سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن-العدد: 5947 - 2018 / 7 / 29 - 03:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الدوافع الايديولوجية والسياسية والذاتية في الهجوم على الدكتور علي الوردي (القسم الثالث)
(بداية الحكمة ان تسمي الاشياء باسمائها الحقيقية) مثل صيني
3 . الاسلاميين : اذا كان الدكتور الوردي قد استند في نقده للايديولوجية الماركسية والقومية على اسس من القيم الليبرالية التي ينادي بها , فان انتقاده للايديولوجية الاسلامية قد استند على اسس من العلمانية والتغريب فضلا عن القيم الليبرالية والاصلاحية التي ينادي بها اصلا . والمفارقة ان الوردي لم يوجة نقده للاسلام السياسي والثوري الذي هو سائدا اليوم في العراق والعالم العربي والاسلامي , لانه لم يتبلور انذاك بقوة في حياة الوردي , وانما كان نقده منصبا على الاسلام التقليدي والطرح التبريري للاسلاميين , بل واذا شئنا الدقة فان الوردي يطالب بالاسلام الثوري والاصلاحي في مؤلفاته وينتقد المهادنة والتقية والاجترار , وهى نفس الاطروحة التي نادى بها لاحقا الدكتور علي شريعتي في ايران , والتي ذكرنا انه قد اقتبسها من الدكتور الوردي وخاصة اطروحته الشهيرة عن (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) (وقد فصلنا ذلك في مقالنا – الكتاب الذين اقتبسوا افكار علي الوردي) , ولكن دعوته لاتصل الى مستوى المناداة بقيام الخلافة او الجمهورية الاسلامية او التاييد بسيطرة الاسلاميين على الدولة والمجتمع , وانما تقتصر على الدعوات الاصلاحية في الخطاب والممارسة الثورية في مواجهة المستبدين ووعاظ السلاطين والمترفين .
اول مواجهة بين الوردي والاسلاميين كانت في اعقاب صدور كتابه الثاني المثير للجدل (وعاظ السلاطين) عام 1954 . وقد تعرض بسببه للسجن مدة ثلاث ايام في مركز شرطة الاعظمية (وقيل الكاظمية) ابان حكومة نوري السعيد في اعقاب الضجة والاقاويل والاتهامات التي وجهت للكتاب , وقيل ان الحكومة صادرت الكتاب وسحبته من الاسواق , الا انني اشك في ذلك لان الوردي لم يذكر ذلك في كتابه اللاحق (مهزلة العقل البشري) او اي من كتبه المنشورة قضية سحب كتبه ومنعها من التداول في العهد الملكي . وقد ذكر وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبد الرسول الخالصي لعائلة الوردي في الكاظمية ان اعتقاله هو من اجل الحفاظ على حياته من الغوغاء والرعاع , ولانستبعد ان تكون للدوائر الطائفية من وعاظ السلاطين الدور الاساس في التحريض عليه على اعتبار ان اكثر من ثلاث ارباع الكتاب شكل نقدا وسخرية من المركزية السنية والاسس التي تستند عليها , ويبدو ان ادعاء السلطة في ان الاعتقال جاء من اجل حمايته قول يحوي كثيرا من المصداقية . وذكر الوردي في نهاية كتابه (مهزلة العقل البشري) اشكالية التحريض عليه من قبل بعض المتشددين والمتطرفين من وعاظ السلاطين بقوله (قال أحد هؤلاء الوعّاظ، وهو خطيب جامع من جوامع بغداد المعروفة، في خطبة الجمعة: "هناك ثلاثة أمور تؤدي إلى فساد البلاد، هي القمار والبغاء والدكتور علي الوردي!!" ونسي الواعظ أن خطبته هذه وأمثالها هي من أسباب الفساد) . واضاف الوردي انه تعرض بعد تلك الخطبة الى تهديد صريح من قبل بعض الرعاع والسوقة , فقد (جاء إلى بيتي، بعد تلك الموعظة الشعواء، ثلاثة رجال وهم يلفون رؤوسهم بالأغطية البيضاء . وصاروا يحومون حوله ويتهامسون، فخرج إليهم أحد الجيران فهربوا. وكنت لسوء الحظ غائبا عن البيت . وإني أعتقد بأن هؤلاء الرجال الثلاثة هم من الذين يرتكبون في حياتهم رذيلة القمار والبغاء. وهم إنما أرادوا الاعتداء عليّ بعد أن سمعوا الواعظ يضعني في مرتبة القمار والبغاء . أتراهم وجدوني منافسا لهم في هاتين الرذيلتين؟ إنهم يرتكبون فعلا ما نهى عنه الدين . ولكنهم يصبحون من أشدّ الناس غيرة على الدين حين يجدون فيه وسيلة للاعتداء . ونحن نأسف أن نرى الوعاظ يستخدمون مثل هؤلاء السفلة في دعايتهم الدينية . إن هذه المهزلة تدل على مبلغ الظلم الذي اقترفه وعاظ السلاطين في الأزمان البائدة. وكلّما تذكرت أولئك الأبرياء الذين قتلهم الكهّان باسم الدين قديما حمدت الله على أني أعيش في عصر جديد) .
ومن الحوادث الاخرى التي تدل على مبلغ كراهية الاسلاميين للدكتور الوردي ما ذكره الصحفي (سلام الشماع) - المكلف بمراقبة الوردي من قبل السلطة العراقية البعثية - بانه وخلال حفل منح الدكتور (حسين علي محفوظ) " إجازة مفسّر للحديث " قال أحد رجال الدين: لا تدعو الوردي إلى الحفل فهو كافر !! "
ومن طريف ما يذكره الوردي ايضا في كتابه (الأحلام بين العلم والعقيدة) حادثة مرتبطة بمواقف الناس منه وحملتهم العدائية ضده بعد صدور كتابه الاشكالي: (وعاظ السلاطين) حيث قام أحد الاسلاميين بإصدار كتاب ادعى فيه (إنه رأى النبي محمد (ص) والإمام علي (ع) في أحد الأحلام وهما يأمران الملائكة بإلقاء الوردي في نار الجحيم ....... وعلى حين غرة صاح المنادي: "علي الوردي، علي الوردي، يُقدّم للحساب" . وأخذ الوردي يتوسّل ويتضرع ويدّعي بأنه متمسك بكتاب الله وعترة النبي، فلم ينفعه ذلك شيئا، فقد نظر النبي إلى الإمام مبتسما ثم التفت إلى الوردي وعليه سيماء الغضب . وأخذ يحاسبه على أقواله الماضية ويشتد في حسابه . ثم قال أخيرا: زنو أعماله، فهو بأعماله يهوي وبأعماله يفوز، وليس له من ولائنا شيء، وحاسبوه حسابا عسيرا. فصرخ الوردي صرخة أبكت أهل الحشر. ورقّ قلب صاحبنا عليه وأشفق حين رآه بتلك الحالة المؤلمة. ثم استيقظ مرعوبا باكيا) .
ويعلّق الوردي على المفارقة الأخيرة بالقول : (لست أدري لماذا استيقظ صاحبنا مرعوبا باكيا بينما كان الرعب والبكاء من نصيب المسكين كاتب هذه السطور؟) . .
وقد رد على كتاب (وعاظ السلاطين) خمسة من الاسلاميين - عدا المقالات - واهمهم محمد صالح القزويني في كتابه (الموعظة الحسنة) وعبد المنعم الكاظمي في كتابه (من كنت مولاه) ومرتضى العسكري في كتابه (مع الدكتور الوردي) وسهيل حبيب العاني في كتابه (حكم المقسطين على كتاب وعاظ السلاطين) . وقد انتقدهم الوردي بالقول (ان الذي استطيع ان اقوله الان هو انهم يكتبون على نمط ماكان يكتبه الناس في قرون مضت بينما احاول انا ان اكتب على نمط جديد , وشتان بين تفكير القرن العاشر وتفكير القرن العشرين..... مشكلة اخوانا انهم لايعترفون بفكر جديد ولايهتمون بما اكتشفه العلماء من نظريات تكاد تنسخ النظريات القديمة . يعيش احدهم بين الكتب القديمة وهو يكاد لايخرج منها وقد تراه احيانا مغرورا بها يظن انها قد جاءت بالقول الفصل , ولاحاجة له اذن بالسعي وراء علم جديد) . والمفارقة ان اغلب الردود جاءت من الكتاب الشيعة وليس من السنة رغم ان كتاب وعاظ السلاطين تميز - كما قلنا - بان انتقاده قد تركز على اساس المركزية السنية , والسبب هو ان الشيعة (الدراويش والمغفلين) يعتبرون انفسهم يمثلون الاسلام الحقيقي , فيما ان الواقع هو ان عامة المسلمين يعتبرونهم مجموعة من الروافض الصعاليك والحثالات .
