|
قراءة في كتاب (أزمة مصر الحقيقية – عيداروس القصير)
إبراهيم يونس
الحوار المتمدن-العدد: 5944 - 2018 / 7 / 25 - 21:19
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
نبذة عن عيداروس القصير :
ولد في الأول من يناير عام 1937 بقرية الأخيوه (مركز فاقوس - محافظة الشرقية) وتلقى تعليمه الأولي في بيته بالقرية، ثم انتقل إلي مدرسة فاقوس ليحصل فيها على الشهادة الإبتدائية عام 1949والتحق بمدرسة حلوان الثانوية وحصل فيها على شهادة الثقافة عام 1953، وشهادة التوجيهية عام 1954.
بدأ عمله السياسي وكفاحه كعضواً في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) حيث كان لايزال يدرس في مدرسة حلوان الثانوية، وأصبح بمرور الوقت أحد كوادر الحركة، والتحق بكلية التجارة جامعة الإسكندرية وانتقل منها إلي جامعة القاهرة (قسم اقتصاد) حيث تخرج منه بتفوق، فحصل على منحة لاستكمال دراسته العليا في الخارج ولكن أجهزة الأمن ألغت المنحة ومنعته من السفر.
اُعتقل عيداروس مع العديد من رفاقه عام 1959 وأمضي حياته حتى عام 1964 سجيناً متنقلاً بين عدة سجون. وكان من ضمن الشيوعيين الذين اعترضوا علي حل الحزب الشيوعي أثناء تواجده بالمعتقل. وكان أيضاً أحد مؤسسي التيار الثوري (ت.ث) ونتيجة لذلك تكرر اعتقاله في سنوات 1980،1977،1975،1973،1969.
أسس مع رفاقه حدتو – الديمقراطية الشعبية في مطلع ثمانينات القرن الماضي. وعقب احتلال العراق في 2003 بزغت مبادرات الإصلاح في الشرق الأوسط وعلي رأسها "مشروع الشرق الأوسط الكبير" في 2004، ونتيجة الاحتلال الإمبريالي للعراق ومحاولات إجهاض المقاومة الشعبية العراقية ومحاولات نزع سلاحها وتقويضها، وكذلك نتيجة لمشروع الشرق الأوسط الكبير كان علي الشيوعيين المصريين أن يقدموا تحليلاتهم التي تخص الإمبريالية واعتدائاتها المتواصلة وخاصة الاعتداء الصهيوني الذي لا يتوقف علي الفلسطينيين، وقد قام عيداروس ومجموعة من الشيوعيين والوطنيين بإطلاق اللجنة المصرية لمناهضة الإستعمار والصهيونية في 2004، وقامت اللجنة بنشر العديد من الكراسات والكتيبات التي تخص تحركات الإمبريالية في المنطقة، لاسيما استراتيجيتها وتكتيكاتها الجديدة. كما قام عيداروس ومجموعة من الشيوعيين المصريين في مارس 2011 بتأسيس حركة الديمقراطية الشعبية المصرية، هذا مع الاحتفاظ بجذورها السابقة واختلاف مسمياتها من فترة لأخري.
ينتمي عيداروس لأحد أهم وأعمق مدارس الماركسية في مصر وهي مدرسة التبعية (ماركسية العالم الثالث) والتي غالباً ما تتعارض مع بعض تيارات الاشتراكية المصرية الأخري خاصة المدرسة المتأثرة-التابعة بالسوفيت (الماركسية المبتذلة) والقائلة بالتطور اللارأسمالي، وتقوم مدرسة التبعية على أساس إقرارها بوجوب تطوير الفكر الاشتراكي والثقافة الاشتراكية و نقد جميع التجارب الاشتراكية التي قامت في عالمنا وخاصة التجربتين السوفيتية والصينية. والمعروف عن عيداورس هو ميله المبكر نحو الماوية وذلك لأسباب عدة منها خصوصية تكتيكها واستراتيجيتها حول النضال في دول الأطراف-العالم الثالث (المستعمرات وشبه المستعمرات).
من مؤلفاته : 1- من أجل الاصطفاف السياسي والجماهيري ضد العدو الأمريكي والصهيوني - المقاومة والتحرير أولا 2- الاستعمار باسم الشراكة والإصلاح "الشرق الأوسط الكبير" 3- دارفور والأزمة العامة في السودان 4- الكويز وتسويق الوهم والاستسلام للعدو 5- امبريالية عصرنا 6- حول تقسيم العراق ودول المنطقة ومهمات المواجهة 7- حول الحل الاستراتيجي للقضية الفلسطينية 8- طريقنا للديمقراطية في مصر 9- دراسة عن "تحليل الطبقات في مصر" 10- كتاب الاشتراكية في السياسة والتاريخ (خرافة الطريق الثالث) 11- كتاب "أزمة مصر الحقيقية" وهو موضوعنا 12- قدم في 20 فبراير 2011 تقريرا سياسيا حلل فيه "25 يناير" بعنوان : الثورة في مفترق الطرق
توفي عيداروس القصير في سبتمبر عام 2011 تاركاً ورائه إرثاً ثقافياً عميقا والذي يمثل بالتالي أحد أهم أعمدة الماركسية المصرية، لاسيما أنه يُعد تطويراً للماركسية فيما يخص المسألة العربية والمصرية تحديداً.
وكتاب "أزمة مصر الحقيقية" الذي بين يدي الأن هو من أهم الكتب التي يجب أن يتعرض لها كل من يهتم بالفكر والسياسة، فعيداروس يحدد جوانب الضعف لدي حركة المعارضة ويحللها ويعالجها بالإضافة إلي ذلك فقد قدم نقداً ذاتياً - لليسار - يُحتذي به في سطور هذا الكتاب. النسخة التي بين يدي هي الطبعة الأولي للكتاب – عام 2009 لدار الثقافة الجديدة، والكتاب يقع في 150 صفحة، وينقسم الكتاب إلي بابين، الباب الأول "إطلاق دعوات التغيير، المضمون والنتائج والدروس" ينقسم إلي فصلين، والباب الثاني "أزمة مصر الحقيقية" ينقسم إلي ثلاثة فصول؛ وهذه المعالجات سبق للجنة المصرية لمناهضة الإستعمار والصهيونية تبنيها وإصدارها في كراستين وكتيب، الكراسة الأولي بتاريخ 22 مايو 2005 وهي الفصل الأول في الكتاب، والثانية بتاريخ 25 سبتمبر 2005 وهي الفصل الثاني، في كتيب في أول مايو 2006 وهو الفصل الثالث والرابع والخامس من هذا الكتاب.
وهذا الكتاب هو محاولة للإجابة عن سؤالين قد طرحهما الكاتب في مقدمة الكتاب، السؤال الأول : ما الحل ؟ - لتري فيه الجماهير مصالحها وحقوقها الأساسية، السؤال الثاني : ما العمل ؟ - لوضع هذا الحل موضع التنفيذ. كما أن الكاتب صاغ بقلمه إطار عام لبرنامج عام ثوري وهو البرنامج الذي يُعبر عن الطبقات الشعبية.
الفصل الأول : الديمقراطية برنامج وطني ديمقراطي شعبي (الحريات قبل الديمقراطية)
١ انطلاق الحركة ومحاولة احتوائها : يسرد عيداروس القصير مراحل تطور الحركة المعارضة للنظام والتي نظمت نشاطاتها تحت شعار "لا للتمديد (التجديد) لا للتوريث" منذ بدايتها والمآل الذي آلت إليه في مراحلها الأخري. كما حدد أكبر أخطاء الحركة حينها في اختزال الحركة لمطالبها وتحديداً وضع مطلب الحرية (حرية التنظيم وانشاء الأحزاب والنقابات والمنظمات) في ذيل أولوياتها وهذا لصالح المطالبة بالديمقراطية السياسية. وقد حلل عيداروس طبيعة الحركة واتجاهاتها وقد قال بخصوص ذلك "وهي لا تزال (يقصد الحركة) حتي اللحظة - ومن الناحية الأساسية - حركة نخبوية لا تستند إلي قواعد جماهيرية وشعبية"(ص٢٢).
