|
صندوق النقد الدولى وسياساته الثعلبية ...... د/ محمود رجب فتح الله
محمود رجب فتح الله
الحوار المتمدن-العدد: 5966 - 2018 / 8 / 17 - 03:55
المحور:
الادارة و الاقتصاد
صندوق النقد الدولى وسياساته الثعلبية .
د/ محمود رجب فتح الله
لم تستهدف سياسات صندوق النقد الدولي تصحيح الاختلالات المالية في موازين المدفوعات بقدر ما تستهدف فرض حزمة كاملة من الإجراءات المالية والنقدية والاقتصادية التي تعبر عن رؤية المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية، واهمها: تحرير أسواق المال والتجارة، وازاله الحواجز لانسياب السلع والتدفقات النقدية، وتقليص الخدمات الحكومية، ووقف الدعم، وتطبيق سياسة التخاصية لتوسيع السوق الرأسمالي وتأمين فرص أرحب للاحتكارات الرأسمالية. وكان للأردن ولبنان ومصر وغيرهما من البلدان العربية تجربة مريرة في هذا المجال، فقد أسهمت توصيات واملاءات صندوق النقد الدولي في تعميق الازمات المالية والاقتصادية. وحتى النتائج البائسة التي حققتها بعض "البرامج النيوليبرالية" بتخفيض متواضع في موازين المدفوعات فهي مؤقتة لا تحقق تنمية مستدامة، وتأتي على حساب العمال والشرائح الوسطى في المجتمع، كونها ناجمة عن فرض الضرائب والرسوم الجائرة، خصوصا الضريبة العامة على المبيعات والضريبة الخاصة وغيره من الضرائب غير المباشرة، التي يتحمل عبئها الفقراء. فقد لجأت الحكومات الى تقليص الانفاق على الخدمات العامة وخفض عائدات الطبقة العاملة من الإنتاج باسم "التصحيح الاقتصادي" والتي تعتبر السياسة المالية والضريبية اهم أدواتها، ما أحدث تبدلات ملموسة في التركيبة الاجتماعية باتساع طبقة الفقراء واضمحلال الطبقة الوسطى، وتركيز الثروة بين ايدي الطبقة الطفيلية، اما نتائج برامج الصندوق فقد اغرقت البلدان العربية بالأزمات. وتقف عاجزة عن تنظيم سوق العمل الذي يعاني من الفوضى في ظل غياب البرامج والخطط للمواءمة بين مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل، وتوفير فرص عمل للعمال الأردنيين بعد ما وصلت نسبة البطالة الى 18 % وارتفعت نسبتها بين الشباب الى 33.7 % في الوقت الذي أغرق سوق العمل بأكثر من مليون عامل وافد. ففي لبنان، يتوقع صندوق النقد الدولي بقاء النمو الاقتصادي ضعيفا في العام الحالي 2017، والاختلالات الخارجية ما تزال واسعة للغاية. ويعتبر العجز الكبير في الموازنة مصدرا للمخاطر الحقيقية، الذي افضى إلى بلوغ الدين العام نحو 148 % من إجمالي الناتج المحلي في العام 2016. وسوف تزداد النفقات العامة. وقد أقر مجلس النواب تدابير لزيادة الإيرادات مصممة لموازنة تمتص زيادة رواتب الموظفين التي أقرتها الحكومة، وقد علقت بسبب المعارضة الشديدة من قبل العمال اللبنانيين، الذين نظموا سلسلة من المسيرات والاعتصامات احتجاجا على السياسات الضريبية. اما الوضع في مصر فليس أفضل حالا؛ فهي تعاني من خضوع لإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي للحصول على مزيد من القروض بعد تدهور الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق، فقد انهارت القيمة الشرائية للجنيه المصري، وتآكلت الأجور وارتفعت معدلات التضخم. وقد طالب الاقتصاديين، بوقفة حاسمة لتغيير السياسات الاقتصادية، لأن المؤشرات الرئيسية تشير بشكل قاطع إلى تدهور الأداء بصورة تعبر عن مستوى كفاءة السياسات الاقتصادية الكلية والمالية والنقدية. وتصل نسبة البطالة في مصر بين الشباب نحو 39 %. وجاءت اعترافات صندوق النقد الدولي الأخيرة بأن السياسات التي اتبعت في هذه البلدان تسببت بتفاقم عدم المساواة في الدخول، محذرة بضرورة اتباع سياسات مالية لعلاج تلك المشكلة، بالتوسع في ضرائب الدخل التصاعدية والإنفاق على التعليم والصحة! تصريحات إدارة الصندوق هذه تعري السياسات الاقتصادية العربية وتبعيتها المفرطة للإمبريالية، وتؤكد من جديد تخلي الامبريالية عن حلفائها بعد اغراقهم بأزمات كارثية. فقد طالب تقرير الصندوق بزيادة معدلات الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة!! بعدما كان محرما طرح مثل هذه السياسات، وقد أعلن مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور أنه يجب اعتماد الإجراءات الضريبية درجة من التصاعدية، وأن يتم تخفيف العبء على الشرائح الاجتماعية الأقل قدرة والشرائح الأكثر فقرا، من خلال عدم المس بحاجاتها الأساسية ومن خلال عدم زيادة العبء الضريبي عليها، خصوصا ما يتعلق بالرسوم التي تمس السلع الاساسية كالخبز وغيره من السلع! التصريحات والمواقف الجديدة للصندوق لا تعبر عن صحوة ضمير، او تغيير جوهري في سياسات الصندوق، بقدر الشعور العام بحجم الاخطار السياسية التي أتبعها الصندوق تجاه البلدان النامية والتي أحدثت نتائج كارثية تهدد بانفجارات شعبية. ويتناقض الحديث عن حقوق الإنسان والحرية الاقتصادية مع المبادئ الأساسية التي وُجد من أجلها صندوق النقد والبنك الدوليين، في ظل دعم الديكتاتوريات وتعزيز تفرُّد السلطات بالدول النامية بما يخدم استمرار ولاء تلك الدول للقوى العظمى. الهيمنة السياسية ومع بداية أربعينيات القرن الماضي، كان النظام العالمي يعاني تفاقم الأزمات الاقتصادية، وتخبُّطاً في السياسات المالية، فضلاً عن الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية. كل ذلك دفع القوى العالمية، بقيادة