رام الله المحتلة
تتميز الميلودراما بتعدد أطيافها الوقائعية والنفسية. ومن بين خصائصها البارزة الانتقال السريع للبطل/الأبطال من حال الفرح إلى حال الهم والغم، دون أن يعي المراقب كيف تم الانتقال الفذ المشار إليه. وهو ما يذكر ببيت الشعر الذي تتجلى فيه نزعة قدرية واضحة:
ما بين غمضة حال وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
ربما تجسد السينما الهندية خير نموذج للميلودراما بمعناها ومبناها الحرفيين. فهنا بالضبط نجد الدماء تقطر حتى المرافق ثم وعلى حين غرة يأتي المأذون الهندي محفوفاً مزفوفاً بالراقصات والطبالين من كل حدب وصوب ومن كل شكل ولون. وليس لسائل أن يسأل عن أسرار منطقية تسوغ الذي يجري، فما يجري هو الميلودراما لا أكثر ولا أقل. وعندما يتجرأ أحدنا على طرح الأسئلة فأنه يخرج بهذا الفن المسلي من حيزه إلى نطاق آخر لا ينتمي إليه، مثل التراجيديا أو الكوميديا أو أي لون درامي مختلف.
كان كارل ماركس قد لاحظ منذ أزيد من قرن ونصف أن التاريخ يقدم نفسه مرة على شكل مأساة، ومرة أخرى على شكل كوميديا، وسبب ذلك أن إعادة أحداث المأساة يجعلها ـ بالضبط بسبب من تلك الإعادة ـ ملهاة لا مأساة. ونحن من هذه الناحية نتفق مع ما ذهب إليه الرجل . ونظن أنه من ناحية أخرى قد غاب عن باله أن الخصوصيات العربية تتجاوز أنماط الإنتاج التي اضطرته إلى اقتراح " نمط الإنتاج الآسيوي " ليتلاءم مع البيئة العربية بل العراقية على وجه التحديد إلى أمور أخرى ها هي تضطرنا إلى إدخال شكل جديد للتاريخ لينسجم مع ما يجري في العراق وفلسطين على وجه التحديد. وهذا اللون الجديد للحركة التاريخية هو الحركة الميلودرامية ما غيرها. فأنت تنتقل بقوة خفية صارمة وساحقة وماحقة من وضع الشؤم والهم والحزن إلى وضع السعادة والبشر الذي يغمر الوجوه. وقد لاحظنا ذلك في سجال جدلي تكاملي بين العراق والشام. فعندما يبدأ العراقيون في البكاء يصهل الفلسطينيون بالزغاريد، وعندما يشرع العراقيون في الغناء تبدأ كرنفالات الشهداء في فلسطين. وهكذا يقوم الفلسطيني والعراقي بتبادل الأدوار في انسجام ميلودرامي خلاب قل نظيره في عالم السينما ناهيك عن عالم الواقع الفعلي. إنه عالم مجنون رسمي مائة بالمائة، ليس لأحد من الناس أن يحل لغزه العجيب إلا بالاستعانة بمتخصص في فن مداعبة الأفاعي. أي حاوي محترف، ليتمكن من ملاعبة الأفعى الأمريكية الممتلئة سماً خبيثاً وفتاكاً، يكفي لقتل العراقيين والفلسطينيين والعرب جميعا.
على مشارف بئر النفط العراقي يحس الأمريكيون بأن جرعة النفط العراقية كلها قد دخلت جوفهم لولا... ملعون لولا .. لولا أوروبا العجوز. وهذه المرة ولسخرية القدر الميلودرامي تضطر أمريكا إلى استدعاء الملف الفلسطيني لإسكات أوروبا العجوز وليس العرب، فالعرب قد تم ترويضهم أخيراً شعوباً وقبائل وحكومات وعشائر ونقابات وفئات وفتات. أي أن كل ألوان الطيف العروبي من المشرق إلى المغرب قد أتمت الاصطفاف وحجزت تذاكر مشاهدة الحرب في صدر المسرح أو أطرافه بحسب مقدرتها على الشراء. ما خلا ذلك تتكفل به القنابل الأمريكية المحسنة ـ طراز عشرة أطنان ـ أو غير المحسنة طراز خمسة أطنان وما دون. سوف يعود العراق إلى العصور الحجرية نهائيا. وسوف يعود العراقيون إلى أيام ماجدة حقاً ليحاربوا كما فعل أجدادهم من جلجامش وحمورابي العظيمين مروراً بالرشيد والمأمون وانتهاء بعبد الكريم قاسم الذي أحبه الناس كما لم يحبوا أحداً وانتهي " مسحولا" في شوارع بغداد التي تأكل كلما جاعت أبناءها لتبكيه كما يجدر بكل أم ثاكل.