٢ الحركة ومطالبها ومرجعيتها : قسم عيداروس الحركة إلي ثلاثة اتجاهات، الاتجاه الأول : وهو خليط من أفكار التحديث والأفكار التي تندرج تحت ما يسمي ما بعد الحداثة، وهو اتجاه يقوم علي التفكيك والفصل بين القضايا المترابطة، كما أنه لا يهتم إلا بالجزئي والعابر والفردي والخاص والهامشي و الاستهلاكي علي حد تعبير عيداروس، وهذا الاتجاه هو نتيجة وأثر لتطور الإمبريالية من جهة، وهزيمة الثورات الاشتراكية السابقة من جهة الاخري. أما الاتجاه الثاني فهو يدعو إلي اتخاذ الدين مرجعية للسياسة ونظام الدولة. أما الاتجاه الثالث وهو الأضعف فهو يحاول تقصي الحقائق والاستناد إلي مرجعية ومواقف صحيحة في مواجهة الاتجاهين السابقين.
٣ عقبات ومخاطر وتوجهات لتجاوزها : حدد الكاتب الأخطار التي تتعرض لها الحركة في أربعة أخطار.
أ- خطر الإستيعاب والتوظيف : يقول عيداروس:" أن النضال ضد الديكتاتورية السياسية المصرية مرتبط أوثق الإرتباط بمقاومة الاستعمار والصهيونية وبالتالي منظومة التبعية والتدخل الأمريكي".
ويقول "إن مخاطر استيعاب وتوظيف الحركة لصالح الإمبريالية هي مخاطر حقيقية ماثلة وليست مفترضة جدلياً. ويعد مثالاً واضحاً في ذلك محاولة أمريكا توظيف حركة كفاية علي ما تضمه من عناصر وطنية معروفة بل ونجاحها في ترويج نموذج ثوراتها الغوغائية المصنوعة علي أيدي مخابراتها وعملائها في أوكرانيا وجورجيا وغيرها بين بعض أعضاء الحركة بل بعض رموزها والناطقين باسمها"(ص٢٤).
وكذلك فقد حدد عيداروس بعض مصادر هذا الخطر فيما يلي : فصل العديد من الأحزاب والقوي السياسية بين قضايا التحرر الوطني وبين قضايا الحرية والديمقراطية السياسية، واعتبار البعض أن التصريحات الأمريكية عن نشر الحرية والديمقراطية وضغوطها علي السلطة المصرية يخلق مجالاً للنضال والإصلاح السياسي وكسب الحرية والديمقراطية، كما أن حركات التغيير تلك لم تتبني أي مطالب إقتصادية وإجتماعية للطبقات الشعبية، سقوط البعض في مسألة النضال من أجل الديمقراطية مع حجب ارتباط الديمقراطية بالمسألة الوطنية ومقاومة الإحتلال والإمبريالية ومنظومة التبعية وهو ما ساعد علي تصعيد التدخل الأمريكي في شئوننا الخاصة، شمول الحركة لأحزاب ومراكز ومنظمات تقبل التدخل الأجنبي ومنظومة التبعية أو ممولة من المؤسسات الإستعمارية الأجنبية.
ب- الهروب من النظرة الشاملة للواقع والقفز عليه : وهو ما نجد سببه وصداه في طبيعة الحركة ذاتها وهو الطابع النخبوي الغالب وخاصة التكوين الفكري ذا المرجعية الدينية غير المستنيرة، وكذلك المرجعية الحداثية المشوشة بالإضطراب والفوضي الفكريين والسياسيين علي الصعيد العالمي، وبالتالي فتلك الإتجاهات التي لا تمتلك منهج علمي في التحليل، تقوم تحليلاتها علي تجزئة الواقع وفصل جوانبه المترابطة عن بعضها وهو ما لا ينفع فصله، وبالتالي ستؤول تحليلاتها الي القفز علي الواقع هروباً للأمام وهو ما يتمثل في إعطاء الأولوية لقضية الديمقراطية قبل الحريات.
ج- الجوهري المسكوت عنه : يوضح عيداروس هنا بعض القضايا التي يتضمنها الدستور والفكر السياسي المصري والتي تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وأن هذه القضايا لم تجد صداها عند المعارضة المصرية سواء بالنقد أو بمناقشتها وبالتالي فهذا يساعد في تثبيت وإرساء قواعد الديكتاتورية. ومن ضمن هذه القضايا ما يلي : نص دستور ١٩٧١ علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ينص دستور مصر الحالي كجميع دساتير مصر السابقة علي أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام وهذا يتعارض مع المبادئ الأولية للديمقراطية ويخل بمبدأ الوطنية ومبدأ الدين لله والوطن للجميع التي أطلقته ثورة ١٩١٩. نسبة تمثيل العمال والفلاحين في البرلمان هي ٥٠٪ ولكن هل يكفي أن يكون النائب عاملاً كي يمثل العمال ؟ أم أن من يمثل العمال يمثلهم كطبقة ويعبر بالتالي عن مصالحها ككلٍ بجميع أقسامها ومن يمثل العمال هو من يتبني برنامجهم السياسي وبالتالي فقد يقبل القيام به مثقف.
د- الإفتقاد إلي برنامج : كانت مطالب الحركة مختزلة وغير مترابطة وكانت أيضاً بدون إطار عام يربطها ويرتب الأولويات، وبالتالي فقد كانت المعارضة المصرية تفتقد برنامج عام.
ويقول عيداروس في هذا الصدد "فما تحتاجه الجماهير العريضة بالدرجة الأولي اليوم ليس المزيد من السخط فلديها مخزون هائل مكبوت، وإنما تحتاج إلي الوعي، تحتاج الإجابة علي سؤالين متتاليين. سؤال ما الحل ؟ لتري فيه مصالحها وحقوقها الضرورية علي الأقل من جهة، ولتري فيه توجهاً واضحاً لحماية وتحقيق المصالح الوطنية والقومية من جهة أخري. ثم سؤال ما العمل ؟ لوضع هذا الحل موضع التنفيذ"(ص33).
لذا فكان وضع برنامج أمراً في غاية الأهمية وقد حدد عيداروس في خمس نقاط هذا البرنامج وما يجب أن يكون عليه وإليكم مختصر ما كتبه عيداروس :
١ توفير الحريات وإقامة الديمقراطية : أي التركيز علي حرية التنظيم خاصة تكوين الأحزاب بالإخطار و ٥٠ عضو مؤسس، استقلال النقابات العمالية والاتحادات الفلاحية والطلابية والنقابات المهنية. ٢ وضع برنامج اقتصادي اجتماعي عاجل : حيث يهدف البرنامج إلي تخفيف وطأة المشاكل الاقتصادية علي الطبقات الشعبية وأيضاً لمواجهة الركود في قطاع الإنتاج، وهذا بالاعتماد الأساسي علي مواردنا الذاتية. ٣ مقاومة الاستعمار والصهيونية : رفض التبعية السياسية لأمريكا وتدخلها هي أو غيرها من الدول في شئوننا الداخلية، رفض ومقاومة مشروع الشرق الأوسط الكبير، المساندة السياسية للمقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية، إعداد الدولة والشعب لمقاومة العدوان الأمريكي والصهيوني المحتمل علي مصر، تحرير سيناء من قبضة كامب ديفيد. ٤ بناء قاعدة صناعية زراعية حديثة معتمدة علي الذات : التوجه للقضاء علي أسس التخلف الإقتصادي وتبعية اقتصادنا للدول الاستعمارية عبر استراتيجية اقتصادية جديدة لإقامة قاعدة صناعية زراعية حديثة ودائمة التطور معتمدة علي الذات. ٥ ضمان الحلول الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية : ضرورة أن يكون ضمان هذه الحقوق واحداً من أهم أسس وأهداف استراتيجية القضاء علي التخلف والتبعية الاقتصادية والسياسات الاقتصادية الاجتماعية المنفذة لها.
علي أن الطريق لتنفيذ هذا البرنامج يلزم تعبئة وتوحيد جماهير الشعب وقواه الوطنية الديمقراطية لمقاومة الإستعمار والصهيونية والتبعية لها والقوي الموالية لهما في الداخل.
الفصل الثاني : دروس الصراع حول الإصلاح السياسي والدستوري
كتب عيداروس "قدمت معارك المعارضة المصرية منذ أواخر صيف ٢٠٠٤ من أجل الإصلاح السياسي والدستوري بوجه عام، ومعركة انتخاب رئيس الجمهورية بوجه خاص، دروساً أساسية في غاية الأهمية علينا استخلاصها والعمل بمقتضاها لحث السير قدماً من أجل إصلاح أو تغيُر سياسي ودستوري يستحق أن يوصف بأنه مقدمة أو فاتحة تحول سياسي حقيقي"(ص٣٧).