الا ان اقوى الاعتراضات على كتاب (وعاظ السلاطين) قد جاءت من عائلة ال الخالصي الدينية في الكاظمية . فقد اهدروا دم الوردي وارادوا قتله مرتين . وقد ذكر الوردي انه تعرض للاغتيال مرتين (والله انجاني منهما) . ولم تهدا الحملة عليه من قبلهم الا بعد ان حصل الاتفاق على ان يقوم الوردي بالحضور الى (مدرسة الخالصي) في الكاظمية واجراء مناظرة عن الكتاب وشرح اراءه وافكاره الخاصة بهذا الشان , وتفسير الموارد الدينية محل الاشكال فيه . وقد وافق الوردي على الحضور واستمر الجدل والنقاش ساعات طويلة استطاع في الاخير اقناعهم بما ورد في الكتاب من اراء اصلاحية وتاريخية . وقد اطلق على تلك المناظرة تسمية (جلسة التكفير).
وقد كتب عن تلك الحادثة الشيخ ( جواد الخالصي ) بقوله : (كان الوقت صيفا وجرت المناقشة ليلا بعد صلاة العشاء بحضور الشيخ مهدي الخالصي ، حيث جلس الوردي على كرسي منفردا وأمامه جمع غفير من المعارضين غصّت بهم ساحة المدرسة . وكان أكثر المتحمّسين هو المحامي (صبري الزبيدي) الذي استغل الأزمة لأغراض انتخابية حيث كان مرشحا للإنتخابات عن الحزب الوطني الديمقراطي ، وكان قد نشر مقالات ضد الوردي في جريدة الأهالي. هيّج الناس كثيرا ضد الوردي وركب الموجة لأسباب انتخابية ، وقد تحدث طويلا حتى ملّ الناس من حديثه ، والمشكلة أنه لم يكن يفهم الموضوع أصلا. ثم قال السيد الوالد- يقصد الشيخ محمد الخالصي- مخاطبا الجمهور: قولوا كلامكم واطرحوا أسئلتكم والوردي يجيب عليها. وبدأ جدال مشحون وصاخب.. الجميع يهاجمون ويدينون والوردي يرد بهدوء.. استمر النقاش إلى ما بعد منتصف الليل ولم يقتنع الطرفان بمبررات كل منهما.. ولأن النفوس كانت مشحونة والأعصاب متوترة فقد خشي الوالد على حياة الوردي فكلّفنا بتوصيله إلى بيته لحمايته.. كان الوردي يعتقد أن رجل الدين صاحب دكّان يريد جرّ النار لرغيفه.. وكان ينتهز أي فرصة للإساءة لرجال الدين والسخرية منهم ويعتقد أنهم جميعا في خدمة السلاطين) .
وذكر الحادثة ايضا الدكتور حسان علي الوردي - نجل الوردي الأكبر - وهو يصف هذه الملابسات نفسها ولكن من زاوية اخرى , وذلك في الكلمة التي ألقاها بمناسبة مرور عامين على وفاة والده في مجلس الشيخ (عيسى الخاقاني) يوم 14/7/1997: (إن الحادثة المهمة التي تأثرنا بها كثيرا كعائلة كانت عند صدور كتاب (وعاظ السلاطين) الذي أثار ضجة كبيرة جدا في المجتمع وخاصة بين رجال الدين الذين وصلوا إلى درجة شتمه وعائلته على المنابر في خطب الجمعة وتهديده بالقتل . فاضطرت الحكومة إلى أخذ والدي إلى أحد مراكز الشرطة في الكاظمية لمدة ثلاثة أيام حماية له، وجمعت نسخ الكتاب من الأسواق . وأتذكر أن أحد الوزراء من بيت الخالصي اتصل تلفونيا بوالدتي وطمأنها على والدي، وكان الوزير من أقارب الشيخ محمد الخالصي الذي هدده بسفح دمه، ولكن بعد فترة حصلت مناظرة أو مناقشة في مدرسة الخالصي العلمية حول محتويات الكتاب فانتصر فيها والدي، ووصل إلى البيت ومعه مظاهرة كبيرة من جماعة الخالصي في وقت متأخر بعد منتصف الليل، أوصلوه للبيت وتصالحوا بعدها) .
ومن المعروف ان هذه العائلة (عائلة الخالصي) كانت على الدوام تشكل الخاصرة الاضعف في الجسد الشيعي العراقي , من حيث التعصب والاحساس بالضعة والدونية والخصاء امام الاخر , والخضوع للتوجهات الطائفية والمركزية السنية والانسياق نحو المفاهيم القومية والشعارات العصابية . وهذا الامر يرجع الى اسباب تاريخية متعلقة بتاريخ تاسيس الدولة العراقية عام 1921 فقد رفض محمد مهدي الخالصي انتخابات المجلس التاسيسي الذي سياخذ على عاتقه اقرار المعاهدة العراقية البريطانية التي وافقت عليها حكومة عبد الرحمن النقيب عام 1922 , والتي ستؤكد صيغة الانتداب على العراق , وافتى بحرمة الترشح والانتخاب وسحب التاييد او المبايعة للملك فيصل الاول , ونفى من جراء ذلك الى ايران مع بعض المراجع الاخرين واهمهم الشيخ النائيني والسيد ابو الحسن الاصفهاني , الذين عادا للبلاد بعد الاشتراط عليهم بعدم التدخل في السياسة , الا ان الخالصي لم يوافق على هذا الشرط وبقى في ايران مع ابنه الشيخ محمد الخالصي حتى وفاته عام 1927 . وفي نهاية الاربعينات عاد محمد الخالصي للبلاد ودخل المعترك الديني والسياسي ضمن اليات غرائبية تخالف النسق السائد منها الرغبة باستجداء الاعتراف من اهل السنة من خلال الدعوة الى ازالة الشهادة الثالثة الشائعة بالاذان الشيعي على ان يقوم اهل السنة في الاعظمية باضافة (حي على خير العمل) الا انهم لم يلتزموا بالشرط المقرر بالاتفاق رغم ازالته للشهادة الثالثة . ولم يكتف الخالصي بذلك , بل وقف مع الحرس القومي بعد انقلاب البعثيين في شباط عام 1963 وقتلوا وعذبوا الكثير من اهالي الكاظمية بحجة الانتماء للحركة الشيوعية , ودعموا الرئيس المعروف بطائفيته العلنية (عبد السلام عارف) الذي كان يتقرب لهم من خلال حضور صلاة الجمعة في المدرسة الخالصية , والتبرع لها بمبلغ (200) الف دينار بحسب الوثائق البريطانية التي ادرجها حامد البياتي في كتابه (شيعة العراق بين الطائفية والشبهات) . واستمر الخالصي الصغير على هذا الحال حتى وفاته في كانون الاول عام 1963 . وقد فسر البعض تلك السلوكيات الغريبة من قبل ال الخالصي هو احساسهم بالتهميش والاقصاء من قبل المؤسسة الدينية من جانب والاوساط الشعبية من جانب اخر , واعتقادهم انهم لم يحصلوا المكانة والتقدير المتوقع بصفتهم اناس مضحين ومحافظين على مبادئهم ضد الانكليز , فيما ان المراجع الذين عادوا بعد موافقتهم على شرط اعتزال العمل السياسي كالنائيني والاصفهاني قد تصدوا للمرجعية الدينية العامة في العراق , وحازوا على المكانة والتقدير الكبير والمميز , ويبدو ان هذا الاحساس بالغبن والتهميش هو السبب الاساس باظهار هذه التصرفات الغرائبية والمخصية من قبلهم . والمفارقة انه - ورغم تلك الاعمال والتنازلات المذلة - الا ان اهل السنة لم يعترفوا بهم كاناس معتدلين او تقريبيين , فقد وصف احد احفاد الانكشارية من اهل الموصل ويدعى الكاتب محمود الملاح الشيخ محمد الخالصي بانه (دجال مدينة الجهل) في كتبه القومية الطائفية .
واما الشيخ جواد الخالصي الذي اعلنته قناة الشرقية مرجعا , فقد دق اخر مسمار بتاريخ هذه العائلة وسمعتها السيئة بالاصل , لانه لم يكتف بتقليد سيرة اهله بالدونية والاحساس بالنقص امام المركزية السنية فحسب , بل وصل الحال به ان دعم الارهابيين والبعثيين ضد الشعب العراقي بعد 2003 بحجة المقاومة ورفض العملية السياسية , وذلك من خلال الموافقة على اعتبار نفسه ذيلا للارهابي المعروف حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين السنة في العراق في تجمعات خطيرة تدعو الى الارهاب والتحريض على العراقيين . وقد اراد بعض الكتاب المخصيين من الشيعة تبييض صفحة ال الخالصي - واهمهم عادل رؤوف – في كتابيه (عراق بلا قيادة) و(العمل الاسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية ) بحجة المقاومة والاعتدال والتقريب بين المذاهب وغيرها , الا انها محاولة فاشلة ويائسة , رغم انها انطلت على بعض المغفلين والحاقدين , وقد رد على الاراء التي ارادت تبييض صفحة ال الخالصي السوداء الكاتب طالب الحسن في كتابه (اغتيال الحقيقة - عبد السلام عارف واشكالية الكتابة في تاريخه السياسي) .واعتقد ان توجهات ال الخالصي الموتورة والمخصية قد اصبحت مدرسة يقلدها الكثير من المثقفين والمتعلمين العراقيين بعد ان وجدوا فيها تصورات ومفاهيم تتناغم وتتلائم مع الكثير من اراءهم وافكارهم , وربما يكون الكاتب رشيد الخيون الاسدي النموذج الحقيقي لذلك الخضوع للقومية العربية والتذلل للمركزية السنية (والسعودية تحديدا) , خاصة اذا علمنا ان التقارب النسبي والعشائري بين رشيد الخيون الاسدي وال الخالصي الاسدي دورا في هذا التاثير والتشابه في الرؤى والمنطلقات , فالقروي القادم من الجبايش الى بغداد حتما يحصل عنده انبهارا لافت بالعوائل البغدادية العريقة التي تشترك معه بالقرابة والنسب .