الولايات المتحدة، إلى عقد اجتماع أممي في عام 1945، ضم 44 دولة، نتج عنه توقيع اتفاقية بريتون وودز، التي تم بموجبها إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين. وكان الهدف الرئيس من إنشاء صندوق النقد الدولي هو تحقيق النمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، إضافة إلى منع وقوع الأزمات المالية، من خلال إلزام الدول الأعضاء باعتماد سياسات اقتصادية سليمة. في المقابل، يقرض الصندوق الدول الأعضاء المتعثرة مالياً في حال التزامها بسياسات وأهداف المنظمة، كذلك يقدم البنك الخدمات الاستشارية المتعلقة بتحسين سياسات الدول في مجال إدارة أسعار الصرف، والتضخم، وغيرها من المتغيرات. وفي وقتنا الحالي، أصبح صندوق النقد الدولي يضم 185 دولة، ويتحكم بصورة مركزية في نظام المدفوعات الدولية من خلال ما يقدمه من قروض تقلل من عجز الحساب الجاري للدول، وتعزيز استقرار أسعار الصرف بما ينعكس إيجاباً على معاملات حركة التجارة الدولية. - ضياع حقوق الإنسان وفي ضوء المتطلبات الأساسية التي تحكم سياستها، تستند المنظمة إلى ثلاثة مبادئ أساسية وهي، أولاً: تحرير الاقتصاد بما يضمن تقليص سيطرة الدولة عليه، وإعطاء مساحة أكبر للمواطنين وللحريات الفردية، الأمر الذي من شأنه أن يعزز حقوق الإنسان ويخفض وصاية واستبداد الدولة على المواطنين. ثانياً: تعزيز عمل القطاع الخاص والانفتاح التجاري بين الدول، وأخيراً خفض النفقات الحكومية وإلغاء سياسات الدعم الحكومي. وفيما يتعلق بقرارات المنظمة، تتحكم الدول الأعضاء كل حسب حصته في الصندوق، ويتطلب صدور أي قرار موافقة 85% من حصص الأعضاء، ولأمريكا حق الفيتو لامتلاكها 16% من حصة الصندوق. وهذا الأمر يعكس الهيمنة السياسية للولايات المتحدة وحلفائها على قرارات المنظمة، وهناك نماذج كثيرة أثبتت أن مبادئ صندوق النقد الدولي تنحصر فقط في التحرر الاقتصادي الذي يعزز الهيمنة السياسية للدول العظمى، وتعظيم مصالح المستثمرين، دون النظر إلى تأثير تلك السياسات على المواطنين العاديين والفقراء. - ضغوط دولية وفي سياق ذي صلة، مارست أمريكا ضغطاً على صندوق النقد الدولي لتوفير الدعم المالي لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (الذي كان يمثل أحد أهم الحلفاء الاستراتيجيين للرأسمالية الأمريكية) حتى نهايته في أوائل تسعينيات القرن الماضي، رغم المقاطعة الدولية، وكان من ثم أحدَ أشكال السيطرة الأمريكية على قرارات هذه المنظمة وعدم استقلالها، وإنهاءً لانحيازها لتنمية الإنسان. هذا فضلاً عن اعتماده معايير خاصة حسب مصالح الولايات المتحدة السياسية، وتقديم القروض حسب أهداف وأهمية البلد المقترض للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، لم توافق أمريكا على منح صندوق النقد قرضاً لفيتنام في عام 1982 على الرغم من استيفائها شروط المنظمة، في حين أجبرت المنظمة على منح قرض في الفترة نفسها بمقدار 83 مليون دولار للسلفادور على الرغم من عدم تلبيتها شروط المنظمة الدولية. ومن أشكال تطبيق صندوق النقد الدولي سياسات الهيمنة الأمريكية، إلزام الصندوق دولاً مثل تايلاند وإندونيسيا، في بداية التسعينيات، بتحرير اقتصادها وأسواقها المالية كشرط أساسي للحصول على التمويل، الأمر الذي زاد تفاقم الأزمة الاقتصادية لتلك الدول، ودفعها للاقتراض من البنك الدولي وفق شروط الولايات المتحدة. - البنك الدولي ودعم الاستبداد وفي السياق ذاته وخلال القرن الماضي، ومنذ نشأة البنك الدولي، هناك العديد من النماذج والأمثلة التي تؤكد ازدواجية معايير البنك الدولي، واستغلاله حاجة الدول النامية للقروض في إحكام سيطرة الدول العظمى على قراراتها وسياساتها. بداية من دعم البنك الدولي الحكومة الانقلابية في تشيلي عام 1972 على الرغم من الاستبداد والديكتاتورية التي كانت مصاحبة لتلك الحكومة في ذلك الوقت، مروراً بتوفير الدعم المتكرر لحكومة الدكتاتور محمد سوهارتو في إندونيسيا (1967-1998)، وصولاً إلى توفير الدعم المتواصل للرئيس التونسي زين العابدين بن علي حتى الإطاحه به في 2011. وفي هذا الإطار، أشارت العديد من التقارير الصادرة من دائرة الأبحاث في الكونغرس الأمريكي، إلى أن الولايات المتحدة في عهد إدارة ريغان (1981-1989) كانت تربط حصول الدول النامية على قروض البنك الدولي بدرجة رضوخ تلك الدول لسياسات الولايات المتحدة. في 11 نوفمبر 2016، وقّع صندوق النقد الدولي ومصر اتفاقية قرض بقيمة 12 مليار دولار بهدف “معالجة نقاط الضعف في الاقتصاد الكلّي وتعزيز النمو الشامل وتكوين فرص العم. وقد تضمّنت نقاط الضعف التي استهدفها البرنامج، سعر صرفٍ مبالغ في قيمته (مع ارتفاع مقابل لسعرِ الصرف في السوق السوداء) وشحّ العملات الأجنبية في السوق الذي أدّى إلى تقويض نشاط القطاع الخاص بشكل كبير، وانخفاضاً حادّاً في احتياطي العملات الأجنبية، وعجزاً مالياً كبيراً، ومعدلاً مرتفعاً في الدين العام. بناءً على ذلك، شملت النقاط الأساسية في برنامج “تسهيل الصندوق الممدّد” (Extended Fund Facility) الذي قدّمه صندوق النقد الدولي والذي يسري لفترة ثلاث سنوات: تحريرَ نظام سعر الصرف (أي تعويم الجنيه المصري) وضبط أوضاع المالية العامة لخفض نفقات الموازنة وزيادة الضرائب وإجراء إصلاحات هيكلية عميقة وإلغاء تنظيمات مرتبطة بشركات الأعمال لتحفيز النمو الاقتصادي. وكان من المتوقّع أيضاً أن ينال برنامج “تسهيل الصندوق الممدّد” ثلاثة مليارات دولار إضافية من البنك الدولي ومليار ونصف دولار من بنك التنمية الأفريقي و6 مليارات دولار من جهات مانحة ثنائية الطرف. ومع أنّ لهذا البرنامج فوائد تقنية، فلا يزال تنفيذُه يواجه تحدّيات سياسية خطيرة، ممّا قد يؤدّي إلى إخفاقه في تحقيق هدفه بتكوين أساسٍ من شأنه أن يساعد على تحويل الاقتصاد المصري. وقد يؤدّي انعدامُ ثقة المستثمرين في حكومة الرئيس عبد الفتّاح السيسي إلى فشل الاتفاقية بين صندوق النقد الدولي ومصر. ويقيّم الموجز السياسة هذا العناصر الرئيسية في برنامج صندوق النقد الدولي مع مصر من خلال معلومات استقاها من مقابلات أُجريت مع جهات معنية.