وكي نستطيع فهم الدروس المستخلصة يجب أن نلقي نظرة سريعة علي ممارسات النظام القائم في المعركة الانتخابية الرئاسية لتفريغ انتخابات الرئاسة من أي مضمون ديمقراطي، وسندرج هنا اختصاراً لهذه الممارسات والتي أُدرجت في الصحف المعارضة المصرية والصحافة الحزبية والمستقلة المصرية والصحف الأجنبية ومختلف القنوات التلفزيونية العربية والأجنبية :
١ مرور أعضاء المجالس والإدارات المحلية علي أصحاب المحال وإجبارهم علي مبايعة مبارك. ٢ تعبئة العمد والمشايخ وأعضاء المجالس المحلية بالتهديد والترغيب لحشد الناخبين للتصويت لمبارك. ٣ فساد وفوضي جداول الناخبين مما حرم عدداً كبيراً من حق التصويت. ٤ الدور الكبير والسافر لكبار الرأسماليين وأعضاء مجلس الشعب الحكوميين وإنفاقهم مئات الملايين من الجنيهات في الدعاية لمبارك والضغط علي عمالهم وموظفيهم المقهورين. ٥ تسليم حزب الإدارة (المسمي الوطني) جداول الناخبين مع بداية الحملة الإنتخابية وحجبها عن المرشحين الأخرين. ٦ استغلال حق الوافدين في التصويت لتزوير عدداً كبيراً من الأصوات حيث سمح بالتصويت بدون بطاقة انتخابية. ٧ انتهاك أغلبية اللجان لسرية التصويت. ٨ قيام إدارات المصالح الحكومية وشركات القطاع العام ومجالس النقابات العمالية العامة واتحاد العمال التابع للدولة ومباحث أمن الدولة بالضغط علي العمال والموظفين وحشدهم ونقلهم للتصويت لمبارك. ٩ دخول ممثلي الإدارة الحكومية وحزبها عدد من اللجان والتصويت الجماعي في إنتهاك واضح لشروط العملية الانتخابية.
وكتب عيداروس "لقد تحالف الوصوليون والانتهازيون والفاسدون والرأسماليون الكبار مع جهاز الدولة وتحت قيادته لفرض الهيمنة علي الشارع ومظاهر الحياة العامة والسياسية في فترة الدعاية الانتخابية ويوم التصويت لإظهار سطوة الدولة ومرشحها"(ص٣٩).
ويقسم عيداروس القصير الدروس المستفادة من تجربة الإصلاح السياسي والدستوري إلي أربعة دروس سنحاول إدراج ملخص لها كي لا نطيل علي القارئ.
الدرس الأول : ضرورة تبني صيغة الديمقراطية الوطنية : يقول عيداروس "وقد اقتصرت دعوات ومطالب الإصلاح السياسي والدستوري علي الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي، ودون أن تدرجها ضمن مطالب أو برنامج أشمل للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي للتعامل مع الأوضاع والقضايا التي ترزح تحت وطأتها بلادنا وجماهير شعبنا"(ص٤٠).
ويعرض عيداروس أشكال آخري للديمقراطية فيقول "وليست الديمقراطية الليبرالية - كما هو معروف - الصيغة أو النمط الوحيد للديمقراطية، وهي ليست دائماً وفي كل الأوضاع والظروف والمراحل نمطها الأفضل. ونري أن شكلاً آخر من الديمقراطية هو الشكل الصحيح موضوعياً لمصر وهو أفضل وأقدر من الديمقراطية الليبرالية وهو لا يخصم أياً من الحريات السياسية والفكرية والنقابية التي توفرها وإنما يوسع حدودها"(ص٤١).
فهناك أنماط عديدة للديمقراطية ويتحدث الكاتب في الصفحات التالية من هذا الفصل عن الديمقراطية الوطنية كطريق أو تكتيك لإقامة الديمقراطية الشعبية.
ويعبر عيداروس عن وجهة النظر الماركسية، المبنية علي التحليل العلمي (المادية الجدلية والمادية التاريخية) بخصوص الديمقراطية الليبرالية، فيفندها ويوضح أكاذيبها، ويوضح أيضاً اختلاف تطبيقها وممارستها العملية في الأطراف (الدول التابعة/شبه المستعمرات والمستعمرات) عن مثيلتها في المراكز الرأسمالية المتطورة، كما يوضح الاندماج المباشر في ظل الديكتاتورية السياسية بين جهاز الدولة وأصحاب رأس المال مما يخلق ديمقراطية الطبقة الرأسمالية، ومما يسمح لحزب الأغلبية وحده بتشكيل الحكومة ويعني هذا انفراد الرأسماليين ومن يمثلهم بالسلطة.
وقد كتب عيداروس "هذه الأوضاع والمخاطر (يقصد التبعية والاستعمار والصهيونية وحلفائهم في الداخل المصري) تقتضي تعبئة وتوحيد القوي الوطنية الديمقراطية في جبهة وطنية ديمقراطية وفقاً لبرنامج حد أدني مناسب، وإقامة ما يمكن تسميته الديمقراطية الوطنية .. (ويكمل) وهذه الجبهة الوطنية الديمقراطية تتشكل نتيجة لانتخابات حرة ونزيهة تتوفر قبلها وأثنائها وبعدها أوسع الحريات وتتكون من ممثلي الأحزاب والقوي الوطنية الديمقراطية وفقاً للمركز الذي يحصل عليه كل منها في الانتخابات البرلمانية"(ص٤٣).
وهذه الديمقراطية الوطنية ليست إلا مرحلة مؤقتة وهي لا تهدف علي المدي البعيد (الاستراتيجي) إلا لإقامة الديمقراطية الشعبية، ديمقراطية الطبقات الشعبية والتي تفتح أفاق الحرية علي مصرعيها وتتيح القدرة علي التطور غير المكبوح للقوي العاملة والطبقات الشعبية، وأنَّ حسم مسألة التحرر الوطني والاجتماعي يشترط أن تكون الطبقات الشعبية بحزبها وممثليها هم القوي السياسية الرئيسية التي تقود الجبهة الوطنية الديمقراطية نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
الدرس الثاني : الحريات والوطنية شرطان مسبقان متلازمان للديمقراطية السياسية : يستكمل عيداروس هنا نقده وتمحيصه للديمقراطية الليبرالية، وقد عبر عن مدي خضوع تلك الديمقراطية الساذجة للامبريالية ومنظومة التبعية، وهذا ينبع من أن الليبرالية السياسية والاقتصادية المصرية الجديدة مضمونها هو الخضوع للامبريالية تحت إسم قبول قيادة "الغرب" علي حد تعبير عيداروس، وأنها لا تري الغرب إلا كقائد الحضارة المعاصرة، وبذلك تنتمي الليبرالية المصرية لمعسكر الخضوع للامبريالية.
وكتب عيداروس "إلا أنه يوجد، بداهة، شرط أخر لقيام حكومة ديمقراطية بأي معني من المعاني، وهو استقلال القرار الوطني وحَده الأدني رفض التدخل الأجنبي ورفض التبعية للقوي الاستعمارية. إذ تؤول الحكومة التي تنصب تحت الاحتلال أو التدخل الأجنبي أو التبعية إلي حكم ذاتي تأخذ القوي الأجنبية له أهم قراراته مهما ادعي بنزاهة الانتخابات التي تأتي به. فالحكومة الديمقراطية لابد أن تكون وطنية وتفقد صفتها الديمقراطية إذا فقدت صفتها الوطنية بأن تخضع للعدوان أو التدخل الأجنبي، أو لعملية إدماج الاقتصاد الوطني كطرف تابع في الإقتصاد الرأسمالي الإحتكاري العالمي وما تتطلبه من ترك جماهير الكادحين فريسة لآليات اقتصاد السوق المفتوح"(ص٤٥).
ويستكمل عيداروس - في ضوء هذه الحقائق عن الديمقراطية السياسية وشروطها المسبقة - سرده لأخطاء المعارضة المصرية ويحدد لها خطأين اثنين فيقول "الخطأ الأول هو تركيز مهامها وشعاراتها (يقصد المعارضة) التعبوية حول قضية الديمقراطية المباشرة - وليس حول شروطها الغائبة - وتحديداً حول انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً حراً مباشراً وتقليص سلطاته المطلقة وعدد دوراته بدورتين ورفض التجديد لمبارك"(ص٤٦).
