|
ملف المساواة في تونس بين أنصار الحرية وأنصار الشريعة
محمد المناعي
باحث
(Manai Mohamed)
الحوار المتمدن-العدد: 5964 - 2018 / 8 / 15 - 07:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم تحسم المجتمعات ذات الانتماء الثقافي العربي الاسلامي ومن بينها المجتمع التونسي بعد بين مسارين حضاريين متناقضين ،مسار الشريعة ودولة الحاكم والرعية و" أهل الذكر " المرادفة للكنيسة في القرون الوسطى وبين مسار الدولة المدنية العلمانية التي تقوم على المواطنة وعلى الارادة الشعبية ...وبين هذا وذاك يتأرجح توجهين وطرحين مختلفين في الهدف متقاربين في عدم الوضوح يظهران بوضوح كلما عاد النقاش حول ملف الشريعة وملف الحريات وبالمناسبة يعيد الجدل حول المساواة في الميراث في تونس هذه الثنائية التي تبدو واضحة بين أطروحتين لكنها في الواقع مشوشة من الجهتين . الطرح الأول : يبدو للوهلة الأولى أنه طرح الشريعة ، يطالب بالاعتماد على ما نص عليه القرآن في توزيع المواريث و يرفض رفضا قطعيا أي نقاش حول تعديل " ماهو معلوم من الدين بالضرورة " بل يكفّر كل من يحاول وضع هذه النصوص القانونية ذات المصدر الديني موضع تساؤل أو تطوير أو تغيير و يحاول تسويق فكرة علوية النص الديني على الدساتير الوضعية و بطلان كل ما يمكن أن يخالف الشريعة...وبالتالي يصل الى نتيجة مفادها أن الشعب مسلم وبالتالي فان قوانينه يجب أن تكون مصدرها الشريعة ولا شيء غير الشريعة . هذا الطرح بالتمعن فيه نتبين أنه مجرد واجهة لصراع سياسي تخوضه الحركات المتسترة بالدين في مواجهة واقع اجتماعي تم تحديثه بالممارسة ولا يزال رجعيا بالثقافة والوعي الجمعي وبالتالي بيئة خصبة لمثل هذه الطروحات المغلفة بالشريعة ، وصراع ثان ضد قوى سياسية مدنية سواء يسارية أو ليبيرالية في تناولها للحريات ، هذه التيارات لم تحسم أمرها بعد في علاقة بالعلمنة فيطغى عليها وعي عامي محافظ حذر في طرح مسائل الحريات بشكل واضح ومكشوف وعدم الاستعداد للدخول في مواجهة صريحة مع القوى الرجعية ولا مع الوعي الجمعي للمجتمع فتضطر للمخاتلة و اتباع التدرج الحذر وأنصاف المواقف وتقع عادة لقمة سائغة في مطب النقاشات الدينية المتشعبة . وباعتباره واجهة لصراع سياسي تخوضه الحركات المتسترة بالدين فان طرح المشروع الديني صراحة لا يعتبر من أولويات المرحلة ولا من الخيارات التكتيكية لها في مناخ عالمي وحقوقي متربص بمثل هذه المشاريع فيتم تناول الشريعة تناولا حذرا فالتمسك بقانون الاحوال الشخصية في تونس والذي يقسم الميراث حسب الشريعة يخفي مغالطة لاتباع هذه التيارات ، فمجلة الأحوال الشخصية تنظم حياة الأسرة التونسية بنظام مناقض للشريعة في مسائل عدة ، فالزواج الذي لا يشترط موافقة ولي الأمر والطلاق الذي لا يكون بمجرد اليمين بل في المحاكم ، والطلاق الذي تقيمه المرأة انشاء كما يقيمه الرجل وتقيمه المرأة للضرر مثلما يقيمه الرجل يتناقض مع ما تنص عليه الشريعة التي تطلق يد الرجل في تزويج ابنته و في طلاق زوجته بمجرد يمين شفوية ... مجلة الأحوال الشخصية عكس الشريعة تمنع قطعيا التعدد في الزوجات وتجرم ذلك و تضع سنا دنيا للزواج رغم أن الشريعة لا تمانع من تزويج القاصرات ، هذه المجلة تجعل من موانع الزواج التطليق ثلاثا رغم أن الشريعة تتيح للمعنيين العود في ظروف معينة ...هذه النقاط وغيرها سبق أن أشار لها "شيوخ" الزيتونة مطالبين الدولة بمراجعتها بما يتماشى و أحكام الشريعة غير أن المقصد الرسمي كان التوجه نحو العلمنة لا التقهقر نحو الشريعة . التمسك بنص مطابق للشريعة في مجلة قانونية مدنية هو تمترس خلف تعلة لتجييش الانصار أكثر منه تمسك مبدئي . واذا تمعنا في دستور 2014 نتبين أن مختلف الحركات السياسية المدنية منها والمتسترة بالدين صادقت على فصل في باب الحقوق والحريات ينص على أن " المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز.. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم " وهو ما ينص بصراحة على اقرار المساواة دون تحفظ ودون استثناء بما في ذلك في الارث وفي غيره وبالتالي من الطبيعي أن يتم تغيير القوانين للتلائم والدستور وهو ما تحاول الحركات المتسترة بالدين تجاهله والدفع للواجهة بخطاب عاطفي يدغدغ المشاعر الايمانية دون تفكير مترو وعقلاني كما بينت التحركات الأخيرة كشفت أن الغالبية العظمى من الرافضين لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة لم يطلعو على التقريرنفسه بل اطلعوا على وثائق تحريضية أخرى تروج لأعتبار الدين في خطر والتقرير يروج للشذوذ وتغيير الايات القرانية ...