ولم تكن حادثة ال الخالصي وتهديد الوردي هى الوحيدة التي حصلت له , فقد تعرض للتحريض من قبل بعض المتعصبين من القوميين الطائفيين ذكرها الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) بقوله (لم أكد أنتهي من طبع هذا الكتاب الذي بين يدي القاريء حتى فوجئت بحادثة تصحّ أن تكون نموذجا رائعا لمهزلة العقل البشري . فقد ألقيت في مساء الثامن والعشرين من شهر شباط الماضي محاضرة عامة في قاعة الآداب .. وقد أشرت أثناء المحاضرة إلى مدى التشابه بين التفسّخ الذي كانت عليه قريش وهذا التفسخ الذي عليه المترفون من قومنا في هذا العصر . ولم يكن يخطر ببالي أن هناك بين المستمعين من يقدّس قريشا أو يقدّس المترفين في عصر من العصور . سئلت أثناء المحاضرة عن النبي محمد .. ورأيي في هذا النبي معروف ، يعرفه جميع الطلّاب اللذين يحضرون صفوفي وجميع القراء الذين يقرأون كتبي وليس عندي ما أكتمه في هذا الصدد) . وخلاصة رأي الوردي في النبي محمد (ص) والذي طرحه في المحاضرة هو أن النبي لم يأت ثائرا على قبيلة - قريش- اكتملت فيها خصال الشرف والفضيلة ولا ينقصها سوى ترك عبادة الأوثان ، بل جاء ثائرا اجتماعيا انتقد عيوب قومه قبل غيرهم . ووصف النبي بأنه من أصحاب الشخصيات (الحدّية) التي تسمو بصاحبها على الحدود الاجتماعية وتبعده عن التعصب لقومه أو غض النظر عن عيوبه . لكن كيف أوّل بعض رجال الدين حديث الوردي هذا ؟ وقدّموا شكوى إلى وزارة العدل يفسّرون فيها مفهوم الشخصية " الحدّية " الذي وصف به الوردي الرسول في محاضرته بأنه يعني الشخصية " المحدودة " !!! يقول الوردي تعليقا على ذلك : (ولست أدري من أين جاؤوا بهذا التفسير . فهم يفسّرون الأمور كما يشتهون ثم يغضبون مما يفسّرون . والأحرى بهم أن يغضبوا من أنفسهم . تذكّرني هذه الحادثة بالضجّة التي حدثت إثر صدور كتاب "وعّاظ السلاطين" فقد وصفت الإمام عليّا في ذلك الكتاب بأنه كان رجلا ثائرا. ففسّر رجال الدين الثورة بأنها مشتقة من طبيعة " الثور".. وهاج الغوغاء .. ويا ويل الكاتب إذا هاج عليه الغوغاء) .
ويواصل الدكتور الوردي عرض محنته مع اللجنة التحقيقية والمحرّضين عليه بالقول : (هذه هي عقيدتي في محمد . لست أنكرها أو أحيد عنها . وهذا هو عين ما ذكرت في المحاضرة كما سجلته لجنة التحقيق التي ألفت لهذا الغرض . وقد نشرت الصحف المحلّية بيانا أوضحت فيه حقيقة المحاضرة، ونشر أحد الأساتذة بيانا مثله . وكنت أظن أن رجال الدين سيكتفون به ويقتنعون. وتبيّن أخيرا أنهم لا يكتفون ولا يقتنعون . وكان يقودهم في ذلك رجل حقوقي يشغل وظيفة مدوّن قانوني. فأخذ هذا الرجل، سامحه الله، يترك دائرته ويراجع المسؤولين، ولعله أراد أن يكسر رقبة كاتب هذه السطور) . ويستغرب الوردي من حماسة هذا المدوّن القانوني (الملكي أكثر من الملك) - كما يقال - ويحاول وضع تفسير لسلوكه العدواني بالقول: (ليت شعري ما الذي حفزه على ذلك ؟ فإذا كان الحافز هو ضميره الديني، فالدين يأمره بأن يحقّق في التهمة قبل أن يحكم فيها . وإذا كان الحافز هو ضميره القانوني، فالقانون يأمر بمثل ما يأمر به الدين، يبدو أن له ضميرا آخر) . وختم الوردي هذه الحادثة بالقول (ذهب وفد رجال الدين، يرأسهم المدوّن القانوني، إلى وزارة العدلية فطلبوا منها إقامة الدعوة على الكافر الزنديق الذي هو أنا . ولم يكتفوا بذلك بل حرّضوا وعّاظ المساجد على القيام بواجبهم الديني في هذا السبيل . وقام الوعّاظ بواجبهم خير قيام) .
وقبل ان نذكر الاختلالات والماخذ والسلبيات التي ادرجها الدكتور الوردي ضد الخطاب والظاهرة الاسلامية لابد ان نشير الى السؤال الذي يطرح نفسه : ماهو موقف الدكتور الوردي من الدين ؟ وبالتحديد ماهو موقفه من الدين الاسلامي ؟ ولماذا لم يركز جهوده على الظاهرة الدينية في العراق بصفتها احدى اهم الاشكالات البنيوية فيه والعائق الاساس امام الحداثة والتنوير والتطوير ؟ وهل صحيح ان موقفه من الايمان والعقائد الدينية كان غامضا طوال عمله الفكري الاجتماعي – كما يقول الكاتب رياض الاسدي ؟؟
في الواقع يجب ان نذكر حقيقة محددة وهى ان الدكتور الوردي هو في الاخير عالم اجتماع . وهو بالتالي ينطلق في دراسته للمفاهيم الدينية والسلوكيات المترتبة عليها من خلال الافق الاجتماعي والعلمي ليس الا , وليس ضمن الفضاء الفلسفي الديني والاسلامي او ضمن السياق السياسي والثقافي . وقبل ان نستعرض موارد النقد والتحليل والتعرية للاسلاميين يجب ان نشير الى بعض الحقائق المتعلقة بفكر الدكتور الوردي حول الخطاب الديني والظاهرة الدينية وهى :
1 . ان الدكتور الوردي يعتبر المفاهيم الدينية الاسلامية في العراق بانها قناع او طلاء ظاهري غير حقيقي . فالعراقي هو (بدوي باطنا ومسلم ظاهرا) . اي ان القيم الحقيقية التي تحركه وتحدد توجهاته النفسية والاجتماعية والسياسية هى قيم البداوة والتغالب والاستئثار وليس القيم الدينية والاخلاقية . لذا لم يعتبر الوردي – بحسب فهمي له – الدين عائق اساسي امام الحداثة والتنوير , كما في كتابات المصلحين والمفكرين العرب الاخرين امثال اركون وطرابيشي والجابري ونصر حامد ابو زيد وكامل النجار والسيد القمني وغيرهم , بل اعتبر القيم البدوية والريفية القائمة على العصبية والدخالة والبنى التقليدية والاستبدادية هى العائق الاساس امام التقدم والحداثة .
2 . يعد الوردي من اوائل من درس الظاهرة الدينية والاسلامية في العالم العربي في زمن كان الانشغال بالتيارات الايديولوجية والثورية العلمانية هو الخطاب السائدة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين المنصرم . فقد كان يعتقد ان الدين مازال يشكل النظام المعرفي والاخلاقي والسياسي في العالم العربي , واحد جوانب الشخصية العراقية - التي هى كما اكد سابقا - انها مزدوجة القيم (ظاهرها اسلامي وباطنها بدوي) , وهذا الامتياز والريادة تحسب للدكتور الوردي , والذي لم تتابعه الانتلجنسيا العربية او تسير ضمن خطواته ومنهجه , الا بعد عقود كما في مشروع ادونيس في (الثابت والمتحول عند العرب) ومحمد اركون في (نقد العقل الاسلامي) والجابري في (نقد العقل العربي) وحسين مروة في (النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية) وغيرهم . اي ان الدكتور الوردي متقدم على افكار هؤلاء الكتاب وغيرهم بعقود قاربت الثلاث .
3 . ان موقف الدكتور الوردي من الدين او الظاهرة الاسلامية لم يكن يتميز بالغموض - كما ذكر الكاتب رياض الاسدي - بل كان من الوضوح والصراحة بمكان . فقد ادرج اراءه العلمانية والاصلاحية بوضوح ظاهر ولغة مبسطة يعرفها حتى القارىء الاعتيادي , ولم يكن في طرح تلك الاراء غامضا او مترددا كما حصل في اراءه المتضادة مع الفكر القومي الذي تمثله انذاك السلطات الحاكمة بعد عام 1963 من حيث التردد والتقية والمداراة , بل كان يطرح اراءه الجريئة بصراحة ودون خوف او تردد , الا انه لم يدرجها في كتاب مستقل وخاص , وانما توزعت في جميع مؤلفاته التسعة تقريبا .
