في صف واحد من (مدرسة الإرسالية الأمريكية في العشار ) درس صبيان ولدا في العام نفسه (1901) . ينحدر أحدهما ( يوسف سلمان يوسف ) من عائلة مسيحية فقيرة هاجرت من أرياف الموصل إلى البصرة طلبا الرزق . أما الثاني ( بهجت العطية ) فينتمي لعائلة من ملاكي الأرض في القرنه . إفترق الصبيان حتى قبل أن تتكون علاقة زمالة بينهما لأن الأول ترك المدرسة بعد مرض والده لتحمل أعباء الأيام الصعبة على عائلته ودخل حياة العمل الشاق مبكرا . لم يلتق الصبيان فيما بعد ، لكنهما بقيا يتابعان أخبار بعضهما بحكم التوجه . فقد بدأ الأول بتأسيس أولى الخلايا الشيوعية في ارض العراق القاسية بدءا من الناصرية ، بينما دخل الثاني سلك البوليس السياسي ثم أصبح رئيسا ل(مديرية التحقيقات الجنائية ) وأصبح هاجسه الأول أن يلجم زميل صباه الذي حمل اسم (فهد) وصار سكرتيرا للحزب الشيوعي العراقي .
في الثامنة عشرة من عمره انتقل فهد من البصرة إلى الناصرية ليعمل مع شقيقه داوود في "معمل" الثلج . كانت المدينة بضعة شوارع متقاطعة عموديا وأفقيا ، صممت في عهد مدحت باشا بحيث لا يخفى فيها شئ على شرطي . من طرف كل شارع يمكن رؤية نهايته الأخرى بوضوح ، ويمكن لبضعة حراس في أبراج مراقبة رؤية كل طرق المدينة وحركة الناس فيها . وقد شيدت المدينة في منخفض من الأرض بحيث يمكن إغراقها عند حدوث أية " فتنة" بفتح ثغرة في نهر الفرات في منطقة تقع شمال المدينة تدعى (أبو جداحه ).
وكان في الناصرية التي وصلها فهد شعور متراكم بالضيم له أساس تأريخي وراهن . فآل السعدون الذين حكموا المنتفك وصلوا هذه المنطقة من الحجاز متأخرين قياسا لشيوخ قبائل المنطقة الثلاث : بني مالك وبني سعيد وبني الأجود ، لذلك اعتبروا أغرابا. لكنهم استولوا بالقوة العسكرية ، وبمعونة الباشوات العثمانيين على أراض واسعة . ووفق نظام الولايات الذي بدئ بتطبيقه فوضت الأراضي الأميرية الممتدة على ضفتي الفرات وفي أطراف الناصرية إلى سوق الشيوخ وحتى البصرة بسندات طابو إلى أفراد معدودين من آل السعدون وحرم منها مئات الآلاف من الفلاحين الذين سقوا هذه الأراضي بعرقهم عشرات السنين .
بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918سنّت الإدارة البريطانية نظاما ، سبق وأن طبقه ( سير هنري دوبس ) في بلوشستان لإدارة المناطق العشائرية لتعزيز دور المشيخة وإشراك شيوخ العشائر في الحكم كمساعدين للحكام السياسيين ومتصرفين وقائمقامين و مدراء نواحي . وكان الشيخ صكبان العلي رئيس الخيالة التابعة للشبانة في الناصرية ، وقد خولته سلطات الاحتلال مسؤولية حفظ الأمن في المنطقة . سكان الناصرية اعتبروا أعوانه "كفارا" ولعنوهم في الشوارع ونبذوهم اجتماعيا برفض تقديم الشاي لهم في المقاهي وحطموا الأواني التي يأكلون بها باعتبارها نجسه .
قاومت العشائر الزعامة الإدارية وسلب الأراضي بالسلاح . وشكل الفلاحون الهاربون من جور الإقطاع حزاما من الصرائف واكواخ الطين على التلال المحيطة بالناصرية . كان اهلها يسمونهم (بني لوعه ) ، و يتداولون قصصا عما يفعله فهد الشواي (فهد ناصر السعدون )الذي يلف الفلاحين المتمردين بالحصيرة ويشويهم أحياء .
وبمقدار مقاومة الإقطاع قاوم سكان الناصرية الاحتلال الذي استند إلى الإقطاع . ولذلك وصف ضابط بوليس بريطاني في تقريره لعام 1919 عرب المنتفك بانهم " مثل مسحوق البارود تفجرهم أصغر الشرارات " : أي تشريع قانوني جديد وأي تبديل إداري يقابل بالارتياب والغضب من قبل هؤلاء الفلاحين الفقراء الذين كانوا ضحايا تحالف الإقطاع والاحتلال ، وأي اجتماع ، حتى ولو كان لمشاهدة مسرحية ، يمكن أن يتحول إلى مظاهرة .
من شوارع المنتفك ومن ناسها الفقراء تعلم فهد أول درس في الوطنية التي اختلطت بكراهية الظلم . ومع وصول أول أخبار ثورة العشرين في الفرات بدأ فلاحو المنتفك يزيتون بنادقهم وينظمون الأهازيج ومذكرات التأييد. وقد أدرك الإنكليز خطورة وصول الشرارة إلى برميل البارود ، لذلك غادرت قواتهم أرياف المنتفك لتكون قريبة من الثكنات في المدن . وقد عاش فهد الشاب أحداث ثورة العشرين مغيّرا ومتغيرا . لم يقتصر التغيير على فهد وحده ، فقد خلقت ثورة العشرين مناخا نموذجيا لتقارب العراقيين ( الوردي - لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث - الجزء الخامس ص15 – دار كوفان للنشر لندن ) . فخلال أحداث الثورة زال بعض ذلك النفور المتبادل بين أهل المدن والعشائر خاصة في مناطق الفرات الأوسط ، ودخل علماء الدين الثورة بعد أن كانت المعارك ضد قوات الاحتلال حكرا على القبائل ، وشارك بعضهم في المعارك وأفتى البعض بالجهاد . كانت المعارك قبل الثورة منطقية ومحدودة فشملت هذه المرة كل العراق رغم تباعد المسافات وصعوبة المواصلات وانقطاع المعلومات . وشاركت في الثورة كل طبقات الشعب ، العمامة والطربوش والجراوية والعقال والجمداني . وأصبحت مفاهيم الوطنية و الاستقلال مألوفة وكانت بداية نمو الوعي الوطني .
في بداية الأمر كان الجامع مركز التوجيه العقائدي للثوار وكان رجال الدين ، من علماء ووعاظ وخطباء جوامع هم الموجهون . لكن شرائح جديدة من المثقفين بدأت تبرز خلال الثورة وبعدها :
- بقايا الدواوينية العثمانية التي حرمها الاحتلال من وظائفها أخذت تلعب دورا تحريضيا بارزا في المقاهي ، وبالتحديد ( مقهى سبع) الذي تحول إلى مطبخ للشائعات المعادية للإنكليز مما دفع (المس بيل) لأن تلقي اللوم على طبقة الأفندية وعينت مخبرا خاصا لينقل لها الشائعات التي تدور في هذه المقاهي.
- أبناء الجلبيين والتجار الذين حطمت البضائع ووسائط النقل الإنكليزية تجارتهم .
- شريحة جديدة من المثقفين بدأت بالتشكل منذ الثورة التركية عام 1908 ، كقائد الانقلاب شوكت سليمان ، وبرز منها قادة سياسيون خلال ثورة العشرين وبعدها.
