|
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية والأممية
المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)
الحوار المتمدن-العدد: 5945 - 2018 / 7 / 27 - 18:04
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
مقدمة:
يحاول هذا المقال المكتوب في الذكرى المأتين لميلاد الرفيق كارل ماركس تاثيل الفرق بين نجاحات منطقه وقراءاته في تنمية مسائل "القومية" و"الوطنية" و"الاممية" وفشل كثير من نضالات التحرر الوطني وفشل الرأسمالية وعملية العولمة الإمبريالية في تحقيق إزدهار وسلم عالمي.
السؤالين الرئيسين للمقال هما: كيف أسهمت "الماركسية-اللينينية" كفكر في تنمية مسائل القومية والوطنية والأممية؟ وما هو أسلوب التفكير الجدلي المناسب لتعزيز هذه التنمية؟
أما "التأثيل" فهو أسلوب تفكير مادي تاريخي جديد أزعمه في المجال السياسي للغة وفلسفة المعرفة يتناول -من منظور مادي جدلي تاريخي- معالم وتفاعلات مجال معين، بمضمون متنوع لاجزئي، وبشكل لاخطي، بل شمولي لعدد من الموضوعات بعدد متكاثر من الخطوط يجادل في آن معالم وتفاعلات وقراءات كل موضوع، ولايقتصر على واحد منهم.
1- جدل الاصطلاح والواقع والتفكير: أسهمت أفكار رواد ومنجزي تأسيس الشيوعية ماركس وانجلز ولينين وستالين في إظهار موقف موضوعي للشيوعيين إزاء مسائل الـ"Nationalism" وهو اصطلاح مزدوج لعلاقة حميمية إما بين مجموعة كثيرة من الناس مشتركي الاصل مع بعضهم أو مع منطقة معينة، حيث له معنيان في اللغة العربية: معنى ينصرف إلى "القومية" شبيه "الاثنية" والتجمع العشائري، ومعنى ينصرف إلى "الوطنية" ككينونة لإرتباط الناس ومعشيتهم وثقافتهم بمنطقة معينة إستقروا فيها وألفوا لفترة (طويلة) حياتهم فيها.
بعض الأراء الرأسمالية وشيء من الشيوعية في فهمها للحياة عامة وللحياة السياسية بالذات ترى هذين المعنيين، معنى "القومية" شبه "الاثنية"، ومعنى "الوطنية"، تراهما ضداً لفكرة "الأممية" وأن فكرة "الأممية" ضد لهما! والواقع ان الشيوعية في نضالها الإجتماعي والوطني تنتقد الفهم الشعبوي لـ"القومية" بكونه يرتبط بإجمال قلق، أو جزاف، أو جزئي لظاهرة التشكيلة الإجتماعية الإقتصادية السياسية والثقافية لمجموعة من الناس.
مثال ذلك إصطلاح "القومية العربية" فقبل ألفي سنة لم يكن إصطلاح القومية بشكله السياسي موجوداً، وكانت عناصر العروبة وأحوالها ومناطقها وألسنتها غير ما عليه أصبحت أو صارت تُنسب "القومية العربية" إليها في الزمان الحاضر. كذلك القوميات الأخرى إن صح تحديدها بلغة أو بجنس أو بمنطقة، أو تحديد اللغة والجنس والمنطقة أو الدولة بسمة أهلها . أما "الوطنية" كرابطة لوئام التشكيلات الاجتماعية السياسية والثقافية مع مكان إستقرارها، فكانت بذرتها في رحم كل مجتمع قديم مستقر وحتى البدو في ترحالهم كانت أوطانهم مضاربهم ومسارات وديار سوحهم.
2- ديالكتيك الحقيقة والخيال: مع تفاعلات الحياة وتناقضات الإستقرار وحركة السيطرة على الموارد بين الجماعات وفي داخلها ظهرت مظالم شتى. ومن رفض الناس لمآسي المعيشة والنظم الظالمة ظهرت أطوار شتى من الخيالات والأفكار ترتبط بتقدم المجتمع من معيشة ضنكاً إلى معيشة فيها قدر أكبر من الكرامة والحرية والإخاء عبر أنواع مختلفة من المساواة في الحقوق والواجبات العامة إزاء موارد الحياة والمعيشة وإزاء النظام السياسي الذي يوزعها في المجتمع.
من هذه الأفكار التقدمية نبتت الأفكار الأولى عن "الوطنية" و"الشيوعية" وكان لبها خيال الذهن لعالم جميل وأمنيات الخروج من القهر والخوف وبعض الحكم القديمة، وقد واشجت بشكل جنيني بين "الوطنية" كإنتماء شعب لمنطقة إستقراره ونوع بدائي من "الشيوعية" إتخذه الخياليون شكلاً سياسياً للدولة تخفض به الظلم المعيشي وترسخ به مقومات العدل المعيشي في تلك المنطقة المتخيلة.
كانت أجزاء من الأفكار الإشتراكية القديمة قد بدات بالتكون من آثار بعض المعالم القديمة للأفكار والقصص القديمة وأهمها القصص السودانية فالمصرية القديمة عن "عالم الخلود"، وأخرى عن مدينة بابل، وتجليات تلك القصص في ميثيولوجيا آلهة أو تصاوير اليونان الشفاهية القديمة عن آلهة عالم الخلود "حدس" Hade ثم ميثيولوجيا روما عن بلوتو Pluto وقبل الرومان في محاورة يونانية عن "أطلانطيس" ثم كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، وظهور مدن بعلبك وقرطاج والإسكندرية، ثم فكرة "الجنة" في كتب الدين، فكتاب "المدينة الفاضلة" للفارابي، وظهور مدن بغداد والقاهرة وقرطبة، ثم تأسيس كومونات أوروبا القرن الـ12 Communia وبعدها المدن الجمهوريات في صقلية وفينيسيا جهة الإمبراطورية العثمانية وجنوة جهة الأندلس وبينهما فلورنسا، وغيرهم من مدن واقعية رأى فيها الخيال معالم الحكمة والعدل والجمال التي تلاها قصيد آيرلاندي عن "أرض المتعة"، وبعده ظهر كتاب الهولاندي كريستيان بيزان المسمى "كتاب مدينة لايدن"، وبعده كتاب "اليوتوبيا" لتوماس مور، تلتهم قصص عن المدينة الحمراء (الذهبية) في جنوب أميركا، وغير ذلك كثير من وقائع وآداب تؤشر إلى إمكان تأسيس وضع حسن لمعيشة الإنسان فيه من كل أخلاق أكرمها ومن كل جمال خلاصته ومن كل حكمة أذكاها واقواها. ومن كل هذا الأدب تطور خيال بناء الشيوعية قبل آيام ماركس وإنجلز متنوعاً لخيال تحقيق قرى تعاونية و"كومونة"خير، ولخيال عن جمهورية (كبرى) فاضلة تغير وضع العالم.
منذ ما قبل الثورة الفرنسية بكثير بدأ ضمور هذا الخيال في نفس فترة بلوغه ذروة تأججه، حيث فتح الخيال المتطلع للجمال حركة الأبعاد في فنون الرسم والنحت والبناء وكرس بالخريطة والبوصلة عدداً من الكشوف الفكرية والجغرافية والحرفية تطور بها العلم وإزدهرت الثقافة المرتبطة بالرصود وبالأسئلة وبالدراسات والنتائج العلمية. وأصبح سراب الخيال الجميل مهمات عملية للتقدم في عمارة المجتمعات المادية أوالثقافية وفي السياسة المنظمة لهم بكل ما فيها من حكم وضرائب.
بشكل ديالكتيكي بدأ الضمور الخلاق في الخيال التقدمي بنشاط الجمعيات التقدمية الفقهية والنقابية والحرفية والتجارية والعلمية والفلسفية والثقافية والسياسية التي تكونت من أثره حيث بدأ روادها تحقيق كثير من مطالبه كما تغيرت حركة اقطابها بأثر ملامستهم لطبيعة المعيشة والحياة ومستوى ثقافة وتعامل الناس في نظم تسيطر على معيشتهم ولاتترك لهم سوى الرمق. فبأثر الواقع المعيشي إتجه الرواد العمليين إلى بحث إمكانات التغيير في مجال التنظيم السياسي وإتجه النظريين إلى مجالات العمل اليومي في محاولات شتى لعلاج الإجراءات الحكومية والتجارية الضارة .