[2] ويناقش الموجز ضرورة أن تطبّق مصر إصلاحات هيكلية أساسية من أجل بلوغ الأهداف الموضوعة التي تتمحور حول تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات وزيادة التوظيف، ولا سيّما بين الشباب والنساء. وبعد مناقشة العلاقات بين مصر وصندوق النقد الدولي، يقدّم الموجز اقتراحات حول الطريقة التي تستطيع مصر فيها تحقيق هذه الأهداف بفعالية أكبر والتعامل مع مسائل الاقتصاد السياسي التي تهدّد بتقويض استراتيجية البرنامج الاقتصادية. خلفيّة العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي وصولاً إلى الأزمة المالية الدولية في العام 2008 والثورة المصرية في العام 2011، طبّقت مصر إصلاحات هيكلية كبيرة لتسهيل النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أنّ هذه الإصلاحات لاقت النجاح في تحسين النمو الاقتصادي، فشلت الحكومة في أن تعالج بشكل مباشر المسائل المتعلّقة بالفقر والبطالة العالية (ولا سيّما بين النساء والشباب) وعدم المساواة والفساد. وقد شكّلت هذه المسائل جزءاً من العوامل الأساسية التي أدّت إلى معارضة حكومة حسني مبارك في العام 2011. وبعد الثورة المصرية، استمرّت التطوّرات السياسية والإقليمية في تقويض الاقتصاد المصري. ومع انخفاض عدد السيّاح وتضاؤل المدخول من قناة السويس (بسبب الكساد في الاقتصاد العالمي)، تباطأ النمو الاقتصادي. علاوةً على ذلك، زادت الحكومة الدين العام لتمويل نفقاتها لكنّها فشلت في معالجة التحديات الهيكلية الكامنة، ممّا أدّى إلى تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلّي. • استهداف مسجد الروضة: مستوى جديد من الرعب في صراعٍ امتدَّ على مدى عقود للسيطرة على سيناء ومع تفاقم المناخ السياسي بعد ثورة 25 يناير 2011، دفعت التحديات الهيكلية الراسخة في مصر (من ضمنها ارتفاع الدين العام وسوء توجيه الإعانات المالية وتزايد إجمالي الأجور في القطاع العام والاعتماد على استيراد الأغذية ومغالى فِي تقييم العُملة المحلّية) إلى أن تلجأ الدولة إلى التفكير في توقيع عقد قرض مع صندوق النقد الدولي. وقد اعتمدت مصر سابقاً على جهات مُفضِلة خارجية، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، لتمويل العجز في ميزانيتها وتقديم الدعم النقدي للبنك المركزي المصري. وقد قدّمت السعودية قرابة 25 مليار دولار للاقتصاد المصري بين العامَين 2013 و2016.[3] لكن من غير المتوقّع أن تدعم دول الخليج الاقتصادَ المصري إلى أجل غير مسمّى من دون إجراء إصلاحات هيكلية. وبحلول منتصف العام 2016، عندما بدأ انخفاضٌ حاد في العملات الأجنبية يعيق الاقتصاد المصري، ولا سيّما في قطاع التصنيع، سعت القاهرة رسمياً إلى توقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي. لكن كان على مصر أوّلاً أن تحصل على تمويل خارجي بقيمة 6 مليارات دولار كشرطٍ مسبق لنيل الموافقة من صندوق النقد الدولي. وقد استطاعت جمع هذا المبلغ بفضل دعم مادّي أمّنته الإمارات العربية المتحدة والصين ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى.. وأرفِقت أجندةُ إصلاح بالقرض الذي قدّمه صندوق النقد الدولي لمصر بقيمة 12 مليار دولار لمدّة ثلاث سنوات. ركّزت هذه الأجندة على ثلاثة محاور أساسية: الإصلاحات النقدية والمالية والهيكلية. فعلى الصعيد النقدي، كان على مصر أن تنتقل إلى سياسة سعر صرف مرنة (يحدّد فيها السوق قيمة سعرَ الصرف) وأن تحتوي التضخّم المالي. وأهمّ ما يعنيه ذلك تعويمُ الجنيه المصري. وعلى الصعيد المالي، كان على الدولة أن تخفّض الدين العام من خلال تقليص إعانات الوقود وزيادة الإنفاق على المجموعات الضعيفة مثل الشباب والنساء. وعلى الصعيد الهيكلي، كان على مصر أن تبسّط عملية منح التراخيص الصناعية وتوفر التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وتلغي قانون تجريم الإعسار وتبسّط قوانين الإفلاس