تختلف هذه النخب الجديدة عن المثقفين الدينيين وعن بقايا الدواوينية العثمانية في كونها تضم جيلا من خريجي المدارس العليا وطلاب المدارس العالية ، ولاسيما الحقوق ، وكذلك بعض من عادوا من دراستهم في الخارج ، وطبقات من شباب شعبي متعلم .. أكثرهم تلقفتهم الدولة في طور النشوء و كانوا بحاجة لوظائف الدولة ذات الدخل الثابت في غياب الأعمال الحرة . كان دورهم في بناء الدولة الجديدة ملحوظا لكن دورهم في التوجيه السياسي كان ضعيفا بسبب عدم وجود أحزاب مستنيرة تجذبهم ولأن الأحزاب التقليدية ، ومنها المعارضة كانت آنذاك تدور حول المشاركة في الحكم ،الأمر الذي يجعلها بعيدة عن المثل الوطنية للجيل الجديد من الشباب المثقف ذي الميول الوطنية الراديكالية . وقد عبر زكي خيري في لقاء أجريته معه عن حيرة هذا الجيل: " لقد أثر انحسار ثورة العشرين ونتائجها غير المحسومة على مزاج المثقفين . ورغم البحث المستمر ، خاصة بين المثقفين التقدميين ، إلا ان مشاريعهم كانت تنهار ويصطدمون بأبواب مغلقة . وأتذكر على سبيل المثال عندما فتح الحزب الوطني أبوابه عام 1927 ... ذهبت بصحبة زميلين أحدهما من آل الآلوسي والآخر حسين فوزي ، إن لم تخني الذاكرة ،إلى مقر الحزب طالبين الانتماء .وكان دافعنا ذاتيا ، فلا أتذكر إننا قرأنا برنامجا لهذا الحزب . فقط أهداف عامة يمكن تلخيصها ببضع كلمات : (الاستقلال التام أو الموت الزؤام ) أو شئ شبيه بهذا . وكانت شخصية أبو التمن بحد ذاتها مؤثرة ... قلنا إننا نريد أن نكون جنودا للوطن ولذلك نريد الانتماء للحزب الوطني لنجاهد في سبيله . وبعد قليل تكشفت البشاشة عن موقف وجدناه مهينا لنا . فبما أننا دون السن القانوني للدخول ، كانت أعمارنا آنذاك 16عاما وسن القبول القانوني 18 عاما فما فوق ، جاء الرد أبويا إلى حد أغاظنا ، حيث عاملونا مثل أطفال قصر عليهم أن يهتموا بدروسهم . و رغم أننا أدينا التحية للزعيم قبل أن نغادر ، لكننا لم نفهم لماذا لم يكونوا بحاجة لثوار في مثل عمرنا . ولذلك خرجنا والمرارة تملأ فمنا " ( البديل : مجلة فصلية تصدرها رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين - العدد 8 حزيران 1986 - ص 42-48 ) . تختلف شريحة المثقفين الجديدة في طبيعة خطابها الذي يميل إلى الاستناد على القومية بدلا من الدين ، والبحث عن سند خارج الإسلام في نضالات شعوب أخرى وحلفاء آخرين ( المانيا والإتحاد السوفياتي) وكلاهما مسيحي ، وتختلف في أداة توصيل الخطاب مستخدمة نفس وسائل المستعمر ( الإذاعة والصحافة) بدلا من منبر الجامع .
مع الظهور الفعال لهذه الشرائح بدأ الصراع بين القديم والجديد يأخذ طابعا حادا في شتى المجالات ، إبتداء من اللباس ، وقد لاحظ أمين الريحاني تطرف الشباب العراقي الذي يرتدي آخر التقليعات الإفرنجية ، مرورا بالأدب حيث شهدت الصحافة هجوما على الأدب القديم وانتهاء بمعركة السفور والحجاب .
خلال أحداث الثورة كان هذا المثقف الحديث شريكا ثانويا لرجل الدين في خطب التحريض الموجهة للعامة بعد إخفاق الثورة والخطب الحماسية وظهور الأسئلة الكبيرة ، تزحزح جزئيا دور الجامع و الملالي وبرز دور المقاهي و الأفندية الذين يتابعون أخبار العالم وما يجري فيه والذين يملكون المعلومات التاريخية والجغرافية .. إليهم يأتي الناس الذين قذفوا من قراهم ومحلاتهم ومهنهم المغلقة لمعرفة ما يجري في العالم . اتسع توزيع الجرائد بشكل ملحوظ في الفترة التي تلت ثورة العشرين . وقد أشار روفائيل بطي في مذكراته إلى أن مقدار ما يطبع من الجرائد آنذاك يقارب 1500 جريدة يوميا . وحين صدور جريدة البلاد (25 تشرين أول 1929) ارتفع الرقم إلى 3000 نسخة واستقر على 4500 نسخة يوميا . (ذاكرة عراقية : دار المدى ج 1 ص 169) وهذا الرقم مدهش في بلد يعاني اكثر من 70% من سكانه من الأمية .
تعتبر هذه الطبقة نفسها ابنة ثورة العشرين وتحمل وعيها الوطني الذي يجعلها بمعزل عن سلطة الإنتداب حتى ولو كانت تعمل في جهازها الإداري ، وهي في نفس الوقت بمعزل عن الشعب بسبب التمايز الطبقي وضيق المجتمع المدني وبالتالي حرية التوصيل التي تفصل بين المثقف وبين الجماهير التي يريد ان يتحدث باسمها ويوجه خطابه لها . كما يفصله عن الشعب حاجز الجهل الرهيب . ولذلك بقي المثقف خارج السلطة وخارج الشعب ويحن إليهما معا.
وتكشف مراسلات محمود أحمد السيد ، هذه الشكوى التي تصل حد اليأس من الكتابة والتنوير:( الأديب في بغداد مسكين لا احترام له ، والمؤلف لا رواج لكتبه ولا قراء لمقالاته ...والعوام أميون ذوو حرف وصناعات يجاهدون في سبيل العيش ولا يعرفون سوى ملء بطونهم وتلبية رغباتهم الحيوانية ، أو فلاحون جياع ... وما لهؤلاء و للأدباء !: المجموعة الكاملة لقصص محمود أحمد السيد – وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية ص567 ) .
خلال أحداث الثورة اكتشف المثقف بالملموس قدرة هذه الجماهير الأمية والفقيرة على تحريك التاريخ ، ولذلك يرجع بطل محمود أحمد السيد من منفاه في الهند ، بناء على نصيحة فيلسوف ثوري هندي ، ليشارك في أحداث الثورة .( ويرجو أن يذهب عنه الضعف والألم ، فيستقبل وإياه الطعنات المقبلة في معترك الحياة : ص 315 ) . وترينا رسائل بطل الرواية مجاهد أحمد صورة مثقف نزل من عليائه ليختلط بقبائل الفرات الأوسط الثائرة ليتعرف على هذه القبائل كمحرض وثائر ( يعجبني من أخلاق هذه القبائل المحيطة بنا شجاعتها ويؤلمني فقرها ). تقدم هذه الشخصية الشكل الجنيني ل(لمثقف العضوي) الذي يعتبر قضية الناس قضيته ، يقترب من الناس حتى ولو كانوا من شرائح اجتماعية بعيدة عنه ويقيم معها نسيجا من العلاقات ، ويوجه لها خطابه ( حتى ولو لم يكن مضمون الوصول ) ويجمعه مع الناس مشروع واحد ( الاستقلال )حتى لو فرقه عنهم حاجز الجهل. ولذلك كان فهد على حق حين قال للمحقق خلال محاكمته عام 1947: ( هذه الثورة _ يقصد ثورة العشرين _ زرعت في أعماقي بذرة الحب لبلادي ) .