3- تكاثر التناقضات والأسئلة :
من بقايا عصر النهضة ومن إزدهار النشاطات والأزمات الحرفية والفكرية بعد فترة الثورات الأوروبية (الثورة الهولاندية 1588 والثورتين الإنجليزيتين 1644 و1689 والثورة الفرنسية 1789) تكاثرت أسئلة الحياة والمعيشة في مجالات كثيرة منها: أولية تحكم الفقه في الواقع أو تحكم المجتمع في الفقه؟ وفي كيفية التأريخ؟ وفي طبيعة تنظيم الأراء والأفكار في الفلسفة؟ وكيفية ربط العلوم المختلفة بعيارات وتجارب قياسية وبمعرفة منظومة؟ وكيفية دخول قوانين العلم وحساباته مجالات التاريخ والفلسفة والموضوعات الإجتماعية؟ وكيفية تبيين حقوق الإنسان من إمازات حقوق الملوك والإقطاعيين؟ وكيفية إدارة السياسة؟
تنوعت وإختلفت وإضطربت بعض الفهوم والإجابات بتمويل مغرض أو بمصلحة شخصية للقائمين بها، وزاد تعداد الأفكار والتنظيرات وتناقضها، إما بفعل تفاقم ونقص أو بفعل تحسن وتجويد: (أ) إرتبط النقص بتفاقم تناقضات وصعوبات المعيشة وإنخفاض خيراتها على الناس بإحتكار قلة من الأفراد لعائدات الإستعمار، وبضعف عائدات الحرف والتجارة الصغيرة، وبضعف الأجور وغلاء السلع، وبزيادة الضرائب، وبتكاثر حالات الفساد والقمع والإهمال والتهميش.
(ب) إرتبط التحسن والتجويد في الإتجاه إلى الحرية من أسباب هذه الأزمات وآثارها بفعل إنكشاف أنانية سادة السوق بعد أن كان الكادحين في زمان الملوك يحسبونهم نصف أنبياء، وبإنتشار عمليات الإنتقاد وأفكار الخلاص افلخالية من بعض القيود والقداسات القديمة، وبتكاثر الجامعات والمطابع، وبزيادة تعداد وتنظيم الجمعيات الفقهية والفلسفية والنقابية والحرفية والعلمية والثقافية والسياسية وتكاثر جمعيات المراسلة ومقاهي النقاش وصوالينه.
4- الحاجة إلى معرفة جديدة:
إحتاج الوضع المضطرب والمضطرم في كافة المجالات لأفكار ونظريات جديدة تحسن قراءة وتقييم الواقع وتجدد الأفكار والعلوم المستخدمة لدراسته وتقويمه، وتخلق منظومة معرفة علمية جديدة تماماً في أسسها الطبيعية والإجتماعية وفي إجراءات ضبط دراساتها ونتائجها وإمكانات تخديمها. منظومة تناول حتى الموضوعات المبحوثة والأساليب النظرية المستخدمة سابقاً لمعرفتها وبحث شؤونها ولتقدير إمكانات وفوائد وإحتمالات تغييرها.
أي أن ظروف الإضطراب المعيشي والفكري كررت ظهور الحاجة إلى نوع جديد من المعرفة والعلم وهي حاجة ثبتها قبل حوالى قرن من ميلاد ماركس المؤرخ والفيلسوف والعالم الإيطالي جيمباتيستا فيكو Giambattista Vico أول مكرس لنظرية "الأطوار" أو "المراحل" في علم التأريخ، إذ كرس الحاجة لمعرفة جديدة وفتح إمكانات بحثها وتحقيقها بكتابه "مبادئي العلم الحديث" المصدر سنة 1725 وهو ابلغ من سفر "العمل العظيم" Opus Majus الذي أصدره روجر بيكون Roger Bacon سنة 1267 .
ضد غلبة الخيال على التفسير وعلى تصورات التغيير أدت الإنتقادات المتواصلة لأساليب العلم والتاريخ والفلسفة والإقتصاد إلخ إلى تعمق وإتساع أفكار التغيير وإرتباطها أكثر بضرورة الحسم المعرفي والسياسي ضد كل معالم النظام القديم، سواءاً تلك البرجوازية المزيفة لإرادة المجتمع بإسم المصلحة الوطنية أو المزيفة لإرادة الكادحين بإسم الحد الأدنى وضعف الإمكانات.
5- الثورة الفكرية:
بشكل تدريجي أنتج قفزة التطور الكبرى في كافة مجالات الفكر تراكمت الإنتقادات وزادت أسس وإتجاهات التغيير وأدى هذا التراكم لتبلور النزعة الثورية في المعرفة والنضال لتغيير الواقع عند الرفاق ماركس وإنجلز ومن لف لفهم رافضين التنظيرات الواسعة المبهمة والتنظيرات الإمبريقية الضيقة وكل التصورات المغلقة في شؤون المعرفة والأمور العامة أوفي الشيوعيةً.
في تلك الفترة الثورية كتب الرفاق ماركس وإنجلز ضد نصب التاريخ كسجل ملوك، وضد الفلسفة المثالية التي تبحث المعاني والقيم في الخيال، وضد العلومية الضيقة، وضد المقالات والأداب المترفة، وضد العلمانية السطحية، وضد الإيمان السياسي، وضد السياسة والدولة البرجوازية، وضد العنصرية والإستغلال، وضد تملك الافراد لموارد معيشة الناس، وضد الإقتصاد السياسي لسيطرة الرأسمالية على حياة الناس، وضد الإستعمار، وضد الفهم السطحي للحداثة، وكذا ضد فصل وتجزئة التغييرات.
كانت كل هذه النقوض الكريمة ذات طابع مادي جدلي تاريخي ينظر للأشياء وفق قوانين الحركة والتغير وبيمسم الصراع الطبقي المحرك لتشكل المجتمعات ودولها وفق مصالح وقوة الفئات المنظمة فيها. إلا أنها جمعة رغم أو مع ثراءها وثوريتها العظمى كانت نقوضاً منتجة بالأسلوب الخطي والجزئي لحركة التفكير وهو الأسلوب الأعظم الذي تشكلت به معالم "الحضارة" منذ أقدم العصور وأنتج كل حسنات العالم وحداثاته، مثلما أيضاً أنتج بشكل غير مباشر أسباب ضعفه. ولعل إبتعاد عموم المفكرين الثوريين عن إنحطاط الميتافيزيقيا المتعالية على راهنية قضايا الواقع والمعيشة وإرتباطهم العملي بالنظر إلى التطور المادي الملموس في الأشياء والنظم والمعرفة ألقى بهذه المهمة الترفية آنذاك لأخرين في المستقبل، فآنذاك كانت الأهمية الواقعية لنوع التفكير شكلاني أو جدلي ولكيانه الإجتماعي والطبقي برجوازي أو بروليتاري، وليس لأسلوب رصده الأمور وكيفية إشتغالها داخل ذهن الراصد.
رفضاً للخيالات وللدوغمائيات والميتافيزيقيات غَلب ماركس وانجلز ورفاقهم أسلوب الدراسات العلمية في قراءة ظواهر الطبيعة والطبيعة الاجتماعية المتصلة بموضوعات تغيير حياة الانسان، مرسخين الحقيقة الموضوعية عن أن الفهم العلمي للواقع وإمكانات تغييره، والتكريب والتحقيق العلمي للأفكار والنضالات الإشتراكية يتطلب نقض الدعاوى الجزافية والتصورات السطحية.
كانت تلك النقوض نوعاً من الإلحاد العلمي ضد النظريات القديمة ذات التقديس والأنانية والطغيان، وتأسيساً لمعرفة موضوعية. وضمن ذلك التأسيس تناول ماركس وإنجلز ورفاقهم إصطلاحات "القومية" و"الوطنية" و"الاممية" بصيغ موضوعية قوامها رصد تكوين وحركة عناصر وعلاقات وتكوينات البيئة والتاريخ والإقتصاد والسياسة والثقافة والصراع الطبقي الجامع لهم والدائر فيهم. وقد شملت إنتقادات ماركس وإنجلز حتى الأطغاث المنسوبة للإشتراكية أو الآملة فيها.
