ليس خطأ واحدا، بل أخطاء مهلكة هي التي قادتنا إلى هذا المصير المؤلم الذي حشرنا فيه بين البربرية والاحتلال.
وهذه الحرب الوشيكة هي تراكم أخطاء مهلكة.
ما هي هذه الأخطاء القاتلة التي قادت إلى هذا المصير المهلك؟
أولا: التساهل المروّع والإفراط الشنيع بمعايير السلوك السياسي وأخلاقياته والتعامل الساذج مع الهاربين الجدد القائم على الكسب وربح الأصوات مما قادنا إلى استقبال جموع هاربة من المؤسسة الحاكمة والاحتفال السخيف بها على أن خروجها سيقود إلى تفريغ القوة من السلطة، الأمر الذي خلق بنية سياسية تحتية من هؤلاء شكلت اليوم حاضنة تقبل للمشروع الأجنبي .
ثانيا: إن كل حركات المعارضة والمقاومة في العالم تعمل على استقطاب عناصر النظام القديم ولكن ضمن معايير وحدود وتخصص لهم مسؤوليات محددة، فليس من المعقول أن يتحول مسؤول سابق في مؤسسة عسكرية أو أمنية إلى ممثل جديد في هيئة معارضة قيادية.
في الحالة العراقية تحول كل ضباط وسفراء ورؤساء تحرير صحف وقادة فرق وأجهزة إلى عناصر قيادية في المعارضة العراقية مما سهل على القوى الخارجية إيجاد أطراف وأطر وبنى سياسية جاهزة بحكم تكوينها السياسي والحزبي والنفسي والمهني للتعاون مع أي طرف يؤمن عودتها إلى السلطة من جديد تحت أي شعار ملفق.
ومن مبدأ المصارحة والمكاشفة في هذه اللحظات الحرجة أن نشير إلى الدور الخطير الذي قام به الحزبان الكرديان الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني في إعادة تأهيل ودمج عناصر من النظام القديم في صفوف المعارضة عملت لربع قرن مع السلطة وهي حقبة طويلة تؤشر إلى أن هؤلاء لم يكونوا غافلين أو مخطئين أو متورطين، بل هم جزء عضوي من تركيبة وعقلية وذهنية النظام.
ولو كانت القضية قضية دمج فقط لهان الأمر، بل تم تسويق ضباط أجهزة ورؤساء تحرير صحف سابقين ووزراء في هياكل قيادية متنفذة جديدة لأهداف أبعد ما تكون عن هدف الديمقراطية في عراق قام، بل كي يكون هؤلاء، بحكم تكونيهم النفسي والحزبي وذهنية التاجر، هم جسر العبور نحن أهداف وطموحات قومية خاصة، ولأن هؤلاء وبحكم خوفهم من ماضيهم الإجرامي سيكونون مستعدين لكل الاملاءات القادمة بلا قيد أو شرط.
وهكذا صار هؤلاء جزءا من التشكيلة القائمة اليوم الداعمة لجهود الحرب وكان هذا أحد مبررات دمجهم وتسويقهم في مواقع قيادية. وهذه هزيمة علنية أخرى لقوى وطنية تسمي نفسها في أدبياتها قوى عريقة.
وهذا الخطأ المهلك سندفع ثمنه جميعا في المستقبل، لأن هؤلاء انقلبوا على ولي النعمة الأول، لا لأنه ظالم، بل لأنه مفلس، فكيف يمكن أن يكونوا أوفياء لولي نعمة جديد؟.
ثالثا: الخطأ القاتل الثالث هو أيضا متعلق بهذا التساهل الخطير الذي وصل إلى مرتبة الجريمة السياسية بناء على نتائجه المدمرة هو: فقدان أو غياب المرجعيات السياسية والأخلاقية والثقافية في الإعلام المعارض بحيث مكن هذا التساهل كل من خرج من العراق بدون كفاءة أو قدرة أو موهبة أو ضمير سياسي أو أخلاقي من أن يشارك في الشأن العام بدون علم وبسلوك سوقي، الأمر الذي سهل على هذه العناصر التي كان النظام يرعاها، من نقل تقاليد السلطة إلى المعارضة وتمزيق صفوف الأخيرة في الفتن والمحن وإثارة الغبار والمشاكل التافهة لغرض زج قوى وطنية وطاقات فكرية في معارك ثانوية وهامشية.