وهذا ما إعتبره عيداروس قفزاً علي الواقع ناتج عن عدم القدرة علي التحليل الدقيق والممنهج العلمي وتحديد الأولويات، واعتبر أن ذلك أحد نتائج انتشار المفهوم الخاطئ والمشوه للديمقراطية والذي تسوقه أمريكا والقوي الاستعمارية.
ويستكمل عيداروس قائلاً "والخطأ الثاني الذي ارتكبته أغلب قوي المعارضة المصرية في معرض نضالها من أجل الديمقراطية هو تهميش القضية الوطنية المصرية والعربية .. (ويكمل) لقد تم حجب - علي الأقل تهميش - القضية الوطنية وفقاً لمفهوم لا يخدم سوي الاستعمار والصهيونية ونظام الحكم الديكتاتوري في مصر"(ص٤٩).
الدرس الثالث : ضرورة مواجهة ضعف تطور أسس التغيير السياسي والدستوري : يُرجع عيداروس في هذا الدرس ضعف تطور أسس التغيير إلي ثلاثة أسباب رئيسية وهي باختصار : ١ الأساس الأول هو سلبية الجماهير وعزوفها عن العمل السياسي، وقد عبر عيداروس في سطور هذا الدرس أن الحراك السياسي الذي شهدته مصر منذ بداية حركة المعارضة في الشارع وخاصة رفض التمديد لمبارك وتوريث الحكم لابنه هو حراك نخبوي يقوم في أساسه علي بعض من السياسيين والمثقفين وليس لديه ظهير شعبي ولم تستطع هذه الحركة استقطاب الجماهير للالتفاف حول مطالبها. ٢ والأساس الثاني والذي صنفه عيداروس بالأساس - الرئيسي - للضعف وهو افتقاد الحركة إلي برنامج شامل للتحولات التي تتطلبها أوضاع شعبنا وبلادنا الحالية، ويعني عيداروس هنا بالبرنامج انه برنامج مشترك مقبول من القوي والطلائع السياسية الوطنية والديمقراطية، وليس برنامج يدور فقط حول قضايا الحريات وشكل الحكم. ٣ كتب عيداروس "الأساس الثالث لضعف حركة التغيير هو تواضع القوة الذاتية للأحزاب والقوي الديمقراطية حتي الأن، وخاصة المجموعات والعناصر السياسية الأكثر جذرية وتقدماً في توجهاتها الوطنية والاجتماعية، وبالتالي في روابطها المحدودة بالجماهير وتأثيرها الضئيل في وعيها وحركتها"(ص٥٢).
الدرس الرابع : ضرورة مواجهة نزعة الركض للأمام ونزعة النكوص للخلف : يسرد عيداروس في هذا الدرس المبادئ الأساسية للسياسة في نطاق الممارسة، وأشكال المشاركة السياسية المختلفة، كما أنه يستمر في تحليل أسباب عزوف الجماهير عن أشكال العمل الجماعي عامة والسياسة والعمل السياسي خاصة، كما أنه يناقش ويحدد مختلف أنواع العوامل الدافعة للجماهير لساحة النضال السياسي، ويحدد دور السياسي في حفز الجماهير للعمل السياسي من خلال العمل الدؤوب وطويل الأجل، كما يتحدث عن أنواع النضال سواء الاقتصادي أو النقابي أو الفكري والثقافي، والنضال السياسي بأشكاله ووسائله المختلفة والمناسبة. ويستكمل عيداروس في باقي صفحات هذا الدرس التغيرات التي وقعت علي الساحة السياسية المصرية سواء في الحكومة وممارستها او في المعارضة وممارستها، كما يسرد للأخطار التي انطوي عليها من البداية الوجه الغائب أو القسم الأكبر في دعوات التغيير السياسي.
الفصل الثالث : نتائج الإنتخابات (٢٠٠٥) ودلالاتها ١ تراجع نسبي لقوة النظام، تقدم ملموس للإخوان، انحسار القوي الديمقراطية : كان عدد أعضاء نواب البرلمان المنتخبون عام ٢٠٠٥ هم فقط ٤٣٢ عضو من أصل ٤٤٤ عضو وهذا نتيجة وقف الإنتخابات في ٦ لجان، تراجع عدد نواب الحزب الحاكم الي ٣١١ عضواً (٧٢٪) بينما كان عددهم في إنتخابات عام ٢٠٠٠ هو ٣٨٨ عضواً (٨٧.٧٪). وفاز الإخوان ب ٨٨ مقعداً (٢٠٪) بدلاً من ١٧ مقعد (٤٪) في انتخابات عام ٢٠٠٠. أما عن الجماعات المعارضة الأخري ففازت ب ١٤ مقعداً (٣٪) بدلاً من ١٧ مقعد (٤٪) في عام ٢٠٠٠.
وبهذا نستنتج أن تراجع وضع ومكانة النظام الحاكم لم يكن وهو الواضح لصالح القوي الشعبية والديمقراطية وإنما كان لصالح جماعة الإخوان.
٢ استمرار غياب الأغلبية : كتب عيداروس "بلغت نسبة التصويت ٢٦.٢٪ من المقيدين في جداول الانتخاب بالمقارنة مع ٢٥٪ في انتخابات ٢٠٠٠ بفارق زيادة ١.٢٪ .. (ويكمل) فنسبة التصويت لازالت ضعيفة فثلاثة أرباع السكان أكثر من ١٨ سنة لا يشاركون في الانتخابات ولا في أي نشاط سياسي .. (ويكمل) أما النساء فلم يحصلن إلا علي ٤ مقاعد فقط في المجلس الجديد رغم كل الضجيج الجاري حول تمكين المرأة"(ص٧٣).
ويُرجع عيداروس سبب عزوف الجماهير عن الانتخابات إلي ضعف خطاب المعارضة الديمقراطية والذي لا يؤثر بشكلٍ كافي، وفَند عيداروس الأكذوبة القائلة بأن عزوف الجماهير سببه الخوف من الصدام مع النظام، هذا رغم تخطي القوي المعارضة للنظام الحدود الحمراء. كما أنه يناقش ما ظهر جديداً علي الانتخابات البرلمانية المصرية وخاصة الإشراف القضائي علي الانتخابات.
كما يناقش نسبة المشاركة في الريف، وتحدث عن العوامل الأساسية المؤثرة في اختيار الناخبين للمرشحين ومنها : أ- مفهوم نائب الخدمات ب- دور المال أو سلطان الثروة ج- جهاز الدولة. كما تحدث عن استغلال الدين والمشاعر الدينية والممارسات التي تقوم بها قوي الإسلام السياسي.
ويُفرق عيداروس في السطور التي تلت بين ممارسة الدولة الديمقراطية والغير ديمقراطية في ظل النظام الرأسمالي العالمي، ويُبين أن الدولة الديمقراطية تستطيع بحرفية ماهرة أن تجعل تدخلها وانحيازها (للطبقة التي تمثلها السلطة) خفياً وليس مباشراً سافر، كما يتحدث عن آليات إزاحة الصراعات الطبقية أو احتوائها، وكذلك آليات الهيمنة الأيديولوجية وتزييف الوعي، كما يضع علي الطاولة موضوع إستغناء النظم الرأسمالية ذاتها عن القمع، ويُرجع هذا الاستغناء إلي تطور ونضج الحركات السياسية للطبقات الشعبية وينفي كون هذا الاستغناء نتيجة لتطور الاقتصاد الرأسمالي واكتمال بنيان الطبقة الرأسمالية فهو يعتبر هذا الاكتمال العامل الأول في استمرار وبقاء النظام الرأسمالي وكذلك قدرته علي السيطرة علي الصراع الطبقي، وأشار أيضاً للدور الهام الذي يلعبه الاستعمار في هذا الصدد.
ويقدم عيداروس شرحاً لسمات الحياة السياسية والطابع غير الثوري للأزمة العامة في مصر ويقول بصدد هذا "(نحن) مجتمع يعاني أزمة عامة يؤدي تفاقمها إلي المزيد من تراكم قوى استدامتها لا تراكم قوى حلها وتجاوزها، أي أزمة عامة غير ثورية .. (ويكمل) وقد ظهرت هذه الحالة لحياتنا السياسية أي الطابع غير الثوري للأزمة العامة في البلاد بصورة أولية في أعقاب هزيمة ١٩٦٧، وتبلورت تباعاً مع تراكم تداعياتها السلبية المتمثلة في التراجع عن مشروع إستكمال التحرر الوطني وبناء أسس التقدم الإقتصادي والتحرر الإجتماعي"(ص٨٨). ¬¬¬ ويقوم عيداروس بسرد العوامل التي تساعد في تشويش وتدني الوعي السياسي لدي الجماهير.