فكرة الشيوعية
يجزم حنا بطاطو( الجزء الثاني من كتابه الحزب الشيوعي ص 57) بأن فهدتلقى أول دروسه عن الشيوعية على يد مندوب الكومنترن بيوتر فاسيلي الذي عرف في الناصرية باسم ( بطرس الخياط ) . بينما قال لي ابن أخ فهد (سليم داوود سلمان ) أواسط عام 1974 بأن فهد عرف الشيوعية عن طريق والده الذي تنقل خلال شبابه بين الهند والقفقاس . وخلال إحدى جولاته كتاجر خيول ساعد شيوعيين على التنقل وسمع منهم شرحا لفكرة الشيوعية وتحدث عنها لولديه داوود ويوسف .
لكن الشيوعية لم تكن بحاجة لوسطاء فرديين . فحتى قبل الثورة الروسية كانت أفكار العدل الاجتماعي والانقسام الظالم بين قلة من الأغنياء وكثرة من الفقراء قد شغلت الإحيائيين المسلمين وعبر عنها الكواكبي في ( طبائع الاستبداد )عام 1900، حيث ربط الاستبداد بالمال ( الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشر وأبي وأمي الإساءة وأخي لغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب ، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال : طبائع الاستبداد: عبد الحمن الكواكبي – دار موفم للنشر ص71 ) . وعلى خلاف مجايليه الذين رأوا أن تقسيم المال هو من إرادة الخالق الذي يرزق الناس ، تنبه الكواكبي إلى الانقسام الطبقي الظالم ( الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا ، فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة ، يتمتعون بنصف ما تجمد من دم البشر أو زيادة : الكواكبي ص 74 ) . ومثل الاشتراكيين الفابيين لا يدعو الكواكبي الفقراء إلى الثورة ، إنما يعتمد رحمة الأغنياء وتنظيم الدولة لما يسميه ب( الاشتراك العمومي ) بحيث يؤخذ قسم من مال الأغنياء من خلال عملية توافق تقوم بها الدولة . ويرسم الكواكبي صورة مدينة فاضلة إسلامية قائمة على اشتراكية الحروب التي نشأت خلال عمليات الفتح . أفكار الكواكبي كانت من العوامل التي ساهمت في انقسام المجتمع الديني في النجف بين مشروطة ومستبدة ، بين من يريدون الإصلاح وبين من يعارضون المساواة على أساس أنه لا يجوز الاحتجاج على قسمة المال باعتبارها قسمة الله . فكان الفكر الاشتراكي يأتي مع فكر التنوير ودعوات الاستقلال ، أفكار تركيا الفتاة وشبلي شميل وأمين الريحاني ويوسف يزبك و سلامه موسى .
حتى قبل أن تظهر جماعة الرحال الماركسية في بغداد أدرك الإنكليز صلاحية التربة العراقية للبذور الشيوعية ، لذلك استبقوها بنشر كراريس أرادت أن تكسب عطف العراقيين على أسرة رومانوف العريقة ( الرقيقة ) التي أسال الشيوعيون القساة دمها الشفاف على بلاط القصور القيصرية ، وكان التحذير من خطر الشيوعية المعادية للدين والملكية جزء ثابتا من برنامج الزيارات التي قامت بها المس بيل لعلماء الدين وشيوخ العشائر Gertrude Bell: Selected Letters- Penguin Books-p247
هذه الحملة أثارت انتباه العراقيين ، الذين اعتادوا استقبال ما تقوله صحافة الانكليز بالريبة . وقد أطلقت صحافة الفرات ، خلال ثورة العشرين ، هذا السؤال صريحا: لماذا يهاجم الإنكليز البلاشفة ودولة البلاشفة بهذه الحدة ؟!
وكان للتجاور الزماني بين ثورة العشرين التحررية والثورة البلشفية في روسيا سببا في انتشار أفكار البلشفية في العراق لدرجة أن الرصافي ربط الاثنين بحس عفوي :
للإنكليز مطامع ببلادكم لا تنتهي إلا بأن تتبلشفوا!
ومنذ قيام ثورة اكتوبر وصلت أخبارها إلى العراق المتعطش لمعرفة ما حوله ، عبر إيران وتركيا ، ووصلت بالتحديد مبادئها المناوئة للاستعمار والتي طبقت عمليا بمساعدة الحركة الكمالية في تركيا، والحركة المعادية لبريطانيا في إيران ،وأخذ الدعاة يوصلون المنشورات والأدبيات المترجمة إلى العراق وسوريا والحجاز .
وقد أورد تقرير للاستخبارات الإنكليزية : إن أخبار البلاشفة ومنشوراتهم متداولة في العتبات المقدسة بينها كتاب ( مبادئ البلشفية ) المطبوع في حلب ، وهي تلقى عطفا وتأييدا لما فيها من عداء لبريطانيا ، وأشار التقرير إلى أن المجتهد الكبير محمد تقي الشيرازي أصدر فتوى مفادها أن البلاشفة يجب اعتبارهم أصدقاء للإسلام . وكتب حاكم السليمانية الميجر صول في أوائل 1920 أن اسم البلشفية ومبادئها معروفة في منطقته وإن جريدة كركوك أهم من يروج لها .
ربيع عام 1920، وهو ربيع الثورة في العراق ، شهد أحداثا ساعدت على رواج الدعاية البلشفية :
-في نهاية نيسان من ذاك العام استطاعت قوات الجيش الأحمر طرد القوات الإنكليزية من وراء القفقاس ودخلت مدينة باكو النفطية المهمة .
- منتصف أيار من نفس العام احتلت ميناء مندلي الإيراني على بحر الخزر.
بالنسبة لشعب ثائر على نفس الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ، كان لانتصارات الجيش الاحمر تأثير معنوي مزدوج . فبرز الاتحاد السوفياتي تلقائيا كسند قوي لثوار العشرين ، كما ان انتصاراته العسكرية كانت دليلا على إمكانية اخراج الانكليزمن بقعة احتلوها بالقوة .
- في هذا الوقت انتشر في أقطار الشرق نداء ( إلى شعوب الشرق ) الذي يشير إلى أن روسيا ستساعد شعوب الشرق على استعادة استقلالها إذ يقول: ( أيها المسلمون في الشرق أتراكا وعربا وهنودا وإيرانيين ، ساعدوا روسيا كما ستساعدكم على الحصول على حقوقكم )!
هذه التطورات وانتشار الأفكار أوجدت مناخا ورغبة لدى عدد من الوطنيين العراقيين لتكوين جمعيات بلشفية وفوضوية سرية قبل تأسيس جماعة الرحال الماركسية :
- فقد ورد تقرير للشرطة في آذار 1920 أن جمعية قد تأسست في العراق باسم ( الجمعية البلشفية ).
- وتقول المس بيل : هناك أدلة تبرهن على أنه هناك جمعية متآمرة ، أسسها البلشفيك بالتعاون مع الوطنيين الأتراك ، وكانت منذ مدة طويلة تتصل بالجمعيات العراقية المتطرفة لاستغلال الرابطة الدينية المشتركة بين العرب والأتراك وإحراج وضع البرييطانيين في الشرق الأوسط : Gertrude Bell Archive _ the letters 14june 1920
- في عام 1922 تكون( الحزب السري العراقي) المتأثر بالحركة الفوضوية. وهاجم أعضاؤه المسلحون عام 1924 مكاتب بعض رجال الأعمال وهددوهم بالموت. وجاء في رسالة اللجنة العليا للحزب : إننا لم نرَ أية أعمال مفيدة للبلاد قام بها الأغنياء مع انهم يتمتعون بهذا الوطن البائس أكثر من الآخرين ... وقد أعذر من أنذر :
Great Britain,the oriental secretary to the British high commissioner,Iraq(secret)intelligence.Report No 15 of julay 1924, para514 and514A
أورد النص والمصدر حنا بطاطو في الصفحة 39من الجزء الثاني من كتابه: الحزب الشيوعي
- هذه التنظيمات الصغيرة تكشف ميلا عراقيا مبكرا للجمع بين مقاومة الاستعمار والظلم الاجتماعي معا وبداية تشكل تنظيمات بلشفية سرية ، لكنها اختفت بسرعة دون أن تترك أثرا يذكر بسبب ضعف الإمكانيات الفكرية والتنظيمية واعتمادها على الحماسة .