الجدير بالذكر أنّ “مصاعب مصر الاقتصادية والتنموية لم تبدأ بعد الثورة، بل تراكمت على مرّ العقود الماضية وأدّت في الواقع إلى بروز ظروف تمخّضت عنها الثورة ومطالبها”. بالإضافة إلى ذلك، لا يُعدّ البرنامج القائم بين مصر وصندوق النقد الدولي الذي هو قيد الدرس في موجز السياسة هذا سوى الجولة الأحدث في تعاملات المنظّمة مع مصر. ولطالما ركّزت هذه الاتفاقيات على وجه الخصوص على سياسات تهدف إلى خفض نسبة التضخّم وضبط الدين وتشجيع الاستثمار وتحرير الاقتصاد كما أظهرته سياسات التعديل الهيكلية التي وضعها صندوق النقد الدولي في بداية الثمانينيات. وبحسب محمدية: تُظهر الإحصاءات بين العامَين 1996 و2009 نتائج هذه السياسات. ففي خلال هذه السنوات، تراوحت نسبة النمو الاقتصادي السنوي الحقيقي بين 2,8 و6,4 في المئة في مصر، لكنّ الإنتاجية لم ترتفع سوى بنسبة يتراوح متوسّطها بين 0,3 و3,7 في المئة. وبقيت نسبة القوى العاملة على حالها، أي حوالي 44 في المئة من السكان العاملين، ويعود السبب بشكل رئيسي إلى عدد النساء العاملات المنخفض. وبقيت نسبة البطالة تقارب 10 في المئة، مع ارتفاعها أكثر بكثير في صفوف النساء والشباب… بالتالي، على الرغم من أنّ الاقتصاد المصري بدا أنه ينمو في الظاهر، كانت حالات الفقر وعدم التكافؤ تتزايد.[8] وتبرز بوضوح خطوط التوازي بين سياسات صندوق النقد الدولي السابقة والحالية في مصر: فهي تركّز على متابعة النموّ الاقتصادي، لكنّها تغضّ النظر عن تحديات الاقتصاد السياسي الملحّة المرتبطة بهذه المتابعة (فتؤدّي بالتالي إلى تفاقمها). وقد تقع مصر في الفخّ عينه مجدداً في حال لم تجرِ إصلاحات هيكلية أساسية للتخفيف من القيود والهواجس التي تهدّد تنفيذ برنامج تسهيل الصندوق الممدّد بنجاح. تحديات الاقتصاد السياسي في الأفق على الرغم من هدف برنامج صندوق النقد الدولي مع مصر بتصحيح اختلالات الاقتصاد الكلّي المصري، فهو يضع جانباً مسائل الاقتصاد السياسي ويهمّش مجموعات سياسية اجتماعية مهمّة. وعلى الأرجح أن يقوّض ذلك قدرة البرنامج على تحقيق أهدافه الأساسية. الإصلاحات النقدية: الجنيه المصري يعوم والتضخّم يزداد قبل تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، كانت السوق السوداء قد استعادت نشاطها بعد عقود من الخمول النسبي. وقد غدا سعر الصرف في السوق السوداء أكثر ملاءمة من أسعار الصرف في المصارف. نتيجةً لذلك، لجأ الأشخاص والشركات الذين يملكون عملات صعبة إلى السوق السوداء أو انتظروا مترقّبين احتمال انخفاض قيمة العملة. فأدّى ذلك إلى نقص في كمّية الدولارات في أنحاء البلاد. ردّاً على ذلك، حدّت الحكومة المصرية من التحويلات بالدولار إلى الخارج، ممّا سبّب تكديساً وارتفاعاً أكبر في أسعار الصرف في السوق السوداء. والمقلق أكثر أنّ المصريين الذين يعملون في الخارج تجنّبوا الإجراءات المصرفية الرسمية للقيام بالتحويلات المالية إلى بلدهم الأمّ لأنّ هذه المصارف تقدّم أسعار صرف أقلّ ربحاً بكثير من تلك التي تقدّمها السوق السوداء أو أنظمة الحوالة (القائمة على تحويل أموال بين شخصين مبنيّ على الثقة). واعتبر صندوق النقد الدولي أنّ تحرير سعر الصرف في مصر عنصرٌ أساسي للتعويض عن المشاكل الناشئة، وقد ساعد فعلاً هذا الإجراء. والواقع أنّه على المدى الطويل قد يعالج تخفيض قيمة العملة الاختلالاتِ الماليةَ في حال تمّت إدارته بشكل صحيح. فقد وصلت تحويلات العمّال المصريين إلى 8 مليارات دولار في الربع الثاني من العام 2017، مرتفعةً بنسبة 13 في المئة.[11] بالإضافة إلى ذلك، بدءاً من شهر مارس 2017، استمرّت التحويلات بالارتفاع، وأفاد المصرفيّون أنّ السوق السوداء للعملات شارفت على الاختفاء، وتحسّنت سيولة الدولار في المصارف.[12] غير أنّ نسبة التضخّم وصلت إلى 22 في المئة في ديسمبر 2016، بعد أن تراوحت بين 8 و15 في المئة بين العامَين 2011 و2016. وبشكلٍ عام، من المتوقّع أن تترافق فترات انخفاض قيمة العملة بفترات تضخّم شديد. لكنّ قيمة الجنيه المصري انخفضت أكثر ممّا توقّعه صندوق النقد الدولي، وربّما يعود ذلك جزئياً إلى “البيانات العامة التي صرّح بها الصندوق حول انخفاضٍ مرتقب لقيمة العملة في الأيام السابقة للتعويم”.[13] وبقيت نسبة التضخّم في مصر تفوق 30 في المئة لمعظم العام 2017 “مسبّبةً هواجس وصعوبات كبيرة لدى الشعب”.[14] والأكيد أنّ انخفاض قيمة العملة قد رفعَ أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، بما فيها السكّر والزيت وحليب الرضّع الصناعي والأرزّ.[15] وقد دفع هذا الوضع البائعين العديمي الضمير إلى تكديس السلع لاستغلال الوضع ولتحقيق الأرباح. وتبقى مصر أيضاً معتمدةً بشكل كبير على الموادّ الأولية المستورَدة التي تدخل في صناعة الأدوية المحلّية. فمع انخفاض قيمة العملة، ارتفعت أسعار الأدوية بشكل ملحوظ، علماً أنّ بعضاً من هذه الأدوية ضروريٌ لمعالجة الأمراض المزمنة.[16] أخيراً، شدّد برنامج تسهيل الصندوق الممدّد على أنّ تحرير نظام صرف العملات في مصر سيحفّز الاستثمار والصادرات.[17] وقد ازداد الاستثمار المالي الأجنبي والمباشر منذ تعويم الجنيه المصري.[18] بيد أنّ المستثمرين لا يزالون يريدون أن يروا إدارةً أفضل لاقتصاد مصر ككلّ. وتقف عوائق في وجه الإجراءات الهادفة إلى زيادة الشفافية وتعزيز إدارة المالية العامة في مصر، بما فيها الجهود الآيلة إلى جعل الممارسات الاستثمارية متوافقة مع أفضل الممارسات الدولية. وقد يعيق هذه الإجراءات غيابَ المحاسبة المزمن لحكومة السيسي في إنفاقها الأموال العامة واستمرارَ تفشّي المحسوبية التي ما زالت تقضّ مضجع النظام السياسي المصري. علاوة على ذلك، يساور المستثمرون المحتملون القلق في أن نسبة الدين المحلي في مصر ما زالت حوالي 95 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وأنّ عجز ميزانيتها في العام المالي المنتهى في يونيو 2016 قد بلغ 12,2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.