لكن ما لنا وللعراق؟ أو ليس جحا على حق في أول المطاف وآخره؟ أليس المهم أن تبقى طاقيتي سليمة معافاة؟ وما دام الأنجلوسكسون قد تذكروا أخيراً أن هناك جرحاً فلسطينياً ينزف فإن الحكة تقتضينا أن نغمض العين عما يجري في العراق وكل واحد " يقلع شوكه بأيديه" وهذا بيت الحكمة " ليس الذي بناه المأمون وإنما بيت حكمة جديد بنته لنا بريطانيا داخل أروقة الجامعة العربية الذي لا يجوز لعاقل مغادرته إلا إذا أراد أن يخرج من المولد دون أية حبوب أو قطاني. ولا يريد الفلسطينيون ذلك والدليل أنهم قد قاموا بكل الإصلاحات الضرورية المتمثلة في تعيين رئيس للوزراء وإدانة الإرهاب العربي والفلسطيني ـ بل والإسلامي ـ بكافة أشكاله، مع اعتبار أن ما تقوم به إسرائيل والولايات المتحدة، وخصوصاً الولايات المتحدة، هو دفاع مشروع عن أمن مواطنيها حتى لو كان ذلك ضد أجنة في وسط أفريقيا تحملهم أمهم وسط الغابات وتسابق الأيل والنمور بحثاً عن لقمة تقيم أودها وتتحول إلى غذاء يصل جنينها عبر حبل سري يكاد لشدة نحافتها وضآلة شأنها ينقطع، فتتقطع سبل الحياة بمن تحمل في أحشائها. ألا بئست الحياة الإنسانية عندما تغدو لا إنسانية.
صحا جورج بوش الابن عن العراق ( صحا القلب عن سلمى، زهير أم النابغة؟ لا أذكر) ولأنه صحا عن بغداد، فلا بد من أورشليم وإن طال الزمن. وها هو زعيم "الواسب" ( البيض الأنجلوسكسون البروتستنت) يداري سفهاء أوروبا قليلاً ببعض الكلام عن فلسطين، فلكل مقام مقال. ولا بد من كشف أن أمريكا لا تترك كبيرة ولا صغيرة في هذا الكون تفلت من عنايتها الكلية الشاملة. فأمريكا لم تترك شاردة ولا واردة للصدفة. وكل شيء في الوجود قامت بحسبته حسابا دقيقاً هو العدل كله، ولا شيء غير العدل كله. ولعل العدل ما تفعله أمريكا ولعل ما تفعل أمريكا هو العدل عينه. إنها واهبة المعنى والمغزى، وما على الناس إلا أن يسبحوا بحمدها، خصوصاً إن كانوا من صغار القوم وسافليهم وضعفائهم كالفلسطينيين، ولم يكونوا من عليتهم وصفوتهم كإسرائيل الإشكنازية في لحظتها الليكودية المتماهية كل التماهي مع نظام الكاوبوي في زمنه العسكري. وخصوصاً عندما يقود النظام مجموعة من الدجاج التي تتقمص دور الصقور في غير ما ذوق ولا حياء.
بسبب من هذه الظواهر البالغة الوضوح قررنا نحن العرب والفلسطينيون إعطاء السيد اليانكي الأبيض الذي اقتطع ما يزيد على سبعة دقائق من وقت الفيلم المنشغل بإنتاجه حول العراق ليتذكر الفيلم المهجور عن فلسطين، قررنا إعطاءه الفرصة رقم خمسة آلاف وسبعمائة وتسعة عشر خلال الأعوام العشرة الأخيرة فحسب لكي يقوم بعرض نواياه الطيبة من أجل أن يسود السلام منطقة الشرق الأوسط المنكوبة بالعمليات الإرهابية التي تقتل الأبرياء الإسرائيليين على الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني المعروف في بلاده بلقب ( جرو السيد بوش ) قد بين أن الأمر لا يخلو من بعض المعاناة الفلسطينية. وعلى كل حال ( يعني في كل الأحوال، على رأي زياد الرحباني ) فمن الملائم أن يمنح الفلسطينيون منحة مجزية، دولة كاملة السيادة منزوعة السلاح على كافة التراب الإسرائيلي الذي تقرر الدولة العبرية السخية أن تتبرع به لجيرانها من أجل أن يفكروا في التحول إلى جيران سعداء كما حلم بهم على مدار عشرات السنين صانع سلام قانا 1996 الحاصل على نوبل شمعون بيرس.