الفصل الرابع : جَزر الحركة الجماهيرية وأسبابه الأساسية
كانت مواقف وحركة الجماهير حول مطالبها الاقتصادية والسياسية تمر بدورات من المد والجزر، ويعرض عيداروس في مقدمة هذا الفصل بعض صور المد لدي الحركة سواء بذكره لانتفاضات سياسية أو إقتصادية واجتماعية أو انتفاضات تضامن مع فلسطين والعراق.
وقد كتب أيضاً "إلا أن الأحداث والتحركات الجماهيرية خلال الثلاثين عاما الأخيرة بما في ذلك التحركات الكبيرة والسياسية الطابع كانت أحداثاً متفرقة منعزلة عن السياق والطابع العام المقيم للحركة وهو الركود"(ص٩٢).
فقد ازدادت الحركة النقابية بيروقراطية وتبعية للدولة ورجال الأعمال، وقد تآكلت الحركة العمالية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، كما انصرفت الطبقة العاملة شيئاً فشيئاً عن الحياة السياسية، وقد ماتت الحركة الطلابية وبموتها تفقد القوي الديمقراطية والوطنية أهم أعمدة نموها تاركة المجال بعدها لقوي الإسلام السياسي لتنفرد بالطلاب. كما انتشرت منظمات المجتمع المدني الممولة التي تعمل علي تمييع النضال (تشويه مفاهيمه) بما تضم من مراكز وجمعيات أهلية لها أجندات خارجية ترتبط ومصالح الامبريالية والعولمة (الإمبريالية الجماعية)، هذا وقد برزت علي الساحة بطريقة لم يسبق حدوثها قوي الإسلام السياسي، وقد أدي كل ذلك إلي انحسار وتشوه وعي الجماهير من ناحية أساليب ومفاهيم النضال الطبقي والشعبي والعمالي والوطني في أشكاله المختلفة، وهذا التشوه هو المعيار الرئيسي لجزر وركود الحركة الجماهيرية.
وقد حدد عيداروس أسباب جزر الحركة في ٤ أسباب سنحاول إدراج تبسيط وتلخيص لهم :
١ صعود خطاب وطريق الخلاص الفردي : "فقد أصبح الفرد المصري يميل ميلاً شديداً للنظر لمصلحته الفردية وحل مشكلات حياته وتنمية دخله ورفع مستوي معيشته بمعزل عن غيره من الأفراد وبعيداً عن مصالحهم وعن حل أو عدم حل مشاكلهم ورفع مستوي معيشتهم، وسواء كان الأفراد الآخرين من نفس الطبقة أو الفئة أو حتي المنشأة التي ينتمي هو نفسه إليها أو من غيرها من الطبقات وفئات ومنشآت المجتمع الأخري"(ص٩٤).
وقد حدد عيداروس العوامل التي صعدت نفسية وطريق الخلاص الفردي كالآتي :
أ- هزيمة 67 وتداعياتها السياسية السلبية : فاق هول الهزيمة أسوأ التوقعات، رغم ذلك نهضت الجماهير مطالبة عبد الناصر بالاستمرار في الحكم والمقاومة، إلا أن سياسات النظام قد خذلت الجماهير وأثرت عليها بالسلب، وذلك بتراجع عبد الناصر أمام العدو وإصراره علي مصادرة الحريات. ولكن ما أضعف حقاً الجماهير كان تراجع النظام عن مشروعه في التحرر وبناء قاعدة اقتصادية معتمدة علي الذات. وقد خلقت مهادنات النظام مع أمريكا والتنازل التاريخي الفادح أمام الكيان الصهيوني بعد الهزيمة التربة السياسية والفكرية الملائمة لبعث القوي الرجعية من جديد، سواء الرأسماليين أو الإسلام السياسي مما أثر برجعية أكثر علي الجماهير وجعلها منعزلة أكثر مما كانت عليه. ويناقش عيداروس في باقي السطور القرار ١٩٦٧/٢٤٢ لمجلس الأمن وكذلك القرار ١٩٧٣/٣٣٨ وظروف هزيمة ١٩٦٧ الأخري.
ب- الإفقار مع نزع وسائل النضال : يسرد عيداروس القصير هنا جرائم الناصرية في حق الجماهير الشعبية، فقد بدأ نظام ٢٣ يوليو مبكراً منذ ولادته واستيلائه علي السلطة في انتهاك الحريات ونزع وسائل النضال العمالي ووسائل الكفاح المطلبي لفئات الشعب المختلفة، وقمع الإضرابات العمالية بالدبابات (إضراب مصانع الشوربجي في إمبابة)، ومحاولة عزل وتصفية النقابات العامة، وإحكام قبضته علي الحركة النقابية، والتقليص التدريجي للتصنيف النقابي للنقابات العامة. ورغم تمكن النظام الناصري من إحكام قبضته علي الجماهير، فقد ظلت نفسية الخلاص الجماعي (خلاص الوطن من الاستعمار والتبعية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والفوارق الطبقية "التطلع للحل الإشتراكي") هي السائدة في صفوف الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الأخري. وهذا نتج عن كون النظام الناصري لا يزال يحقق للطبقات الشعبية والمتوسطة مكتسبات اقتصادية واجتماعية وأنه كان يتبني رسمياً أهداف الشعب في مقاومة الاستعمار والصهيونية من جهة والتصنيع والاستقلال الاقتصادي من جهة أخرى. ومنذ السبعينيات تراجع النظام أمام أمريكا والكيان الصهيوني تراجعات متوالية، كما كثر القمع العنيف للإضرابات، ومصادرة الحريات تحت شعارات دولة المؤسسات وسيادة القانون والتعددية الحزبية المشوهة، كما أصبحت سياسات الدولة في الإفقار أكثر تطرفاً، فقد تم إلغاء التزام الدولة بتعيين الخريجين وإلقائها علي عاتق القطاع الخاص، وتدهورت الخدمات الأساسية وارتفعت تكلفتها وتفاقمت أزمة السكان.
"في ظل هذه الأوضاع المتدهورة والبائسة وإزاء فقدان الجماهير الكادحة المقهورة وسائل وأسلحة النضال الجماعي وغياب المنظمات النقابية والديمقراطية المناضلة والمقاتلة دفاعاً عن الكادحين، كان نمو نفسية الخلاص الفردي والاندفاع نحو تلمس سبل الحلول الفردية أمراً لا مجال لتجنبه"(ص١٠١).
ج- الهجرة وتصدير العمالة المصرية : إن حلم الثراء والحراك الطبقي إلي مصاف الطبقة الرأسمالية أو البرجوازية الصغيرة كان هو الدافع الغالب للهجرة. ومنذ ١٩٧٤ وبعد تبني الدولة لسياسات الانفتاح الإقتصادي، تدفق ملايين المصريين للعمل في البلاد العربية البترولية وغير البترولية والتي كانت تفتقد إلي الأيدي العاملة المصرية النشيطة ورخيصة الأجر. وأصبح من الطبيعي أن علي الشاب الذي بلغ سن العمل سواء كان متعلماً أو أمياً بأن يغترب في البلاد العربية أو الأجنبية ليكمل ما ينقص أسرته من نفقات العيش الضرورية فضلاً عن توفير نفقات زواجه وأسرته الخاصة.
د- سياسة نشر أيديولوجية الحل الفردي : "فإلي جوار السياسات المقررة لنزع وسائل النضال النقابي والمطلبي وسياسة تصدير العمالة كتوجه رئيسي لتشغيل العاملين والزيادة السنوية في قوة العمل، غذت الدولة أيديولوجية (ذهنية) الخلاص الفردي وعملت علي نشرها في الثقافة الجماهيرية. تطري وسائل الإعلام الرسمية - منذ السبعينيات وحتي الأن - وتدعو العاملين الأجراء إلي استكمال الدخول الضرورية لمعيشتهم بإحتراف مهنة إضافية أو القيام بعمل إضافي إلي جوار الوظيفة الأصلية، وترويج نموذج الحراك الطبقي الفردي الصاعد و الشطارة في تحقيق الثراء الفردي وانتهاز الفرصة"(ص١٠٣).