اعتمد الدكتور الوردي منهجية النقد والتعرية والتحليل للخطاب الاسلامي التقليدي من جهة والسلوكيات والادعاءات التي يقومون بها من جهة اخرى , ومن الطبيعي ان يكون لهذا النقد ردات فعل من قبل الاسلاميين . ومن اهم مسارات النقد التي ذكرها الوردي بهذا الصدد :
1 . الفكر الماضوي : انتقد الدكتور الوردي بقوة الفكر الماضوي عند الاسلاميين والانغماس به والتماهي معه على حساب المتبنيات العصرية والحديثة . فالخطاب الاسلامي كان على الدوام – ومازال – يسير وفق نمطية الاجترار والتقليد والمحاكاة والتهديد والوعيد والغاء الاخر والقراءة الاسقاطية للتاريخ والتراث وغيرها من المفاهيم القرو – سطية التي تبلورة ضمن افق عصر الانحطاط – حسب تعبير محمد اركون – وقد ادرج الدكتور الوردي الكثير من تلك المفاهيم المتخلفة والبدائية في مقالاته ومؤلفاته وضمن شذرات متفرقة ومقولات متباينة وليس ضمن مؤلف واحد مختص , ويمكن العثور عليها بسهولة ضمن كتاباته .
2 . الانشغال بالصراع الطائفي : انتقد الوردي تماهي الاسلاميين بالصراع الطائفي وتاجيجه واعادة بعثه في موارد عديدة من خطاباتهم وسلوكياتهم . وكان تركيزه على الصراع الطائفي في المسار الديني الماضوي وليس على المسار السياسي السائد في العراق , والسبب هو خشيته من التطرق لهذه القضية المحرمة من التداول , والتي تعد من (التابوات) العراقية المعروفة عند ذلك الجيل , ليس من قبل السلطات القومية الحاكمة فحسب , بل وحتى من قبل الانتلجنسيا العراقية التي حصل عندها نوعا من التوطوء مع السلطة على اسدال الستار عن هذا الموضوع وتهميشه واقصائه من النظام المعرفي والثقافي .
يعتقد الدكتور الوردي (بانه لايوجد خلاف جوهري في قضايا الدين بين الشيعة والسنة) , وان الصراع بينهما (خرج من كونه نزاع حول المبادىء العامة وصار نزاعاً على الرئاسة , فلم يكن الشيعة (روافض) في أول أمرهم، وكذلك لم يكن السنة (نواصب)، إنما هو التطرف ... فإذا أراد الشيعة واهل السنة في هذا العصر أن يتوحدا، فليرجعوا الى شعارهم القديم الذي إتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة ، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره ، لا فرق في ذلك بين ظالم شيعي أو ظالم سني . والمشكلة أن الناس قد نسوا أن إمام السنة أبو حنيفة وإمام الشيعة موسى الكاظم قد ماتا في سجن الخلفاء العباسيين . ونسوا ان التشيع كان ثورة اجتماعية في سبيل العدل والمساواة) .
3 . وعاظ السلاطين : انتقد الوردي ظاهرة وعاظ السلاطين عند اهل السنة . وهذه الظاهرة تبلورة في دولة بنو امية لتبرير اعمال الخلفاء الشنيعة والفاسدة والظالمة بحق الرعية والموالي . وقد تصاعدت هذه الجماعة في العصر العباسي بصورة عجيبة حتى اصبح الوعاظ لايفتون للخلفاء فقط , وانما حتى لزوجاتهم واولادهم - كما في حالة القاضي ابو يوسف تلميد ابو حنيفة النعمان بن ثابت - الذي كان يفتي السيدة زبيدة (زوجة هارون الرشيد) بما كانت تريد وتعطيه مقابل ذلك الاموال والجواهر , كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد . وقد اكد الدكتور الوردي السند الديني لهذه الظاهرة في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) بقوله (تغلب على اهل السنة نزعة الطاعة للحكومة واحترام اوامرها . فهم يعتقدون ان السلطان ظل الله في الارض وان طاعته من طاعة الله , ويستندون على الاية "واطيعوا الله وسوله واولي الامر منكم") . وقد انتقد ظاهرة التلاعب والتلاحم بين السلاطين واتباعهم من الوعاظ والشيوخ الدكتور الوردي بقوله : (ويخيل إلى أن الطغاة وجدوا فى الواعظين خير عون لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم ؛ فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا , فنسوا بذلك ما حلّ بهم على أيدى الطغاة من ظلم) .
4. نقد الاستبداد الديني : ذكر الوردي (ان الحكومة الاسلامية صارت طاغية مستبدة تدوس باقدامها حقوق الشعب وتنهب امواله وهى مؤمنه بانها ظل الله في ارضه وهى اذن لاتختلف عن اي حكومة اخرى من حكومات العصور القديمة) . والمقصود بنقد الحكومات الاسلامية التي ذكرها الوردي هو تلك الدول التي قامت في صدر الاسلام وبعد وفاة النبي كالدولة الاموية والعباسية وبعدها العثمانية التي وجه لقادتها ورموزها هجوما ساخرا , واتهمهم بالاستئثار والاستبداد والفساد والترف والتبذير والمجون والخلاعة والشذوذ وغيرها . معلقا على دور السلاطين في الانحراف الديني وترسيخ الطبقية والطقوسية والعنصرية بقوله (أصبح دين محمد العوبة بيد السلاطين ونسي الناس ان محمداً كان من ألد أعداء السلاطين ..... وبدل من أن يصبح الدين دين عدل ومساواة بين الناس , أصبح دين طقوس وشعائر..... بل ديناً طبقياً يُحافظ على أموال الأغنياء ويحتقر غير العرب ويأمر بالجزية ثم يُطَلق لفظ الموالي أي العبيد على غير المسلمين) . والملاحظ ان انتقاد الوردي للاستبداد والطغيان يصاحبه على الدوام انتقاد المدافعين عنه والمبررين لافعاله واقواله وهم وعاظ السلاطين , ولايكاد يذكر الاول الا وادرج الثاني معه , حتى وصل الحال به ان ذكر ان الناس بطبيعتها تكره الظالمين وافعالهم المقيتة , لانهم يرون اعمالهم القبيحة امام اعينهم , وكيف انهم كانوا على الدوام يعانون من تبعاتها ويتاثرون بنتائجها , الا انهم يغضون النظر عنها ويسكتون عليها ولايثورون ضدها , بل وربما تعاطفوا مع السلاطين والظالمين ودافعوا عنهم في اقوالهم وافعالهم , والسبب هو ان وعاظ السلاطين يزينون تلك الاعمال ويبررونها ويجتهدون بوضع الاسس الشرعية والدينية والعقلية لها , حتى تصبح امرا مستساغا ومقبولا عند الناس , لذا نجد على مدى التاريخ الاسلامي التلاحم الكبير بين السلاطين والوعاظ من جهة وبين الرعية والمحكومين من جهة اخرى .
5 . السكوت على المترفين : تميزت اراء الدكتور الوردي بالريادة والابتكار في طرح الانتقادات التي تشكل اختلالا ظاهرا وكبيرا في المجتمع العراقي . وكان من اهم تلك الابتكارات هى نقد الاسلاميين ورجال الدين على سكوتهم وتبريرهم لطبقة المترفين والاغنياء . وهو انفراد تميز به - ربما لم يسبقه اليه احد - ويعود سبب تحريضه على فئة المترفين والاغنياء من قبله , اما لقضايا شخصية تتعلق بحياة الفقر والحرمان التي عاشها الوردي في الكاظمية . او هو في الاصل نقدا غير مباشرا للنخبة الحاكمة في العراق التي كانت تستاثر بالاموال والاملاك والاراضي , وتعيش حياة الترف والرفاهية بصورة كبيرة جدا على حساب الفقراء والمعوزين من اغلبية ابناء الشعب . وقد بين الوردي مخاطر تحول الدين الى افيون ومخدر من قبل المترفين والخلفاء والامراء بالقول (أن الدين ثورة وأفيون في آن واحد . فهو عند المترفين افيون , وعند الأنبياء ثورة . وكل دين يبدأ على يد نبي ثورة , ثم يستحوذ عليه المترفون بعد ذلك ويحولونه الى أفيون) .
وبهذا الصدد قال الدكتور علي المرهج استاذ الفلسفة في كلية الاداب – جامعة بغداد في مقاله (الموقف من الدين في فكر علي الوردي) المنشور بموقع (صحيفة المثقف)(صنف الوردي الدين الى صنفين : "الدين الكهاني" و"الدين النبوي" الدين الكهاني هو "الدين الذي ليس له مؤسس بل ينشأ تلقائياً حيث يبتدعه العامة تدريجياً حسب تطور حاجاتهم النفسية والاجتماعية " أما الدين النبوي فأمره يختلف كل الاختلاف، وقد وصفه الوردي بأنه "دين ثوري" أذ يأتي به نبي من أجل أصلاح الأحوال الفاسدة في المجتمع) . واما رؤية الناس للدين بحسب الوردي فقد بينها الدكتور المرهج بالقول ( أما الناس فهم صنفان، حينما يأتي الدين الثوري فمنهم من يتبع النبي مؤمناً به راغباً في الأصلاح ومنهم من يتبعه بدافع الإنتهازية وطلبا للدنيا وهؤلاء يصلون الى مواقع الحكم، مُتخذين من الدين أداةً لتحقيق مصالحهم الدنيوية، الأمر الذي يُحول الدين النبوي الثوري الى دين كهاني) .