لكن بعد قليل ومع صبر بسيط سوف ينتهي العمل في بناء الديمقراطية العراقية بقتل وجرح تهجير مليون أو اثنين على أبعد تقدير. وسيتم تحرير النفط العراقي الأسير لدى دكتاتور مسلح بكل أسلحة الدمار الشامل التي تهدد أمن شعبه وأمن جيرانه وأمن السلم العالمي. وبهذه الخطوات التحريرية التحررية الجريئة تنتهي القصة نهاية سعيدة. تماماً على طريقة هوليود التي تنهي المشهد بقبلة رائعة يطبعها البطل على شفتي البطلة بعد أن ينتهي بمفرده من عشرات الآلاف من الجنود البرابرة الذين عادة ما يكونون آسيويين، لأن موضة الهنود المتوحشين قد تراجعت شعبيتها لمصلحة مواجهة همجية آسيا المتصاعدة هنا وهناك في فيتنام وكوريا، ناهيك عن الهمجية العربية الغنية عن كل توضيح وتعريف.
بعد النصر سوف يملي السيد شروطه التي لا تخفى على أحد في فرنسا، وإن كانت تخفى على كل أحد على وجه التقريب في مشرقنا العربي. وليس أدل على ذلك من حالة التخاذل واستمراء الفرجة والانتظار التي يمارسها شارع متدغدغ العواطف حتى أعمق أعماق كليتيه بلذة شبقة لا مثيل لها تنتظر في عجز نموذجي لحظة قصف العراق وذبحه، وتكرر في شهوة مريبة ورهيبة سؤالاً واحداً وحيداً تفوح منه رائحة انتظار مجنون : " ترى متى يضرب العراق؟" والمحزن أن أحداً من الناس ( هذه المرة ) لا يتوقع نصراً عراقياً ولا من يحزنون، لكنهم ينتظرون مشاهدة الضحايا العراقيين. إنها ميلودراما رخيصة من ألفها إلى يائها يعجز المرء أن يستخرج منها خيط نور تراجيدي واحد. فهناك أتراح ودم قاني على الطرقات إلى بغداد وهناك أفراح تعلو أهازيجها من صنعاء إلى مكناس. كأنما بغداد في الهند الصينية.
هنا على هذه الأرض ما يستحق الحياة. لكن إذا ما استمرأ العرب السلامة واللامبالاة ففي زمن قريب لن يبقى على هذه الأرض شيء يذكر بالعروبة. وربما أن العرب سيكونون أحد أكبر الدروس التي يعظ بها التاريخ.
يظن بعض الهواة أن رأس الحكمة خفض الهامة لتمر العاصفة. وعندما نقرأ ما يقصدونه بذلك نكتشف أنهم يريدون التضحية بالعراق كله من أجل ذلك، وينسون أنه بعد ذبح العراق لن يكون هناك إلا دمار وخراب في كل عواصم هذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر. وإذا كنا في هذا الزمن الرديء نستجدى فلا يستجيب لدعائنا وتوسلنا وتسولنا أحد، فمن البين بذاته أن قتل العراق سيشكل خطوة أولى في سلسلة خطوات ستشمل الإجهاز على ما تبقى من فلسطين، وربما تمتد لتطال رأس المقاومة في لبنان ورأس الواقفين ـ ولو نصف وقفة ـ في سوريا و.. قائمة لا ندري لها حداً أو قيداً. إنه الأنكل سام يجوب الدنيا على ظهر جواده ممتشقاً كل أسلحة القتال. ألا وإن وضع الرؤوس في الرمال لن ينجي من الموت النعام.