هكذا نحن، نمجد الشهداء لأنهم خير من نطق باسم معاناتنا وأفضل من عبّر عن آلامنا وأحلامنا، وأول من مات لأجلنا ولأجل إعطاء الآخر فرصة من أجل فهمنا والاعتراف بحقوقنا وبما سلبَنا، لأجل أن يناموا نومة مريحة في عالمهم الذي لا يعرف غياهب عالمنا، ولأجل منح الجيل الجديد حياة أضمن وأكثر سلامة وأماناً في ظل الحرية والمساواة، وبعيداً عن الجنود الذين يحاربون الذاكرة الميتة في أزقة مخيماتنا وقرانا ومدننا المحتلة.
أنهم يموتون كي نحيا نحن وأطفالنا ومن سيولد فلسطينياً من بعدنا، لا كي نمجدهم، بل كي يمنحونا الحياة من بعدهم، في عالم مزقته الأفكار التوسعية والعقائد الدينية والاستعمارية القادمة من تاريخ المعسكرات السوداء والغياهب الأكثر سواداً إلى هذه البلاد التي قطعت أوصالها وشرد سكانها الأصليون على جهات العالم المختلفة.
إنهم يموتون فرادى بحريتهم وجماعات رغماً عنهم وبواسطة أباتشي تحتل سماءهم أو فانتوم تدرب طيارها، الذي يتحدث العبرية الجديدة، على فرصة صنع السلام الذي تراه إسرائيل مناسباً ويعبر عن طموحاتها في إحلاله بالرغم من عدم إمكانية قبوله من الطرف الآخر.
إنه سلام القوة المنفلتة والعقلية التي لا تعترف بالآخر ولا بمسؤوليتها عن معاناة الآخرين، إنها عقلية التوسع والاستئصال في زمن الانفلات الإرهابي والانحلال الأخلاقي.
كيف لمحمود درويش الذي يعيش بقلب حمامة بيضاء مسالمة وقلماً ربانيِ البياض ولسان فراشة تنطق ربيعاً أخضر أن لا يمجد الذين يُطلِعون على أضرحتهم عشب بلادنا الخضراء، الذين قال لهم <<تصبحون على وطن من تراب وشجن>>، والذين لهم المجد عرش على كل الدروب التي أوصلتنا إلى كل بيتٍ إلا بيتنا. هؤلاء هم روح محمود درويش الفلسطيني المتجدد، الوفي لحبال الغسيل الجليلية التي حولتها يد الصهيونية الى حبال مشانق بين عشية وضحاها.
يا ست ملاميد، يا سليلة اليسار المعزول بالتقسيط، ألم تجعلوا من جنودكم الذين اغتالوا الحمام والبشر واليمام والشجر والأمان والسلام والأحلام في حياة الفلسطيني، شهداء ومجدتموهم، كأنهم أغلى الكائنات، مع أن لهم ولنا معهم في فلسطين ولبنان ذكريات، نتذكرهم من جنوب لبنان وما فعلت أياديهم هناك، ونتذكرهم من أوصالنا المقطعة في صبرا وشاتيلا وتل الزعتر وجنين ونابلس وجباليا وغزة وحتى في تونس الخضراء..
نتذكرهم في الرصاصات التي اغتالت شاعر البراءة والذكريات كمال ناصر، وفي أشلاء غسان كنفاني وابنة أخته الطفلة لميس، ونتذكرهم في المقابر الجماعية والآبار التي أصبحت قبورًا لسكان البلدات الفلسطينية التي دمرت أو نهبت أو أحرقت في حرب قيامتكم واندحارنا عن أرضنا نحو باب الله الواسع..
نتذكركم ونحاول أن نجد طريقة ما كي نعيدكم لإنسانيتكم، لكنكم تطردوننا حتى من الفكرة، وتلاحقوننا أينما ذهبنا بحثاً عن السلام معكم، كنا نريدكم طرفاً مسئولاً في سلام الحقائق التي لا تتبدل، لكنكم لا تريدوننا سوى قلم أو يراع يمنحكم حق الاستيلاء على حمامنا ويمامنا وبياضنا وأرضنا وذاكرتنا وتاريخنا وكلامنا..