جماعة الرحال
حتى الآن كانت الشيوعية في مخيلة الناس ، كما يروي زكي خيرى : " حشد جماهيري هائل ومكلل بالأعلام الحمراء واللافتات يزحف على قلاع الطغاة والأغنياء ليؤسس حكومة فقراء " - مقابلة البديل - .
لكن مجموعة من المثقفين الطليعيين ( حسين الرحال ، محمد سليم فتاح ، محمود أحمد السيد ، عوني بكر صدقي ، عبد الله جدوع ، مصطفى على وإبراهيم القزاز ) بدأت تكتب وتترجم مقالات طويلة ومتسلسلة عن مبادئ الماركسية وتسربها إلى الصحف منذ بداية العشرينات . ففي بداية العشرينات كتب عوني بكر صدقي عن القوانين الاشتراكية وفائض القيمة " ولما كانت الأمور بنتائجها والمبادئ بما لها من سلطة وتأثير في نفوس أتباعها فقد ظهر للملأ ان أقوى مبدأ هو الاشتراكية " و كتب محمد سليم فتاح عن المرأة والعائلة معتمدا على مؤلف إنجلز : تأريخ الملكية الفردية والعائلة ، مبتدئا من المشاعية البدائية وتطور العائلة ليتوصل إلى " أن تحرر المرأة مرتبط بتحررها الاقتصادي وتحرر المجتمع من الاضطهاد"، جريدة العراق 22-25 1924- . وفي (جريدة العالم العربي) 27آذار 1927 نشر حسين الرحال سلسلة مقالات حول الجبر في الاجتماع متضمنا مبادئ المادية التاريخية ليصل إلى أن العمل سيحرر المرأة ، وكتب محمود أحمد السيد في (الحاصد) تعريفات أولية عن الواقعية وعن قصة( البعث )لتولستوي وقصائد الكاتب التركي رشاد نوري .
كان الماركسيون الأوائل يحصلون على مصادرهم مستغلين ثغرات الرقابة التي لا تشمل المطبوعات الانكليزية . وكانت مكتبة مكنزي ، وصاحبها اشتراكي من حزب العمال البريطاني ، مصدرا مهما للأدبيات الماركسية ، كمؤلفات لماركس وإنجلز وصحافة الحزبين الشيوعيين البريطاني والفرنسي . فيقرأونها ويترجمون منها أو يستعرضونها .
الصحيفة
وحتى أواسط العشرينات كان الرواد الأوائل للماركسية ينشرون في صحف متفرقة دون تنسيق ، وإن كانت ( مقهى النقيب في قمبر علي ) مكانا للقاءاتهم . هذه الفترة شهدت عقد معاهدة 1924 وتعديلاتها في 13 كانون الثاني 1926ثم عقد اتفاقية النفط في عهد حكومة ياسين الهاشمي وبعدها صادقت حكومة جعفر العسكري على اتفاقية 1922. سلسة الاتفاقيات دفعت الحس الوطني باتجاهات أكثر راديكالية وخارج لعبة أحزاب المعارضة التقليدية التي تدور مناوراتها حول المشاركة السلطة . كما إن المعركة التي فتحها قاسم أمين في مصر حول تحرر المرأة وجدت صداها في العراق بانقسام المجتمع إلى أغلبية من الحجابيين وقلة من السفوريين بينهم الماركسيون الأوائل الذين أرادوا وضع القضية في إطار اجتماعي . في هذا الجو اجتمعت المجموعة الماركسية الأولى وأصدرت في 28 كانون الأول 1924 ( الصحيفة ) كأول مجلة ماركسية في المشرق العربي لصاحبها ومدير تحريرها حسين الرحال . اتخذت الجماعة غرفة متواضعة لها مقابل سينما الوطني مقرا للمجلة التي صدرت نصف شهرية من 16 صفحة بحجم صغير ، ومع ذلك ( استطاعت أن تهز الأوساط المحافظة وتزعزع بعض القيم السائدة ، فقد تمكنت من أن تعكس على أعمدتها أحدث الآراء في التاريخ والأدب وأجرأ النظريات في السياسة والاقتصاد "، - خيري أمين العمري - حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث – منشورات آفاق عربية – بغداد ص127) . فشرع عددها الأول بنشر مقال متسلسل بعنوان ( التطور ناموس الحياة ) قارن بين الفلسفات المثالية والفلسفة الديالكتيكية لينتهي بالقول " كل شئ متطور ومتبدل ، النظم والأخلاق والمعتقدات والعادات واللغات والحضارات كلها متطورة " . ونشر محمد سليم فتاح مقالا بعنوان ( الأخلاق كعلم ) يتضمن رؤية ماركسية للتطور التاريخي للفلسفة ، وفي مقال بعنوان ( متى تنتهي الأزمة ؟) قدم عبد المجيد رفعت المفاهيم الماركسية للتطور الاقتصادي ، ويربط محمد سليم فتاح في مقال بعنوان (الاقتصاد الملي والشعور الملي) بين البنى الاقتصادية والمشاعر القومية. ولم تهتم بالأخبار السياسية اليومية ولم تحرض ضد الحكومة ، وهي المواضيع التي كانت تحظى باهتمام الناس العاديين ، إنما ركزت اهتمامها على الفكر والنظرية متوجهة إلى النخبة المثقفة ، ولم تتوسع الجماعة خارج حدود النخبة المثقفة ولم تعمل لكسب الجمهور لتكوينن حزب سياسي ، إنما اكتفت بلقاءات في مقر الصحيفة أو في مقهى النقيب أو في غرفة صغيرة في جامع الحيدرخانه الذي كان والد محمود أحمد السيد سادنه . وظلت مثابة " حلقة لدراسة الماركسية " حسب وصف حنا بطاطو ، و ركزت هجومها على التقاليد والعادات ، بتأكيدها المشدد على أن المعتقدات والتقاليد والعادات والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية ليست أزلية ، وإنما تتغير بتغير النظم والبنى التحتية ، ولذلك واجهت هجوم القوى المحافظة في الجوامع والصحف المحافظة أكثر مما واجهت هجوم الحكومة . وخلال أعدادها القليلة والمحدودة التوزيع استطاعت الصحيفة أن توصل أوليات الفكر الماركسي للنخب المثقفة الساعية للتحرر والتجديد .
ورغم ثورية المثقفين واشتراكية بعضهم الجنينية لكنهم لم يختلطوا بالجماهير ولم يشاركوا في الفعاليات العامة ، ولذلك بقي فهمهم للشعب رومانسيا عاما ، فما كانوا راغبين ولا قادرين على تنظيم الجماهير ، بل يفضلون التأثير من خلال الكتابة والخطابة وأحاديث المقهى .أول لقاء بين نخبة المثقفين الجديدة والجماهير تحقق عام 1928 عندما أعلن عن زيارة سيقوم بها الفريد موند القطب الصهيوني البريطاني ورئيس احتكار ( إمبريال كيميكال ) إلى بغداد بناء على دعوة من الملك فيصل الأول . آنذاك بادرت النخبة المثقفة المنضوية في نادي التضامن ( حسين الرحال ، حسين جميل ، زكي خيري ) للدعوة لمظاهرة استنكار شارك فيها طلبة الثانويات ودار المعلمين و الكسبة والعمال .
