نبيل حاجي نائف
الحوار المتمدن-العدد: 1502 - 2006 / 3 / 27 - 12:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الوظيفة الأساسية للانفعالات هي رفع جاهزية وقدرة الفعل والاستجابة التي تعتبر مناسبة وفعالة في مواجهة ما يتعرض له الكائن الحي , وهي موجودة فقط لدى الحيوانات الراقية, فهناك انفعالات أساسية نشترك بها مع الثدييات الراقية و الرأسيات, وهي انفعال الغضب والخوف والحب....., وهي انفعالات أساسية قديمة لدينا.
وقد نشأت لدينا نتيجة حياتنا الاجتماعية انفعالات جديدة وهي خاصة بنا, فهي تكونت نتيجة العلاقات الاجتماعية , و الحضارة والثقافة والعقائد..., وقد نشأت وتطورت أنواع كثيرة من الانفعالات نتيجة لذلك.
والانفعالات دوماً تكون مترافقة مع أحاسيس خاصة بها , وهناك انفعالات إخبارية مثل الدهشة والتعجب والترقب والضحك, وهناك انفعالات مثل الحب والحنان والصداقة, والزهو, الغيرة, الحسد , والكراهية....., وكل هذه الانفعالات ترافقها أحاسيس معينة خاصة بكل منها.
وأحاسيس الانفعالات لا تنتج عن واردات أجهزة الحواس فقط , فهي تنتج بعد حدوث تفاعلات وعمليات في الدماغ والذاكرة بشكل خاص, بالإضافة إلى عمل وتأثيرات الغدد الصم , فالغضب لا يحدث لدينا إلا بعد معالجة فكرية , والتي تتأثر بالذاكرة وما تم تعلمه, وهناك تأثير متبادل بين الدماغ والغدد الصم, ويمكن المساعدة في إحداث الانفعالات باستعمال تأثيرات كيميائية وفسيولوجية.
أما الضحك والاندهاش وبعض الانفعالات المشابهة فآلية حدوثها تعتمد بشكل أساسي على عمل الدماغ ويكون تأثير مستقبلات الحواس غير أساسي .
والأحاسيس الناتجة عن انفعال رعشة الحب تحدث بمشاركة تأثيرات دماغية مع تأثيرات انفعالية مع تأثيرات المستقبلات الحسية.
وهناك الأحاسيس الناتجة عن انفعالات النصر أو الفوز والنجاح , أو الهزيمة والفشل, وغيرها وهي تشبه في بعض النواحي انفعال الضحك بأنها تعتمد بشكل أساسي على معالجة ما هو مخزن في الذاكرة. فهناك الكثير من الانفعالات المتطورة التي تكونت لدى البشر نتيجة الحضارة والثقافة وهي ليست عامة بين البشر, فهي لا زالت في طور التشكل والتطور والانتشار , و يبقى الضحك انفعالاً مميزاً وهو ليس آخر الانفعالات التي نشأت لدى الإنسان, وهناك علاقة بين انفعال الضحك والتعجب والمفاجأة والتوقع والتناقض , فالضحك يحدث نتيجة المعالجة الفكرية للحوادث والأفكار والتناقضات..., فالغباء والأخطاء والتناقضات الواضحة أو المستورة قليلاً والمبالغات ... هي من عوامل حدوث الضحك , وإن آلية حدوث الضحك تعتمد على:
1- التناقض أو سير الأحداث بطريقة غريبة وغير متوقعة, أو بشكل عكسي
2- المفاجأة بحدوث غير المتوقع, وحدوث المدهش , أو ظهور الغباء مع ادعاء الذكاء, أو أدعاء القوة بينما هناك الضعف أو العكس.
3- المبالغة, يا له من غبي جداً- يا له من ذكي جداً يا له من ماكر جداً.......
4- تفريغ المشاعر العدائية أو الجنسية ... والمطلوب إخفاؤها أو كبتها .