6 . الادعاءات الفارعة : سخر الدكتور الوردي من الادعاءات الفارغة والكاذبة التي يدعيها بعض الاسلاميين من قبيل الزهد والبطولة والتقوى والعفة وادعاء الانتساب للفرقة الناجية وغيرها . وقد ادرج العديد من تلك الادعاءات التي لايمكن حصرها في نطاق ضيق , ولكن يبقى اهمها ادعاء المسلمين انهم لو كانوا (يعيشون في زمان الدعوة الاسلامية لدخلوا فيها حالما يسمعون بها) وتهكم الوردي على ذلك بالقول (ولست ارى مغالطة اسخف من هذه المغالطة . ويجب على المسلمين اليوم ان يحمدوا ربهم الف مرة لانه لم يخلقوا في تلك الفترة العصيبة , ولو ان الله خلقهم حينذاك لكانوا على طراز ابي جهل او ابي سفيان او ابي لهب , او لكانوا من اتباعهم على اقل تقدير ولرموا صاحب الدعوة بالحجارة وضحكوا عليه واستهزؤا بقرانه ومعراجه) . وقال ايضا (ان المسلمين اليوم يذوبون حبا بالنبي ويتغنون بمدحه في كل حين , وهم انما فعلوا ذلك لانهم ولدوا في بيئة تقدس النبي محمد وتبجله , ولو انه ظهر بينهم اليوم بمبادئه التي قاومه عليها اسلافهم , لما قصروا عن اسلافهم في ذلك) .
7 . المنهج الارسطي في الجدل : انتقد الدكتور الوردي اصل المنظومة الفكرية التي يستند عليها الاسلاميون الشيعة والسنة في النقاش والجدل وتاييد التصورات الدينية والمذهبية التي ينادون بها او يدافعون عنها , وهى المنطق او الجدل الارسطي الاغريقي . وذكر ان هناك منطقان او منهجان سائدان : احدهما هو المنطق الاستنتاجي الذي ينطلق من المقدمات الكلية . والاخر نسميه المنطق الاستقرائي او العلمي الحديث . والمنطق الاستنتاجي هو الذي كان سائدا في العالم منذ انشاه الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد وحتى اليوم في دول العالم الاسلامي والعربي , فيما ان الدول الغربية والمتقدمة قد تجاوزته قبل قرون عديدة , وهو السبب في تقدمها وتطورها والاكتشافات العلمية الحديثة التي تميزت بها. ويعود سبب اصرار الاسلاميين (وحتى غير الاسلاميين من عامة المثقفين والمتعلمين العرب والعراقيين) على تبني المنطق الارسطي دون الجدل الهيغلي والاستقرائي هو انه يعتمد الكليات العقلية التي يريدونها كاساس في النقاش والجدل ثم ينطلقون منها لبيان صحة ارائهم الدينية والمذهبية وحتى الطائفية . وقال ان هذا المنطق الارسطي طاليسي يقوم على ثلاث اركان هى : المقدمة الكبرى ثم المقدمة الصغرى ثم النتيجة , ويستطيع سدنة المذاهب والاديان بهذا المنهج والمنطق اثبات مايريدون من حجج وافكار وتوجهات من خلال اختيار المقدمات التي يريدون حتى لو كانت غير عقلانية او صحيحة . وضرب الدكتور الوردي المثال الاتي :
مواساة الشهداء حسنة (مقدمة كبرى)
التطبير مواساة الشهداء (مقدمة صغرى)
اذن فالتطبير عمل حسن (النتيجة)
اذن من خلال هذا المنطق يمكن الحصول على نتائج غير عقلانية او حضارية , من خلال مقدمات عقلانية متفق عليها . وبهذا المنهج طبعا يمكن اثبات الكثير من المفاهيم الغرائبية والتكفيرية والالغائية والاقصائية , وهى الاشكالات التي يعاني منها العالم الاسلامي اليوم , بل وهى التي انتجت ظاهرة التكفير والارهاب والطائفية عند اهل السنة , والطقوس البدائية والتطبير والتخلف عند الشيعة .
وقد اكد اهمية الدكتور الوردي في دراسة هذا المنطق الارسطي وتحليله وتاثيره على العراقيين الدكتور حسين سرمك حسن في كتابه القيم (علي الوردي عدو السلاطين ووعاظهم) الذي يعد واحدا من اهم المؤلفات التي درست المطارحات الفكرية والاجتماعية للدكتور الوردي بالقول (ان الدكتور الوردي قد وضع إصبعه على واحد من أهم بيوت الأدواء في الثقافة العربية ، من خلال الإعلان عن أن العلة الأساسية في تدهور العقلية العربية تتمثل في سيادة المنهج الأرسطي الصوري القديم في التفكير . فبإمكان هذا المنهج أن يبرّر كل شيء ، وأن ينطلق من أي مقدمة ليوصل إلى نتيجتين متناقضتين ، وبالعكس . وبذلك اعتبره الوردي هو المنطق المسؤول عن الفساد والطغيان في مجتمعنا ، وهو الذي أتاح لوعّاظ السلاطين أن يضعوا تخريجا نظريا لأي فعل آثم من أفعال الحكام الظالمين ، ولهذا تجده منتشرا انتشارا فظيعا في البيئات الدينية في العراق . فمشكلة هذا المنطق هو ” القياس – syllogism ” الذي يتسلسل تدريجيا من المعلوم إلى المجهول ومن المقدمات إلى النتائج ). واضاف الدكتور سرمك (والوردي يعد هذا المنطق سببا رئيسيا يُفضي إلى ازدواج الشخصية ، فالشخص الذي يؤمن به يسعى في عقله الباطن إلى التغلب على خصمه مهما كانت الطريق مكلفة ومؤذية ، في حين نجد أن عقله الظاهر يعلن حب الحقيقة وسعيه المستميت للوصول إليها : وهو قد يستعمل أقيسته المنطقية جريا وراء عواطفه ، فإذا كره شخصا ثم رآه يضحك مثلا هتف على طريقته المنطقية المعتادة :
الضحك من غير سبب من قلة الأدب
وفلان يضحك من غير سبب
إذن فلان قليل الأدب .
وبين الدكتور سرمك رؤية الوردي حول التاثيرات السلبية لهذا المنطق بالقول (ويرى الوردي أن القياس المنطقي كان سببا مهما من أسباب تأخر العلم في القرون الوسطى .. بخلاف ما يراه كثيرون – ومنهم الراحل محمد عابد الجابري – عن التأسيس الجديد الذي قام به (ابن راشد) للمنطق الأرسطي ، فهذا المنطق بالنسبة للوردي مناقض للمنطق العلمي ، بل هو السبب الأساس في تعطيل نمو العلم ، وخصوصا علم الاجتماع . فالباحث الاجتماعي كان غير قادر أن يخرج إلى الناس يدرسهم كما هم عليه في الواقع . إنه مضطر أن يستنبط ويقيس ، لا أن يبحث ويستقريء . ولهذا تضيع من بين يديه اللمحات الخلّاقة التي تزخر بها وقائع المجتمع ).
8 . رفض الدولة الدينية : رفض الدكتور الوردي قيام الدولة الدينية او الخلافة الاسلامية في العصر الحديث , لان طبيعة الدولة بالضرورة تختلف كليا عن طبيعة الدين , فهما (امران متنافران بالطبيعة , فاذا اتحدا فترة من الزمن كان اتحادهما مؤقت , ولامناص من ان ياتي يوم يفترقان فيه , واذا راينا الدين ملتصقا بالدولة زمنا طويلا علمنا انه دين كهان لادين انبياء ...... ان الدين الحقيقي لايستطيع ان يتماشى مع الدولة طويلا فطبيعته المثالية الصاعدة تحفز على الافتراق عن الدولة عاجلا ام اجلا . ومعنى هذا ان القران والسيف متناقضان فان اتحدا وبقيا على اتحادهما كان ذلك دليلا على وجود عيب في احدهما , فلابد ان يتنازل السيف عن قسوته او يتنازل القران عن ثورته)
9 . نقد فكرة الدين الصحيح : يذكر الوردي بانه (كان ذات يوم في مجلس ضمن جماعة من رجال الدين (المسلمين طبعا) وقد اجمع هؤلاء الرجال على ان سكان الارض ملزمين بالبحث عن الدين الصحيح , فاذا وجدوه اعتنقوه حالا . فكل انسان في نظر هؤلاء مجبور ان يترك اعماله ويذهب سائحا في الارض يبحث عن دين الحق . وقلت لهم (ولماذا لم تسيحوا انتم في الارض للسعي وراء الحق) قالوا وهم مندهشون لهذا السؤال السخيف (اننا لانحتاج الى السعي وراء الحق لان الحق عندنا) . انهم يتخيلون انهم وحدهم اصحاب الحق من دون الناس , ونسوا ان كل ذي دين يؤمن بدينه - كما يؤمنون هم بدينهم) - وعقب الوردي قائلا (ان من الظلم حقا ان نعاقب الناس على عقائدهم التي لقنوا بها في نشاتهم الاجتماعية لان الانسان يؤمن بعقيدته التي ورثها من ابائه اولا , ثم يبدا التفكير حول تاييد تلك العقيدة . ومن النادر ان نجد شخصا بدل عقيدته من جراء التفكير المجرد وحده , فلابد ان يكون هناك عوامل اخرى نفسية واجتماعية تدفعه الى ذلك من حيث يدري او لايدري) .
