أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فلسطين اسماعيل رحيم - كابينة الهاتف - من حكايات الحي القديم















المزيد.....

كابينة الهاتف - من حكايات الحي القديم


فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة

(Falasteen Rahem)


الحوار المتمدن-العدد: 5966 - 2018 / 8 / 17 - 17:07
المحور: سيرة ذاتية
    


كان الأسفلت في الصيف يشوي أرجلنا الحافية، ونحن نحاول المهادنة والمبادلة مع حرارة الشمس التي ذوبت أسفلت الشارع ، فنمشي تارة على اطراف أصابعنا فقط ومرة على كعوب اقدامنا من اجل إعطاء فرصة لأجزاء من أقدامنا الناعمة لتبرد قليلا ، وهكذا نظل نمشي مشية الغراب حتى نصل كابينة الهاتف العمومي المنتصبة قرب بناية استعلامات المعهد الفني ، مركونة بجانب البوابة الحديدية التي كنت معجبة بها جدا ، اذ ترتكز على عجلات ، واقصد البوابة ، ويتم دفعها دفعا أو تشغيل محركا كهربائي يقوم بنفس الغرض ، لكن سحرها يكمن في انها لم تكن بابا عالية أو جدارا حديدا ، كانت تشبه خرسانة حديدية متوسطة الحجم ، معشقة من داخلها ، مايتيح رؤية القادم ومخاطبته أيضا ، كان الصوت الذي تصدره عند الفتح والغلق يأسرني، في الواقع كانت هناك بوابتين، واحدة لمدخل الطلبة والموظفين الى المعهد ، حيث الأقسام الموزعة الكثيرة، وواحدة خاصة بسكان الدور السكنية ، والتي يعقبها باب اخر عبارة عن شبك حديدي اسود اللون ، ومن هنا صارت الباب السودة تعني مدخل الحي السكني ، والتي طالما كان يربض بالقرب منها قطيع كلاب سائبة وشرسة ، كنت أعاني كثيرا حين أقطعها بمفردي ، وخاص اذا كنت على ظهر عجلة اخي الهوائية والتي كثيرا ما كنت أسرقها خلسة لأذهب في جولاتي الى حدود لم أعي انها بعيدة جدا، في الحقيقة كنت اسرق دراجة اخي لانها الدراجة الوحيدة المسموح لي بركوبها ، فدراجة أخي الكبير عالية جدا، وكثيرا ما يضع لها قفلا حديديا ، في حين تبقى دراجة عمار محط منافسة بيني انا وأشقائي الثلاثة عقيل وعمار وفداء ، وسعيد من يحظى بوقت للمرح عليها دون ان يشترطوا عليه وقتا ، ويقفوا بانتظاره ، وكان بطبيعة الحال من ينهي أعماله باكرا هو من يستمتع بها اكثر ، خصوصا في فصل الصيف الذي تكثر به اعمال البستان ، فكنت أفيق باكرا من اجل إنهاء حصتي من لگاط(جني) التمر ، وجمع الحطب ، كي يتسنى لي بعدها ان اهب جسدي للريح ، وانا أطير على ظهر دراجة هوائية وأحلم بالعوالم التي تأخذني اليها مخيلة طفلة في العاشرة من عمرها .
مُذ اكتشفنا كابينة الهاتف العمومي في الحي الجديد، صار للدراجة الهوائية منافس، فصرت ادخر بعض الدراهم من بيعي للتمر من اجل الهاتف العمومي ، ويالبئس حظي لو لحق بي اخوتي ، فانهم سيقلقون متعتي ويستنفذون دراهمي بسرعة ، وكثيرا ما كان يحصل ذلك ، وخاصة عمار وفداء .
الهاتف كان عالما مختلفا ، أصواتا شتى لا نعرفها ، نحدثهم ونزعجهم، ونقلق ظهيرتهم، كان بعض الأصوات لطيفا يظل يشاكس عبثنا لطفولي ذاك ويستدرج أحاديثنا لعله يصل لمن سلطنا عليه، وكثيرا ما كانت الفتيات تفعل ذلك ، ظنا ان معجبا سريا يقف خلف هذه الثرثرة التي تعتبرها باب نصيب قد يجيء فتظل تتكلم بكل ما أوتيت من رباطة الجأش ، وبعضهم كان يشتمنا ، ويسمعنا كلاما مؤذيا ولَم نكن ننته ، اذكر مرة وقع في أيدينا هاتف لأهل سيدة جارتنا، بادرت بنتهم باعطاائنا هاتف بيت جدها ، وجعلنا نزعجهم يوميا تقريبا ،
متعتنا كانت في تقمص شخصيات تلفزيونية كمقدمات البرامج مثلا ، واطلب احيانا من الأهالي ان يطلبوا ما شاؤوا من الاغنيات ، ونشرع بالغناء لهم ، لم يحجم متعتنا تلك الا فقدان الدراهم التي دائماً ما تنقضي بانتهاء موسم جني التمر ، حيث لا مجال لتخبئة الدراهم بعدها ،
