|
إشكالية المنهج النقدي أم إيديولوجية النخب؟
زياد بوزيان
الحوار المتمدن-العدد: 5963 - 2018 / 8 / 14 - 00:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كنت خلال دراستي الجامعية أفضل أخذ درس الأدب عن الفلاح ــــــ في مسقط رأسي ــــــ وعن البواب وعن المواطن العادي أو الغلبان و من السّوقي في سوق كسوق تراباندو على أرصفة شارع الأمير عبد القادر بالعاصمة الجزائر، على أن آخذه عن أستاذ الأدب في مدرج من مدرجات الجامعة المركزية.. كم كنت مقتنعا حينها أن مدرسة الحياة هي المنبع الحقيقي التي تنبض أدباﹰ ، بل هي المدرسة التي لا تدخر جهدا في تقديمه لك بمذاق هو الأزكى والأطيب وعلى أبهى حلة ، عندما يعجز الأستاذ الجامعي عن ذلك. وكنت حينها ألوي نازلاﹰ إليها من بن عكنون لأضيّع ساعات من عمري كل يوم نتيجة الازدحام المروري، ولحسن حظي وليس لسوء حظي أني إنتسبت إلى قسم اللغة العربية وآدابها "بالجامعة المركزية بالجزائر" وعمري يفوق العمر الذي انتسب فيه إليه الباحث المصري اللاّمع نصر حامد أبو زيد رحمه الله ، لذلك كنت كمن يعرف هدفه بدقة متناهية ولا يود إضاعة بضع دويقيات فيما لا ينفع أبدا ، فآثرت فيما آثرت أن آخذ ذلك السلاح منها بمنتهى الديبلوماسية وأنمّي به خططي وأهدافي وأحفظ طاقاتي لعلّي أظفر بعلم آخر أوفر وأغزر في إنسانيته ــــــ سديد ودقيق ـــــ كانت تطمح إليه نفسي لأخدم به البشرية حتى وإن كان العمر لا يسمح ألا وهو الطب.
لذالكم كم كنت أنصرف عن درس اللغة والأدب ذاك غير مبال ، بعد أن ألحق به من مكان بعيد وأطل فقط على المدرج والساعة بعد التاسعة صباحا ثم أنسحب ــــــ لأني ببساطة كنت قد وجدت ذلك الدرس في خلواتي الطويلة التي كنت أقضيها برفقة برامج الإذاعات العربية العالمية الأدبية كراديو البي بي سي العربي منذ العام 1988 ، أجل وكنت قد وجدته على صفحات مجلة العربي الكويتية منذ العام 2000 ووجدته وأجده كلما زلت بي قدم في فج من فجاج الحياة ــــــ وكنت أنفر من الدرس "النظري" إلى مقر الجريدة القريب من الجامعة المركزية لأُجري فيها تربصي الخاص بنهاية دراستي للصحافة وحتى وإن لم أتربص فإني سأجد في إنتظاري ما لذّ وطاب من يوميات حافلة بمقالات عن الأدب و الفكر والنقد الأدبي على صفحاتها وكنت حينها أقتطع بعض الصفحات ثم أطويها وأرمي بها في جيب المعطف. وكانت حينها(بداية الألفية) الهواتف النقالة والإنترنت مقصورين على الخاصة من الناس ، و كنت لا أضيّع برهة عندما يتأخر أو ينشغل القائم بالمُتربصين عني ، أنسحب إلى البالكون وأطلّ منه على شوراع عاصمة مكتظة بالناس كأنهم النمل ، الكل يعرف وجهته والكل لا يعرف أين يركن سيارته وفجأة أنزل فأجد نفسي قبالة أرصفة مفرشة بمعروضات تراباندو ببضع أمتار فقط ، فأسير بينها الهوينة كأني الشاري ، بيد أنه سرعان ما ألوح بطرفي ناحية الساحة المقابلة للبريد المركزي والتي كانت ومازالت مسرحا لباعة الكتب والمجلاّت القديمة فأعرُج إليها باحثا عن أعداد قديمة من مجلة العربي الكويتية كونها الأرخص ثمنا، إذا وجدت ما أبحث عنه أعود إلى مقر التربص وإذا لم أجد فقد تقودوني قدماي إلى