10 . خضوع علماء الشيعة للعامة وخضوع علماء السنة للسلاطين : اول من اشار الى خضوع علماء الدين الشيعة ومراجعهم للعامة والسكوت عن طقوسهم المتخلفة واعمالهم البدائية هو رائد الاصلاح الشيعي في العراق السيد هبة الدين الشهرستاني في مقال نشره في مجلة (العلم) النجفية قبل الحرب العالمية الاولى بعنوان (علماؤنا والتجاهر بالحق) جاء فيها (واما في القرون الاخيرة فالسيطرة اضحت للراي العام على راي الاعلام فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير مايتطلف به بين العوام وبالعكس ..... ويستعمل في بيان الفتوى فنونا من السياسة والمجاملة خوفا من هياج العوام .... وان هذه الحالة تهدد الدين بانقراض معالمه واضمحلال اصوله لان جهال الامم يميلون من قلة علمهم ونقص استعدادهم وضعف طبعهم الى الخرافات وبدع الاقوام والمنكرات , فاذا سكت العلماء غلبت زوائد الدين على اصوله وبدعه على حقائقه حتى يسمى ذلك الدين شريعة وثنية همجية تهزا بها الامم) . وقد تاثر الوردي بافكار الشهرستاني كثيرا , وارسل له رسالة احترام وتقدير ومدح لافكاره التنويرية , الا ان امتياز الوردي هو صياغته لهذه الفكرة ضمن معادلة عامة قاربت الشيعة والسنة وخضوعهما للعامة والسلاطين (الأمر الذي جعل الدين وكأنه مهنة يُرتزق منها، فهو (أي رجل الدين) مُضطر الى مدارة مصدر رزقه سواء كان ذلك من الحكام او العوام) . بمعنى ان الوردي عزى ذلك الخضوع من قبل علماء الشيعة والسنة الى الموارد الاقتصادية والمالية التي يحصلون عليها , فعلماء الشيعة يخضعون للعامة ويجارونها في خرافاتها وطقوسها لان موارهم المالية والمعروف بالخمس تاتي من جيبوبهم , فيما ان علماء السنة يخضعون لتوجهات السلاطين الظالمة ويبررون افعالهم ونزواتهم واخطائهم لان مواردهم المالية منهم . علما ان النتائج المترتبة على الخضوع لهذين المؤثرين ستكون كارثية على الاسلام والمجتمع على حد سواء , فالسلاطين لايريدون من الاسلام سوى الخضوع لاعماله البربرية وتبرير افعاله الاقصائية والاستئثارية . فيما ان العامة والرعاع لايكون همهم الاول سوى تبرير افعالهم المتخلفة وسلوكياتهم البدائية والمظهرية (إن العامة بوجه عام ميالون للخرافة في شؤونهم الدينية، وكثيراً ما يبتدعون طقوساً وعقائد جديدة، حسب مقتضيات ظروفهم وحاجاتهم النفسية والاجتماعية. والملاحظ أن فقهاء الشيعة يدركون ذلك في اكثر الاحيان ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إزاءه. فهم يخافون من العامة خوفاً شديداً، ولا يحبون معارضتهم في شيء إلا قليلاً). الا ان الوردي من جانب اخر لم يبخس دور علماء الشيعة في الزهد والتقوى وكسب العلم والتفرد والانعزال عن السلطان ومغريات الدنيا بقوله : (لعلني لا أغالي إذا قلت إن فقهاء الشيعة هم من أكثر الناس انكبابا على طلب العلوم الدينية واللغوية، وفي التنافس عليها، فهم لا يعتمدون على مرتبات مخصصة لهم يأخذونها من الحكومة، بل يعتمدون على ما يردهم من الناس من أموال والناس بطبيعتهم حريصون على أموالهم، فهم لا يعطونها إلا لمن يثقون بعلمه وتقواه من الفقهاء، ولهذا أصبح كل فقيه شيعي واثقاً بأن مصيره المعاشي والاجتماعي منوط بمبلغ تبحُّره في العلم وزهده في الدنيا) . بل انه اثبت انذاك ضنك العيش والفقر والحرمان الذي يعاني منه رجال الدين وطلبة العلم الشيعة بالقول (الواقع إن الكثيرين منهم يعانون الشيء الكثير من الحرمان وشظف العيش. فالموارد التي تردهم لا تكفي لأن يعيشوا بها عيشة مرفهة، ولكنهم على الرغم من ذلك منكبون على دراستهم انكباباً يدعو إلى إعجاب، فكل واحد منهم يأمل أن ينال بعمله وزهده ورضا الناس. وتلك هي الغاية التي يسعى إليها طيلة حياته، فإذا وصل إليها بعد كفاح طويل صار مجتهداً كبيراً يشار إليه بالبنان). وعزز رايه بالحادثة الاتية (زار أحد الصحفيين المصريين بعض المجتهدين الكبار في النجف، فكتب في صحيفة مبدياً إعجابه بحياة الزهد والبساطة التي يحييها أولئك المجتهدون، مع العلم أن لهم نفوذاً كبيراً على عشرات الملايين من الناس، وتجبى لهم الأموال من كل مكان، لم يدر هذا الصحفي أنهم حصلوا على ذلك النفوذ الواسع بزهدهم، ولو كانوا مترفين لفقدوا نفوذهم)..
11 . انعدام المنهج الاصلاحي وندرة المصلحين الاسلاميين : انتقد الدكتور الوردي ظاهرة انعدام المنهج الاصلاحي عند الاسلاميين , وعزى ذلك الى رغبتهم في ديمومة الغيبوبة والجهل والتخلف عند الناس حتى لايحصل عندهم افق من التنوير والتحديث والتطور في المسارات الثقافية والعقلانية , لان هذا الامر الذي سيؤثر حتما على مكانتهم ودكاكينهم وبضاعتهم البدائية ومحلات ارتزاقهم . لذا نجد ندرة كبيرة في العالم الاسلامي في عدد المصلحين وتاثيرهم , وقد ذكر الوردي اعجابه بالمصلحين الشيخ محمد عبدة من مصر والسيد محسن الامين من جبل عامل في لبنان والسيد هبة الدين الشهرستاني من العراق . وقد اكد ظاهرة انعدام المصلحين وندرتهم الدكتور الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)(الجزء الثاني) بقوله (اننا نظلم رجل الدين حين نطالبه بان يكون من دعاة الاصلاح في الدين . ونحن في هذا كمن يطلب من صاحب دكان ان يقوم بعمل ينفر الزبائن منه .... فالمعروف عن معظم رجال الدين انهم يجارون العامة فيما يبتدعون من عقائد وطقوس , ولانكاد نسمع عن احد منهم انه دعا الى اصلاح , الا مرة واحدة في كل جيل او اقل من ذلك) . الا اننا من جانب اخر يجب ان نشير ان الدعوات الاصلاحية في المسارات الدينية الاسلامية التي ذكرها الوردي , انما هى دعوات جاءت ضمن سياقها الزمني انذاك والمتمثلة بالاصلاح ضمن النسق والخط الاسلامي وليس خروجا عنه , اي اعادة قراءة القران والموروث الديني ضمن افق عصري وتنويري , الا ان هذه الدعوات قد ولى زمانها , رغم ان بعض رجال الدين والاسلاميين مازال ينادي بها , فقد ظهرت في التسعينيات – وحتى قبلها بقليل – دعوات اصلاحية وتنويرية تجاوزت اراء الدكتور الوردي , كما في كتابات محمد اركون من الجزائر وعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري من ايران واحمد القبانجي من العراق ونصر حامد ابو زيد والسيد القمني من مصر وغيرهم من الذين طالبوا باعتماد التاريخانية واعادة قراءة الاسلام ضمن تاويل عصري جديد وحديث يتجاوز النصوص القرانية والشريعة الاسلامية والموروث الديني . الا ان هذا لايمنع من وجود شذرات اصلاحية علمانية متميزة عند الدكتور الوردي سبق بها هؤلاء المصلحين , ربما تاثر بها او استقصى مضامينها العميقة والعلمانية من التنوير الاوربي . فمثلا نجد ان الوردي سبق المفكر الجزائري محمد اركون بتاييد القراءة الرمزية للقران والتي ادرجها في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) حول الصراع بين هابيل وقابيل وكيف انه يشير الى طبيعة الصراع بين الرعاة البدو والمزارعين الفلاحين . والملاحظ بان القراءة الرمزية للقران والايات الواردة فيه ورغم انها قراءة جديدة وجريئة وغير مستساغة عند الاسلاميين , الا انها قد طرحت عند الاوربيين قبل اكثر من ثلاث قرون من خلال اراء الفيلسوف الهولندي (سبينوزا) (1632-1677) الذي اكد القراءة الرمزية للكتاب المقدس (التوراة والانجيل) . وهذا يعني ان المسلمين متاخرين في مسار التنوير بالقياس الى الاوربيين مايقارب الثلاث قرون . وتاتي اهمية القراءة الرمزية للايات القرانية - وقبلها الكتاب المقدس - عند التنويريين والفلاسفة العقلانيين هو من اجل ازالة التناقض بين الايات القرانية من جانب وبين المنطق والعقل السليم . فمن المعروف ان كثير من الايات القرانية خارقة لقوانين الطبيعة وتخالف العقل والمنطق بصورتها ونتائجها او مغزاها مثل قصة ياجوج وماجوج او اصحاب الكهف او قصة الخضر وموسى وادم وحواء وهابيل وقابيل وغيرها , وبما ان هذا العصر – عصر الحداثة والتنوير - لايصدق تلك القصص ولايعتقد بنتائجها واهدافها لانها تخالف السياق العقلي والمنطقي السليم من جانب , وبما ان هذه الايات القرانية هى مقدسة ويعتقد بها جميع المسلمين ولايمكن الطعن بها او نفيها من جانب اخر , فان الحل الاوحد لازالة هذا التناقض بين الايات والعقل هو في تاويلها بصورة لاتخالف المنطق والفطرة السليمة من خلال القراءة الرمزية لها - اي اعتبارها رموزا تؤدي وظيفة اخلاقية او عبرة او دلالة معينة - وسبق ان ذكر ريكور (ان العاجز عن تاويل ماضيه عاجز ايضا عن رغبته في التحرر) . لذا يمكن اعتبار التاويل العصري للاسلام والقراءة الرمزية للقران هى الف باء التنوير واس الاساس في التطوير والعقلانية .