المشاركة الثانية كانت في إضراب الصنائع العام (1931) حيث اندمج المثقفون مع العمال وصغار الكسبة لمدة أسبوعين بقيت خلالها سلطة الدولة معزولة تماما . وحتى الآن لعب المثقفون دور المحرضين وليس المنظمين . وحسب مذكرات زكي خيري لم يجد الجيل الشاب من المثقفين الثوريين من يقوده ، وكان يبحث عن دعاة ليكتشفهم ، حتى ولو في الكتب ... في تلك الأيام أخذ يتألق نجم يوسف سلمان يوسف ( فهد) في جنوبي العراق الذي اعتنق الفكر الماركسي منذ 1927 وكان من قادة الحزب الوطني برئاسة جعفر أبو التمن فرع الناصرية . وأخذ منذ عام 1932 ينظم الخلايا الشيوعية في الجنوب وكنا نسمع باسمه ونشاطه من بعيد وكأننا في بلد آخر . كانت مزايا فهد الأساسية :
القدرة على تنظيم العمل الجماهيري وقيادته والانضباط المعملي البروليتاري والروح الجهادية المواظبة . وكان قبل كل شئ يختلط بالجماهير ، بالكادحين مباشرة كأحدهم وبدون تكلف . وهذا ما لم يستطعه المثقفون الماركسيون قبله ، ولذلك بقيت الشيوعية في بغداد بين المثقفين حديث المقاهي السياسية ولم تعرف التنظيم إلا بعد المنطقة الجنوبية عام 1933- 1944 . ولأول مرة وجد المثقف الثوري حزبا سريا يوزع منشورات سرية خارج الأطر الحزبية التي تدور حول السلطة : زكي خيري : صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم ص 51،65 ).
الخلايا الأولى
بين الناصرية والبصرة كان يوسف سلمان فهد يعمل بشكل مختلف تماما . فقد أدرك منذ البداية أن الشيوعية ليست مجرد خيار ذهني أو فكرة للتداول والمساجلة ، إنما هي دليل عمل ، لذلك بدأ يتعلمها ويبنيها في نفس الوقت . و منذ عام 1927 بدأ يكون (خلايا الرفاق ) . في هذه الفترة فتح فهد أول مكتبة في الناصرية . " في هذه المكتبة بدأت لقاءاتنا الأولى . نذهب إليه لشراء كتاب أو مجلة معينة . وبعد مناقشات طويلة نغادر وقد اشترينا كتابا آخر ، وفي المرة الثانية نأتيه لنطلب منه أن يختار لنا كتابا مفيدا كالأول ... وهكذا في المرة الثالثة أو الرابعة يمد يده إلى مكان خفي ليسلمنا خلسة كتابا مغلفا تداولته أيد كثيرة ، وأتذكر أنني استلمت البيان الشيوعي مخطوطا باليد " ( لقاء مع حميد رشيد الكسار ، من أول رفاق فهد في الناصرية ، جرى اللقاء عام 1974 ) . وقد أصبحت هذه المكتبة مركز جذب لشباب الوطني المدينة ، ومن جهة أخرى جذبت أنظار المخبرين ، لذلك أغلقها فهد وعاد ليعمل في مكنة الثلج ، ولكنه لم ينقطع عن رفاقه الأوائل ، فقد أخذوا يترددون عليه في معمل الثلج ليختلوا به أو يستلموا منه ورقة أو إيعازا .
مصادر الفكرة الشيوعية كانت شحيحة جدا في مدينة الناصرية ، و كان البحث عن هذه المصادر بين الصحف التي تصل المدينة جزء من عمل الرفاق الأوائل . وقد عثر فهد مرة في صحيفة إنكليزية على إعلان عن الكتب المتوفرة لدى جمعية الصداقة البريطانية _ السوفياتية . في الحال حرر فهد رسالة على عنوان الجمعية ، وبعد أيام وصلت رزمة كتب في البريد البريطاني الذي لا يخضع للتفتيش ، بين هذه الكتب الدستور السوفياتي وبعض خطب لينين فبدأ فهد بترجمتها فورا .
" كانت فكرتنا عن الشيوعية في الغالب بسيطة جدا : دولة فقراء ، نظام ليس فيه إقطاعيين ، ولا سيد أو مسود"، ( حميد رشيد الكسار ) . عملية التثقيف بالفكرة الشيوعية كانت تقرن بتطبيقاتها على الوضع العراقي ، فقد كان فهد حريصا على تقصي أوضاع عمال الميناء والسكك و كان دائم التنقل على ظهر حصان بين الأرياف والقرى ليتعرف على أوضاع الفلاحين ويحمل معه دفترا يسجل فيه ملاحظاته . في تلك الفترة تابع فهد باهتمام عملية النهب الاستعماري للعراق . يقرأ الصحف ويقتطع منها أرقاما ومعلومات عن الوضع الاقتصادي ومداخيل الناس وأوضاع السوق . وفي مكنة الثلج كان يصغي باهتمام لمن يحدثه عن أوضاع الناس . وعندما بدأت الأزمة الاقتصادية العالمية أكد فهد أنها ستترك بصمات عميقة على العراق . ما من قضية تحدث عنها ، في الاقتصاد أو السياسة ، إلا وكانت أمثلتها عراقية .
منذ البداية قال فهد لأحد رفاقه " حقا إننا شيوعيون ، لكننا لا نريد لبدء من الآن بتطبيق الشيوعية لأننا لا نريد أن نلوي ذراع التاريخ بقوة " ( لقاء مع عبد الرحمن الداوود ، أحد رفاق فهد في الناصرية عام 1974 ) ولذلك كان عمل خلايا الرفاق يقترن بالعمل الوطني المعادي للاستعمار . وكان الرفاق الأوائل معروفون بأنهم أكثر الوطنيين في الناصرية والبصرة حيوية وشجاعة . وقبل أن يؤسس الحزب الوطني فرعا في الناصرية أوصى فهد رفاقه بدعم هذا الحزب وحث الناس على تأييده ، وقد مهد لتوسيع هذا التأييد من خلال الاجتماعات وجمع التواقيع المرفوعة لرئيس الحزب الوطني ( جعفر أبو التمن ) تطالبه بفتح مقر للحزب في الناصرية . وقد شكل الحزب الوطني آنذاك عنصر جذب مؤثر للشبان الوطنيين ذوي الأفكار الراديكالية ، ويعود السبب إلى شخصية جعفر أبو التمن . فقد كان أبو التمن لكل هؤلاء رمزا للمعارضة الصلبة . وعلى خلاف المعارضين التقليديين مثل ياسين الهاشمي الذين أغرتهم المناصب الحكومية ، رفض أبو التمن كل المناصب الحكومية ، بل وعارض الدخول في لعبة الانتخابات ، كما إنه ترفع على الطائفية رافضا تمثيل طائفته الشيعية أو التنسيق معها مفضلا العمل لوحده ، كما إنه أخرج العمل السياسي من الصالونات وأدخل الطبقات الفقيرة في الحزب . ولذلك أثرت شخصيته وصلابته ونزاهته السياسية في تكوين العديد من القادة الوطنيين العلمانيين ، ومنهم فهد نفسه . ولكن عنصرا آخر جذب فهد للعمل في الحزب الوطني . فرغم إن قيادة الحزب الوطني تمثل خليطا من التجار المتوسطين و الضباط الشريفيين والمفكرين الوطنيين والمهنيين ، إلا إن قاعدة الحزب مكونة من طبقات أدنى من صغار الكسبة والحرفيين والعمال . وقد وجد فهد في هذه القاعدة مجال عمله .