[19] إصلاحات مالية: تجديد الإعانات وإضافة ضرائب يهدف برنامج صندوق النقد الدولي إلى معالجة مشكلة العجز في ميزانية الدولة المصرية من خلال تعزيز الإيرادات وتخفيض نفقات الحكومة، بما فيها النفقات على الإعانات. وحتّى الآن، قلّصت الحكومة إعانات الوقود بهدف التوافق مع شروط برنامج تسهيل الصندوق الممدّد من أجل تخفيض الإنفاق، ونتج عن ذلك ارتفاع أسعار الوقود في يونيو 2017 بنسبة 50 في المئة.[20] وقيل أيضاً إنّ التخفيضات في إعانات الوقود كانت ضرورية لأنها لم تعد بفائدة كبيرة على الفقراء.[21] لكن يبدو أنّ هذا الأمر فاقم من الأعباء الملقاة على كاهل المصريين العاديين، فالكثير منهم مثلاً يعانون ليتأقلموا مع هذا الارتفاع الكبير في أسعار الوقود في وقتٍ ارتفعت فيه كلفة المعيشة كثيراً بسبب انخفاض قيمة العملة.[22] وتمحور تركيز آخر على تحسين طريقة توزيع الإعانات في مصر، من ضمنه عبر إحداث تغييرات في نظام البطاقة الذكية في البلاد. وقد طُرحت بطاقات ذكية في العام 2014 للمساعدة على تنظيم السلع والخدمات المدعومة والقضاء على الفساد في شرائها وتوزيعها.[23] لكن مع أنّ برنامج البطاقة الذكية يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح للحرص على أن تصل الإعانات إلى الأشخاص الأكثر حرماناً في مصر، أظهرت المقابلات التي أُجريت مع مجموعات من المجتمع المدني في جنوب مصر أنّ الكثير من المصريين الفقراء والأميين وغير المسجّلين غير قادرين على تقديم طلب للحصول على بطاقات ذكية.[24] ومع نسبةِ أميّةٍ تبلغ 25 في المئة وعدد المواطنين غير المسجّلين في مصر يبلغ 7 مليون فرد، لا عجب في أنّ “77 في المئة من أعلى الفئات إنفاقاً تملك بطاقات ذكية تمكّنها من الحصول على سلع مدعومة، في حين أنّ 82 في المئة من الفقراء لا يستفيدون من برنامج الضمان الاجتماعي المصري”.[25] وما زال الفساد والغش يستشريان في نظام البطاقة الذكية أيضاً.[26] بالإضافة إلى ذلك، بموجب برنامج صندوق النقد الدولي، حصل حاملو البطاقات الذكية على إعانات إضافية بلغت 21 جنيه مصري للفرد الواحد (بعد أن كانت 12 جنيهاً)، لكنّ هذه الإعانات بالكاد غطّت أسعار السلع الأساسية المتضخّمة.[27] ورُفعت الزيادات على الإعانات مجدداً في يونيو 2015 لتصل إلى خمسين جنيهاً مصرياً. غير أنّ نسبة التضخّم بقيت عالية وتقارب 30 في المئة حتّى بعد أن انخفضت من أعلى نسبة وصلت إليها في يوليو 2017، فحدّت بالتالي من المنافع الناجمة عن الزيادات في الإعانات المقدّمة لحاملي البطاقات الذكية.[28] وقد وزّعت الحكومة المصرية “بطاقات ذهبية” في المناطق الأكثر فقراً على الأشخاص الذين لا يملكون بطاقة ذكية أو ينتظرون الحصول عليها، لكن تمّ تخفيض المساعدات في مارس 2017، ممّا سبّب احتجاجات في المناطق الأفقر في مصر. في ردّ على ذلك، رفعت الحكومة من مخصّصات الحصص لمزوّدي البطاقات الذهبية.[29] وبهدف المساعدة على الحدّ من تأثير عملية التعديل التي فرضتها الإصلاحات المشترطة في برنامج تسهيل الصندوق الممدّد، “سيتمّ تحويل حوالي واحد في المئة من قيمة إجمالي الناتج المحلي في الوفورات المالية لإعانات الأغذية الإضافية ولتحويلات أموال نقدية للكبار في السن والعائلات ذات الدخل المنخفض وبرامج اجتماعية مستهدفة أخرى”، بما فيها مثلاً الإعانات لأدوية الأطفال.[30] وتخطّط الحكومة أيضاً لتوسيع برامج شبكة الأمان الاجتماعية الأساسية، بما فيها برنامجا تكافل وكرامة اللذان تأسسا في العام 2015 واللذان سيتمّ توسيعهما ليغطّيا مئتي ألف أسرة إضافية في العامين 2017 و2018.[31] لكن يجب الانتظار لرؤية ما إذا كانت هذه الإجراءات ستتمكّن من التخفيف من الآثار المعاكسة الناجمة عن نسبة التضخّم المرتفعة في مصر، ولا سيّما نظراً إلى الإنفاق الاجتماعي المنخفض نسبياً في مصر وعدم إمكانية محاسبة حكومة السيسي. وبالإضافة إلى لجم الإنفاق الإجمالي على دعم الأسعار، قلّصت مصر أيضاً نفقات القطاع العام بموجب اتفاقيتها مع صندوق النقد الدولي في أغسطس 2016. ونتيجةً للإصلاحات كلفة الأجور، شهد إجمالي أجور القطاع العام انخفاضاً سنوياً مستمراً من نسبة 8,1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2014/2015 إلى 5,3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2017/2018 .[32] غير أنّ الإصلاحات الآيلة إلى تخفيض إجمالي الأجور سبق أن تمّت الموافقة عليها كجزء من اتفاقية قرض صندوق النقد الدولي في العام 1991، ممّا يلقي بظلال الشك على فعالية هذه التخفيضات الأخيرة. في غضون ذلك، وبهدف زيادة الإيرادات، فرضت الحكومة ضريبة على القيمة المضافة ورسوماً جديدة وباعت أيضاً أراضيَ وتراخيصَ لقطاع الاتصالات.[33] وقد بلغت الضريبة على القيمة المضافة 13 في المئة على معظم السلع والخدمات في السنة المالية 2016/2017، وستزداد هذه النسبة لتصل إلى 14 في المئة في السنة المالية 2017/2018. وتتجاهل سياسات من هذا النوع بالإجمال معاناة الطبقة الفقيرة في مصر. فبحسب تقديرات هبة الليثي مثلاً، أستاذة في علم الإحصاء في جامعة القاهرة، يُرجّح أن تزيد سياسةُ الضريبة على القيمة المضافة نسبةَ السكان الفقراء في مصر (الذين يعيشون بأقلّ من 26 دولاراً في الشهر) من 27,8 في المئة في العام 2015 إلى 35 في المئة على الأقلّ.