كذلك شملت انتقادات الماركسية-اللينينية أوهام الأممية القديمة، وهي أوهام تتصور بشكل خط تراكمي وجود العالم كله ككتلة واحدة! تصل بلاده ودولها خلال فترة قد تطول (وتسعد فيها البرجوازية) إلى مستوى واحد من التطور ومن التأزم، وذلك بحكم الوحدة التكنولوجية-الإقتصادية ! وتتصور تلك الأوهام إنتظام تراكم التقنيات في "حتمية تكنولوجية"! ومن ذلك المستوى الواحد تصورت تلك الأطغاث التي رفض ماركس جزافاتها بربطه التنظيم الأممي بدراسة جادة لأوضاع التطور التقني والسياسي والصراع الطبقي في مختلف البلاد والدول، ولكن تقدير رواد الحتمية التقنية من الإشتراكيين الخياليين وكارهي الشيوعية حاربوا رؤية ماركس وإنجلز وقدروا بشكل ميكانيكي إمكان نشوب حالة "ثورة عالمية" -وليس مجرد تولد مهمة عالمية- وإن تلك الثورة المتخيلة ستنشب في فترة واحدة في مختلف البلدان والدول! وأنها بمجرد حدوثها ستزيل كافة الملكيات والحدود والفروق!
ضد هذه السذاجة وخيالاتها وقفت كتابات تأسيس الشيوعية الحديثة (ماركس وإنجلز ولينين وستالين) موضحة أصول وأشكال الفهم العلمي لتاريخ وجود وتطور حياة المجتمعات، موضحة أهمية البناء العلمي لهذا التأإريخ ووضع وقائعه كسجل لأسس وتفاعلات الحياة الاجتماعية-السياسية مع البيئة ومع ظروف المعيشة ونمو هذه الأسس والتفاعلات وتطورها في بنى وصراعات طبقية.
من هذه العلمية التاريخية وضَحت الشيوعية طبيعة تفاوت ظروف المعيشة بتأثير إختلافات البيئة وباختلافات الإنتاج وباختلاف مستويات التطور، وبالتالي تنوع وتغير بعض الخصائص القومية والوطنية مع تطور الإنتاج والنشاط السياسي. وقد حدث هذا التغير في عناصرالطبيعة القومية ودولها في وادي النيل، وفي الصين والهند، وفي اثينا ومدن اليونان القديمة، وفي بنية إمبراطورية روما، وفي العالم العربي، وفي عموم وسط وغرب أوروبا الحديثة وفي أميركا الشمالية.
في كل هذه المناطق ودولها تداخلت تغيرات شتى في البيئة والمعيشة والهجرات والمجتمع والحكم. ومع هذه التغيرات إختلفت المعارف وتقييمات الأمور وتنوعت الاصطلاحات السياسية شكلاً أو في محتواها أو في الجهتين. وكذلك إختلفت عملية النظر إلى تغيرات المعرفة والإصطلاحات من الزمان القديم إلى زمانها إلى الزمان الحاضر وتنوعت شكلاً أو مضموناً حسب موقع وثقافة قارئها وحسب ظروف النشر.
وبنفس أسلوب تفكير الخطي المسيطر والمهيمن في العالم تنوعت وتصارعت حالات النظر إلى إختلاف المجتمعات أو التشكيلات الإجتماعية الإقتصادية والسياسية والثقافية في العالم، وتغاير توصيفها. فالمسمى عند بعض الناس "فتحاً" يعده آخرون "غزواً"، وكنوة الإسم "مقاومة" يراها أخر "تخريباً"، و"الإستعمار" يراه آخر "إستثماراً"، و"التمرد" يسمى عند آخر "إنتفاضة"، وكذا إزاء "الإستقلال" و"الإنفصال" وأيضاً "الإتحاد" و"الضم" وإلخ ذلك من تباين في الوضع القومي وسياساته إزاء قومية أخرى أو داخل الوضع القومي أو الوطني فحسب إختلاف المصلحة يختلف التقويم وتختلف التسمية وتختلف القرآءات كذلك حسب إختلاف الثقافة والمصالح أيضاً يختلف نظر وتقييم الآخرين لتلك القراءات وفهمهم وضع قومياتها أو شعوبها أو أوطانها أو ثوراتها إلخ.
6- الصراع الطبقي في المعرفة: في ذلك الزمن المضطرب الحوادث والأفكار الخطر والضعيف الإتصالات والحافل بالفجاءات والحوادث التي تبدو منقطعة بلا بداية ولا نهاية المزدحم بالامال وبالمخاوف وبالأعمال المتجهة لتوكيد أي منهما، كانت بعض الأمور والطروح العملية تقاد إلى غرف إتهام وتحقيق فقهية أو فلسفية مثالية أو نظرية، وكذلك كانت بعض التصورات/الفلسفة المثالية تقاد إلى إستجوابات قاسية إما في غرف االفقه التقليدي أو في غرف دراسة الأمور العملية.
في هذا الخضم إلتزم رواد الشيوعية بدراسة الوضع الطبقي لتكوين وحركة المجتمع وتشكل وضعه القومي والوطني والأممي، فاتحين الباب لدراسة موضوعية لتغيراتها وفلسفاتها وتغييرها. وتبعاً للحقائق الموضوعية وضرورة تغيير ظروف معرفتها وظروف الإفادة بها في تغيير المظالم العامة الفكرية والعملية، إهتم رواد الشيوعية بالتنوع والترابط في بلورة وتشكيل العملية الثورية، مع تنوع طبيعة تحقيقها وفق ظروف كل مجتمع أو منطقة. وبمفردات علمية حديثة شملت هذه الظروف ثقافة الوضع القومي ومعالمه السياسية وأهمها طبيعة حكم الدولة للمجتمع، وكينونة وضع غالبية السكان كسادة أحرار مسيطرين على موارد ووسائل معيشتهم أو كمضطهدين يرسفون في قيود الإستغلال أو مجاهل التهميش ومدى وعيهم بطبيعة وضعهم، وميل بعضهم للهجرة أو للثورة.
7- الفهم الأناني للقومية والوطنية والأممية:
كانت دول الأباطرة والملوك القديمة قد تواشجت مع فكرة التملك والتوسع في السيطرة غض النظر عن أوطان أو قوميات إلخ. إلا أن توقفها عند حدها عوائق طبيعية كالجبال والبحار أو قوة الخصم العسكرية، وكانت حملات الإستعمار تسمى فتوحاً وعادة ما تسربل الفتوح بأنها تحقيق لإرادة السماء أو بقوة عزيمة الملك، أو بنصوص دينية، أو بدعوة من مضطهدين في البلاد المفتوحة.
وعلى أية حال كانت المراكز الامبراطورية في كل انحاء العالم ترفض النزعة القومية أو الوطنية، وتصمها بأسماء تهدف لتثبيط الناس عنهاز فقد كانت مراكز الامبراطوريات القديمة تخون الحركات القومية والوطنية والفئوية فيها، فكانت روما تصف شعوب شمال افريقيا الغربي بـ"البربرية" والمور الافارقة في أسبانيا الحاليا بـ"المخربين" Vandals (واندالس) لعل من إسم التخريب جاء إسم "الأندلس" رمز الجمال والحضارة؟ كذلك وصفت مبراطورية الفرس العرب والأتراك، بـ "البداوة" و"الرعوية" بمعنى "الجلافة" و بـ"الوحشية"، أما إمبراطورية العرب الإسلامية فوصفت حركات التحرر الوطني في خراسان وفارس ومصر وبلاد الأمازيغ بـ"الشعوبية" ورغم إكرام الإسلام لـ"الأحناف" ألا أن أمبراطورياته وصفت حركات الحرية والفلسفة الثقافية بـ"الزندقة"! وكثيراً ما جمع السلطان ضد أعداءه التهمتين "الخيانة" و"الزندقة"، وكذا وصمت خلافة العثمانيين الإسلامية الحركات القومية والوطنية للاوروبيين والعرب والفرس، وزادت بوصمها رواد المهدية في السودان بـ"الدراويش".