وكان فهد ورفاقه من أوائل من حصلوا على بطاقة عضوية الحزب في الناصرية وعملوا باتجاه تجذير وطنية الحزب ببعد اجتماعي فأخذوا على عاتقهم تعليم عمال الحزب و فلاحيه القراءة والكتابة . وكانت كلمة ( نقابة ) من أول الكلمات التي تعلموا كتابتها وفهم معناها وأهميتها .
فهد والمثقفون
لم يعارض فهد ثقافة المثقفين ولا دورهم كمنتجين للثقافة . ففي الوصايا التي صاغها للحزب وأعضائه : (كن تقدميا في نظرتك نحو العلم والفن والأدب والثقافة بصورة عامة ودافع عنها باعتبارها ملك شعبنا وملك الإنسانية المتقدمة واحترم العلماء والفنانين والأدباء دون التفات لقومياتهم وأديانهم ) . و عارض فهد نقد رفاقه للجواهري حين امتدح الحكم " أعطوه ثورات سيعطيكم قصائد ثورية " و أنشأ في السجن لرفاقه مدرسه نموذجية للثقافة . لكن مخاوف فهد المبكرة من المثقفين تنصب على دورهم داخل الحزب الشيوعي .
وقد توقف فهد طويلا أمام ظاهرة إقبال المثقفين على الفكر الشيوعي والتنظيمات الشيوعية . لم تكن تجربة أفندية بغداد ، وبالتحديد تجربة جماعة الرحال وجماعة الأهالي ، السبب الوحيد لحساسية فهد المبكرة من المثقفين . فإضافة لانطفاء التجربتين تأثر فهد بالفهم الميكانيكي الذي ينظر للمثقفين فقط من زاوية أصولهم الاجتماعية . كانت ثورة أكتوبر في بداياتها حين واجه لينين المشاكل مع المثقفين واعتبرهم إفراز عرضي للطبقة الرأسمالية والمالكة ، وإن ثقافتهم هي إفراز عرضي للثقافة الرأسمالية ( جميعهم تحدروا من الطبقة المالكة وليس من السماء : لينين - في الثقافة والثورة الثقافية ، طبع دار التقدم – موسكو ص 30_ 35 ) . وتريد هذه التحديدات أولا أن تنفي أية استقلالية ، حتى ولو نسبية ، للمثقف عن السياسي ، وتهدف بالتالي لغايات عملية تبسيطية اختصرها لينين ( نستفيد منهم ، نحاربهم ) . وقد تشكل هذا التحديد في جو الاستقطاب الذي رافق بدايات الثورة في روسيا: لابد من البحث عن موقع للمثقف ! لم تكن التطبيقات الأولى لتدرك بأن المثقف ليس إفرازا ميكانيكيا لبنية تحتية ، إنما يجب البحث عن موقعه في مجمل العلاقات ، وقبل ذلك في وعيه كمنظم للوظيفة الفكرية للطبقة التي يرتبط بها عضويا ، ولذلك يجب البحث عن هذا المثقف الموجود في كل الطبقات في وظيفته قبل انحداره الاجتماعي .
تلقى فهد توصيفات لينين وستالين جاهزة ليطبقها على الوضع العراقي بإحالته إلى ( البيتي برجوا وخصوصا المثقفين : مؤلفات فهد ص44 ) ويستند هذا التوصيف على تضخيم غير واقعي للطبقات الأساسية وبالتحديد لحجم ووعي الطبقة العاملة العراقية ذات الأصول الفلاحية ، ويرمي بالتالي إلى التقليل من دور المثقفين ، ومنهم فهد نفسه ، الذين كانوا وراء تأسيس وقيام الأحزاب الوطنية والإصلاحية ، ومنها الحزب الشيوعي ، فهم الذين أقنعوا هذه الطبقة الجنينية بأنها طبقة وإن مصالحها موحدة وخلقوا تصوراتها عن نفسها وعن العالم .
التصور الميكانيكي الجبري الذي رافق بدايات الثورة الروسية نفى على المثقف وعيه ، وفسر إقبال المثقفين على الثورة بأنه لم يكن نابعا من قناعتهم الفكرية " لن يكونوا أبدا إشتراكيي الميل_ يجزم لينين _إنما عشاق الديمقراطية البرجوازية " جاءوا إلى البروليتاريا بفعل قسر خارجي ، " أما وحشية الإمبرياليين ، أو فقدان خط الرجعة للطبقة الأم " ( لينين - في الثقافة والثورة الثقافية – ص 31 ) . وقد استند فهد على نفس التصور الجبري في تفسير أسباب إقبال المثقفين إلى الحزب : " أما طلاب العضوية في الأحزاب الشيوعية في المستعمرات والأقطار التابعة للإمبريالزم ، حيث يكون النضال التحرري في مقدمة الأهداف ، وحيث يكون القطر متأخر صناعيا _ مثل قطرنا _ فالملاحظ أن أكثرية المنجذبين إلى الحزب هم من البتي برجوا ، وخصوصا المثقفين ، وبسبب أن البلاد خالية من أحزاب ديمقراطية علنية يستطيع هؤلاء أن يبدو نشاطهم فيها ، ولحرمان الموظفين والمستخدمين من الاشتغال بالسياسة ، وأحيانا لأسباب شخصية وللتجسس على أعضاء الحزب وأعماله ، ولولا هذه الأسباب لما جاء جميع هؤلاء إلى الحزب ولوجدوا ضالتهم خارجه " ( المؤلفات ص44 ) .
وقد يكون في هذا التسبيب بعض الصحة . فقد شكلت الوظيفة في جهاز الدولة طموحا جاذبا لمثقفي تلك الفترة . إليها أحالت الإدارة البريطانية أسباب تذمر المثقفين و( صراخهم) : حرمانهم من وظائف الدولة . وكانت هذه الحاجة متبادلة . فالدولة الحديثة التكوين كانت بحاجة إلى المثقفين والمتعلمين لبناء جهازها الجديد في أعقاب الجهاز الدواويني العثماني المتضخم والفاسد ، وبالمقابل كان العمل في جهاز الدولة هو مصدر المعيشة الوحيد للمثقف في غياب أية مؤسسات حرة . كما إن الوظيفة كانت مصدرا للوجاهة لأنها تعطي للمثقف نوعا من السلطة . ولم يكن جهاز الدولة آنذاك مؤدلجا كما في الفترات اللاحقة فليس في مناهج الدراسة أية مادة سياسية أو حتى فلسفية ، ولذلك يستطيع هذا المثقف أن يمارس دوره كصاحب اختصاص وحرفة دون أن يشعر بانفصام بين وعيه المعارض وبين وجوده في جهاز الدولة التي يعارضها(محمود أحمد السيد كان سكرتيرا لمجلس النواب ، والرحال كان مترجما في وزارة الدفاع ، و الجواهري في تشريفات البلاط ، فهمي المدرس عميدا لجامعة آل البيت...). وفي غياب أحزاب مؤثرة كانت الوظائف في مجلس النواب حلما راود معظم المثقفين ، فإضافة للمرتب العالي كان البرلمان منبرا جيدا للخطابة الوطنية . وقد ابتلعت الوظائف الكادر الأساسي لجماعتي الرحال والأهالي وكانت خاتمة عملهما السياسي.
ولكن لا يصح معاملة الأفندية كطبقة موحدة الطباع والطموحات . فمقابل طلاب الوظائف الذين عممهم فهد ، نجد أن فهد نفسه قد تخلى عن وظيفته في شركة الكهرباء ليتفرغ للعمل الحزبي ، بينما فقد الياس دوكا ونوري روفائيل وزكي خيري وظائفهم بسبب اعتناقهم الشيوعية ، ورفض عبد القادر اسماعيل وظيفة كبيرة عرضها عليه نوري السعيد مقابل تخليه عن أفكاره .