[34] واللافت أنّ مصر قد وضعت هذه السياسة بعد أن خفّضت معدّلَ الضريبة المفروضة على فئة السكان ذات الدخل الأعلى من 25 في المئة إلى 22,5 في المئة في العام 2015، وقد اعتُبر هذا التخفيض كتخفيف من الأعباء الضريبية على أثرياء مصر.[35] إصلاحات هيكلية ونموّ شامل أدخل برنامج صندوق النقد الدولي للعام 2016 تغييرات في تنظيمات الأعمال بقصد جذب استثمارات أجنبية ومساعدة الشركات الأصغر على التوسّع. وقبل وضع هذا البرنامج، كانت عملية إنشاء شركة في مصر مسألة معقّدة تشتمل على الكثير من التنظيمات والروتين الإداري. وقد خنقت هذه الترتيبات الشركات الأصغر وحمت المنشآت الصناعية الأكبر، فأتاحت مجالات أوسع لتسرّب الفساد إلى مختلف الوزارات.[36] وقد قلّل قانونُ الاستثمار الجديد، الذي وُضع كشرط مسبق للحصول على قرضٍ من صندوق النقد الدولي، من هذه التنظيمات لكنّه ما زال يقدّم أراضي مجانية أو بسعر مخفّض جداً لبعض المشاريع، ممّا يعزّز الفساد والمحسوبية.[37] ومن شأن قوانين الإفلاس المُحسَّنة، التي وضعها برنامج صندوق النقد الدولي والتي يتداولها حالياً البرلمان المصري، أن تبسّط إجراءات الإفلاس والتصفية، وأن تُسهّل بالتالي قدوم المستثمرين إلى مصر، شأنها شأن تسهيلُ شروط الحصول على تراخيص صناعية.[38] لكن لا يزال الشك قائماً في أنّ تكون هذه الإصلاحات كافية لجذب الاستثمارات الأجنبية. على سبيل المثال، بحسب ثلاثةُ خبراء من القطاع الخاص أُجريت معهم مقابلة من أجل كتابة هذا الموجز، فإنّ توقّعات صندوق النقد الدولي متفائلة جداً بشأن الاستثمارات الأجنبية.[39] وبحسب المصرفيين، تشغل بالَ المستثمرين الأجانب “مخاطرُ التنفيذ”. فمع أنّ إشراف صندوق النقد الدولي على التزام مصر ببرنامج الإصلاح الاقتصادي قد يدعو إلى الثقة بالتزام الحكومة، لا يزال بعضهم يخشى أن تتسبّب الضغوطُ الاجتماعية الناجمة عن التضخّم والسقف على أجور القطاع العام وتقليص الإعانات بتخلّي السلطات عن مسيرة الإصلاح”.[40] وقال أحدّ المحلّلين إنّ إشراف صندوق النقد الدولي يعطي مصداقية أكبر للإصلاحات في مصر، لكن تبرز بعض المخاوف بأنّ عقبات الإصلاح سياسيةٌ بشكل رئيسي.[41] كذلك، يعتقد أولئك الذين أجريت معهم المقابلات أنّ توقّعات صندوق النقد الدولي حول ارتفاع إجمالي الناتج المحلّي بنسبة 5 إلى 6 في المئة على المدى المتوسط طموحةٌ جداً.[42] فعلى الصعيد المحلّي، يبقى الحصولُ على قرض مشكلةً. ففيما تملك الشركات الأجنبية رأس المال، لا تزال الشركات المحلّية تعتمد على الوكالات المحلّية التي تعاني غياب الشفافية التنظيمية والفساد والإدارة الخانقة للمشاكل الاقتصادية وضعف كفاءة السوق في مصر، وكلّها عوامل تعرقل الاستثمار والنموّ على الأرجح.[43] وعلى وجه الخصوص، يبقى قلق المستثمرين قائماً بشأن الاتفاقيات المُبرمة بين الحكومة والمستثمرين (اتفاقيات شراء الطاقة). إذ يساورهم القلق بأنّ نظام القانون المصري لن يكون محايداً في النزاعات مع السلطات المحلّية. وقد بدا غياب آليات الضبط الإداري جلياً بعد صدور قرار أبريل 2017 القاضي بمنح الرئيس سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية، فخفّف بالتالي هذا القرار أكثر فأكثر من ثقة المستثمرين بالسلطة القضائية المصرية. نتيجةً لذلك، أخذ عددٌ من المستثمرين الذين سبق أن عقدوا اتفاقيات شراء طاقة يغادرون مصر.[44] لكن على نطاق أوسع، بدأ تردّد بعض المستثمرين يتبدّد. ففي مايو 2017، باعت مصر عدداً أكبر مما كان متوقّعاً من سندات يوروبوند (3 مليارات دولار) إلى أمريكا الشمالية وأوروبا وبمعدّل فائدة يقلّ عن المعدّل الذي وصلت إليه منذ أشهرٍ قليلةٍ، ممّا يشير إلى تضاؤل المخاوف لدى المستثمرين الأجانب.[45] غير أنّ ريتشل زييمبا، المديرة العامة لشركة “روبيني غلوبال إيكونوميكس”، أشارت في أبريل قائلةً: “شكّل برنامج صندوق النقد الدولي وتخفيض قيمة العملة في مصر شرطين ضروريين لكن غير كافيين لاستعادة ثقة المستثمرين”.[46] وإلى جانب جذب الاستثمارات، يسعى برنامج صندوق النقد الدولي إلى معالجة مسألتَي النموّ المتدنّي والبطالة المرتفعة في مصر من خلال طرح برامج تدريب مهنية متخصّصة للشباب، بالإضافة إلى اتّخاذ تدابير لزيادة نسبة النساء العاملات.[47] وبرهنت الكثير من الدراسات على الفوائد الاقتصاديةَ المتأتية عن انضمام عدد أكبر من النساء إلى القوى العاملة، ولا سيّما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تسجّل نسبة العمالة النسائية في القطاع الرسمي الأقلّ في العالم.[48] غير أنّ دراسةً أُجريت في العام 2013 بطلب من الأمم المتحدة أظهرت أنّ 86,5 في المئة من النساء المصريات اللواتي شملهنّ الاستقصاء لا يشعرن بالأمان عند استخدام وسائل النقل العام، ممّا يشكّل حتّى الآن عائقاً أساسياً أمام تحقيق قدراتهنّ الاقتصادية الكاملة.