أما الثورات الليبرالية البرجوازية وحكوماتها في أوروبا وأميركا فقد كانت قوتها ولم تزل مكونة من سادة التجارة وأصحاب البنوك، ورغم إرتباطها بتحرير رؤوس المعيشة ورأس المال من سيطرة الملوك والكنيسة، إلا أنها دأبت على الإستغلال الطبقي والإستعمار، وتوسعت فيهما، موكدة طبيعة الدولة كإطار ومضمون للتوسع في تملك الأفراد لموارد معيشة المجتمع وتحكمهم فيها، وفي توجيهها لزيادة التحكم في المجتمعات والبلدان الأخرى التي وصمت أهلها بأنهم "متوحشون"Savages .
كان إختلاف الأسلوب البرجوازي الجديد في الحكم عن الأسلوب الأورستوقراطي القديم في أمور القومية والدولة والوطنية والنشاط الدولي إختلاف تعداد قليل وليس إختلافاً كبيراً في أسس وأهداف هذه الامور، إذ كان الإختلاف منحصراً في شكل تنظيم الحكم ومرات وحجم جمع أمواله وصرفها، وترتيب أداءه بما يفيد توسع التجارة وتسويق الحياة. فقد كان محور تلك الحداثة العلمانية ونظامها الليبرالي الإستغلالي هو حرية رأس المال وتحقيق تلك الحرية عبر حرية التجارة من القيود العنصرية والوطنية والدولية.
في دول اوروبا التي صارت اليوم مع الولايات المتحدة سيدة على نشاط أكثر مجتمعات العالم ارتفعت شعارات تؤسس وتعزز مفهوم المواطنة والدولة الحديثة التي يتساوى فيها الناس في حق تملك موارد المعيشة لكن اذا كانوا يملكون دفع قيمتها المالية.
فبقيادة برجوازيين وأورستوقراط من ذوى الأفكار التقدمية انذاك، نشطت ضد نظم احتكار الاراضي والأعمال والوظائف وقرارات الدولة جمعيات مختلفة فقهية ونقابية وحرفية وتجارية وعلمية وثقافية وسياسية يجمعها هدف تغيير أوضاع الحكم والمعيشة وتأسيس نظام جديد للدولة والمواطنة ولحرية حركة المواطن الحرفية /التجارية ولتحسين الوضع الإستعماري لنشاط تلك الدول في العالم. و تمكنت تلك الجمعيات من انجاز أكبر أهدافها بمزيج من النشاط العلاني والنشاط السري.
في تلك المجتمعات وبلادها إرتفعت بمطالب التحديث أفكار وشعارات الحرية والمساواة والاستقلال والجمهورية بعضها في ثورات الفلاحين في ألمانيا القرن الـ 14وبعضها في ثورة هولاند الطويلة 1588 (إنتفاضات 80 سنة) وفي شعارات الجمهورية والحرية والحكومة الجديدة في بريطانيا سنة 1644 ثم في سنة 1689، وفي شعارات الحرية والإخاء والمساواة في فرنسا 1789 وكذا في إيطاليا 1870، إلخ.
آنذاك وإلى ان تتحكم كل الشعوب في مواردها لم يكن هدف طلائع البرحوازية إنصاف المزارعين والعمال الحرفيين أو تحقيق تحكمهم في موارد معيشتهم أو في شؤون أجهزة الدولة التي تنظم هذه الموارد والمعيشة. فقد كان المعني الواقعي لتلك الشعارات والتغييرات التي انجزت باسمها هو كسر سيطرة الأورستوقراط على أمور الحياة والمعيشة، وذلك بعلمنة فرص تملك الأفراد لموارد المجتمعات متجهين بها إلى زيادة الإستغلال الداخلي وزيادة إستعمار وإستثمار الشعوب والدول الأخرى.
أما معيشة الناس ومعاناتهم من سيطرة الملوك على موارد المعيشة ثم سيطرة سادة السوق على تلك الموارد فلم تكن محوراً لإهتمام البرجوازية ومطوري أفكارها السياسية إلا لكسب عونهم في عمليات كسر تحكم تحالف الاورستوقراط وأرباب الكنيسة. فبالتنظيم الجديد لشؤون الدولة وتضاعف فروضها المالية، لم تتحقق حرية الانسان ولم يحظ عموم الناس بإخاء أو حتى بمساواة في فرص التملك الذي ربط بمبالغ تفوق عند الناس الفتات الذي يسمح لهم به سادة السوق. كل الذي حدث إن الناس انتقلوا من سيطرة تحالف بعض كبار التحار والملوك إلى سيطرة تحالف بعض كبار التجار والبنوك.
نجحت القوى الليبرالية في تنظيراتها العظمى ونشاطاتها الكبيىرة لتخليص المعرفة من أزمات التصورات الدينية وأزمات التصورات الاخلاقية وأزمات التصورات الملوكية وتلك القائمة بحواجز لغوية ثم عرقية إلخ نجحت في تأسيس الفلسفات والعلوم الإجتماعية والسياسية والحقوقية الحديثة، لكنها أهملت الدراسة المنظومة لمسائل الشغل والمعيشة اليومية للكادحين، وهم أغلبية المجتمعات، ولب القوميات، كما فشلت في بناء معرفة متكاملة مع شعاراتها، في أي مجال من مجالات الفلسفة والعلوم الإجتماعية والسياسية والحقوقية الحديثة سوى أن (إكتشافها) الموسوعة "الإنسايكلوبيديا" جمع فيها الغرور. ويمكن إكتشاف ذلك الغرور وجهالاته من الأوضاع التراتبية في الجمعيات العلمية ومن خوف آساطينها من المذهب الإنتقادي، وإكتفاء هيئاتها بالرصد والتبرير وبالفهم دون التغيير! كذلك لم تهتم المقومات المعيشية والثقافية لفئات البرجوازية ومصالحها آنذاك بإجراء دراسة متكاملة لأمور القومية والوطنية وكينوناتها في بنية الدولة والعالم الحديث، إلا تعصباً وجبروتاً ضمن ثقافة التملك والتسويق والسيطرةً على قوميات وأوطان أخرى أو هروباً من سيطرة قومية أو دولة أخرى.
رغم حدوث الانتقال الرأسمالي الكبير من شكل تملك فردي إقطاعي وديني، مدجج بالسلاح، يحصر المجتمع والدولة في شخصية "الملك" الذي يجسد إرادة الرب والدولة. إلى وضع جديد للتملك في شكل اقتصادي سياسي له جيش كسابقه، فإن الوضع العالم للدولة القومية لم يتغير كثيراً رغم تغير شكل الحكم من شكل ديني لعبادة الحاكم إلى شكل علماني لعبادة المال. وكان الوضع الجديد الليبرالي أو البرجوازي يدعي زوراً وبهتاناً أن الدولة الجديدة تجسد إرادة المجتمع والقومية! وانها الكيان العام المشترك المحقق كل مصالح مواطنيها في كل مكان وزمان تحت إمرتها!
إعتمدت هذه النظرة التبريرية أو الإبتزازية على فكرة "الأمن" أكثر من فكرة "العدل" وإن نظام الحكومة والشرطة والقضاء والجيش يحمي كل المواطنين من إمكان العدوان عليهم من خطر خارجي يستلب أموالهم وكرامتهم! وهو كلام قوي مكرر منذ ايام الاباطرة والملوك وأن كان هذا الكلام يثبت للناس المواطنة والدولة بل ويتواضع بأن يشرح للناس سبب تسلطه على معيشتهم، لكنه يبقى إلى الأبد ضعيفاً في عدم تبيينه لغالبية السكان المنزوفين الفرق بين عسف وجور وفساد الدولة الوطنية الحاكمة وعسف وجور وفساد الدولة الغازية سوى وطنية (بيدي لا بيد عمرو)، و(أهلي وأن ضنوا عليا كرام)!
8- تنمية الوعي ضد الإستلاب:
منذ تكونها الحديث حاربت الشيوعية بقايا الأورستوقراطية في الفكر والاقتصاد السياسي والتشكيل الثقافي للمجتمع وكشفت جموح وتخبط الطبقة البرجوازية وإستغلالها الرأسمالي لكل القيم الإجتماعية والسياسية القومية والوطنية في تعزيز مركزها وتحكمها في معيشة غالبية الناس. فقد كشفت الشيوعية الطبيعة الشكلية لتغيرات مابعد الثورات البرجوازية، الأمر الذي وضحت صحة معلوماته وحكمته عند كل دراسة لعوامل وظروف ونتائج التفاوت وارتباط سيئاته بأسس وعمليات الإستغلال والإستعمار.
