه لظواهر عيانية ملموسة و مدروسة بتجرد علمي و حياد محض ، بعيداً عن العواطف و الهوى . و هذا ما وصف به بلزاك نفسه، فهو يرمي لكتابة :" فلسفة لطبيعة المجتمع". كما انه اراد ان يصبح :" عالم الطبيعة للرواية ". او كما وصفته الكاتبة ( جورج صاند) قائلة :" انه اراد ان يكون ناسخاً فقط، و مخلصاً في تسجيله الى اخر حد " . أو كما قال هو يوماً معلناً عن طموحه :" لو كان المجتمع الفرنسي كاتباً للتاريخ ، فسأكون السكرتير فقط " . لم يكن بلزاك يهدف لكتابة ملحمة أو تأليف سيمفونية أو ابداع كوميديا او تراجيديا ، بل كان كل طموحه ان يكون مجرد ناسخاً للحقيقة ، و مرآه جلية تعكس صورة الواقع الفرنسي بكل عريه و فظاظته. فهو لم يكن يعير وزناً لمكانته كأديب ، و ما كان عليه ككاتب روائي أن ينزع لصقل اسلوبه و لغته البيانية . فقد أرسل لشقيقته لور دي سورفيل مخطوطة روايته ( طبيب القرية) لتقوم بتنقيحها لغوياً و أسلوبياً قائلاً لها: " لو أمكن كتابة جملتين في جملة واحدة ، فأرجوا ان تحاولي تركيب الجملة من جديد" . فلا الموهبة ، و لا التمكن من الكتابة الادبية ، و لا البلاغة اللغوية ، و لا الشكل الادبي الرفيع المتميز ، كل هذا لم يشكل هماً أو قيمة او قلقاً لديه بقدر ما كان يبغي الدقة لحد التزمت في نقل ادق التفاصيل للواقع المعاش ، و حيثياته حتى الهامشية منها بأمانة نقل فوتغرافي، و الغوص في أغواره العميقة ، و بسط الخفايا السايكلوجية لشخصياته الغنية و المتنوعة و كشف بواطنها ، و فضح ما تخفيه . هذه هي حقيقة ادب لزاك ، و ما كان يؤمن به كرسالة خاصة به كمؤرخ و عالم نفس و فيلسوف في الطبيعة الشخصية و السلوكية للبرجوازية الفرنسية . فهو كان المستكشف الدؤوب لجوهر العمل السردي ، و الذي لم يكن يتبع فيه منهج و نمط المدرسة الطبيعية في الرواية كما هو الحال لدى أميل زولا، فهو لم يكن معنياً أو مهتماً بسرد قصص الحب و الفضائح الملكية و الشذرات التاريخية و الفولكلور و الحكايا الشعبية ، بقدر ماكان يسجل بحياديته الحقائق الاجتماعية العامة المستترة و السافرة ، برصدها و تسجيلها و كأنها نسخ توثيقي أمين لمجريات دراما حيوات شخصياته البرجوازية الحية في البيوت و داخل المكاتب و الغرف الخاصة ، و هو حاضر معهم كمراقب صارم يدون ما يراه!. فهو يقول في مقدمة :" الكوميديا الانسانية " :" لابد للمجتمع ان يحمل في داخله قانون حركته كما هو معروض ". هذا المجتمع الذي كان يمور بالحراك و التغيير المتصاعد و يخضع في علاقاته المتناقضة و صراعاته و تأثيراته على الافراد و الطبقات ، و شرائح من الطبقة الاجتماعية البرجوازية المسيطرة ، و مستجدات العلوم و التطور التكنلوجي و تطبيقاته الصناعية ، فيصهر كل هذا في مرجل الرواية لتخرج معبرة بموضوعية كوثيقة تاريخ ، و وقائع زمنية لتلك المرحلة التاريخية المهمة و التي عاشها المجتمع الفرنسي. و كل هذا كان مركزاً و مكثفاً في مضامين رواياته كلها . و ما ان ادرك بلزاك ان مخططه لتنفيذ مشروعه الادبي الكبير - انتاجه الروائي - لتأرخة حقبة غنية من تاريخ البرجوازية الفرنسية و سيروريتها التي تبدو بلا نهاية في النصف الاول من القرن التاسع عشر المحموم، و ان عناصر عمله السردي العملاق و المتلاحم لايمكن اعتباره عملاً متكامل الوحدة و ناجزاً كلياً ك " الكوميديا الانسانية" حتى حاول - و لكن دون ان يفلح - ان يقسم عمله الروائي الى " فصول من الحياة الخاصة " و " فصول من الحياة الباريسية " و " فصول من الحياة العسكرية" .. الخ من اسماء و عناوين لتلك الفصول شبه المستقلة في موضوعاتها ، و ظل هذا التقسيم المتعمد لأوجه و عناصر مشروعه منزلقاً لا يركن لثبات نهائي ، لأن بلزاك كان دائماً ما يغير في تلك العناوين الفصلية مع كل طبعة جديدة لرواياته المنشورة . فقد كان شيئاً بالغ الارباك و التشتت أن تقرأ عن الحياة العسكرية دون الالتفات أو الربط مع الحياة السياسية ،او الحياة الخاصة و العامة . فكل الجوانب و الظواهر المجتمعية كانت ملتحمة و مترابطة دون فكاك . و كما يتعذر مثلاً : فصل علم الاجتماع عن الفلسفة و علم النفس ، او الفيزياء عن الكيمياء ، و البايولوجيا عن الفيزيولوجيا ، كان الامر كذلك في الحياة الاجتماعية ، الاقتصادية و السياسية ...