12 . انتقاد ظاهرة الرياء والتباهي في الطقوس الحسينية : انتقد الدكتور الوردي ظاهرة الانغماس بالطقوس الحسينية عند الشيعة في عاشوراء والتماهي معها من قبل العامة والسكوت عليها من قبل المجتهدين والمراجع . واعتبرها ظاهرة سلبية اخذت بالتزايد على حساب الفهم الحقيقي والاصلاحي للدين الاسلامي . وعد انتشارها امرا منوطا بالرياء وحب المظاهر والتباهي عند الناس , والدليل هو التزايد السنوي الكبير والمهول في عدد المواكب اولا , واقامتها امام الناس في الشوارع والساحات العامة ثانيا . واكد ذلك في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)(ان هذه الوسائل "ويقصد الطقوس الحسينية" اصبحت الان مستهجنة في نظر المتعلمين الشيعة والكثيرون من فقهاء الشيعة لايرتضونها , وقد اعلن بعضهم شجبها وتحريمها . وهى في الواقع قد صارت الان تنفر الناس من التشيع بدل ان تجذبهم اليه . ولكننا يجب ان لاننسى انها كانت في العهود الماضية ملائمة لعقول الناس وقادرة على التاثير فيهم , فهى كانت من اهم وسائل الدعاية , اذ هى تدفع الناس للمشاركة العاطفية وتتيح لهم مجال التنفيس عما يعانونه من كبت والم) . كما ربط الوردي من جهة اخرى بين اقامة الطقوس الحسينية وبين علامات الغنى والثراء والوجاهة الاجتماعية بقوله (إن كل وجيه أو غني من الشيعة يميل إلى إقامة مجلس يقرأ فيه مقتل الحسين(ع) لمدة عشرة أيام، خصوصاً في شهر المحرم وشهر صفر من كل عام. ومن يشهد هذه المجالس ويستمع إلى القصائد الحزينة التي يلقيها الخطباء فيها، وإلى وصفهم مقتل الحسين وأولاده وأخوته وأقربائه(ع)، يحس بالميل إلى البكاء. وقد تفنن خطباء الشيعة في ذلك تفننا عجيباً بحيث استطاعوا أن يحدثوا في كل مجلس يخطبون فيه عويلاً شديداً. وكثيراً ما ينشدون الأشعار العامية بصوت حزين ومنغم فيحدثون أثراً بالغاً في النفوس). وقد عزى الدكتور الوردي في مذكراته التي كان ينشرها في مجلة (التضامن) التي كانت تصدر في لندن عام 1991 انغماس الشيعة بالطقوس الحسينية واقامة المواكب والتشابيه وغيرها الى خمسة عوامل وهى :
- التنويم الاجتماعي : اذ ينشا الانسان منذ الطفولة وهو يعتقد ان المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية التي ينشا عليها هى افضل المعتقدات والتقاليد . والانسان الشيعي ينشا على هذا المسار بالنسبة للنظرة الى الطقوس الحسينية , اذ يعتقد انها افضل الطقوس واحسنها .(وبالطبع ان الدكتور الوردي اخطا في ادراج هذا الراي , لانه في الاصل ليس من العوامل التي تؤدي الى قيام وانتشار الطقوس الحسينية , وانما هو تفسير اجتماعي وثقافي للطقوس الدينية بصورة عامة والحسينية خاصة) .
- عامل الوجاهة : واعتبر هذا العامل الاثر الكبير في تنمية الطقوس الحسينية وتزايدها وتصاعد وتيرتها , لان الوجيه في المجتمع يشعر بان من مستلزمات وجاهته اليوم ان يقيم مجلس تعزية في داره او تاسيس حسينية او موكب او يقوم بعملية الطبخ في عاشوراء .
- عامل التنفيس : اذ ان كثيرا من المشاركين بالمواكب الحسينية هم من الذين اطلق عليهم الوردي لقب (محروم جاه) . فهو في الايام الاعتيادية يشعر بمكانته الاجتماعية الواطئة , لذا نجده ينتظر ايام المواكب لكي يحاول رفع مكانته , وتراه يمشي في مقدمة الموكب لتنظيم سيره او ينوح فيه او يدق الطبول .
- عامل الشفاعة : اذ ان المشاركين في المواكب ومجالس التعزية يعتقدون ان فاطمة الزهراء تنظر اليهم وتحمد مواساتهم في عزاء ولدها الحسين . وهى لابد ان تشفع لهم غدا يوم القيامة . وقد حضر كاتب هذا السطوراحدى المجالس الحسينية في نهاية التسعينات من القرن الماضي , وقال احدهم مبشرا الحضور وبصوت عال , انه راى البارحة في الرؤيا ان فاطمة الزهراء وهى جالسة في هذا الديوان , فضجت القاعة بالصلاة على محمد وال محمد , علما ان اصحاب الديوان قد جمعوا اموالهم بالربا والمعاملات الاحتكارية , وقد فرحوا بهذه الرؤيا - ان صحت طبعا - فرحا كبيرا . واعتقد ان هذا العامل مرتبط بعامل التطهير في الاسلام , وهو يعني غفران الذنوب وتطهير النفوس من الاثام من خلال طقوس وسلوكيات معينة , كما في الحج والزكاة والصلاة وغيرها . واما عند الشيعة فان نزعة التطهير تكون امضى في المجالس الحسينية واكثر انتشارا ومقبولية .
- عامل النذر : وهذا العامل يشبه عامل الشفاعة في فحواه النفسي والاجتماعي فالناس اعتادوا ان يتعهدوا لاحد الاشخاص المقدسين او الائمة المعصومين بتقديم هدية له اذا تشفع لهم عند الله , او لبى حاجتهم في الدنيا , وهذا مايسمونه بالنذر . وبالطبع ان اقامة المواكب والمجالس الحسينية تعد من اهم النذور عند الشيعة طلبا لاحدى الحاجات الدنيوية وليس الاخروية , لان الناس بصورة عامة يكون تركيزها وهمها الاساس على امور الدنيا عادة ونادرا مايكون همها الاخرة او يوم القيامة .
13 . المنهج الوعظي : انتقد الدكتور الوردي الاسلوب الخطابي والمنهج الوعظي الذي يقوم به رجال الدين والخطباء من اجل اصلاح المجتمع والناس سواء اكان عند الشيعة والسنة . وقال ان تاثيرها على الناس قد يكون منعدما كليا , لان من يريد اصلاح المجتمع وجب عليه اولا اصلاح ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية , وليس من خلال الخطابة والكلام الحماسي والاجترار المكرر , لانه اذا لم يحصل ذلك فان الناس سرعان ماترجع لسيرتها الاولى بمجرد خروجها من الجامع او الحسينية . كما انتقد مناداة الخطباء ورجال الدين بالمثل العليا والاخلاق الفاضلة والزهد والتقوى , فيما انهم لايلتزمون بتلك المثل العليا , ان لم يكن هم ابعد الناس عنها . وقال الوردى بهذا الصدد (والغريب أن الواعظين أنفسهم لايتبعون النصائح التى ينادون بها فهم يقولون للناس "نظفوا قلوبكم من أدران الحسد والشهوة والأنانية" . بينما نجدهم أحرص الناس وأكثرهم حسدا وشهوة وأنانية وحبا للدنيا) .