في القرن الـتاسع عشر زادت أزمة "المسألة القومية/الوطنية" The National Questionوزادت معها أزمة معرفة عناصرها وأبعادها وتشكلاتها. ومن الأزمتين إتقدت أزمة ثالثة بعد ظهور موضة من الكتابات عن "القومية" و"الهوية" و"الجنسية" حفلت بربط مسألة "الجنسية" بـ"القومية" وهما في أوروبا كلمة واحدة Nationality وكان تلك المسألة ذات صلة بجدل التداخل والتمييز بين سكان عدد من كثير من البلاد في أوروبا وهي مركز العالم آنذاك ومعه موضوع وآثار تعدد أو إنعدام "الجنسية".
ولم يكن أمر "الجنسية" Nationality مجرد مصادفة في مجتمعات تداخل، كثيرة المهاحرين، تعمها تفاوتات شتى في تحديد الأسس غير المالية للعمل أو التملك أو لشغل وظائف حكومية، أو لقيادة وحدات عسكرية أو لإدارة عمل تجاري أو مالي معين. وكانت تلك الفترة من القرن التاسع عشر ذات صناعة مملوكة لمستغلو العمال أو الموارد، وذات سنديكات ونقابات واضرابات شتى، وقد تداخلت بنزاعات التجارة والصناعة والعمل آنذاك عناصر "القومية" و"الجنسية" قبل أن وضوح مسألة "المواطنة".وقد داخلت تلك الخلافات الطبقية ذات البعد القومي، وتلك الخلاقفات القومية ذات الشكل الطبقي، طبيعة تنظبم الدولة، ومدى تحكم كل فئة من سادة السوق على مختلف جنسياتهم في سياسة الدولة جهة الأجانب، وسياستها إزاء من تسميه "المواطن"، وهو في حقيقته الغالبة إنسان مسحوق تابع لسادة السوق مثلما كان المزارع قبل الثورات تابعاً لسادة الإقطاع.لا يملك من أمره شيئاً أو مواطنة.
واشجت تلك الكتابات المزوفة للوطنية حالة وله بمسألة "الاستعمار"، بحكم طبيعته كمخرج من بعض الازمات الداخلية وكمحتوى عالمي لـسؤدد المجتمع وسادة معيشته الوارد بشعارات "المسالة الوطنية" وقد صارت تلك المقالات تقعر وتحدب الأسس والشخصية القانونية للبلد، وسلطاته، مع تزويف الطبيعة التاريخية الجشعة لمجتمعات المستعمرات.
في تلك الايام سميت حالة عموم افريقيا بـ"الظلام" وبررت تلك الكتابات وجود المستوطنين في قارات العالم بأنه "مهمة حضارية للرجل الأبيض"! وكذا تلك الأمور وأسئلتها "المسألة اليهودية" والأس العرقي أو الديني أو اللغوي أو الجغرافي للقومية والجنسية؟ ولماذا؟ وأيضاً شملت تلك الأسئلة المرتبطة بـ"أزمة موضوع الهوية"، محاولات فاشلة لأوجاد تحديد جامع قاطع لمن هو الألماني؟ أو العثماني؟ أو البلقاني؟
توالدت كل هذه الأسئلة ثم تأججت في القرن العشرين حروباً ومأسي تهجير وإبادة مع محاولات بعض فئات برجوازية بإسم القومية والنقاء القومي الإنفراد بتسيير الدول المتعددة القوميات واقصاء الجماعات القومية الأخرى، وهي مآسي نتجت من خطل الوضع الاجتماعي السياسي وتحكم فئات الرأسمالية فيه وتناقض موقفها إزاء مسائل التجمع أوالاستقلال ومسائل النظام أوحرية السوق. ولعل كل المسألة تأججت بسبب التنافس الرأسمالي الداخلي والإستعماري ووجود إمتدادات من جماعات وقوميات الدول المنافسة داخل نطاق الدولة المعنية برجوازيتها بالنقاء والإنفراد القومي.
زاد الطين بلة بتمكن الرأسمالية الصناعية والمالية وهيمنتها على الحياة ومؤسسات المعرفة والإعلام في غرب أوروبا، حيث صنع ذلك التمكن التجاري ورَّوج أفكاراً سوقية وإستغلالية عن "الحرية" وحولها من كلمة مثالية إلى نظام لحرية سادة السوق في السيطرة على معيشة الناس!
كذلك تمت خصخصة مفردة "الوطنية"، وتحول كل وطن إلى مملكة تجارية للمتحكمين في السوق وصارت "الوطنية" سياسة لتمكين سادة السوق من السيطرة على الدولة، بعيداً عن الأورستوقراط ذوي الأصول الأجنبية، وكأداة لاستعمار المجتمعات والدول الأخرى، وسحق كرامة أوطانها!
ككل أزمات العالم تولد جزء من أزمات "القومية" و"الوطنية" من أسلوب التفكير السائد في العالم فبحرية تملك بعض الأفراد لموارد معيشة المجتمع نشأت سيطرة الرأسمالية على معيشة الناس ومصير مجتمعاتهم وبنزعة زيادة التملك والأرباح زاد التنافس الداخلي وتفاقم بدلاً لـ"الإخاء" و"المساواة"، وزاد التنافس الإستعماري بدلاً لإخاء الأمم والتكامل الدولي العالمي.
يمتاز الأسلوب الخطي عن بقية أساليب التفكير بالوضوح والسهولة، هو أسلوب تفكير وبداية فهم وليس فكراً يرتبط بموضوع معين. وقد صنع هذا الأسلوب كل إنجازات البشر وأيضاً كل نواقصها وذلك في الجهتين جهة الإنجاز وجهة النقص بحكم تجزئته وفرزه الأمور المتداخلة، وبشكل سلس يجمعها في نقاط يركزعليها الفحص وتبدأ منها خبرة الفكر في العمل. وبحكم تتابع وتراص النقاط فإنها تشكل كياناً يمثل خطاً واحداً من جملة الخطوط والتفاعلات المحيطة به. ويمثل هذا الخط الإفتراضي صورة تقريبية عن الموضوع في ذاته وحدوده الأولى لا في كم كثير من تفاعلاته ونتاجها التي تبدو بعيدة، فمنذ نشأت الأسلوب التتابعي في الفهم لم تظهر حاجة إلي دراسة التفاعلات الكثيرة غير المنظورة، دون ضرورة لها. كان ذلك الإكتفاء قبل أن تكشف الصناعة والتجارة الحديثة ومؤشرات البورصات ترابط إقتصادات العالم وقبل أن تكشف أزمات الإقتصاد وأزمات المناخ في القرن الـ21 ترابط حيوات المجتمعات.
وبشكل عام يسود أسلوب الخط الواحد إلى اليوم على عملية النظر الذهني إلى الأشياء والأمور بحكم محدودية إمكانات الرصد والقراءة والتحليل منذ الأزمنة القديمة وإلى الزمن الحاضر إلا إستثناءات. ووفق رصوده وكينوناته الأولية يشكل ذلك الاسلوب داخل الذهن صوراً جزئية صغيرة محدودة التفاعل Micro ، بهذا الشكل الإختزالي يصعب إدراك الأثار البعيدة لحركة أو بطء الأشياء وتصعب الإفادة من كينونة تداخلها وتفاعلها، ويصعب تجنب إنتشار أضرارها. وخلال المائة وخمسون عامة الماضية أثرى الإشتراكيون معرفتهم بالأسلوب الخطي وبحكم تنوع وتداخل فكرها وموادها تجنبوا العيب الرئيس، في الأسلوب الخطي بل نجحوا في فهم وإنتقاد جوانب شتى من مسائل "القومية" و"الوطنية" و"الأممية".