الخ . كما ان بلزاك لم يترك اي ثيمة أو موضوع الا و طرقه متناولاً اياه بتفصيل و تفحص و امعان ، و جعل فيه مادة للتشريح و العرض مهما كان محرماً او منفراً أو لا اخلاقياً أو مرفوضاً في عرف و تقاليد مجتمعه و ثقافته السائدة فنجده في رواية " سارازين " يحلل بدقة و فطنة قضية الشذوذ الجنسي !. و في رواية " الفتاة ذات العيون الذهبية" يعالج موضوعة السحاق!. و في رواية " ابنة العم بت " عرض لسايكولوجيا الشبق الجنسي و الاثارة المجنونة!. و في روايتي " عائلة مزدوجة" و " الزنبق في الوادي" كشف خبايا و اسرار المخدع الزوجي و الخصوصيات الحميمية !. و كان لا يتورع في الغوص عميقاً في خفايا و مجاهيل الانحراف و الشذوذ و الممارسات و الحالات غير الطبيعية ، و غير المعروفة او المستساغة في المجتمع الفرنسي ليجعل منها موضوعاً و مادة لنص ادبي يكتبه سريعاً . لم تكن هناك محددات أو عوائق تردعه عن الجرأة في انتهاك كل التابوات أو المقدسات و التقاليد الاجتماعية القارة ، و التي تميز والتزم بها ادبياً و فكرياً أدباء ك : مارسيل بروست ، فيكتور هيجو، غوستاف فلوبير ، اندريه جيد. فبلزاك كان رجل علم و مختبر الواقع بكل مفاصله و خفاياه ، فهو عد رواياته بمثابة بحث علمي دقيق بارع في سرده الوصفي ، و عميق في شرحه لمظاهر الحب الفيسيولوجية و النفسية . و هذا مادعى جورج صاند لوصفه ب " العجوز الوقح" !. و لكن هذه المميزات الفريدة لدى بلزاك لم تكن طبعاً رذائل لا اخلاقية ، او خروج عن المعايير الاجتماعية ، او مرضاً نفسياً ، او شذوذ في التفكير و الذهنية لديه . و لكنها بكل بساطة واقعيته المتطرفة في نقل الواقع بكل مافيه من غرائبية تفوق الخيال وتصدم ببريتها الاذواق المرائية و المنافقة . فبلزاك كان مستعد للتخلي عن حياته المستقرة و عن عشيقاته اذا ماتطلبت الضرورة مقابل التفرغ لعمله السردي و اختزالها-حياته- في الكتابة فقط!.. ........................................................................................................................................................................... يتبع.. وعلى الاخاء نلتقي...
#ماجد_الشمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بلزاك(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب وال
...
-
(الديستوبيون)....وعرض(الفارس)الانتخابي!
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(7-الاخير)
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(6)
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(5)
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(4)
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(3)
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(2)
-
(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(1)
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
حول مقتل كيروف/الحقيقة السامة ولعبة تلفيق الاتهامات!!!
-
رسالة لينين الى المؤتمر/ اضواء على الوقائع التاريخية الكاملة
...
-
رسالة لينين الى المؤتمر/ اضواء على الوقائع التاريخية الكاملة
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
-
فيورباخ-ماركس-فرويد...والاغتراب/تداعيات اغتراب ذاتي خارج الن
...
المزيد.....
-
تردد قناة الزعيم سينما 2024 نايل سات مشاهدة احدث افلام عيد ا
...
-
جبل الزيتون.. يوميات ضابط تركي في المشرق العربي
-
شوف ابنك هيدخل كلية إيه.. رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2024 ب
...
-
LINK نتيجة الدبلومات الفنية 2024 الدور الأول بالاسم ورقم الج
...
-
رسمي Link نتيجة الدبلومات الفنية 2024 برقم الجلوس والاسم عب
...
-
مشاهدة مسلسل تل الرياح الحلقة 127 مترجمة فيديو لاروزا بجودة
...
-
بتقنية الخداع البصري.. مصورة كينية تحتفي بالجمال والثقافة في
...
-
ضحك من القلب على مغامرات الفأر والقط..تردد قناة توم وجيري ال
...
-
حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
-
فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
المزيد.....
-
خواطر الشيطان
/ عدنان رضوان
-
إتقان الذات
/ عدنان رضوان
-
الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد
...
/ الويزة جبابلية
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
-
سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان
/ ريتا عودة
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
المزيد.....
|