يا ست ملاميد، يا وريثة الصهيونية بيسارها الذي لا يعترف بحقوقنا كما خلقها الله أو كما خلقتها الطبيعة، ماذا تريدين من محمود درويش؟
قولي لنا يا رفيقة بيريس وسريد وبن أليعازر وبيلين واليسار الإسرائيلي العاجز عن بناء البشر في كيانكم بناءاً سلمياً يعترف بالآخر، هل تريدوننا أن نشارككم اللعنات على ضحايانا وشهدائنا أم نبارك لكم انتصار الميركفاه والأباتشي على عملية السلام التي أعطتكم ما لم تحلموا به أو تنالوه في أحلامكم، ورغم هذا فأنكم ترسلون أبناءكم ليمارسوا هواياتهم المفضلة على حواجز الذل والعذاب والقهر التي تعيد التاريخ إلى الوراء وترجع بالناس إلى غيتو وارسو وأوروبا التي ظلمتكم واحتقرتكم وحاول الطغاة فيها أبادتكم.
تقول الست ملاميد في قراءتها لـ <<حالة حصار>> محمود درويش التي هي حالة حصار كل الفلسطينيين، أنها وحتى وهي في قيسارية ورغم اعترافها بفظائع الاحتلال... إلا أن هناك مقطعاً لا تقوى على قراءته، لأنه خالٍ من الحقيقة ومن الاستقامة، هذا المقطع الذي صعب عليها استيعابه وفهمه بغير ما فهمته هو التالي:
("الشهيد يوضح لي: لم افتش وراء المدى
عن عذارى الخلود، فاني احب الحياة
على الارض، بين الصنوبر والتين،
لكنني ما استطعت اليها سبيلاً، ففتشت
عنها بآخر ما أملك: الدم في جسد اللازورد".
<<بالنسبة لي، كإسرائيلية تقرأ العبرية، فإن "جسد اللازورد" هو كذبة. الجسد الصحيح هو جسد الباص المهروس. الدم ليس دم الشهيد وحده، بل ودم ضحاياه. الشهيد هو قاتل. نقطة>>)
ثم تضيف الكاتبة التالي :
(<<لا يمكن في هذه الأيام أن تكون إسرائيليًا وأن تبدي في نفس الوقت تعاطفًا متنورًا مع الشهيد. لا يمكن قراءة قصيدة كهذه، تتحدث من فم قاتل محتمل لا يطلب منّا إلا التعاطف والشفقة، لا يطلب إلا أن نفهم إلى أية درجة من السوء وصلت حياته، لدرجة أنه عافها؛ لا يمكن ذلك لأن هذا كذب. الشهيد لم يعُفْ حياته، بل عافَ حياتنا.. هو قاتل، والشعراء الذين يبدون التفهم العميق تجاه القتلة لن يسكنوا في رف كتبي. لا أملك ما يكفي من التنوّر لكي أقرأهم. ليس الآن، وليس فيما بعد، حين تأتي الأيام التي يحلم بها درويش>>.)
ملاميد، وهي يسارية إسرائيلية وضد الاحتلال، ترفض إشادة محمود درويش بالشهداء الفلسطينيين وطريقة شرحه وتبريره للأسباب التي جعلتهم يموتون، هم ماتوا فيها من أجل وقف الهمجية التي يمارسها جيش إسرائيل الاحتلالي بيساره ويمينه، غير بعيد عن قيسارية التي بنيت على أراضٍ عربية، قد يكون لازال تحت زرعها وترابها الكثير من المقابر والقبور الفلسطينية.
تقول ملاميد أيضا أنها لا ترى في الشهيد الذي يتحدث عنه محمود درويش سوى قاتل وسفاح يفجر الباص ويهرسه ويدمره على نفسه وعلى الآخرين وتؤكد على أن الشهيد قاتل وترفض فكرة الخوض في مشروعية عمله أو الأسباب التي تدفعه لكي يقتل نفسه ويأخذ معه إلى العالم الآخر أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين، هي بصراحة غير مستعدة حتى لمناقشة الفكرة أو الدخول في عالم الفلسطيني المحروم من الحياة، إذ أن الاحتلال حدد موت الفلسطيني بالطرق التي يراها مناسبة، لكن الفلسطيني الذي شبع ذلاً وعذاباً وإهانة ومعاملة غير إنسانية تفنن جند جيش الدفاع الإسرائيلي في ابتكار الجديد منها، هذا الفلسطيني له كامل الحق في التعبير عن رأيه بحياته وطريقة وضع حد لها ما دمتم أنتم الذين انتخبتم قياداتكم التي تقود سياسة البلاد وتوجه جيشكم قد ابتليتموه بمصيبة أسمها الاحتلال ومصائب أخرى أسمها الاعتقال والتصفية والعزل والاغتيال.