لكن مع زيادة جدل تخصص وإجتماع المعارف، فإن إستمرار الأسلوب الخطي في قراءة الموضوعات والاحوال كثوابت وفي ظروف زيادة التشابكات والتغيرات وتكاثر العناصر والتفاعلات والأثار في كل موضوع، فقد يكون ذلك داعياً إلى تنمية الأسلوب الجمعي أو الشمولي Holistically في النظر وهو المسمى "التأثيل" لأنه يتناول بصورة مادية جدلية تاريخية متعددة الخطوط مجموعة من العناصر والتفاعلات والنتائج في الموضوع المحدد للتعامل معه.، متلافياً بذلك قصور الخط الواحد.
لـ"التأثيل" المستلهم من بنية الجمع الخلاق لمعالم عدد من الموضوعات، في حضارة النوبة القديمة فائدة خاصة في مسألة إسهام أعمال رواد الشيوعية في تنمية أفكار القومية والوطنية والأممية، وهي أنه ألغي نصف الجدل الشكلاني (أو البيزنطي) حول "الأولية" الذي يسود كل مسأئل العلوم الإجتماعية، ويقود إلى إنغلاق أو إنبهام في تناول الموضوع، حيث تحتار الموضوعية مع سؤال أيهما أول "القومية" أو "الوطنية" ؟ وآثاره التفكيكية بينما الواقع أن المراحل الأولية والوسطى والنهائية في كل حادث أو حديث إجتماعي كانت للتفاعل والصراع، في عناصره وعلاقاته، ومع البناءات التي تشمله لا ينفصل الضوء عن الشعاع..
9- الفكر الجدلي ضد الفكر الأحادي:
نشأت ونشطت أفكار ماركس وإنجلز ضد الأسلوب الليبرالي في الحكم والقائم على رسملة الإمتلاك وإستغلال الرأسماليين لموارد وقوة عمل الناس وحاجتهم، وضد التربح من ضعف وإضعاف وعي الناس ومن فقر تنظيمهم. وللحرية من الإستغلال والتهميش الداخلي والعالمي ارتيط التفكير الإشتراكي الحديث بنهج العلم في التاريخ حيث نظر إلى الأمور الموضوعية الكبرى في حياة الناس مهتماً بطبيعة المعيشة في حياة المجتمعات، كمؤشر مهم لفاعلية وتطور أفكار المجتمعات وأنشطتها. كذلك اهتم التنظير الشيوعي الحديث بداية من ماركس وانجلز ورفاقهما بعوامل تجمع واستقرار عشائر القوميات وتداخل تسيسها وتوطنها، مشكلة لها معالم موحدة جديدة، وكذلك لمنطقة استقرارهم وتوطنهم كجغرافيا اجتماعية، فقد تناوت تنظيرات الماركسية المعالم الحاضرة للقوميات. وهي معالم كان المعتقد أنها خالدة كنتائج لتغيرات قديمة وكأسس مادية لتفاعلات وتغيرات المجتمع والدولة في المستقبل.
فبفعل رابطة عملية ونفسية لاجتماع الناس هرباً من الجوع ومن الخوف، وارتباطهم معاً فترة طويلة بموارد وجهود وخيرات كدحهم في منطقة واحدة مشتركة البيئة والمعيشة والتعاملات، تبلورت المجتمعات والجيوش والسيادات، وبحدل إستقرارها ونموها وتوسعها بدأ تبلور الأوطان والدول.
من هذه الرابطة الإجتماعية وإتحادها بمكان معين تبلور ظهور المجتمع (الإقتصادي) والدولة بتجمع وإستقرار وعمل وتمازج عشائر المجتمع، وظهور الحالة السياسية بفعل محاولات تنظيم أحواله، وبنشوء إنتظام اجتماعي اقتصادي سياسي مؤطر ثقافياً تتعاضد به أعمال الناس، وظهور معالم ثقافة مائزة جامعة لتلك الجماعة ووحداتها، كما تمزج وجودهم بالمنطقة. وتحدد هذه المعالم الشخصية المائزة للمجتمع وسط المجتمعات الأخرى وتؤسس لكرامة الشعب المنتج لأسس وجودها وتصون حريته من المتملكين أو المستغلين لكينونة المجتمع سواء كانوا من أفراده أو كانت لهم كينونات أجنبية.
في ذلك الشأن للعلاقة العملية والمعيشية بين ترابط الظهور السياسي للمجتمع مع تبلور وظهور الدولة. كتب الرفيق كارل ماركس عناوينه المرتبطة بـ "نقض الإقتصاد السياسي" ضد أسس الإستغلال والتفاوت الرأسمالي بين الطبقات وأيضاً بين المجتمعات، وكذلك نظر ماركس إلى عوامل التفاوت بين بعض الدول، وحتى على مستوى العالم مخدماً الفكرة القديمة للتفاوت بين المركز والهامش.، مذكراً العالم بتغير المدينيات والثقافة عبر التاريخ بفعل عوامل موضوعية.
بمقاربات متنوعة ذات مضمون طبقي تاريخي تناولت أعمال كارل ماركس الأصول والأشكال الإقتصادية والإجتماعية والثقافية لتبلور المجتمعات والدول، ولظاهرة الإستعمار الأوروبي، موضحاً الطبيعة الاستغلالية للإستعمار بالحساب المجرد وبعينات من داخل تاريخ ألمانيا ومن تاريخ بريطانيا وايرلندا ومن تاريخ فرنسا ومن تاريخ الهند والجزائر، وكذا في مقالاته الأميركية قام كارل ماركس بشرح وتشجيع أعمال المقاومة الشعبية الصينية ضد الإستعمار البريطاني، مبينا الوحدة العامة للنشاط الرأسمالي وهيمنته الاستغلالية على حياة المجتمع ونشاط الدولة وما يسمى بشكل عام "وضع البلد".
كذلك كتب ماركس "في المسألة اليهودية"، وكان ذلك الكتيب ولم يزل سلاحاً فكرياً ضد تناقض الفهم العلماني والفهم الديني في مسألة المواطنة، وفي مسألة عقيدة المجتمع/الدولة. آنذاك كانت اللغة والعقيدة الدينية السائدة في الدولة تحدد مواطنة أو أجنبية أي إنسان، ولو ارتبط بالمجتمع مائة سنة.
وإضافة إلى علمانيته نشط كتاب "في المسألة اليهودية" ضداً لعنصرية الاعتقادات الدينية (وجنين الصهيونية) عند الأفراد وموقفيها إزاء قضايا الحكم وقضايا المجتمع: الموقف الانسحابي من الشؤون العامة، والموقف التسلطي على تلك الشؤون. ويخرج ذبلك الكتاب قارئه من حالة تقييم الإعتقادات بإعتقادات إلى تقييم الظروف السياسية المناسبة لإحترام حرية الناس في الإعتقاد، وإلى إحترامهم لحرفية هيئات الحكم وموضوعية أعمالها.
كذلك بين ماركس لرواد الإستعمار واليهودية السياسية المشجعين "نظام الإستعمار" أنه لن يحقق ما نسميه اليوم "تنمية" في الداخل، بحكم سحب المواربد الوطنية إلى الخارج، ولن يحقق تنمية في الخارج بحكم إرتباطاته ومصالحه داخل الدول الإستعمارية، وبحكم الأنانية في إحتكار موارده، ولذا لم ولن يحل أي أزمة قومية. ونبه لأزمة التناقض الرأسمالي في تقييم طبيعة وجود اليهود في أوروبا، تريدهم في جهة وترفضهم في جهة، دون أن تؤسس وضعاً سياسياً فعليا في مجال الدولة والسياسات العامة يحترم كرامة وحرية الإنسان .
كذلك مع جهد الرفيق كارل ماركس قابس الرفيق فردريك إنجلز علاقات القومية والوطنية بكتابة مفصلة عن "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة"، مبيناً الظروف العامة لنشوء الدول ومجتمعاتها، عبر تجمع العشائر ونمو العمل وتزايد نزعة الإستقرار والتملك ومعها نزعة الحرب، ومن ثم تبلور الجماعة وكيان الدولة القومية نتيجة من تغيرات طبيعية ودائمة تؤثر على عناصر القومية ومجتمعاتها وتؤثر على طبيعة وجود الدولة وتفاعلاتها ومستقبلها.