هذا ويشكل توجه انسحاب الدولة من دورها المباشر في الاقتصاد وخطاب الخصخصة أهم المكونات الأساسية في أيديولوجية وثقافة الخلاص الخاص والفردي.
٢ التفكيك الفكري السياسي، والاجتماعي : تعرض الشعب المصري لعمليات تفكيك عفوية وممنهجة طالت وعيه براوبطه الوطنية والقومية، ووعي طبقاته الكادحة بمصالحها المشتركة، ووجود وفاعلية أشكال التنظيم ووسائل النضال، إلي جانب تعدد محاولات تفكيك الوعي بحزمة السياسات والعلاقات الضرورية للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
أ- التفكك الفكري والسياسي : روجت السلطة السياسية المصرية خطاباً لتفكيك العلاقات والارتباطات التي تشكلت في المراحل المختلفة لكفاح شعبنا، ومثل هذه العلاقات السيادة والكرامة الوطنية من جهة والتطور والتقدم الإقتصادي والإجتماعي من جهة أخري، التحرر الوطني الكامل والتقدم الاقتصادي والعدل الإجتماعي، ويضرب عيداروس أمثلة عدة. وكان هذا كله في إطار وسياق التمرير والتبرير للصلح الاستسلامي مع الكيان الصهيوني وعلاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية لأمريكا.
"كما أنشأت الإمبريالية الآليات المتعددة أولاً لترويج خطابها التفكيكي الاستعماري عبر الدراسات والبحوث العلمية المزعومة، ومنظمات المجتمع المدني الممولة أجنبياً والتي تساهم علاوة علي ذلك في استقطاب وإفساد بعض عناصر الأحزاب والجماعات أو الحلقات الديمقراطية والاشتراكية، وإعادة تدريب وتأهيل الكوادر الصحفية والاعلامية والأكاديمية والثقافية والقانونية والإدارية والاقتصادية لتستوعب وتردد وتروج الأيديولوجية الامبريالية الجديدة"(ص١٠٨).
وما يثبت تغلغل الامبريالية ومفاهيمها وآلياتها في وجدان القوي الديمقراطية والاشتراكية هو ترديد أعضاء تلك الأحزاب والتيارات لشعار الديمقراطية أولاً، مما يعني عزل الديمقراطية عن آليات تطبيقها سواء الحريات (حرية التنظيم ..إلخ) بالإضافة إلي عزل الديمقراطية والنضال من أجلها عن القضايا والصراعات الأساسية الأخري وعلي سبيل المثال النضال الإقتصادي والإجتماعي.
ب- التفكيك الاقتصادي الاجتماعي : يعرض عيداروس هنا مظاهر التفكيك الاقتصادي والاجتماعي ويحدد مصدرين رئيسيين :
(١) تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية : يُدرج هنا عيداروس مؤشرات الوضع والأداء الإقتصادي والإجتماعي علي مستويين، الصادرات السلعية والتعليم، فالصادرات السلعية المصرية في التقرير السنوي ٢٠٠٤/٢٠٠٣ الصادر عن البنك المركزي المصري لازالت حوالي ١٠ مليار دولار، بينما في ماليزيا والتي بدأت بعدنا في عملية التصنيع تتجاوز ال ٩٠ مليار دولار. أما عن التعليم فقد آل نظامنا التعليمي إلي كارثة، سواء تفكيك الروابط الفكرية والثقافية الأساسية في وحدة الأمة، أو فقدان المدرسة لدورها التربوي والتعليمي والذي تتولاه الأن الدروس الخصوصية، أو التدهور المزري في المستوي الثقافي والعلمي لدي الخريجيين.
(٢) تفكيك وضع الطبقة العاملة وأغلبية الأجراء وتهميش الكثيرين منهم : تشكل الطبقة العاملة والأجراء أغلبية قوة العمل، وهم يشتركون في المصانع والشركات في إنتاج سلعة واحدة أو عدة سلع مترابطة، لذلك يتسم عملهم بالطابع الجماعي ومن ثم تكون مصالحهم وحقوقهم المباشرة وأيضاً البعيدة واضحة لهم، وهم في ذلك يختلفون عن الحرفيين وأصحاب الدكاكين والمزارع الفقيرة في الطابع الفردي المنعزل.
"فمن المعلوم أن الطبقة الإجتماعية - أي طبقة - تنشأ من اشتراك جماعة من الناس في الموقع المتماثل أو المتشابه من : ملكية وسائل الإنتاج (تملك أو لا تملك)، وإدارة وضبط وسائل الإنتاج وتقرير علاقات العمل (تدير أو لا تدير، تقرر أو لا تقرر، تحوز أو لا تحوز السلطة داخل النطاق المباشر للإنتاج؛ المصنع أو المنشأة)، وشكل أو نمط الحصول علي الدخل (ربح أو ريع أو أجر ...) ويكتمل تشكلها كطبقة متمايزة تماماً عن غيرها من الطبقات بنمو ونضج وعيها بمصالحها المشتركة ونضالها المشترك لتحقيقها من خلال تنظيم حركتها المستقلة"(ص١١١).
وهذه المحددات الموضوعية الاقتصادية والتنظيمية للطبقة العاملة خاصة والموظفين الصغار عامة قد تآكلت وتفككت نتيجة الاختلاط بين المواقع الطبقية المختلفة وهذا الاختلاط نتيجة عمل الفرد بأكثر من مهنة حيث دخل عدد كبير من العمال وهم يمثلون نواة الطبقة العاملة (عمال الصناعة والإنتاج المتركزون في القطاع العام) في أكثر من علاقة إنتاجية، وهو ما يمثل نكوص في التطور الموضوعي الاقتصادي للطبقة العاملة، وإنعكاس ذلك بالسلب علي وعيها وممارساتها السياسية. ويعرض عيداروس في باقي السطور آليات تفكيك الطبقة العاملة.
٣ نمو جوانب التخلف ومواطن الضعف في الثقافة المصرية الحديثة : نمت أوجه التخلف ونقاط الضعف في الثقافة المصرية العامة والسياسية، وانحسرت التيارات والقوي الديمقراطية والشعبية، وركدت الحركة الجماهيرية، وتشوش وعي قسم هام من السياسيين والمثقفين وتخلف وعي قسم كبير أخر منهم، بالإضافة إلي استمرار عزوف الجماهير عن المشاركة السياسية، وطابع الأزمة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الغير ثوري، والميل الماضوي لاتخاذ الرؤية الدينية إطاراً مرجعياً، وإاتشار ثقافة الخنوع والاستسلام والخلاص الفردي.
"والتراجع والتخلف الثقافي في صوره ومصادره المتعددة هو انعكاس لتدهور أوضاع مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإفقار وإستغلال واضطهاد طبقاتها الكادحة، وغدا التخلف بدوره عاملاً أساسياً من عوامل استمرار هذا التدهور"(ص١١٦).
ويسرد عيداروس كلامه هنا محاولاً الإجابة علي سؤالين (بمعني واحد) قد طرحهما، الأول هو لماذا وجدت الأفكار والثقافة المتخلفة، الرجعية والاستعمارية، التربة الملائمة لانتشارها ؟ أو لماذا لم تنتشر أمام هذه الثقافة الرجعية، ثقافة ناقدة ومفسرة لأوضاعنا المتدهورة تفسيراً صحيحا ومقاوماً لها ؟ ويتحدث في هذا الإطار عن الثورة الثقافية الديمقراطية المصرية ومراحلها وخاصة ثورة ١٩١٩، وكذلك منجزات حركة الثقافة المصرية الحديثة، ودستور ١٩٢٣ ونظام ٢٣ يوليو.
٤ مخزون الحزن والإحباط المتراكم : يُلقي عيداروس بنا نظرة عامة علي تاريخ مصر الحديث وخاصة مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، ويتخلل سرده التاريخي بعض الأحداث التي ضاعفت مخزون الحزن والإحباط لدي المصريين، فإلي جانب أشكال الاستغلال القديم، أصبح هناك استغلال جديد هو الاستغلال الرأسمالي. ويشير عيداروس إلي الأخطاء التي وقعت فيها مراحل الثورة الوطنية الديمقراطية (الثورة العرابية - ثورة ١٩١٩ - نظام ٢٣ يوليو في المرحلة الناصرية) والتي ساهمت في تراكم الحزن والاحباط وبالتالي ازدياد عزوف الجماهير عن مشاركتها السياسية، كما يشير لهزيمة ١٩٦٧ وهزيمة الجيوش العربية ١٩٤٨ وإحتلال فلسطين.