إن كافة الانفعالات هي نتيجة الدوافع ولها دور و وظيفة فسيولوجية وعصبية ونفسية , وكذلك الضحك , فوظيفته الظاهرة هي الشعور بالغبطة والسعادة, وله دور و وظيفة أعمق من ذلك وهي غير ظاهرة - سوف نتكلم عنها لاحقاً- فانفعال الضحك نشأ أخر الانفعالات لدى الرأسيات الراقية فهو موجود بشكل محدود لدى الشمبانزي والأورانج أوتان .
الضحك, والنكتة والمزاح
من أهم طرق الإضحاك لدينا هي النكتة وآليات النكتة كثيرة منها:
نتهيأ فكرياً ونفسياً لاستقبال شيء ما, ونحن نحاول استقبال هذا الشيء نجد أنه اختفى ليحل محله شيء آخر لا نتوقعه , ولكن في اللحظة التي يتم فيها هذا الإبدال نلحظ شيئاَ, أن البديل يحمل مفاجأة لنا , أي في لحظة الإحباط نجد ما يعوض خسارتنا بما هو أفضل . والنكتة تحرر من الإحباط والكبت والتوتر. فآلية المفاجأة السارة , أو غير السارة أيضاً من آليات النكتة بشرط أن تكون المفاجأة غير السارة لا تحدث لنا بل لعدونا أو غيرنا,.
وهناك آلية للنكتة تعتمد على الحمق والغباء الشديد مع ادعاء الذكاء والحنكة , كما في النكتة السابقة, فالمساعد يعتبر نفسه شديد الذكاء لأنه يتخلص من المنافسين لسيده ولكنه تخلص من سيده أيضاً.
وهناك آلية للنكتة تعتمد على معاقبة المغرور أو المتكبر و الواثق من نفسه بتعرضه للفشل المتكرر واستمراره بالغرور, أو تعتمد على المبالغة بالغرور, أو على الخجل الشديد , أو الكذب الكبير,
وهناك آلية للنكتة تعتمد على الإحباط للمتباهي كأن يدعي أحدهم أن لديه شيئاً عظيماً أو عجيباً ويريد أن يتباهى به ويتفاخر, وعندما يطلع الآخرون عليه يجد أن ما لديهم منه أعظم وأعجب ,
أو أن أحدهم يتحاشى بذكاء ومهارة الوقوع في حفرة أو خطاْ , وعندما يفرح وينتشي بنجاحه يسقط في حفرة أو خطأ أكبر من الذي تحاشاه, كأن يهرب من كلب ليقع بين براثن أسد دون أن يدري وهو يظن أنه تحاشى الخطر
الانفعالات تولد أقوى الاستجابات
إن الغضب , والحقد , والإحباط , و الكآبة , والرعب , والقلق ,..... وكافة الانفعالات المؤلمة والمجهدة للجسم وللجهاز العصبي وخاصة دارات القلق والتردد والندم والوسوسة, والتي تعمل باستمرار تستهلك الطاقات العصبية بكميات كبيرة , بالإضافة إلى أنها تؤدي لجعل الجسم والدماغ يفرز الكثير من المواد الكيميائية العصبية والهورمونات التي تجهد العقل والجسم بدون داع في أغلب الأحيان .
إن كل هذا يمكن أن يخفف أو تتم السيطرة عليه, وذلك بقطع أو إيقاف هذه الدارات العاملة , بواسطة الموسيقى والأغاني الجميلة وبواسطة النكتة والمزاح , ويكون تأثيرهم فعالاً وسريعاً في أغلب الأحيان, إلا إذا كانت تلك الدارات قوية جداً فعندها يصعب تقبل الموسيقى أو المزاح والتنكيت.