أستمر ارتباط الاشتراكية بالنهج العلمي في نقض وتغيير الأفكار العالمية الساذجة عن القومية المقدسة، والوطنية المبهمة أو الاستعلائية، كما ارتفع شأن الكادحين والوعي الطبقي والترتيب الإشتراكي لمصالح المجتمع في مسائل القومية والوطنية بكتابات لينين عن "الامبريالية أعلي مراحل رأسمالية"، و"حق الأمم في تقرير مصيرها"، وعن "نوع الديموقراطية" و"علاقة الطبقة العاملة بمسألة القومية والتحرر الوطني"، و"الثورة والدولة". و"نداء إلى شعوب الشرق".
بنفس التأسيس والاتجاه وبحضور لينين قاد مسؤول الحزب لشؤون القوميات الرفيق يوسف استالين ترتيبات الشيوعيين للمسألة القومية وظهرت معها بعناوينه: "في مسألة القوميات" و"المسألة الوطنية"، و"الماركسية ومسألة اللغة" رابطاً "بناء الدولة الوطنية" بحرية الشعوب من الاستغلال وبمواجهة الإستعمار، فعملياً لا تعترف دولة البرجوازية بالمساواة الكاملة للناس، ولا بكرامتهم، بل تعز أقوى المتملكين وفئاته وتسمح له بإستغلال المحرومين من التملك .
مع هذا التكريب الشيوعي النظري والعملي لإصطلاحي "القومية" و"الوطنية"، وإوضاح المكون الطبقي لحركة الفكرتي "القومية" و"الدولة الوطنية" جهة الناس أو ضدهم، شمخت فكرة "الأممية" كمعادل موضوعي للفكرة الخيالية أو التآمرية الرأسمالية عن "الحكومة العالمية" كأكبر أداة سياسية لتحقيق مصالح البرجوازية. وكانت فكرة "الأممية" قد تبلورت كإجمال علمي وواقعي لوحدة قضية حرية الكادحين والشعوب المضطهدة في العالم، وضرورة ترابط نضالهم عبر مختلف مجتمعاتهم وقومياتهم وأوطانهم وقاراتهم ضد الزواهر العالمية الضد الرأسمالية والإستعمار والإمبريالية.
10- قفزة تخطي الحاجز :
لتحقيق الحريات القومية والوطنية والأممية بجذرها الطبقي تبلورت عمليتان ثوريتان: كانت الأولى لبناء تنظيم شيوعي عالمي، وكانت الثانية لتأسيس حزب شيوعي مستقل في كل بلد من بلاد العالم. كان ذلك التأسيس عملاً عقلانياً موضوعياً ضد كافة التصورات القديمة الساذجة لتوحيد العالم -رغم اختلاف ظروف أجزاءه- فقط بتوسع غزوات ملك أو بتنظيم مؤآمرة عالمية!
تحققت تلك الموضوعية بربط الشيوعيين لعمليات تحرر الكادحين والأمم بنضال طبقي وشعبي ووطني متكامل ومنظوم بصورة مركزية ديموقراطية ضد الإستغلال الرأسمالي وأصوله وضد أشكاله الدولية المجسدة في ظواهر الإستعمار المباشر والاستعمار الحديث والإمبريالية. وكانت أول فائدة لهذه الجهود القفزة الثورية فوق الحاجز الإستعماري الداخلي في روسيا وتأسيس الجمهوريات السوفييتية الإشتراكية في خمسة عشر بلداً ثم إتحادها.
في البلاد التي كونت إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية (ترجمة أصح لإسم الإتحاد السوفيتي) تمازجت فكرتي وعمليتي التحرر الطبقي والتحررالقومي، أي حرية المجتمعات الكادحة والشعوب من صنوف الإستغلال، وحرية القوميات من التفكك والتفاوت ومن النير الأجنبي. وقد تبلورت هذه الحرية في دول مستقلة إشتراكية الإقتصاد، ومترابطة بإتحاد دولي مضاد للإستعمار والإمبريالية.
آنذاك كان أكثر الكادحين والقوميات المنسوبة الى اسم روسيا يعيشون القمع والاستغلال والتهميش بفعل فكرة إلهية الامبراطورية، وارتباطها بالتملك الخاص وتوسعه. ضد هذا الظلم وأصوله وأشكاله الفكرية والعملية ظهرت نضالات الشيوعيين وبها منذ إنتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى سنة 1917 تحررت فكرة "الحرية" من حالاتها الهلامية ومن حالتيها الواقعيتين الإستغلالية والإستعمارية.
بعمليات ثورية مختلفة ضد الأفكار والأوضاع السياسية القديمة تحولت الفكرة الإشتراكية العلمية عن القوميات من تنظير ومحاولات تأسيس إلى حقيقة عملية مثبتة بالوقائع وتتقدم بالدراسات والعلوم،وبتنفيذ خطط التنمية وبنشاطات الصداقة والسلام في العالم. فبتأسيس خمسة عشرة جمهورية سوفييتية إشتراكية متنوعة القوميات ثم ياتحاد هذه الحمهوريات مع بعضها مؤسسةً في التاريخ والعالم أكبر محرك طبقي ثقافي واعلامي وإقتصادي وعسكري وسياسي للتحرر الوطني ونشاطه الداخلي والعالمي ضد مثلث الإستغلال والإستعمار والإمبريالية في آن.
أدت هذه الحرية الإشتراكية من النظام الإمبراطوري للإقطاع والرأسمالية والنفوذ الأجنبي التي حققتها الجمهوريات السوفيتية الخمسة عشر إلى دعم افكار وعمليات استقلال أو إعتداد عشرات الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
صحيح ان أكثر هذه الدول ونجاحات استقلالها أو اعتدادها بعناصرها قد ضعفت عن تحقيق هدف الحرية الكاملة لشعوبها الكادحة من أسس وعمليات الإستغلال والتهميش الرأسمالي، بحكم التملك الرأسمالي العالمي لموارد الطاقة وآليات التمويل والتجارة الدولية إلا ان الخطأ الرئيس يتمركز في سياسة قياداتها البرجوازية الصغيرة التي لتجنب التهديدات الإمبريالية فصلت بين الحريتين الضرورتين لأي تقدم إجتماعي قومي أو وطني وهما: حرية الوطن ودولته في صراع الأقوياء، والحرية النقابية والسياسية الطبقة العاملة داخل هذا الوطن.
شكل هذا الفصل المتفاقم بين الحريتين الطبقية والقومية نوعاً ظاهراً من أنواع الخنوع الطبقي والوطنية الزيف، بدولة ذات مضمون طبقي مضاد لغالبية سكانها وضد الشكل العقلاني لوجود الأمم، بل قريب لتلك الأنواع من "الوطنية" الإستعلائية التي قادها موسوليني وهتلر أو مقارب لتلك الأنواع الظالمة من مزيج الوطنية الأنانية والعولمة الاستغلالية السائد في لندن، جنيف أو زيورخ، ونيويورك.
لكن رغم كل هذه الأحادية الطبقية والدولية بالامكان القول ان الجهد الماركسي-اللينيني منذ ثورة أكتوبر الإشتراكية 1917 بدأ بناء حضارة الإنسان بوعي الصلة بين البنيات العامة للمعرفة وللعالم ومكوناته والتوازنات الإقتصادية السياسية والثقافية الداخلية والدولية المطلوبة لتحسين تفاعلات هذه البنى ونمو عمليات بناء حضارة الإنسان.
بالروح الإشتراكية والفهم العلمي لأسس الحرية وأشكالها الموضوعية في معيشة الناس، وبنضال الماركسيين-اللينينيين في العالم زاد الربط الموضوعي بين تحرر الشعوب الكادحة من الإستغلال والتهميش وتحرر الأوطان من الإستعمار المباشر أو من الإستغلال والتهميش الإمبريالي الحديث لمواردها وجهودها. ففي الجهات السوفيتية والشيوعية من الحرب العالمية الثانية لم تكن قط مواجهة بين "القومية" و"الوطنية" و"الأممية" كما تحاول صنوف الأفكار والدعاية البرجوازية الليبرالية والنازية إيهام الناس، لا، بل كانت علاقة إمتزاج إنصهر فيها بالدم وإتقدت الكهرباء بالعرق .