[49]لذلك، من شأن إجراءات برنامج تسهيل الصندوق الممدّد المعنيّة بتعزيز الأمان في وسائل النقل العام وتوفير عدد أكبر من الحضانات العامة، أن تساعد النساء على المباشرة بالعمل والبقاء فيه. غير أنّه لم يتمّ تخصيص سوى 14 مليون دولار من قرض صندوق النقد الدولي الذي تبلغ قيمته 12 مليار دولار من أجل تحسين هذا النوع من البنى التحتية للنساء المصريات، وهو مبلغ يبدو أنه من المستبعد أن يحسّن الأوضاع الحالية بشكل ملحوظ. الاستثمار في النساء لزيادة النموّ الاقتصادي بإمكان برنامج صندوق النقد الدولي، من خلال تركيزه على زيادة نسبة النساء العاملات، أن يرفع من مستويات المعيشة لدى الكثير من النساء ويشجّع النموّ في الاقتصاد المصري. غير أنّ المجموع المستثمَر في الوسائل الاجتماعية لحماية المرأة، مثل التمويل لتحسين المنشآت العامة، كالحضانات مثلاً، بهدف السماح للنساء بالبحث بنشاط عن وظائف، زهيدٌ بالمقارنة مع حجم برنامج صندوق النقد الدولي. فقد تمّ تخصيص 250 مليون جنيه مصري في 2016/2017 و500 مليون جنيه مصري في 2017/2018 فقط لا غير لهذه الغاية.[67]وتبلغ نسبة الأموال المخصّصة لأمور مثل تحسين نوعيّة رعاية الأطفال وقدرة الوصول إلى وسائل نقل عامّة آمنة 0,2 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، وهي نسبة منخفضة مقارنةً بمجموع الاستثمارات.[68] علاوة على ذلك، ستعرقل على الأرجح المشاكل الكامنة التي لم تتمّ معالجتها بعد أيَّ تقدّم تمّ تحقيقه وفقاً لأحكام الاستثمار في النساء في برنامج تسهيل الصندوق الممدّد الحالي. وتتضمّن هذه المشاكل غيابَ التعريفات القانونية للتحرّش الجنسي وعدمَ توافر بيانات تظهر حالات التحرّش المبلَّغ عنها وانعدامَ تدريب الشرطة والجهات المدّعية على التعامل مع حالات التحرّش الجنسي.[69] بالتالي، من الضروري أن تعطي الحكومة أولويّة للاستثمار في هذه المشاكل الأساسية. الخاتمة سيضخّ برنامج تسهيل الصندوق الممدّد في مصر الذي وضعه صندوق النقد الدولي والذي يسري لفترة ثلاث سنوات أموالاً ضرورية لمساعدة البلاد على حلّ بعضٍ من مشاكل اقتصادها الكلّي. لكن على الرغم من فوائد البرنامج الفنيّة، لا تزال تحديات الاقتصاد السياسي قائمة ولا يمكن تجاهلها. وعلى الأرجح ألّا يتمكّن البرنامج، بوضعه الحالي، من تحقيق النموّ الاقتصادي الذي وعد به، ولن يعالج مشاكل الفقر وعدم المساواة والفساد التي لا تزال تلقي بحملٍ ثقيل على كاهل مصر. وقد أكد تقرير الصندوق أهمية ايجاد صيغة للتعرف على جميع الرسوم غير المباشرة التي تفرض على القطاع الخاص بهدف حصرها وتحويلها إلى رسم موحد في إطار نظام الضرائب غير المباشر. والسؤال الذي أطرحه هنا من سيدفع هذه الضرائب في النهاية يا خبراء صندوق النقد الدولي؟ أكيد المواطن الذي لا يكاد يفرح بزيادة بسيطة في الراتب إلا وتأتي مقترحات وتوصيات خبراء الصندوق الذين لا يعرفون قسوة الفقر على ملايين البشر حول العالم. وبالتأكيد لن تساهم ضريبة القيمة المضافة في خفض العجز في ميزانيات دول مجلس التعاون الخليجي، لذلك الأجدر بدول مجلس التعاون الخليجي عدم تطبيق ضريبة القيمة المضافة لأنها ستضعف القوة الشرائية للمواطن الخليجي الذي أصبح يشعر بالتبعات السلبية لانضمام دول مجلس التعاون الخليجي لمنظمة التجارة العالمية التي تفرض على الدول الاعضاء تحرير التجارة العالمية بإزالة العوائق الفنية والتعرفة الجمركية. ومن الأهمية أن تقوم جهات أكاديمية مختصة بدراسة تأثير الضريبة المقترحة على المواطنين قبل حسم القرار في تطبيقها أو عدمه في دول مجلس التعاون الخليجي. على مدار سنوات طويلة، كانت الدول تتعثر وتعود للوقوف مرة أخرى اقتصادياً، وكثيراً ما كانت الديون هي الحل الوحيد لإنقاذه هذه الدولة أو ذلك الكيان الاقتصادي الضخم من عثرته، وكلما اشتدت الحاجة إلى ذلك، كان الحل الأول هو "صندوق النقد الدولي". ولكن، هل يطبق صندوق النقد الدولي المعايير التي تضمن الحفاظ على التنمية؟ وهل يراعي المعايير الأساسية المطلوبة لدى كل دولة؟ كل هذه الأسئلة أثارها الهجوم الذي شنه عالم الاقتصاد المستقل، العامل لدى منظمة الأمم المتحدة ألفريد دي زاياس، الذي أكد أن هناك ضرورة أن يأخذ الصندوق حقوق الإنسان في الاعتبار قبل أن يعطي قرضا لدولة ما. عالم الاقتصاد، ندد خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بسياسة الصندوق التي تعزز الخصخصة والتقشف، مؤكداً في الوقت نفسه على أنه لا يمكن تجاهل حقوق الإنسان في سياسة القروض، مطالباً الصندوق بمنح القروض للدول التي "تفي بالتزاماتها على صعيد التنمية واحترام حقوق الانسان". تصريحات الرجل، أثارت السؤال الأهم على الإطلاق: هل تتوافق الآليات التي تعتمدها مؤسسات مالية عالمية لمنح قروض مع رؤية الأمم المتحدة، وليس في مجال حقوق الإنسان، أم تتعارض؟ والأمر نفسه بالنسبة للتنمية المستدامة؟ والبرازيل على سبيل المثال، مع بداية الثمانينيات، اقترضت من الصندوق، وبالفعل نفذت شروطه، اعتقاداً في الوصول إلى حل لأزمتها الاقتصادية، ولكن ما لم يكن بالحسبان هو أن هذه الشروط أدت إلى تسريح ملايين العمال، وخفض أجور باقي العاملين، بخلاف إلغاء دعم طلاب المدارس. ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد، تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية. وعلى الرغم من أن الأزمة استمرت 12 عاماً، لحين تمكن البرازيل من سداد القروض بالكامل، إلا أن أثارها امتدت، وأصبح 20% فقط من البرازيليين يمتلكون نحو 80% من أصول الممتلكات، و1% فقط يحصلون على نصف الدخل القومي، ما أدى إلى هبوط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، نتيجة أن نصف الشعب أصبح يتقاضى أقل من نحو 80 دولارًا شهريًا، الأمر الذي دفع البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار، للخروج من الأزمة.