التأثير المتبادل بين المزاج والتفكير
لقد لوحظ وجود علاقة بين التفكير والتذكر والأحاسيس والانفعالات من جهة والمزاج من جهة أخرى - وأقصد بالمزاج الوضع الكيميائي والكهربائي للدماغ- , فعندما تكون فسيولوجيا الدماغ - وهي تتأثر بحوالي مئة مادة وغالبيتها ينتجه الدماغ أثناء عمله والباقي يصل إليه عن طريق الدم- في وضع معين تؤثر على التفكير والأحاسيس بشكل مختلف عنه فيما لو كانت في وضع أخر . وفلم شارلي شابلن مع السكير الغني مثالاً على ذلك: فالرجل الغني يتعرف على شارلي و يكون صديقه عندما يكون ثملاً, وعندمايصحو لا يتذكره ولا يتعرف عليه.
وقد أظهرت التجارب على الفئران أنها تتعلم الجري بالمتاهة عندما يكون في دماغها مواداً كيميائية معينة وتفشل في الجري عندما تختلف كيمياء دماغها عن وضعها أثناء التعلم, وقد تم جعل فأر يتعلم الجري يساراً عندما يكون دماغه معالجاً بمادة معينة, ويجري يميناً عندما يكون دماغه معالجاً بمادة أخرى.
إن للوضع الفسيولوجي للدماغ علاقة أساسية بآليات المعالجة أو التفكير والتذكر , والاستجابات العصبية والانفعالية , فعمل الدماغ العصبي الكهربائي يتم التحكم به بالمواد الكيميائية والتي يتم إنتاجها أثناء عمله, وكذلك نتيجة تفاعله مع باقي الجسم وخاصةً الغدد الصم.
الذي أريد قوله هو: هناك تأثير قوي وواسع للمزاج على عمل الدماغ سواء كان تفكيراً أو تذكراً أو توليد استجابة -أفعال أو أحاسيس- , وبما أن الفرح أو الحزن أو الغضب أو الخوف أو الضحك وكافة الانفعالات تؤدي إلى إفراز مواد كيميائية تؤثر في عمل الدماغ, فتجعل القياسات والتقييمات والأحكام تناسب أوضاع الانفعالات, فإن هذا يجعل عمل الدماغ يتكيف -أو يتلون - ليناسب تلك الانفعالات والأوضاع , وبالتالي تتغير النتائج وتنحرف بشكل كبير.
وبناء على ذلك يمكننا التحكم بتقييماتنا وأحكامنا واستجاباتنا إذا غيرنا انفعالاتنا من الحزن إلى الفرح أو من الإحباط إلى الضحك , أو من الخوف إلى الشجاعة,......الخ .
والإنسان أثناء تطوره استخدم- طبعاً دون وعي منه- هذه الخصائص بشكل كبير, فأخذ يضحك في أو ضاع خاسرة لكي يحول دون إفراز المواد التي تجعل مزاجه سيئاً , لأن الضحك يؤدي إلى جعل المزاج جيداً , فهو- أي المزاج الجيد واللذة والسعادة- كان ينتج بشكل أساسي عند الفوز والنجاح والنصر, فعندما يضحك الإنسان على خسارته أو فشله - شر البلية ما يضحك - كانت استجابة فعالة في التعامل مع الأوضاع السيئة الخاسرة, فإنه بذلك يحول فشله إلى نصر ولو بشكل كاذب لتلافي النتائج المزاجية السيئة الناتجة عن الفشل أو الخسارة , فالنكات تزدهر في الأوضاع السيئة والصعبة لما تحقق من فاعلية في التعامل مع هذه الأوضاع.
فالمزاح والفكاهة والتنكيت لهم تأثير فسيولوجي هام وفعال في رفع طاقات ومعنويات الفرد وزيادة قدرته على امتصاص تأثير الصدمات والتوترات الانفعالية الشديدة, فالمزاح يجعل تهديدات الذات, من قبل الآخرين ضعيفة التأثير, ويمكن التعامل معها بسهولة لأنها لا تحدث انفعالات قوية تستدعي إستنفاراً كبيراً لقدرات الجسم والجهاز العصبي والتي ليس هناك داع لها وتعيق التصرف, ولأن أغلب هذه التهديدات شكلية, وحتى لو كانت هذه التهديدات جدية, فالتعامل معها بروية وهدوء وعدم انفعال زائد وبمعنويات عالية أفضل وأجدى .