أيضاً أنقذ الفكر والنضال الشيوعي حرية العالم من خطر النازية والتطرف العنصري الآري وما شابهه من خطر الأفكار وااسياسات الرامية لتوسع عالمي لدولها وشركاتها وجيوشها ومعالم لغتها بإستغلال وتهميش المجتمعات الكادحة. والواقع المشهود في تنظيرات الإشتراكية وفي ممارساتها الواقعية منذ بدايات القرن الـ20 إن "الأممية" كانت -ولم تزل- تعزز "الوطنية" وتوكدها بهدف حرية كل دول العالم وشعوبه من الإستغلال والإستعمار والإمبريالية.
خلال النصف الأول من القرن الـ20 أدار الشيوعيون في قارات العالم وفي مركزه أوروبا معارك شتى لتحقيق حرية الكادحين وظهر المعدن الأممي للشيوعيين السوفييت بقومياتهم المختلفة في تأسيس جمهورياتهم الـ15 الممتدة في أوربا وآسيا، وتنسيقها لاتحاد فعال اسهم في تنمية معيشتها وثقافتها عشرات الاضعاف، اضافة إلى نضالهم الفدائي ضد العدوان الجرماني وأسبابه وقواه الرأسمالية.
وكانت تلك النضالات موئلاً لترابط التصورات الشيوعية في العالم، وفي داخل كل دولة ونشاطها في محاولات متنوعة لتحقيق السيادة الوطنية المتكاملة لكل محتمع، وتغذيتها بعملية ديموقراطية شاملة لإثراء كل وجوه حياته وثقافاته، وشؤون معيشته وسياسات تنظيم هيئات وأعمال دولته، بخطط تنمية متكاملة، وسياسات تصون فاعلية وإستقلال المجتمع ودولته بتعاون دولي يزيد إمكانات السلم والإزدهار الإنساني في العالم.
هذا الوزن الشامل الديموقراطي الشعبي لأمور الكفاءة والمصلحة الوطنية مع أمور التعاون والسلم الدولي والعالمي، ارتبط مدى تحققه بمدى البعد عن الهيمنة الإمبريالية وعن حالات الإنغلاق والتعصب القومي، الملازمة لمرض الخوف من المجتمعات والدول المختلفة في معالمها القومية وفي تنظيمها. ومع عوامل أخرى ارتبط هذا النضال بهزيمة الإستعمار والنازية واستقلال عشرات الدول من ربقة هيمنتها.
11- الرأسمالية إستعمار وحروب وهجرة:
لعل الحروب القومية التي إشتعلت بعد حل الإتحاد السوفييتي وبعد حل الإتحاد االيوغوسلافي، وأزمات تقرير المصير لعدد من المناطق في العالم، وتزايد الحروب الأهلية والهجرات توضح أن التفاوت الرأسمالي الداخلي والدولي يعزز العنصرية والطغيان والتعصب القومي وهي حالة مرتبطة بمحاولة الإمبريالية المأزومة السيطرة على موارد وشؤون العالم ونشاط مؤسساتها في كسر سيادات دوله وعولمة موارد مجتمعاته الضعيفة لصالح أقل من 1% من سكان الأرض.
ولعل حالة التوافق القومي والوطني وتقدم عمليات التنمية في جمهورية الصين الشعبية وإزدهار علاقاتها الدولية ونجاحها السلمي في تقريب حوالى مآئة دولة عبر تواصلات تجارية تعاونية عالمية خالية من الإحتكار والإنفراد توجه الشكر وتزيد الإمتنان إلى جهود رواد الشيوعية بقيادة الرفيقين ماركس وإنجلز في تنمية العلاقات بين "القومية" و"الوطنية" و"الأممية"، وهي التنمية التي تبشر بمستقبل أفضل للبشر تزول فيه الحواجز وتنمو فيه التمازجات وسيطرة المجتمعات على الموارد والأسواق والدول .
12- خمس نقاط خاتمة:
1- - كربت الشيوعية بالوعي الطبقي اصطلاحات ونضالات "الوطنية" و"الأممية" وغذتها بالأفكار والنضالات المعادية للرأسمالية والإستعمار والإمبريالية.
2- - ركزت الأفكار والنضالات الشيوعية على نفي التفاوت الطبقي والتفاوت الدولي.
3- - في كل دولة، وعلى مستوى العالم، دعمت الشيوعية أفكار ونضالات إستقلال الشعوب والديموقراطية الشاملة والسيادة الوطنية، كأسلوب عملي موجب لتحقيق الأمن والسلم العالميين وصونهما بجهود "الصداقة بين الشعوب"، و"التضامن الأممي"، و"التنمية".
4-- ترفض الشيوعية بشكل نظري وعملي سياسات إنفراد كل مجموعة رأسمالية بإمتلاك جزء من موارد العالم والسيطرة على قرارات مجتمعاته وحكوماته بإمكانات الرأسمالية الإعلامية والمالية والعسكرية والديبلوماسية، وكذا بدعم هذه الإمكانات لأسس وعمليات الإرهاب، ولأسس وعمليات صندوق النقد الدولي المؤدية لتدمير معيشة كثير من المجتمعات وتهجير ملايين الناس.
5- - في تعزيزها الموضوعي لقيم الوطنية والقومية والأممية بإتجاه إجتماعي وإنساني تعادي الشيوعية قيام أي مجموعة رأسمالية بإمتلاك مصير جزء من العالم وبالتالي إمتلاك تلك المجموعة لحرية وكرامة ذلك الجزء من العالم.
الخلاصة:
ان الجهد الشيوعي لتعزيز مسائل الوطنية والقومية والأممية وعلاقاتها بتعزيز الإشتراكية في المجتمعات وفي نطاق العالم عبر ديموقراطية متكاملة شاملة يرتبط بسيطرة المجتمع على السوق وبرفض الرأسمالية وسيطرة السوق على المجتمع، أي برفض الأسس والأشكال الرأسمالية للمضاربة بمعيشة المجتمعات في بورصة ملوك السوق، ربحاً للأقلية الرأسمالية وخسارة لحرية وإخاء وكرامة الأغلبية الكادحة.
ان حرية المجتمعات والدول من الإستغلال تظهر أهمية حرية الطبقة العاملة القليلة الحجم في العالم كونها تشكل قلب المجتمعات ونبضها الحيوي. فرغم قلة تعداد الطبقة العاملة الا ان ضرورتها لحياة المجتمعات والأوطان والدول ولصحة العالم كضرورة القلب القليل الحجم في جسم الانسان مع جزء صغير من المخ للقيام بالدور الكبير والضروري لحياة الإنسان..
المنصور جعفر
#المنصور_جعفر (هاشتاغ)
Al-mansour_Jaafar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من تغيرات الثورة الفرنسية وآثارها
-
ثلاثة أسئلة من تغيرات العراق وسوريا
-
سيد البحراوي
-
نحو تجديد ثوري
-
التأثيل: فكرة الأصالة عند العلامة عبدالله الطيب
-
من اثار انتصار ثورة اكتوبر على روسيا والسودان
-
ضرورة الشيوعي لحرية العالم من تناقض بنى التدين والدولة
-
تأثيل الماركسية اللينينية ضد التعامل العشواء مع ظواهر الإلحا
...
-
ديالكتيك شيوعي للغة العالم والحزب والزعيم
-
ديالكتيك بداية -العقل- ومواته
-
تأثيل حكاية -أنا- مهزومة عن طبيعة الحزب
-
تأثيل أطوار المعرفة وبعض تغيرات التفكير والنخب (نقاط من مهدي
...
-
نحو تقييم آخر لصراعات الحزب
-
تعقيب على موضوع بدأ سنة 1903 ومستمر في السودان منذ حوالى 26
...
-
التحليل المعرفي لطبقات التاريخ .. التأثيل: نهاية مرحلة العقل
...
-
((التأثيل)).. لمحة مستقبلية من التاريخ السياسي لتراكم وتطور
...
-
القطيعة المعرفية في التقدم الفكري
-
مصر بين عشرتين
-
محجوب شريف مناضل شيوعي شديد الكفاح
-
الديمقراطية والتكنقراطية في أعمال القانون والمحكمة الدستورية
المزيد.....
-
مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-.
...
-
إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
-
صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق
...
-
الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف
...
-
سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
-
ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي
...
-
مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا
...
-
أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
-
كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين
...
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|