الفصل الخامس : ما العمل لتجاوز أزمة القوي الديمقراطية والاشتراكية ؟
"لا توجد في مصر حالياً أحزاب ومنظمات سياسية ديمقراطية وشعبية جماهيرية، وإنما الموجود أحزاب وتجمعات أو جماعات أو مجموعات أو حلقات أو أشخاص منفردين من المثقفين المعزولين عن الطبقات والفئات التي يدعون أو يرغبون ذاتياً في التعبير عنها. وهي - أو أغلبيتها - علاوة علي ذلك لا تملك، كما أشرنا في المقدمة وكذلك تحت عنوان التفكيك وفي صفحات أخري، الإجابات الكافية الملائمة أو الرؤية الشاملة الصحيحة المتسقة للواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي"(ص١٢٥).
ويلفت عيداروس النظر إلي أن ضعف وانحسار القوي الديمقراطية والاشتراكية هو نتيجة لخمود الجماهير، وهو اليوم سبب أساسي لاستمرار هذا الخمود، كما أن الإحياء والبناء أو إعادة البناء في ظل هذا الركود وتحت حكم ديكتاتوري هو شيء ممكن كما أكده كلاً من التجربة التاريخية والتاريخ المصري الحديث والتجربة العالمية، والنجاح في هذه العملية يترتب علي الخطة الملائمة والمناسبة التي ينتهجها المعنيون بانجاز المهمة.
منطلقات وأسس الإحياء والبناء : يُقسم عيداروس المنطلقات إلي أربعة:-
١ أفق فكري سياسي شامل لقضايا وأهداف المرحلة : "يجب أن تستند الخطة إلي أفق فكري سياسي أو استراتيجية مصرية للتحرر الوطني الفعلي والكامل وللتحول الديمقراطي الشامل وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي المعتمد علي الذات كأساس ولإقرار وضمان حقوق الطبقات الشعبية والمتوسطة الاقتصادية والاجتماعية كأولوية أولي للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة"(ص١٢٨).
ويؤكد عيداروس علي ترابط هذه الأهداف والقضايا واستحالة فصلها عن بعضها البعض، كما يؤكد علي الصياغة الصحيحة للديمقراطية وهي الديمقراطية الوطنية.
٢ الإحياء والبناء يشمل الوعي والتنظيم وخبرات الممارسة العملية : "إن وجود منظمة أو قوة سياسية واعية ونشيطة ومبادرة، وتنتهج المبدأ الأساسي في القيادة الجماهيرية (من الجماهير وإلي الجماهير) وفقاً لمستوي وعي الجماهير واستعدادها النضالي للتوجيه القيادي المحسوب بعناية، هو عامل هام من عوامل مكافحة ركود الحركة الجماهيرية بما يتيحه من نجاحات ولو جزئية متتابعة تُضعف من تأثير العوامل المنتجة لاستمرار الركود بما فيها التخلص تدريجيا من مخزون الاحباط المقعد عن الفعل الجماهيري"(ص١٢٩).
ويشير عيداروس إلي أن الأحزاب أو الجماعات أو حلقات القوي السياسية الديمقراطية والاشتراكية - في مصر - تفتقد الحد الأدنى من التطور في الميادين الثلاثة. ففي مجال الوعي تنزع أغلبية هذه الأحزاب والجماعات إلي الإصلاح الليبرالي وشخصنة معركة الديمقراطية وعزلها عن مقاومة الامبريالية والصهيونية والتبعية. وفي مجال التنظيم يظهر ضعفها وضآلة قاعدتها في قدرتها علي التعبئة والحشد في مظاهراتها ووقفاتها وندواتها التي لا تضيف جديداً. أم في مجال الخبرات والممارسة العملية وأسلوب القيادة، فقد كشفت هذه الأحزاب والجماعات عن نقصٍ بَيِّن تجلي في نزعتي القفز علي الواقع للأمام أو النكوص للخلف ويتضح هذا في مطالبتهم بتغيير رأس النظام ونظام حكمه، في حين عزلوا هذه المطالب عن مقاومة الامبريالية والتبعية والصهيونية والقبول بالوضع الطرفي المهمش للاقتصاد المصري بالنسبة للاقتصاد العالمي.
٣ الميدان الرئيسي للإحياء والبناء في اللحظة الراهنة : يحدد عيداروس هنا الميدان الرئيسي للإحياء والبناء وهو ميدان الوعي السياسي للجماهير والطليعة السياسية، وقد لفت النظر إلي أن مسألة الوعي السياسي لجماهير الشعب غير منجزة في حدها الأدني.
"ومن الثابت تاريخياً وعملياً أنه بدون إحراز التقدم المناسب والكافي في ميدان الرؤية السياسية الاستراتيجية والخطة أو الخطط المناسبة لتحقيقها، فإن النجاحات المحققة أو التي يمكن تحقيقها في ميادين فعالية القوة السياسية لن تكون محدودة فحسب بل تكون بلا مستقبل"(ص١٣٢).
كما يخصص عيداروس بعض السطور لمناقشة مسألة جمود التطور السياسي خاصة غياب القوي السياسية الشعبية الجماهيرية عن المشهد، كما يناقش ايضاً رواسب الماضي، وقد رمي عيداروس إلي وجود خطرين كبيرين جديدين (يضافان إلي رواسب الماضي) يؤثران بالسلب علي وعي النخبة السياسية والمثقفين.
وقد كتب "الخطر الأول هو الحركة الواسعة للإحياء الثقافي الديني الرجعي. أما الخطر الثاني فهو الثقافة التفكيكية بمصدرها الخارجي، الإمبريالية القومية والمشتركة (العولمة)، ومصدرها المحلي ممثلاً في الخطاب التفكيكي الذي روجه نظام الحكم منذ عهد السادات وحتي الأن"(ص١٣٣).
فالثقافة الدينية الرجعية تضفي علي صراعنا الوطني والقومي مع الاستعمار والصهيونية والتبعية - علي غير حقيقته - طابعاً دينياً وهو ما يريده الاستعمار بالضبط لتبرير عدوانها علينا تحت راية مكافحة الارهاب الإسلامي، غير أن هذه الثقافة الدينية تقبل بجوهر نموذج نمو الاقتصاد التابع المتخلف الذي تروجه الدول الامبريالية. أما الثقافة التفكيكية فهي تنتشر بين أوساط معتنقي الثقافة الحديثة بتياراتها الليبرالية والقومية واليسارية، باعتبارها ثقافة ما بعد الحداثة، وقد حدث انتشار مثل هذه الثقافة إما ولعاً بالموضة أو الإحساس بالدونية إزاء المركزية الأوروبية، وتتجلي هذه الأفكار الحداثية في منظمات وجمعيات المجتمع المدني التي تحمل أجندات متعددة صغيرة ممولة من الخارج الاستعماري.
ويناقش عيداروس موضوع الموضة الحداثية هذه وتجليها في حركة كفاية ٢٠٠٤ من حيث ارتباطاتها وتوجهاتها وممثليها، كما يناقش بعض نقاط مسألة تفشي هذه الأفكار التفكيكية وتأثيرها علي البناء الثقافي للمجتمع المصري والأثر الرجعي البالغ التي لعبته.
وكتب عيداروس "إن نهضتنا أو ثورتنا السياسية المشودة تتطلب نهضة أو ثورة ثقافية موازية بل وسابقة إلي حد ما لنظيرتها السياسية"(ص١٣٦).
وقد حدد عيداروس التوجهات الأساسية للثورة الثقافية وإليكم موجزها :
أ- مهمة التغلب علي الجوانب الرجعية والمتخلفة والتفكيكية والاستعمارية الوافدة في ثقافتنا. ب- إحياء التيار العلماني في الثقافة المصرية مع الحفاظ علي الخصوصية الثقافية الوطنية والقومية إلي جانب مناهضة الثقافة الاستعمارية. ج- إحياء وتطوير وإكمال تجديد الفكر الديني. د- إحياء وتطوير ونشر الفكر الاشتراكي والثقافة الاشتراكية وفي هذا السياق يشدد عيداروس علي أهمية نقد التجارب الاشتراكية السابقة، والربط بين النظرية الاشتراكية والحقائق العامة الماركسية في الممارسة الواقعية والصراع الطبقي والوطني.