مكتبات العاصمة العريقة المندسة بدقة متناهية بين الأنهج والأزقة العتيقة بالأحرى تقودوني إلى حارات و أنهج "الجزائر وسط" الضّيقة ؛ ومن هنا وهناك قد أجد نفسي في شارع حسيبة وأحيانا بالقرب من ساحة الشهداء وفي جميع الأحوال أمر على شباب وكهول أطفالا وشيوخ ، يمرّون بدورهم على المسرح الوطني "محي الدين بشطارزي" وعلى "قاعة الأطلس" وهي موشحة بالأعلام واللافتات وأحيانا مكبّرات الصوت مستعدة لإستضافة قامة أدبية أو فنية مرموقة دون أن يثير ذلك فضولهم ؛ إنهم ينتشرون في مجموعات كالنمل همها تكديس غذاءها أو إخلاء الطريق لبعضها البعض ، و لا يهمهم من أمر الملتقيات الثقافية والمعارض الفنية مهما كانت شهرة أصحابها شيء. وإلى هنا قد يقول قائل : زملائك يأخذون درسهم وأنت تتسكع في شوارع العاصمة! خاصة بعد أن كنت انتسبت أيضا إلى قسم الترجمة في ذات الجامعة وغير بعيد بعدها ولجت الماجستير في ذات الجامعة فزاد نزولي وصعودي من إقامة الذكور ببن عكنون إليها. أقول له و لمن سار مسرى هذا الحكم الذي أخاله "حكم مظاهر" أقول لهم كلا وألف كلا ، كلٌ في هذه الحياة إلا وله منهاج خاص يتقيده قصد الوصول الى غاية ما ، فأنا ابتغيت منهجا أسميته أخذ الكل أو اللاشيء وفعلا كنت أدخل الامتحانات مترجلاﹰ معتمدا في أكثر من مقرر على معارفي الخاصة التي استقيها من المجلات الأدبية والثقافية وقد أرسب في الامتحان الأساسي لكن استدرك بالامتحان الشامل أو الاستدراكي بزادي الخاص وليس بزادهم ، ولم أزعم لنفسي أني فعلا ضربت كذا من عصفور بحجر واحد ؛ يعني نجحت في تحدي هذا المنهج الصعب إلاّ بعد أن دخلت قسم الماجستير وقرأت أصعب الكتب الفلسفية وأعقد المؤلفات الأدبية والنقدية بيسر ولذة كفتنة الحداثة لقاسم شعيب وتحولات السرد في ما بعد الحداثة لفاطمة بدر وجدل التراث والحداثة في خطاب جابر عصفور النقدي...
لكن ماعلاقة كل هذا بما نحن فيه من عرض لعلاقة المنهج النقدي بالخطاب الأيديولوجي؟ العلاقة واضحة فالسؤال الذي ما انفك المفكر والناقد الراحل نصر حامد أبو زيد يطرحه في محاولة التعريف بمشروعه النقدي القائم على الهوة الشاسعة بين المادة والتجربة وبين القانون النظري والوضعي اللاحسي وهو: « كيف جمعنا قوة العقل وقوة التجربة وقوة التدين؟»[1] ماضيا في شرحه « التجربة كجزء من تحويل العقل إلى تجربة شخصية وليس إلى أفق مجرد من القواعد ، لو بحثت على تقدم البشرية و أخذت نيوتن مثلاﹰ ستجد خليط من العقل والتجربة و نسق ما من أنساق التدين يمكن أن يكون الإيمان بقيمة العلم إحداها ، ولدينا في تراثنا قيمة من هذا الشكل هو ابن رشد الذي جمع بين العقلانية والتجربة ومن كليهما ينبثق التدين(..)» لا يأتي إذن الحديث عن تجربة الباحث الباحث عن المعرفة العقلية بمعزل عن طموحه النقدي باعتبار أن للأديب شاعرا كان أو روائيا هدف يضاهي الهدف الذي يصبو إليه الناقد المفكر متمثلا في ممارسة المواطنة ، بل درجة من الوعي تسمو حتى عن ما يهدف إليه الطب من تبرئة للأجساد إعلاءاﹰ للقيم الإنسانية كالحرية والعدالة الاجتماعية.. لذالكم فإن المفكر الناقد هو بمثابة الطبيب الذي يعالج الروح.