لا أنسى فرحتنا الكبيرة حين اكتشفنا هواتف كثيرة في داخل قسم البستنه والإنتاج الحيواني في المعهد ، كانت الحكاية ان رئيس القسم آنذاك طالب ابي بحصة من الرطب، كوّن البساتين التي نستثمرها لصالحنا بضمان سنوي تعود الى هيئة المعاهد الفنية ، ومن باب الخاوة كان يجب ان يؤدي والدي ما يرضي العاملين في المعهد ، فكنا نبيع لبعض البيوت بسعر زهيد ، ونهدي البعض الاخر ،
طلب إلينا والدي ان ناخذ يوما سلة تمر إضافية لأستاذ في قسم البستنه، وحين دخلنا هناك ، طلبوا إلينا الجلوس لانتظاره في غرفة مجاورة ، كانت تبدو مكتبا، لم يكن فيها احد ، وكانت تحتوي على عدة اجهزة هاتف ، الامر الذي إنسانا تذمرنا من اضافة واجب يثقلنا، جعلنا نعبث بالهواتف ، ولَم نكن نعرف انها جميعا تنتهي بالبدالة الخاصة بالمعهد ، كنّا نكلم ، نغني ، نشتم، نقول الشعر والأناشيد ، وصار واجب سلة التمر هو الأحب الى قلبينا انا واخي عمار ، ونؤديه بكل مودة وفرح، حتى تطاولنا يوما ما على احد الشاتمين لنا على الهاتف، وصار صياحا يأتي من عدة غرف يبحثون عمن يعبث بالهواتف ويدخل على المكالمات الخاصة بالأقسام ، فهربنا بأعجوبة من أحد الشبابيك ، ولَم نعد نذهب الى هناك ، اذ تم اكتشاف امرنا ، ونلنا عقابا لم يكن قاسيا من والدي ، لكنه كان كافيا ليعلّمنا ان ما قمنا به كان أمرا يشبه الخيانه لما أؤتمنا عليه ، ظل الهاتف بعدها شأنا حساسا ، لا اعرف كيف يمكن ان يخلق بك هذا الجهاز ذو السماعة المعقوفة والخيط اللولبي هذا الكم من الحلم ، انه المجهول الذي يمكن ان تصوره كيف شأت ، لم نكن نريد حقا ان ندرك ان محدثنا هو شخص يشبهنا ، كنّا نعتقد اننا نحدث شيئا اخر لكنه يفهم لغتنا ، ربما شيئا يشبه صوت الله ، صوت الملائكة والريح ، يشبه كل شي الا ان يكون كائنا بشريا ، كنّا في الإعدادية حين كنّا نهرب من قيظ ظهيرة يوم حار بظهر غرفة مديرة المدرسة ، حيث الشباك المفتوح يهرب لنا بعض الهواء البارد والمنعش ، كانت المديرة تؤدي مهمة ما في المدرسة ، وكان الهاتف يرن ، وكانت صديقتي وقريبتي سيناء تغني وهي تمد يديها صوب الهاتف ، قدام عنيا وبعيد عَلِيّا مقسوم لغيري وهو ليا، الامر الذي فجر نوبات ضحك في حجرة المدرسات اللواتي كن يتنصتن علينا ،
استذكر كل ذلك الشغف وانا الان اقضي اياما أضع هاتفي على وضع الطيران كي لا يكلمني احد ، ونادرا ما أرد على مكالمات ، ربما ينفرد هاتف أمي فقط بالاستثناء ،
شيئا ما اطفا ذاك السحر والشغف وكشف عن خواء المجهول الذي كنّا نستمد منه صورة الحلم بالقادم حلما يوازي ذاك العذاب على أسفلت شوارع المعهد الفني وارجلنا التي كنّا نلفها بالقماش احيانا ، فَلَو عرفت اختي الكبرى اننا تسللنا خفافا وحفاة ظهرا ، اذ غالبا ما يتم هربنا عبر الشبابيك ، وكانت تقفل علينا باب الحجرة لتجبرنا على النوم ظهرا ، ولنبقى على نظافة أطول وقت ممكن ، فهي الموكلة بحمامنا ونظافة ملابسنا ، لوعرفت كانت ستجلدنا وستذيقنا مر العذاب ، والذي طالما ذقناه ولَم نستسلم ، لكننا الان نتخلى عنه ، فلم يعد الهاتف معقوفا ولا يحمل أصوات تشبه أجراس الكنائس ولا حزن المنائر ، ببساطة لم يعد الله هو من يحدثنا على الطرف الاخر ……



#فلسطين_اسماعيل_رحيم (هاشتاغ)       Falasteen_Rahem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجيران - من حكايات الحي القديم
- من حكايات الحي القديم


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فلسطين اسماعيل رحيم - كابينة الهاتف - من حكايات الحي القديم