هذا الكائن الذي ولدته أمه حراً في بلد محتل، من حقه أن يقتل قاتله مادامت لغة العقل والسلام توقفت بفعل استبداد لغة الموت والدمار والقتل والاجتياح والتدمير والتهجير والإبادة بكل إشكالها، فقنابل جيش الاحتلال لا تفرق بين العسكري والمدني وبين الذكور والإناث وبين الصغار والكبار وبين حقائب الأطفال المدرسية وألعابهم اليومية وبين الأشياء الحربية. من حق الفلسطيني أن يدافع عن نفسه وأن يموت ويقتل معه أعداءه لأنه بهذا يبحث عن الخلاص من دنيا الاحتلال وعن الموت كخيار أفضل من البقاء تحت رحمة حراب الجهنميين من جنود لا رحمة في قلوبهم ولا إنسانية في تربيتهم ولا ضمائر تردعهم عند الحاجة.
ثم يا ست ملاميد من حقك أن لا تضعي حالتنا التي ضمها كتاب درويش على رفوف مكتبك أو مكتبتك في بيتك، لكن ليس من حقك أن تحددي لنا طريقة تخليدنا لشهدائنا، فالذي عاف حياته وحياتكم كما تقولين، هو ليس أكثر من شخص يمثل حالة ملايين عافوا من الحياة مع جيشكم المحتل ومع مجتمعكم الذي كلما اعتقدنا أنه تعلم واستفاد من التجارب ونضج باتجاه السلام والاعتراف بالمسؤولية عما حل بشعب فلسطين، نتفا جأ أن هذا المجتمع لا يزال مجتمعًا مغلقًا ومعقدًا ومنزوياً ومنعزلاً في حياته وتفكيره وطرق قتله للآخرين وأبادته للحياة في فلسطين. هذا المجتمع وعلى الرغم من العقلية السوداوية المتطرفة التي تحكمه وتتحكم بناسه وخياراتهم، إلا أنني شخصياً أحتفظ بالكتب والإصدارات التي تمجد القتلة من شاكلة اسحق شامير وكاهانا وغولديشتاين. نحتفظ بالكتب هذه حتى تبقى وصمة عار تلاحق أصحابها مدى العمر ولكي لا ننسى أن لنا حقاً يجب استعادته بكل الطرق الممكنة، ونحن نفضل أن ننتزع حقنا عبر السلام والحوار وبدون دماء، لكنكم تقتلون وتغتالون حتى إرادة السلام لدى شعبنا المحب للسلام والذي تسامح معكم حتى أقصى الحدود الممكنة، وأنتم تعرفون ذلك تمام المعرفة.
أخيراً أقول لك يا ست ملاميد أنني تعاملت مع نصك المذكور بعقلانية وبدون تطرف ومن وجهة نظر ضحية من ضحاياكم أوصلتها أقامتكم في قيسارية غير بعيد عن بلدته المجتثة في الجليل، إلى آخر الدنيا، كذلك من وجهة نظر من عاش مجازر صبرا وشاتيلا وحصار بيروت ومآسي المخيمات والتشرد منذ الطفولة المعذبة وحتى الحياة الحالية الأكثر مرارة، لم أدخل من الشباك بل ولجت من الباب ولن أعود إلى بلادي إلا حراً وفلسطينياً يحمل الشهداء في قلبه ويحفظ أسماءهم واحداً واحداً، وسأعلق صورهم على جدران منزلي في بلدتي بعدما أنزعها من على جدران منزلي في مخيمنا وفي منفاي.
(اوسلو)
ملاحظة :
هذه المقالة نشرت رداً على مقالة للكاتبة الإسرائيلية أريانة ميلامد نشرت على الوصلة التالية في موقع المشهد الإسرائيلي : http://www.almash-had.org/viewarticle.asp?ArticalID=655