واما اقتصار انتقاد الفقهاء والخطباء في الوعظ والارشاد والتهديد والوعيد النار على الفقراء وعامة الناس من البؤساء دون المترفين والاغنياء والطغاة , فقد اخذ حيزا كبيرا من انتقاد الدكتور الوردي لهذه الظاهرة السلبية التي اشار اليها بالقول : (ويبدو لى أنّ هذا هو دأب الواعظين عندنا، فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون ويصبّون جلّ اهتماماتهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم، وينغصون عليهم عيشهم وينذرون بالويل والثبور فى الدنيا والآخرة. وسبب هذا الوعظ فى التحيز في ما اعتقده راجع إلى أن الواعظين كانوا ولا يزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة. فكانت معايشهم متوقفة على رضى أولياء أمره وتراهم لذلك يغضّون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف ثم يدعون لهم فوق ذلك بطول العمر) .
شكلت الانتقادات البنيوية والمعرفية التي اطلقها الدكتور الوردي – جرحا نرجسيا – عند الاسلاميين العراقيين , ليس لانها عرت المفاهيم والركائز الاساسية التي يستندون اليها فحسب , بل لانها اظهرتهم - وبحسب ادلتهم ومنهجهم ومتبنياتهم الاصلية - انهم غير اسلاميين حقيقة , وانما اناس تغلب عليهم النزعة الذاتية والرغبة الشخصية بالاستئثار والتسلط والهيمنة . وكالعادة لم يتطرق الاسلاميين الى تلك النقودات الجوهرية التي وجهها الدكتور الوردي اليهم , لانهم يعرفون جيدا صحتها وحقيقتها ومصداقيتها امام الناس والمجتمع , ولايستطيعون بالتالي انكارها او نفيها , وانما اتخذت ردودهم وهجوماتهم وجهات اخرى غلفت بطابع موضوعي او معرفي , الا ان النسق والغرض الايديولوجي ظاهرا بافراط على السطح , وبشكل لايغيب على المتابع والمطلع المختص بردود الاسلاميين واراءهم وافكارهم , والحساسية التي تنتابهم امام النقد والتحليل والتعرية , خاصة اذا جاءت من الليبراليين والمعتدلين والموضوعيين , فهم يفرحون بنقد الماركسيين والقوميين – وخاصة البعثيين – لان الطابع الايديولوجي والغرض السياسي السائد هو المهيمن عليها ويمكنهم – بالتالي بسهولة الرد عليها او نقضها - ولكن اذا جاء النقد من الشخصيات الليبرالية والتنويرية فانها ستشكل نوعا من الصدمة والجرح النرجسي باعتبارها تتسم بصفات لايفتقدونها فحسب , بل ولايستطيعون الاعتراض عليها او تفنيدها ونقضها , فالواقعية سمة تلاحمت مع الليبرالية , فيما ان الايديولوجية تقفز على الواقع الى افق التاريخ العام , وهذا النسق لانجده عند الاسلاميين فحسب , بل وعند جميع اتباع الايديولوجيات العلمانية الاخرى كالقومية والماركسية , فهم يتحملون النقد المؤدلج الذي يصدر من المنافسين الاخرين من اتباع الايديولوجيات الثورية والنضالية , الا انهم لايتحملون النقد الليبرالي والتنويري لانه – وكما قلنا – يتسم بالموضوعية والواقعية والابتعاد عن الغرض السياسي والطرح الذاتي . واذا ضربنا على ذلك مثلا نجد ان خمسا من الكتاب الشيوعيين ردوا على مقالة الكاتب الاسلامي (حميد الشاكر) (الذي سنشير اليه) بعد هجومه على الحركة الشيوعية في العراق , رغم ان مقالته تميزت بالانحياز وانعدام الموضوعية وهيمنة الايديولوجية , فيما ان كاتب هذه السطور وجه للحركة الشيوعية نقدا موضوعيا في مقالات عدة , امضى من ذلك بكثير , الا ان الشيوعيين لم يردوا عليها ولو بمقالة واحدة , فما هو السبب ؟ السبب هو ماذكرناه من ان اصحاب الايديولوجيات الدوغمائية والاقصائية الثلاث (الماركسية والقومية والاسلامية) يردون على اصحاب الاقلام المؤدلجة والثورية الاخرى المنافسة التي تنقدهم وتهاجمهم , لانها - على الاعم - تتميز بالتبسيط والسذاجة والخطابية والغرض السياسي , الا انهم لايردون على الكتاب الليبراليين والتنويريين , لان الموضوعية والواقعية التي يتميزون بها في طرح السلبيات والاشكالات ودون تحيز او غرض سياسي , يشكل لهم بالتالي تحديا واحراجا امام اتباعهم من جانب والمنافسين المخالفين من جانب اخر .
من الكتاب الاسلاميين الذين وجهوا هجوما غرائبيا على الدكتور الوردي هو الكاتب حميد الشاكر (من الناصرية ايضا) في سلسلة حلقات عديدة نشرت بمواقع عديدة اهمها الموقع الاسلامي المعروف (كتابات في الميزان) بعنوان (كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي) . وتكمن غرائبية هذا الهجوم على الدكتور الوردي هو انتقاده لمفاهيم وتصورات لم يقلها الوردي !! فمثلا انتقاده للمقولة التي تشير الى ان الوردي هو مؤسس علم الاجتماع في العراق , فيما ان الوردي لم يقل في حياته انه مؤسس هذا العلم , بل ولاحتى اتباعه او مريديه وانصاره !! فمن اين جاء الكاتب الشاكر بهذا الادعاء والقول الذي يعده من المسلمات التي يجب نفيها ونقدها ؟؟ في الواقع لانعرف من اين جاء بهذا القول لانه لم يذكر المصدر الخاص بذلك , الا انه اشار الى هذا الموضوع صراحة في القسم الاول بقوله ( نعم هذا هو هدفنا الحقيقي من بحث كذبة علم الاجتماع العراقي الذي نرى ان المرحوم علي الوردي وبأدلوجيته المسيسة الى حد النخاع قد اساء لمشروع علم الاجتماع العراقي الحقيقي الذي كان يتطلع له المجتمع العراقي ابان اربعينيات القرن العشرين المنصرم ، بل ولنؤكد بلا ادنى شك : ان من سمته بعض التيارات السياسية العراقية بالامس وتصر حتى اليوم على تسميته ب(مؤسس علم الاجتماع العراقي الحديث ) لغايات سياسية في نفسها لاغير ، هو لاغيره مع الاسف من اجهض مشروع علم الاجتماع العراقي الحديث ، وهو نفسه من الغى امكانية ان تُبنى مدرسة اجتماعية عراقية علمية مستمرة ، ونشطة حتى اليوم بسبب اخضاع هذا العلم الكبير لاهوائه السياسية ، وتمحلاته الفكرية وسطحيته العلمية وتحليلاته المبكية والمضحكة في الان الواحد وهذا بكل الم نقول هذا ما يفسر لنا كعراقيين لماذا وصل علم الاجتماع العراقي الى القاع والى العقم المستدام في انتاج المعرفة والعلم الاجتماعي المفيد ؟ ، ولماذا لم تنتج مدرسة علم الاجتماع العراقي ولا تلميذا مبدعا واحدا منذ اختطاف علي الوردي لمسمى علم الاجتماع ووفاته وحتى اليوم ؟؟، ولماذا ... ولماذا ... ولماذا ؟؟).
اعتقد ان الكثير ممن يقرا هذا النص والهجوم على الدكتور الوردي من قبل الكاتب الشاكر سوف يصيبه الاندهاش والاستغراب , ان لم يكن الضحك والاستهزاء , ويخرج بحصيلة وهى : اما ان السيد الكاتب لم يقرا كتب الوردي جيدا , او انه يحمل جرحا نرجسيا من اراء الدكتور الوردي اصابته مقتلا – كما يقولون - وخاصة في مسار تعرية التوجهات الاسلامية والدينية , والا من غير المعقول ان يتهم احدا الدكتور الوردي بانه يحمل ايديولوجية سياسية !! وكلنا يعلم ابتعاده عن الغرض السياسي والايديولجي طوال عمره , بل وانتقاده الشديد للعراقيين بعامة والكتاب بخاصة بسبب انغماسهم وتماهيهم بهذا الشان على حساب الثقافة والفكر . والمفارقة ان الكاتب الشاكر لم يذكر لنا ماهية تلك الايديولوجية ودافعية الغرض السياسي , الا انه المح في القسم التاسع من تلك الدراسة الى انها تقف مع الحاكم وليس مع المستضعفين المحرمين !! وهو كلام غريب لايستحق الرد او التعليق , فالوردي كان يتبنى على الدوام وفي جميع كتبه الوقوف بوجه السلاطين والمترفين ووعاظ السلاطين الماجورين , ولايحتاج التزكية او الدفاع من احد حتى يثبت ذلك . ( سلمان الهلالي – طالب دكتوراه - جامعة ذي قار – كلية الاداب - الناصرية)
#سلمان_رشيد_محمد_الهلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