لعلّ السؤال الذي يطرح نفسه في خضم الحديث عن حركية المنهج النقدي العربي الآخذة في التبدل لتتناسب مع التيارات الفكرية المتواترة ونظرياتها الخالقة لها ؛ فمن تيار الحداثة إلى ما بعد الحداثة التي ما إن يذوي منهجا من مناهجها حتى تمدنا بآخر جديد ، مبشرين نحن بتيار يسمى ما بعد بعد الحداثة ، والسؤال هو: فيما يكمن الاشكال ـــــ الذي يفسره تخلفنا ــــــ أفي المنهج النقدي المستعار أم في أيديولوجية من تستعد ذاته أو تكون قد استعدت فعلاﹰ محاوِلة خدمة حداثتها الخاصة متوسلة بتلك المناهج؟
ـــــ إشكالية المنهج أم أيديولوجية الخطاب الديني؟ :
الإشكالية مطروحة بقوة لِأن أصحاب تلك المناهج ليسو هم اليابانيين ولا الروس ولا حتى الصينيين ، بل هم الغربيون بكل ما ترسب في ذاكرة العرب من صراعات معهم بحكم التاريخ والقرب الجغرافي أولا، وبحكم الاصطفاء بحمل الرسالة السماوية إن صح التعبير ثانيا ، فحينما دخلت جيوش نابليون بونابرت إلى مصر طرح ذلك شكاﹰ وإرتيابا حقيقيا هو الأعقد مرارة بعد ذلك الذي إنجرت عنه الحروب الصليبية بين الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الغربية المسيحية ، الأخيرة تكون تمسكت حينها بحجة حماية وتأمين الطرق إلى الأماكن المسيحية المقدسة الموجودة على الأراضي العربية بينما رأى فيها العرب أنها نية مبيتة للإنتقام والنيل من الحضارة الإسلامية بإهانة رتشارد قلب الأسد للإسلام أملاﹰ في تراجعها وتقوقعها غير أنها وجدت من يرفع الإهانة في شخص صلاح الدين الأيوبي، وفعلاﹰ بعد سبع قرون ونيّف عن الحروب الصليبية تُحمل "الحضارة" إلى العرب حملاﹰ مع حملة نابليون على مصر عام 1798. في الوقت الذي كان من المفروض أنّ الحضارة تحملها أفلاك مكتظة بالعلماء والنخبة ولا يحملها سيل عرمرم مدجج بأفتك وأقوى الأسلحة ، في هذا المثال يتبين أن سوء النية وعقلية الاستعداء بين العرب والغرب ليس وليدة الصدفة فهي متجذرة تاريخيا يغذيها الإختلاف الفكري الديني المبني على عدم تقدير الآخر وعدم إستئمانه ، يقول الدكتور محمد أركون في كتابه "الدين والنص والحقيقة" أن الغرب هو الآخر لم يلين جانبه اتجاه الإسلام تاريخيا فكيف يطمع أن يُحظى بقبوله والتبعية له؟ فما ضر حملة نابليون لو هي قدّمت الحضارة للعرب على طبق من سلم وسلام عوض طبق من صفيح ، لعلّ تلك أولى إرهاصات القطيعة والعداء الحضاري المستحكم بحكم تشدد الفكر الديني كممارسة عملية وليس تشدد الدين كنص أو كقانون نظري ، والسبب يعود إلى الأشخاص الذين يؤولون الدين حسب المنفعة الأيديولوجية سياسية كانت أم مذهبية كون أن مشهد إكتساح أفلاك نابليون المدججة بالسلاح لدلتا النيل أغاظ فريق من المصريين وهم السلفية متعهدين برد المعتدين ورد معه ادعاءات الغزاة في نحورهم : « ولعل سؤال النهضة بقدوم الجيوش الفرنسية جعله مثقلا بالتهم ، فهل كانت النهضة المنشودة نهضة صادقة أم غلاف للتبعية اتجاه الغرب المستعمر»[2] ، لعلّ تبلور خطاب تهيّب الإسلام من الآخر تهيبا تاريخيا نكوصيا مازال مستمرا ، له مبرره أحيانا ، عندما إحتفل الامريكان وحلفائهم بنقل سفارتهم إلى القدس قام العالم الإسلامي ولم يقعد فكيف نتحدث إذاك عن حوار الأديان؟ ، بل وصفاء مجتمعاتنا من الأنساق المتطرفة التي تقف ضد التقدم العلمي والحضاري ، التي يمثلها الفكر الديني المغالي في الحذر من التعامل مع الغرب ومع مناهجه ، ومن صميم هذه النزعة التي تجذّرت تاريخيا في المجتمعات العربية والإسلامية على السواء ، في مصر، الجزائر، أفغانستان ، تركيا..عن طريق خدمة المصالح والمنافع الذاتية حيث تدعم المؤسسة الدينية وتؤازر الحكم الإستبدادي؛ وتضع السلطة مؤسسة الأزهر وجمعية العلماء المسلمين تحت حمايتها دستوريا أيضا، فتتحول الإيديولوجيا الى دين سري "غير رسمي" بيد الأقوياء وتعزل النخبة حتى لو شكلت الأغلبية ، حتى هناك من الأيديولوجيات السياسية من تناصر الفكر الديني الذي يقف حجر عثرة أمام التقدم العلمي عندما يتعلق الأمر بمصالحها السياسية كالشيوعية مثلا، حتى أضحت ساحة المعركة التي من أجلها يُراد من العلمانيين والنخبة المثقفة والاكاديمية الاجتهاد أخذا لناصية العلم عن الغرب قصد الخروج من التخلف الحضاري لا تقوم دون ثلاث بؤر أو لاعبين أساسيين وهم : النص ومؤلف النص ومدى قربه أو بعده عن المنهج الغربي في أخذ العلم ، في هذا الاطار ما فتأ المفكران حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد رحمه الله يلحان على ضرورة الاجتهاد لأنه السبيل الوحيد للخروج من التخلف، وإذا أخطأ الباحث لا يحاسب ويؤجر إذا أصاب . ولعلّ خاصية الانتساب إلى الله أو سماوية الحضارة من عدمها هو أساس الصراع و حذر الخطاب الديني الإسلامي تاريخيا من عِلمانية الغرب وصراعه التاريخي معه ، بنوع من الندية أو الغيرة لأن العلمانية ما هي في حقيقتها إلا ثورة دينية بروتستانتية كالفينية تحررت من سلطة الكنيسة كما يقول المفكر ماركس فيبر: « الثورة الرأسمالية الحديثة المنجزة في الغرب هي ثورة ثقافية قبل كل شيء، ومصادرها قيم أخلاقية ودينية إنبثقت عن المسيحية البروتستانتية الكالفينية »[3] بينما تنتفي تلك الندية والغيرة مع البوذية والكنفوشيسية ، لأنهما لا تنتسبان إلى لله.