كما لفت عيداروس النظر إلي أمر في غاية الأهمية وهو "أن قضية إقامة الاشتراكية والثورة الاشتراكية ليست المهمة المباشرة المطروحة أمام نضال جماهير شعبنا الكادحة لعدم توافر شروطها الموضوعية (تخلف الاقتصاد والتناقض مع الاستعمار والصهيونية بوصفه التناقض الرئيسي) وشروطها الذاتية (تأخر وعي وتنظيم الطبقة العاملة والطبقات شبه العمالية). ومرجع الأهمية الأساسية بل والحاسمة للثقافة الاشتراكية والنظرية الاشتراكية بالشروط التي أوضحناها حتي في إطار الثورة الوطنية الديمقراطية في العصر الراهن (عصر الامبريالية والاستقطاب الدائم في المنظومة الرأسمالية العالمية بين المراكز المهيمنة والأطراف المتخلفة اقتصادياً والتابعة) هو دور التحليل الطبقي والنظرة الماركسية للعالم في كشف الحقائق الأساسية والجوهرية للحضارة الرأسمالية السائدة عالمياً وتناقضاتها الأساسية الدولية والمحلية المتشابكة"(ص١٣٨).
هـ- إحياء الثقافة الوطنية الديمقراطية العلمية، وهي ثقافة وطنية تناهض الامبريالية والصهيونية وتدعو لتحقيق استقلال مصر الكامل، وتحمل بين طياتها خصوصيتنا الوطنية والقومية لكنها منفتحة علي الثقافة التقدمية والاشتراكية.
ويقول عيداروس بصدد الثقافة "وثقافتنا الحديثة الوطنية الديمقراطية العلمية هي - من ناحية أساسية - استمرار جدلي لثقافتنا القديمة، امتداد وتطوير لكل عقلاني وديمقراطي وتقدمي أبدعته ثقافة الشعب المصري في الماضي بهذا القدر أو ذاك، وهو مختلف اختلافاً أساسياً عن الإنتاج الثقافي الرجعي غير العقلاني للطبقات المستغِلة والحاكمة في العصور القديمة والإقطاعية الخراجية، إنها الثقافة التي تمتص الخلاصة الديمقراطية والتقدمية لثقافتنا القديمة وتلفظ شوائبها ومخلفاتها الرجعية الإقطاعية"(ص١٤٠).
٤ توطيد الصلات بالجماهير : يبدأ عيداروس بالحديث عن السياسة والممارسة السياسية حتي يطرح سؤالين .. كيف تعزل القوي الديمقراطية والاشتراكية نفسها ؟ وكيف تتغلب تلك القوي علي عزلتها ؟
أ- كيف تعزل القوي الديمقراطية والاشتراكية نفسها ؟
(١) جزر العزلة : كتب عيداروس "والأثر - أثر تطبيق الخط السياسي السائد بين القوي الديمقراطية والاشتراكية - هو عدم عزلة سياسات الطبقة السائدة ونظامها السياسي جماهيرياً بدرجة ملموسة، بل عُزلة القوي الديمقراطية والاشتراكية بصورة ملموسة، وذلك لأن عزي سياسات النظام يتوقف بالضبط علي المسألة التي لا تعطيها هذه القوي حقها وأولوياتها وهي بناء الوعي الجماهيري بالعلاقة بين العدوان والتدخل الأجنبي وفقدان السيادة الوطنية وسياسات التبعية وبين التخلف الاقتصادي والاجتماعي وقضايا البطالة والتعليم والصحة والمواصلات وغيرهما، وإن النضال من أجل لقمة العيش وتربية الأولاد ورعاية الأسرة يقتضي نضالاً جباراً ضد التدخل الأجنبي وإدارة شئوننا من الخارج وضد فئات الرأسمالية المصرية الخاضعة والقابلة بذلك والتابعة في سياساتها للقوي الأجنبية الاستعمارية وعلي رأسها أمريكا"(ص١٤٢).
ويناقش عيداروس انطباق نفس هذا المنهج والسلوك السياسي الاختزالي والتبسيطي علي جماعات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، وأوجه استفادة الإخوان من جهة والنظام الحاكم من جهة أخري من عزلة القوي الديمقراطية والاشتراكية.
(٢) النفس القصير والتعجل قفزاً علي الواقع : وهو ما ناقشه في الصفحات السابقة من الكتاب، وعاد مضيفاً المزيد في هذه السطور. (٣) إسراف اللجوء لوسائل قليلة النتائج في الوضع الراهن : يناقش عيداروس في هذه النقطة الفرعية أساليب النضال التي ناقشها أيضاً في الصفحات السابقة للكتاب، ويقتبس عيداروس هنا من القائد والمفكر الكبير لينين في مقاله (المهام الملحة لحركتنا، كتاب ما العمل؟) "الاشتراكية (يقصد الحزب الإشتراكي) لا تقيد يدها، لا تقيد نشاطها بأي مشروع أو أسلوب يوضع سلفاً من مشاريع أو أساليب النضال، فهي تعترف بجميع وسائل النضال علي أن تتلائم وقوي الحزب الواقعة وتتيح الحصول عليها في ظل ظروف معينة"(ص١٤٦).
كما يناقش مسألة المظاهرات كأسلوب من أساليب النضال وأن هذا الأسلوب له وقته وآوانه وليس كل شئ متعلق بالمظاهرات.
ب- كيف تتغلب القوي الإشتراكية والديمقراطية علي عزلتها ؟ حدد عيداروس إجابة السؤال في خمس نقاط إليكم موجزها.
(١) تصحيح الخط السياسي العام ليكون حجر الزاوية فيه - وبوضوح - تحقيق التحرر الوطني الكامل لمصر والتحول الديمقراطي الشامل والتقدم الاقتصادي والاجتماعي المعتمد أساساً علي الذات. (٢) تنشيط وتطوير السياسات الجماهيرية، أي سياسة مساندة وتطوير وتنظيم النضال الاقتصادي والنقابي، وسياسة كسب الحريات السياسية والنقابية والفكرية، وسياسة مقاومة الاستعمار والصهيونية والتبعية والتدخل الأجنبي والتدويل. (٣) ضرورة الاعتراف والتمسك بكل أشكال ووسائل النضال. (٤) العمل علي نقل ثقل العمل السياسي إلي مواقع حياة الجماهير في منشآت الإنتاج والخدمات والأحياء والقري السكنية. (٥) اغتنام لحظات أو شرارات النزوع الجماهيري النضالي، وحفز ومساندة مبادراتها النضالية ودفاعها عن نفسها، والتعلم منها وتعليمها وفقاً لمبدأ القيادة من الجماهير وإلي الجماهير.
- انتهي الكتاب –
لقد حاولت قدر الإمكان تلخيص ما استوعبته من الكتاب، ولو أني قد أطالت بعض الشئ علي القارئ إلا أن ذلك ينطلق من الأهمية البالغة للكتاب، وإذا كان عام نشره هو 2009، فنحن نجد رغم ذلك أن أغلب ما أشار إليه عيداروس مازال هو القائم علي الساحة مع تغير الوجوه فقط لا غير، ومازالت مشاكل القوي الديمقراطية والاشتراكية هي ذاتها نفس مشاكل الماضي رغم الحراك الذي حدث في 25 يناير 2011 و 30 يونيه 2013، فلم يُنتج أي من الحراكين إلا بيئة وأرض خصبة لازدياد بؤس وفقر الجماهير المصرية، بالإضافة للحفاظ علي الطابع غير الثوري للأزمة، وهذا يعود للعوامل التي حددها عيداروس ومنها فشل القوي الديمقراطية والاشتراكية في استيعاب الجماهير، وغياب برنامج عام يقوم علي أسس التحرر الوطني والاجتماعي.
أرجو أن لا يقتصر البعض علي هذا الموجز بدون قراءة الكتاب، فهذا الموجز ينقصه الكثير والكثير مما تعرض له الكاتب من قضايا وأمور أثارها. فهذا الكتاب شديد الغني بالملاحظات والدروس والنقد الذاتي، بالإضافة إلي الحلول التي قدمها الكاتب والخطوط العامة التي يُمكن تبنّيها.
#إبراهيم_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول الإلحاد النضالي
-
حول تبعية النظام المصري والمعارضة المصرية
-
بحث جامعيّ : إبن خلدون بطريقةٍ أخري
-
قضايا الحرية الشخصية (في نقد العشوائية الليبرالية والتحليلات
...
-
كيف يخدم حديثنا وأفعالنا أحد طرفين الصراع الطبقي ؟!
-
الماركسية و حركات الضغط الشعبي
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|