العلنية والحزب السري
وربما كانت تحذيرات فهد من سحر العلنية على المثقفين محقة في بعض جوانبها أيضا . وهي تعتمد على استشراف الجوانب السيئة في تجربتي جماعة الرحال وجماعة الأهالي . لم يأخذ فهد الأثر التنويري والتثقيفي الذي تركته التجربتان في وعي الشيببة الثورية آنذاك ، إنما ركز على الجوانب التنظيمية التي شغلته . فالتجربتان اعتمدتا على حلقة ضيقة من المثقفين ، ولم تتوجها للجماهير المعنية بالنظرية الثورية و بقيتا ندوة للنقاش وليس للعمل ، تتسم بالهواية والموسمية ، والأهم إن التجربتين اعتمدتا العلنية وحدها في العمل ، ولذلك انحلت الجماعتان حال إغلاق المؤسسة العلنية التي جمعتهم .
حقا أن العمل العلني يتوافق مع طبيعة ودور المثقفين الذي شكلوا قيادة وقاعدة الجماعتين . فالمثقف يمتلك وسيلة تأثير مستقلة عن المؤسسة الحزبية باتصاله المباشر عبر الكتابة والخطابة مع الجمهور . ووسيلة الاتصال هذه تعطيه التأثير الأسرع المنظور ، وترضي طموحه بكسب موقع اجتماعي خاص به .. بهذا يتميز المثقف عن القطاعات الشعبية الأخرى في الحزب التي لا تملك تأثيرا مباشرا ولذلك تقبل الحزب ، حتى ولو كان سريا ، وسيلة للتأثير على الجمهور . وتأخذ قيمتها الخاصة من قيمة الجماعة المجهولة داخل الحزب .
لكن مشروع المثقف في التأثير العلني المباشر ينقطع باحتكار السلطة لوسائل التعبير . ولذلك انحلت المجموعتان ( الصحيفة والأهالي ) حالما أغلقت الجريدة العلنية التي تجمعهم . ويبدو العمل السري للمثقف قفزة إلى ظلام المجهول . ويروي زكي خيري في مذكراته الصعوبات التي واجهت التنظيمات الشيوعية في بغداد عندما استدعت سرية العمل : " تجاوزت المراقبة البوليسية على عاصم فليح حدود التحمل وبات توقيفه قاب قوسين فأشرت عليه بحياة التخفي والعمل في بيت حزبي سري فرد علي : ودكاني ؟! لقد ألف حياة نمطية معينة وكان من الصعب عليه تركها فجأة إلى عالم مجهول إذ لم يهيئ نفسه نفسيا لقفزة كهذه في الظلام كما فعل فهد من قبل ، والحال كان يتوقع اعتقاله في أية لحظة . و ضميري لا يساعدني على لومه فقد تعرضت أنا لنفس المصير بعد مدة وجيزة فلم يخطر ببالي الاختباء وترك الوظيفة قبل أن أفصل منها رسميا من قبل الحكومة نفسها " ( ص85).
لم ينكر فهد أهمية العلنية ، فقد كان مراسلا متطوعا لجريدة الأهالي العلنية وحين طرح عاصم فليح عام 1935ضرورة إصدار جريدة خاصة للشيوعيين لتمييز الحزب عن الأحزاب الأخرى فضل فهد التروي واعتماد التثقيف لتكوين كادر متعلم ودعم جماعة الأهالي العلنية ، ولم يعدم فرصة لتقديم طلب إجازة منظمة تكون واجهة للحزب ، لكنه لم يسلم لسحر العلنية الذي أخذ العديد من مثقفي تلك الفترة الذين يسلمون لليأس حالما تغلق المؤسسة العلنية . لقد حاول فهد أن يجمع بين العملين العلني والسري وبين العمل الوطني والعمل الشيوعي . ويعلم جماعته الجمع بينهما :
" مع عملنا في الحزب الوطني كنا نجتمع في الليالي المقمرة في البساتين أو في بيت أحد الوطنيين . يفتتح فهد هذه الاجتماعات بأسئلة أو كلمة تفضح طبيعة الاحتلال البريطاني وضعف الحكومة . في واحد من هذه الاجتماعات قدم فهد أحد الفلاحين ليحدث الجالسين عن الفظائع التي يقوم بها الإقطاعي فهد الشواي ضد الفلاحين " ( عبد الرحمن الداوود : لقاء في الناصرية عام 1974 ) .... " بناء على توجيهات فهد كنا نذهب للمقهي الشعبية وننقسم إلى فريقين ، فريق يهاجم الشيوعية بالاتهامات المعروفة ، كونها ضد الدين والأخلاق ، وفريق مقابل يرد التهم . وخلال ذلك نخلق حالة جدل بين مهاجم ومدافع . وكان فهد يجلس متنحيا ليراقب ردود فعل الجالسين ويختار من بينهم الرفاق القادمين " (ضاحي فجر ، أحد رفاق فهد في الناصرية – لقاء معه عام 1974 ) .
وقد توغل فهد في العمل السري لا هواية بالسراديب والأوكار السرية " فالشيوعيون ليسوا من عشاق السراديب والسجون وليسوا ممن يرتاحون إلى تعريض بيوتهم إلى غارات الشرطة وأحينا أخذهم رهائن _ كما حصل في غارات حزيران المنصرم _، وليسوا ممن يحبون رؤية وجه الجاسوس يتتبعهم كظلهم ..." ( المؤلفات ص52 ) . اختار فهد العمل السري وانغلق فيه لأن جميع نوافذ العلنية التي سعى إليها أغلقت بقضبان السجون الحديدية وأقبية التعذيب . والحياة السرية في الأوكار المغلقة تشحن المناضل بالخوف والحذر من الآخر . وفي حزب سري كهذا يتقدم الضبط على الديمقراطية ، ويتركز القرار بيد نخبة محدودة موسومة بالطاعة ، ولذلك ينظر لكل جدل وكأنه تفريط بوحدة الحزب ، ولكل خلاف وكأنه خدمة للعدو المتربص في الخارج .
هذا الاستقطاب هو الذي وضع فهد أمام الخيار : بين سرية العمل الحزبي وبين علنية المثقفين . بين الإنضباط البروليتاري وبين ليبرالية المثقفين .
ولكن فهد ابن العراق الصعب ، هو أيضا ابن المرحلة الستالينية . فإذا كان لينين يشكو من تذبذب وميوعة المثقفين وكونهم عشاق الديمقراطية البرجوازية ، فقد طور ستالين هذا التحذير إلى مستوى النظرية التي تعتبر المثقفين امتداد الثورة المضادة داخل الحزب وكان من ضحاياها بوخارين و كامنيف . لينين دعا لتطويق وتطويع المثقف بواسطة ( التأثير المعنوي للبروليتاريا على وعي المثقف بحيث يرى أن لا مخرج له وتستحيل العودة للعالم القديم ولا يسعه أن يقوم بعمله إلا مع الشيوعيين الذين يريدون أن لا تبقى ثمار المدنية خلال آلاف السنين ملك حفنة ضيقة من الأفراد ، يستغلونها ، بل تعود لجميع الشغيلة بلا استثناء ) . استبعد ستالين التأثير المعنوي واستعاض عنه بالبتر والتدمير .