هكذا يُظفي الفكر الديني على النص شرعية بالقداسة والكلية وبالقرف من المنهج الذي يمس بتلك القداسة من دون أن ينظر حوله أي إلى سنة الاختلاف الكونية ، إلى الشرق العظيم مثلا؛ اليابان الصين والهند لماذا تقدموا ولماذا تأخر هو؟ أليس وراء ذلك غير التهيّب من الآخر الغربي والتعالي عن الآخر العملاق الشرقي متصورا أن روحانيته غير صحيحة /غير سماوية ؛ فلو أننا فقط قُمنا بنقد أنفسنا عندما ركب اليابان موجة الحضارة بداية القرن وتبعه الهند مؤخرا فقط وسعينا مثل ما سعيا ، ربما لا كان تغيرا طفيفا حدث و غير من خارطة المنظومة الفكرية الحالية. لكنه وقع خطاب تلك النخبة الفكري الأيديولوجي والبراغماتي كان الأقوى ، فوقعت "الأمة" أول ما وقعت في رفض المنهج العلمي والنقدي الغربي أو تقم بالإختيار منها التي تناسب حياكة الثوب على المقاس ، فعندما أوّل نصر حامد أبو زيد الخطاب القرآني والسلطة التي حاكهما وقاسهما الشافعي لنفسه منهما ومختلف النصوص التي أخذت لها نوع من القداسة في تراثنا الديني ، أعني الموطأ وصحيح البخاري وتفسير الطبري وابن كثير وغيرها كثير شبيهة بقداسة النص القرآني كُفّر أبو زيد وكان مكان. مستندا إلى المنهج التأويلي/الهيرمنوطيقا الذي له أصول فلسفية ألمانية ، والفلسفة الغربية المستندة على العقلانية والتجربة معا تجرف كل ما هو نظري قطعي كالفكر اليقيني لدى الأصوليين وهو (المنهج) « فعل محكوم بإستراتيجية ، تسعى إلى تحديد الطرق التي يتم بها تشكيل المعنى وتنظيمه داخل وقائع مادية قصد تداوله وتصريفه في أفعال وممارســات وسلوكيات معينة » [4] ، فالنشاط التأويلي كهذا يكاد يكون رديف تعددية المعنى الذي أوصل أبو زيد إلى نتائج عقلية محل فخر الإتجاه العقلي وبُغض الإتجاه الأيديولوجي الأصولي والنفعي معا ، و بخاصة عندما إهتدى إلى أن الحديث المسنودة برواية صحيحة قد يحمل من التحريف والانتحال وما با لك بالروايات الضعيقة ما يعني أن السلطة التي وضعها الشافعي لنفسه سلطة وهمية راجعة لتغييب النقد والإجتهاد حول ما هو مخلوق من صنع البشر حين يقول : « الخطاب الديني حينما يرفع في وجه العقل والاجتهاد مبدأ لا إجتهاد فيما فيه نص إنما يقوم بعملية خداع أيديولوجي لأن ماكان يعنيه القدماء بالنص هو الواضح القاطع الذي لا يحتمل إلاّ معنى واحدا، والنص بهذا المفهوم في القرآن الكريم نادر، لأن معظم الاحاديث النبوية نقلت بمعانيها لا بألفاظها، بالإضافة إلى ما دخل من التزييف والانتحال » [5]
ــــــــ إشكالية المنهج أم أيديولوجية الخطاب السياسي ؟
نجد في خطاب السياسي العربي المعاصر لعب ذكي على أوتار الدين وأحيانا التدين /الفكر الديني إلى درجة لا يماثله فيه أحد ، فإذا وظّفت الدكتاتوريات الأمريكو لاتينية الجريمة المنظمة و باروناتها خاصة المتاجرة بالمخذرات وما شابهها للبقاء في الحكم واضطهاد شعوبها ، فإن السلطوي/ الدكتاتور العربي قد وظف خطاب الدين بما يخدم مصالحه السياسية ؛ ففي فترة الستينات و السبعينات كان الفكر الشمولي هو الذي روج لمقولة أن الإسلام هو دين العدالة الاجتماعية والإشتراكية وفي فترة التسعينات أصبح يروج للإسلام كدين الحرية والديمقراطية الذاتية/الشورى ، وفي العشريتين الأخيرتين بدأ يقال أن الإسلام هو دين السلام والأمن والحوار مع الآخر المختلف.. وهكذا