وهي طريقة نجحت الحركات المتسترة بالدين في استعمالها وتوظيفها . الطرح الثاني : الطرح الثاني يبدو للوهلة الأولى طرح مدني علماني يدفع نحو دولة ديمقراطية تقوم على المواطنة ولا شيء غير المواطنة لا تميز بين أفرادها في القانون و أمام القانون لا على أساس الدين ولا المذهب ولا الجنس ولا اللون و لا العرق ولا تفاضل بين المعتقدات و المشاعر الإيمانية والتوجهات الفكرية للمواطنات و المواطنين ، وتنادي بترسانة قانونية تضمن الحريات دون تردد أو تدرج أو مراعاة لاعتبارات سياسية ظرفية أو توازنات انتخابية ... غير أن المتمعن في خطاب أصحاب هذا الطرح في الغالب مع استثناءات لا تنفك تتوسع ، يكتشف توجه متردد و شبه محافظ مع تطوير القوانين لكن مع الحذر و التخوف وتقديم تعلة الخصوصية الثقافية والوعي الجمعي و المقدسات و الثوابت و مصطلحات بمثل هذا التعويم أو أكثر ،هذا الطرح لا يمانع من استشارة جهات لاتؤمن بمدنية الدولة وتنظّر للشريعة في اعداد تقارير ومشاريع قوانين تهم الحريات العامة والفردية ، لا يمانع من أخذ رأي أنصار تطبيق الشريعة بعين الاعتبار ولا أدل على ذلك من الديباجة الدينية لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة وما تضمنه المحتوى من اقتراحات لا ترقى لما اقترحه الطاهر الحداد بوضوح في كتابة امرأتنا في الشريعة والمجتمع منذ ثلاثينات القرن العشرين . هذا التردد يخفي مرجعية محافظة لطيف واسع من المشهد السياسي الذي يطلق على نفسه صفة الحداثي خاصة التوجه الدستوري و التوجه القومي وهذا الأخير منقسم بين تيار أقرب للاسلام السياسي في مواقفه الرافضة للتحديث والمدافعة صراحة على الشريعة كما ورد صراحة في بيان حركة الشعب و بين شق ينزع نحو الحداثة والتقدم ، و يسار منقسم بين يسار حداثي طلائعي في طرح مسالة الحريات دون حرج على غرار حزب المسار و يسار يكتنف مواقفه الحرج و يستبطن نظرة عامية للحريات تلخص في أولوية المسالة التنموية المعيشية على الحريات وعدم استفزاز الوعي الشعبي المحافظ وفي نفس الوقت الحرج من التخلف عن المشهد الديمقراطي فتأتي مواقفه متأخرة حذرة . النقاش حول المساواة في تونس كشف عن مشهد سياسي وحقوقي مشوش و متردد كما كشف عن مشروع اسلام سياسي متلون ومتخفي ومتشنج بواجهة مدنية و جوهر سلفي و قدرة على تهييج العامة وتشويه النخب و كسب المعارك بالضجيج والمخاتلة في حين تظل الحركة علمانية محتشمة مشتتة تحاول فرض المنظومة الكونية لحقوق الانسان في التشريعات و في الوعي الجماعي للمجتمع وتحاول ترسيخ ثقافة حقوق الانسان وتحاول الفصل الصريح بين الدين بما هو شأن خاص فردي وبين السياسة والشان العام الذي لا يتأثر بايمان الناس ومعتقداتهم من أجل دولة المواطنة وهي الحركة الطلائعية في حمل لواء الحريات بمختلف تمظهراتها السياسية والجمعياتية والحقوقية .
#محمد_المناعي (هاشتاغ)
Manai_Mohamed#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بتونس: بين التردد ومطب
...
-
الاتحاد العام التونسي للشغل :الحاكم و المعارض والرقم الصعب ف
...
-
الأزمة في تونس وفشل حكومة الوحدة الوطنية المزعومة
-
من أجل حوار اجتماعي يتجاوز التفاوض حول الزيادة في الأجور
-
ناهض الحتر وتمزيق صورة - الإله الخادم - من العقول البالية
-
في الذكرى الستين لإصدار مجلة الأحوال الشخصية ،حقوق المرأة ال
...
-
من أجل تنسيقية وطنية للقوى الديمقراطية و التقدمية .
-
اليسار التونسي : المسارات المختلفة و الفرص الضائعة
-
الفضاء الثقافي-مانديلا- زهرة تقدمية في رمال متحركة
-
داعش : الامبريالية حين تستثمر في الجهل و الدين و الدم
-
الاتحاد العام التونسي للشغل : حركة نقابية صنعت مجد شعب
-
في اليوم العالمي للعمل اللائق : واقع من العمل المهين في المن
...
-
حملة نقابية عربية مساندة للنساء الموريتانيات ضحايا الاتجار ب
...
-
الحراك الشعبي وقود المسار الثوري التونسي
-
أي خطاب ديني ممكن في مواجهة التطرف و الارهاب؟
-
دورالنقابات في مناهضة الهيمنة الامبريالية
المزيد.....
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|