فالمزاح والفكاهة ضروريان بشكل خاص للأفراد شديدي الانفعال , فدور المزاح كبير في خفض التوترات والانفعالات الشديدة , وكلما استخدم الشخص الانفعالي المزاح والفكاهة مبكراً في حياته كان ذلك أفضل له في تحقيق التكيف والتعامل المناسب مع الآخرين , والكثير من الناس انتبهوا لميزات الفكاهة والمزاح واستخدموها وحققوا الكثير من الفوائد.
إن التحول من المرح والسعادة إلى الغضب أو الحزن أو الخوف, أو التحول من المزاج الجيد إلى المزاج السيئ يمكن أن يحدث بسرعة ولكن العكس صعب الحدوث , فنحن لن نستطيع إضحاك إنسان فقد إبنه أو حلت به كارثة كبيرة, ولكن نستطيع جعل إنسان في قمة السعادة يتحول إلى الغضب أو الخوف أو الحزن بوضعه في ما يوجب ذلك.
فعندما يحدث الغضب أو الخوف أو الحزن تنتج وتفرز المواد الهرمونية والعصبية التي تنتج المزاج المرافق له, وهذه المواد لاتزول بسرعة لذلك تبقى تأثيراتها فترة من الزمن , وهذا الزمن يختلف من شخص إلى آخر, وكلما كان طول هذا الزمن مناسباً للأوضاع كان أفضل للتكيف معها.
فالاستنفار لمواجهة الأوضاع الخطرة أو الصعبة يجب أن يكون سريعاً, أما فك أو إلغاء هذا الاستنفار فليس هناك ضرورة للإسراع به.
قرع أحاسيس الانفعالات
إن أحاسيس الانفعالات لا تحدث بسهولة, فيجب حدوث الانفعال المطلوب أولاً لكي يحدث الإحساس المصاحب للانفعال , ولإحداث الانفعال يجب التحضير والتمهيد له جسمياً ونفسياً وعصبياً , فإحساس الضحك مثال على نوع منها, وانفعال الضحك ليس من النوع الصعب جداً إحداثه, بعكس رعشة الحب التي ليس من السهل إحداثها فيجب التحضير الجسمي والنفسي لها , ومن أحاسيس الانفعالات الأحاسيس الناتجة عن الأعمال الأدبية والسينمائية , وعن الخطابة وغيرها, فهي تحتاج إلى تهيئة المتلقين لها, وامتلاكهم لخصائص نفسية وفكرية مناسبة لكي يتسنى إحداث الانفعالات المطلوبة لديهم , وأغلب أحاسيس الانفعالات إن لم يكن كلها, سواء كانت أحاسيس انفعال الغضب أو الحقد أو الخوف أو الحزن أو اليأس والإحباط..... أو كانت أحاسيس انفعالات الفرح أو النصر والفوز أو الشجاعة أو السمو ..... , لا يمكن إحداثها أو التحكم بها بسهولة وبساطة, فلا بد من التحضير والتمهيد لها نفسياً وفكرياً.
وهذا يجعل الفنون التي تسعى لإحداث أحاسيس الانفعالات مثل الخطابة والأدب والسينما والموسيقى , ليس من السهل إحداثها وقرعها لدى المتلقين, فهي تحتاج إلى إمكانيات وخبرة من الذين يريدون جعل الآخرين يتأثرون بها ويتذوقونها , فإحداث أحاسيس الانفعالات أصعب بكثير من إحداث كافة أنواع الأحاسيس العادية .
#نبيل_حاجي_نائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