ولعلّ تأويل النص الديني ــــــ التأويل في أدق معانيه هو تحديد المعاني اللغوية في العمل الأدبي من خلال التحليل وإعادة صياغة المفردات والتراكيب ومن خلال التعليق على النص..أما في أوسع معانيه فهو توضيح مرامي العمل الفني ككل ومقاصده باستخدام و سيلة اللغة[6] ـــــــ حسب أهواء الفرق تبعاﹰ للدين والتخصص مثل ما أوُّل من قبلُ من قِبل المعتزلة/ العقليين والصوفية المرتبطين بالسلطة السياسية العباسية وخصومهم الفقهاء القدماء/ النقليين تأويلات متناقضة ، أو لم يتبعه من الشعراء و مناطقة وعلماء كلام الذي ساهم بنيويا في تطور فكر الخوارج وهجومهم على الزنادقة والمرتدين في نظرهم ونظر الشرع . مع هذا يحسب للمعتزلة منهجهم العقلي الذي ربما أدى إلى نتائج نيّرة لو قدّر له أن يستمر كما استمر الدرس النقدي البلاغي عند الجاحظ وأبي هلال العسكري وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم. مع هذا أيضا يحسب لنا كأمة تراثية روح النقد وإن لم يكن نقدا إيجابيا بنائا ، كالنقد الغربي ، والدليل على ذلك هو أن جميع الحكام العرب حاليا تقريبا أعطو أهمية قصوى للعلم : مرتبة ثانية بعد التسلح وأرسلوا ألوف من الباحثين الشباب للغرب لتعلُّم شتى تقنيات الحداثة الغربية ، ولما رجع هؤلاء الباحثين خاصة منهم في مجال الانسانيات وجدوا مقاومة شديدة في تطبيق ما تعلموه ، من لدن السياسي والحاكم مدفوع من التيارات السلفية والنخبة الداعية إلى التروي في تطبيق المناهج العلمية الغربية. و لعلّ هذا الفهم يكشف إذا ما كشف عن شيء الطابع النفعي للأيديولوجيا و إفتقارها إلى البعد الأخلاقي بحكم إرتباطها بالسياسة. فالسياسة إذن هي الوجه الآخر لمصطلح الأيديولوجيا. و يمكن استخدام أحدهما بدل الآخر. و إذا كانت الأيديولوجيا* مضمونة تدخل ضمن الحق في التعددية وحرية الفكر، فإن لها ضررا بليغا لا يمكن نكرانه إن تركت دونما مراقبة من المواطنين الذين هم الجهة الوحيدة التي بإمكانها، وعبر الممارسة الواعية لحق الانتخاب ، أن تقلل من أضرار الممارسة الأيديولوجية السيئة، وتمنع من تحولها إلى الدكتاتورية[7].
هل من الممكن أن يكون هناك مثقف أو تفكير دون أن يكون أهم سلاحه النقد؟ فاذا تخيّلنا في أيامنا مثقفا غير نقدي فإننا نسلخ عنه صفة الثقافة أصلاﹰ، بالإضافة أن المواطن الغير قادر على أن يرى الصواب والخطأ داخل المجتمع تحام شكوك حول مواطنيته. فالعقلية النقدية جزء من الهوية الإنسانية، إذا أفتقدت أفتقد معها عناصر كثيرة جدا من الهوية ، لأن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات سلطوية وأبوية ومجتمعات قبلية ، وفي القبيلة تكون أهمية الدفاع عن القبيلة أهم من صواب الفكرة إذ النقد فعالية عقلية وذوقية ، تتلو الفعالية الأدبية التي هي فعالية إنسانية ؛ فالناقد يقوم بعمليات القراءة والتحليل والتأويل والفهم والحكم، وهي عمليات ذهنية وذوقية تتدخل فيها القدرات العقلية والكفاءات الفنية عند الناقد. وبالنظر إلى هذه الأصول التي يعول عليها في كل عمل نقدي، تتأكد الصفة الإنسانية في هذا العلم أكثر فاكثر[8] ، إلاّ أن هناك من يعتقد أن فصل الدين عن السياسة هو فصل له عن المجتمع والحياة ، وهذا فهم خاطئ يقف ورائه من يتخذون من حاكمية الله ذريعة للتسلّط كالحاكم المستبد الاشتراكي في فترتي الستينات والسبعينات في أغلب الدول العربية ، وقد نجد بعضا من النخبة الأكاديمية الماركسية التي يعوزها عمق التجربة اليوم تتبع نفس الأسلوب الذي نهجته المؤسسة الدينية اتجاه المناهج النقدية الغربية ــــــ إدعاء عدم القابلية لقراءة التراث السواء كان بلاغيا أو دينيا في تلك الفترة ـــــــ بل يفعلون ذلك بمكر وخبث بايعاز نفعي وتوجيه مشترك بين الثالوث : الحاكم و المثقف النخبوي و الفقيه صاحب السلطة الدينية المطلقة حسب عبد الله العروي وحتى أحيانا بمشاركة الولّي إن اعتبر نفسه خليفة الرسول(ص) أو وسيط بين الله والمجتمع ، وخلاصة هذا التكتل ذو الصبغة النفعية وهذا الفهم هو ليتصور العوام أن إشكالية المنهج لا صلة لها بأيديولوجية بعينها وإنما هي في صلة تاريخية بمنبعه الغربي المختلف !