وفي فترة الانشقاقات المتتالية عام 1942 ( انشقاق عاصم فليح ( الشراريون ) وانشقاق ذو النون أيوب (المؤتمرون ) وانشقاق عبد الله مسعود ( وعي الطبقة العاملة ) ، وهم في الغالب مثقفون وأدباء * ،تضخمت عقدة فهد من المثقفين وأحيلت إلى النظرية الستالينية التي ترى المثقفين العدو الأخطر ( المنشفيك ) لأنه يرتدي الثوب البروليتاري . وتنعكس هذه التحذيرات في سلسلة التوصيفات القاسية التي تنتظم كتابه ( حزب شيوعي لا أشتراكية ديمقراطية ) : ( أبناء الذوات والأفندية الذين ابتلي بهم العراق وابتليت بهم الحركة الشيوعية ... كان هؤلاء مصدر الانقسامات والأفكار الغريبة داخل الحزب ...التروتسكيون ... الجواسيس ...الخ ) . وهذه التوصيفات المتشددة ، كانت دائما من قاموس مثقفين اعتبروا أنفسهم يمثلون الجناح الثوري في الحركة وعليهم أن يحددوا لقاعدتهم أعدائهم الطبقيين والسياسيين بواسطة التهم بدلا من التحليل . فالتهم تسهل التمترس في مواجهة الضد . وقد يكون فهد المحاصر بين كابوس المداهمات البوليسية وبين إلحاح مثقفي الحزب على المؤتمر والديمقراطية محقا في تحذيراته من تحول الحزب إلى ( ندوة مثقفين ) .
فطبيعة المثقف الذاتية تتعارض مع التنظيم الحديدي للحزب الذي أراده فهد لأن سلطته الخاصة على الناس تدفعه لأن يتحسس من أية سلطة أخرى حاكمة كانت أو معارضة ، وتتضاعف هذه الحساسية لدى العراقي المعارض بطبيعته التاريخية ، ولذلك لا يسلم لمبدأ الطاعة المطلقة التي يتطلبها الحزب الحديدي ، إنما يريد القناعة من خلال الجدل وهو ما يسميه فهد ( تحول الحزب إلى مقهى للمناقشة ) . وقد اصطدم فهد ، الذي وصفه زكي خيري بأنه شديد التحسس شديد الغضب ازاء النقد الموجه إليه ، بالنزعة النقدية لدى المثقفين واعتبرها سبب البلوى ولم يتفهم حقيقة أن المثقف لا يستطيع أن يكون انعكاسا سلبيا للطبقة التي انتمى إليها وساهم في صياغة تصورها عن نفسها ، فهو يرتبط بالطبقة عبر تمثيلها السياسي ( الحزب ) وينفصل عنها ليشكل الوعي الذاتي النقدي لها وللحزب . وقد يكون الجدل لدى هذا المثقف على حساب العمل ، ومن المؤكد أن الأفكار ، بالنسبة للمثقف العراقي الذي كان يمارس ثقافته كهواية بلا مردود ، شكلت قيمة بذاتها ولذاتها حتى ولو لم تكن لها قيمة عملية . وقد انعكس الولع بالأفكار الجديدة على جماعة الرحال الذين فضلوا تسمية جماعتهم (حلقة دراسية ) . ورغم إن الإصلاح كان هدف الجماعة ، لكن طريقهم كان الإصلاح بالأفكار وليس بالعمل السياسي . ويمكن للأفكار أن تتحول إلى قوة اجتماعية حين تنزل للتداول ، لكن افتقار جماعة الرحال للحس العملي دفعهم لأن يبدأوا بالمستحيل ، وهو الهجوم على التقاليد والموروثات الدينية الراسخة . بينما تحاشى فهد الأفكار الكبيرة وفضل أن يبدأ بالأفكار السياسية التي تمس حياة الناس المباشرة وتحاشى الدين والعادات ومنها الحجاب الذي كان شاغل جماعة الرحال .
التخلص من الأفندي
وفي كل الحالات شكل المثقف عقدة شخصية لدى فهد ، فحاول التخلص من ( الأفندي) في داخله أولا بالتخلى عن الدراسة والوظيفة ومقاهي المثقفين واختار بإرادوية مسبقة أن يكون عاملا ميكانيكيا في مكنة الثلج في الناصرية ثم في معمل العطور في بغداد . أول بيان شيوعي ظهر في الناصرية عام 1932يحمل الشعارات المعروفة ( يا عمال العالم اتحدوا ! عاش اتحاد العمال والفلاحين ، عاشت جمهورية العمال والفلاحين في الأقطار العربية !) كتبه فهد بنفسه ووقعه بعنوان (عامل شيوعي ) . ومع سعيه لتخليص الحزب من الأفندية يحث رفاقه على تركيز العمل في مناطق التجمع العمالية في الميناء والسكك .ولكن فهد الذي أراد الخلاص من بلوى المثقفين عاد مرغما لتقبل البلوى كقدر لابد ، فالتعويل على إقامة حزب عمالي بكوادر عمالية كان مبالغا فيه ويعتمد على تقدير مبالغ لحجم ووعي الطبقة العاملة العراقية ذات الأصول الفلاحية . كما إن التقسيم الحاد بين مثقفين للعمل الذهني وعمال للعمل اليدوي ، لم يجد مايسنده في العمل ، خاصة في العراق ، ففي العمل الذهني تنفيذ يدوي يعتمد عليه لوصول الفكر للناس ، كما ان عمل العامل اليدوي فيه جهد ذهني ، ولذلك عمل فهد باتجاهين :
- الاعتماد على مثقفين شعبيين ودفعهم من خلال المهنة والعمل الحزبي للاقتراب من الطبقات الدنيا مثل زكي بسيم . ووجد فهد ضالته في المعلمين الذي يسمعون كل يوم بسخرية مرة قصيدة شوقي :
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا .
لكن المعلم كان موضع التنديد حتى من نفسه بسبب وضعه المعاشي المزري وصعوبات العمل ، خاصة في المناطق المدينية الفقيرة والأرياف حيث يعيش منفيا دون نفي ، ولذلك لعب المعلم دورا استثنائيا الحركة الثورية فلا عجب إن رأينا معظم قيادات الحزب العامة والمحلية كانوا أو عملوا معلمين لفترة من حياتهم ( محمد حسين الشبيبي ، سامي نادر ، عبد الحميد الخطيب ، مهدي هاشم ، نوري روفائيل ، صفاء الدين مصطفى ، داوود الصايغ ، ذو النون أيوب ، عبد الله مسعود ) . إنهم الفئة المثقفة الأقرب للطبقات الدنيا والأكثر تحسسا لآلامها والأكثر تأثيرا في وعي الجيل الشاب .
- ومن الجانب الآخر عمل فهد على اختيار عمال بسطاء ولكنهم ( غرفوا الجوع بكلتا يديهم ) .. يثقفهم ويدفعهم لن يتحولوا إلى مثقفين لكي يأخذوا مواقع قيادية مثل على شكر الذي أصبح قائدا نقابيا وعامل السكك أحمد عباس الملقب (عبد تمر ) . وقد قال لي الثاني حين التقيته عام 1974: ( عندما رشحني فهد لعضوية اللجنة المركزية ، صدمت ، فأنا أعرف نفسي وإمكانياتي ، وكانت معارفي بسيطة جدا ، تعلمتها من حياتي كعامل وابن فلاح فقير ، ولذلك اعترضت على ترشيحي لمهمة كهذه ، لكن فهد قال لي : نحن لسنا بحاجة لعباقرة بالفطرة ، نريد ناسا يتعلمون من الجماهير ويعلمونها ويحركونها : لقاء مع عبد تمر عام 1974 ).
------------------------------
*
بيوتر فاسيلي آشوري من أصل عراقي نشأ وتعلم في تفليس بجورجيا بعد أن هاجر والده من العمادية أيام العثمانيين . ثن عاد على العراق واستقر في الناصرية وكان على علاقة بالكومنترن عبر كرمنشاه .
*
نسبة غير قليلة من القيادات الحزبية بدأت بميول أدبية ، خاصة كتابة القصة :ذو النون أيوب ، عاصم فليح ، لطفي بكر صدقي ، نعيم طويق ، يوسف متي ، عبد القادر اسماعيل .