الأزمة نفسها تكررت مع اليونان، التي بدأت مؤسسات التمويل الدولية — عقب انضمامها لمنطقة اليورو- إقراضها لدفع عجلة التنمية فيها، وكانت القروض بمعدلات فائدة منخفضة، ولكن لم يكن الوضع قابلا للاستدامة، حيث واصلت نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي الارتفاع حتى تفاقمت الأزمة الاقتصادية عام 2009، ما دفع صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، لإقراض اليونان 110 مليار يورو لإنقاذها من الإفلاس. واشترط الصندوق على اليونان اتخاذ مجموعة من الإجراءات التقشفية، مثل تحقيق فائض الإيرادات عن النفقات، مخصوم منها الفوائد المستحقة على الديون، ما أدى إلى فشل اليونان في سداد ديونها، وتزامن ذلك مع وصول نسبة ديون الناتج المحلي إلى 175% عام 2015، وارتفعت معدلات بطالة لأكثر من 25%، الأمر الذي تسبب في اضطرابات سياسية كبيرة، وبعدها اعترف المسؤولون في صندوق النقد، بأن اليونان وضعت نهاية لنظرية التقشف كوسيلة لسداد الديون. وبعدها أعلن صندوق النقد، أن اليونان عجزت عن سداد ديونها للصندوق، ولم تتمكن من دفع نحو 1.5 مليار يورو كانت مستحقة عليها في ذلك الوقت، لتصبح أول دولة متطورة تراكم مبالغ متأخرة ولم تعد قادرة على الاستفادة من الموارد المالية لهذه المؤسسة الدولية. وفي غانا، اتخذت الشروط شكلاً مختلفاً، حيث اشترط الصندوق على الدولة رفع التعريفة الجمركية عن السلع الغذائية المستوردة، وفور تلبية غانا لهذا المطلب، أغرقت المنتجات الأوروبية الأسواق الغانية، ما تسبب في كارثة للفلاحين هناك، الذين جاءت الأغذية الأوروبية بأسعار أقل من ثلث السعر المحلي، وفي الوقت نفسه لم يستطع البنك والصندوق أن يفرضا على المجموعة الأوروبية تقليل الدعم لمنتجاتها الزراعية التي تصدرها للعالم الخارجي بأسعار منخفضة.
#محمود_رجب_فتح_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليات حماية للطفل .... د / محمود رجب فتح الله
-
التسول واثاره الاقتصادية فى المجتمع المصرى ... د / محمود رجب
...
-
الملكة القانونية ... ام الملكات الذهنية والفكرية .. ارتقوا ب
...
-
ارتفاع معدل الجريمة من قبل من ليس لهم سوابق جنائية د/ محمود
...
-
النساء يتحملن الإساءة على الأرجح مع غياب ما يكفي من قوانين ت
...
-
المخدرات والمسكرات واثرها على المجتمع ...
-
نظرة استطلاعية واقعية لا سياسية الى الوضع الاقتصادي في مصر
-
آليات تطبيق القانون الدولى والمسؤولية المترتبة على انتهاكه .
...
-
الجريمة الاقتصادية .......................... د/ محمود رجب ف
...
-
شرح قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وفقا للقانون المصرى ا
...
-
الضوابط الرقابية للعمليات المصرفية الالكترونية وإصدار وسائل
...
-
الانعكاسات المتبادلة بين التنمية المستدامة والبيئة........
-
الجهود الدولية لمكافحة ظاهرة غسل الاموال ...
-
جرائم تقنية المعلومات فى القانون المصري الجديد
-
آليات الحماية القانونية للبيئة
-
الضوابط القانونية والاخلاقية للاعلام
-
دور الشريعة والقانون فى استقرار المجتمعات
-
ظاهرة غسل الأموال خارج الحدود وأثرها على المصارف العاملة في
...
المزيد.....
-
في البحرين.. سياحة فن الطهي تعزَّز التنوع الاقتصادي
-
توقف صادرات الغاز الإيراني الى العراق بالكامل
-
عالم روسي: الغرب يطرح مشكلات علمية زائفة من أجل الربح
-
مسؤول إسرائيلي: وضع اقتصادي -صعب- في حيفا جراء صواريخ حزب ال
...
-
مونشنغلادباخ وماينز يتألقان في البوندسليغا ويشعلان المنافسة
...
-
وزير الخارجية: التصعيد بالبحر الأحمر سبب ضررا بالغا للاقتصاد
...
-
الشعب السويسري يرفض توسيع الطرق السريعة وزيادة حقوق أصحاب ال
...
-
العراق: توقف إمدادات الغاز الإيراني وفقدان 5.5 غيغاوات من ال
...
-
تبون يصدّق على أكبر موازنة في تاريخ الجزائر
-
لماذا تحقق التجارة بين تركيا والدول العربية أرقاما قياسية؟
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|