[1] ـــــ نصر حامد أبو زيد : هكذا تكلم ابن عربي، من مقدمة الكتاب. [2] ـــــ محمد أركون : الدين والنص والحقيقة ، ص31. [3] ــــــ عبد الرزاق الداوي: الخطاب عن حرب الثقافات في الفكر الغربي، مجلة عالم الفكر، المجاس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت مجلد36، نوفمبر و ديسمبر 2007 ، ص115. [4] ـــــ سعيد بنكراد : ممكنات النص ومحدودٌية النموذج النظري، فكر ونقد ، عدد 4 ص24. [5] ــــــ نصر حامد أبو زيد : نقد الخطاب الديني ، ص11. [6] ــــــ سعد البازعي وميجان الرويلي : دليل الناقد الأدبي، ص88. *ـــــالايديولوجية حاجة أساسية للفرد لأنها تأتي في المرتبة الرابعة بعد الحاجة إلى الطعام و إلى الجنس و إلى الأمان. و هي حاجة أساسية للمجتمع لأنه لا يمكن تصور مجتمع حديث أو قديم دون وجود سياسة محددة توجهه داخليا و خارجيا. و تعتمد هذه السياسة على أيديولوجيا معينة قد تكون دينية موروثة أو مأخوذة من إحدى الفلسفات أو تمثل مزيجا من أفكار عامة لها تطبيقات سياسية ملموسة مثل أفكار الحرية و حقوق الإنسان. ينظر باقر جاسم محمد : الأيديولوجيا والسلطة السياسية على موقع : باقر جاسم محمد - الأيديولوجيا و السلطة السياسية [7] ـــــ المرجع نفسه. [8] ـــــ محمد أديوان : النص والمنهج، منشورات دار الأمان، الرباط 2006، ص65.
#زياد_بوزيان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدونيس وأرباب الآلهة ، إطلالة على منظومة الفكر العربي الراهن
المزيد.....
-
زعيم حركة طالبان يأمر بشن حملة صارمة على الاتجار بالبشر
-
المرشد الأعلى الإيراني يتوقع ظهور مقاومة جديدة في سوريا
-
قائد الثورة الإسلامية يؤكد أن الغرب يخلق الفوضى في سوريا..
...
-
كيف يستقبل مسيحيو الشرق أعياد الميلاد هذا العام؟
-
الشرطة الألمانية تنفي أن تكون دوافع هجوم ماغديبورغ إسلامية
-
البابا فرانسيس يدين مجددا قسوة الغارات الإسرائيلية على قطاع
...
-
نزل تردد قناة طيور الجنة الان على النايل سات والعرب سات بجود
...
-
آية الله السيستاني يرفض الإفتاء بحل -الحشد الشعبي- في العراق
...
-
بالفيديو.. تظاهرة حاشدة أمام مقر السراي الحكومي في بيروت تطا
...
-
مغردون يعلقون على التوجهات المعادية للإسلام لمنفذ هجوم ماغدب
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|