ومن يريد أن يطلع على السجالات والمعارك التي أثارها هؤلاء طوال فترة خروجهم يمكن مراجعة سلوكهم وكتاباتهم طول السنوات الماضية وهي موجودة في وثائق وصحف ومواقع وفي ذاكرة الناس، ويستطيع الباحث والقارئ والمواطن العودة إليها اليوم أو غدا كي يعرف الدور المخرب والإجرامي الذي قاموا به وكان مع عوامل أخرى قد أوصلنا إلى هذا الوضع المهلك.
وتكون الصورة أكثر قتامة واشمئزازا حين التقى هؤلاء مع بعض نماذج المعارضة القديمة التي تربت وعاشت على ثقافة الفتنة والوشاية وذهنية التسقيط ليتشكل أقذر خليط بشري في أي مجتمع أو حركة معارضة.
والدليل هو المعارك الدونية والهامشية التي خلقوها من لحظة خروجهم وحتى هذه اللحظة وهي معارك مدبرة في معظمها وتصرف لها المبالغ وتقودها أجهزة مما حشرنا جميعا في خانات الدفاع عن النفس ونسيان المشروع الوطني المتمثل بإسقاط الدكتاتورية. وكان هذا هدفا محوريا للسلطة.
أو أنها معارك نتيجة أحقاد فردية يتم تغليفها بشعارات سياسية كاذبة مزورة في سلوك يعبر عن مراهقة سياسية متأخرة من بعض نماذج قديمة في خروجها من الجغرافية لكنها مقيمة في العقلية ذاتها دون أن تغادرها، منحلة الصورة والجوهر ومنحطة على كل الأصعدة تضع خلافاتها الفردية في حجم أو إطار خلافات عقائدية أو وطنية أو فكرية على حساب كل الحزن والفاجعة الوطنية مما قاد إلى هذا التشرذم والتبعثر وعدم الاتفاق حتى على الثوابت الأصلية كالوطن والأرض والثروة والمستقبل والمصير.
رابعا: وبناء على تراكم الأخطاء الثلاثة السابقة، تم إيجاد بنية سياسية أخلاقية تحتية في السلوك السياسي تتسم بالانتهازية والبرغماتية والغوغائية والسطحية السياسية، وهذه البنية هي التي تمد الجسور اليوم مع قوى الداعية للحرب والاحتلال، وهي التي تقف طوال تاريخها على الطرف النقيض بل العدو للمشروع الوطني في التغيير وشكلت كابحا مخففا لكل الاندفاعات الشعبية رغم كل تبجحات هذه القوى في تبني مشروع التغيير.
وفكرة التغيير عندها تعني العودة إلى السلطة.
خامسا: كانت هناك منذ عشر سنوات رؤية ومطالبة ومنذ وقت مبكر نسبيا بإعادة نظر في السلوك السياسي العراقي وفي ميراثه القذر وفي اللغة وفي الثقافة وفي الفكر والعقلية ...الخ...الخ.، لكن هذه الدعوة جوبهت بقوة وقسوة ووحشية سواء من المعارضة التقليدية، أو من قبل المعارضة التي جاءت بعد حرب الخليج الثانية.
ولو أننا انجزنا خلال هذه السنوات العشر تقاليد جديدة ومرجعيات في العمل والسلوك السياسي والثقافي، لما وجدت الأطراف الخارجية من تتحدث معه اليوم عن أي مشروع للتغير خارج المصلحة الوطنية.
ومرة أخرى شكلت الزمر الخارجة من قلب مؤسسة وعقل النظام حاضنة أو وعاء أو كرسيا أو سريرا جاهزا لتقبل أي قوى يمكن أن تعيدها إلى الحكم.
سادسا: إن الذين قاموا بعملية قمع فكرة المراجعة وإعادة النظر وتغيير المفاهيم وخلق مرجعيات جديدة هم فعلوا ذلك لأسباب مختلفة وهم ليسوا جماعة واحدة.
عناصر النظام قاومت فكرة تغيير قواعد وقيم السياسة لأنها تعرف أن أية مرجعيات جديدة وحقيقية ستبعدها عن حقل المشاركة السياسية كزمر قائدة وليست ضمن قوى الناس وهي تريد أن تقود مرة أخرى. لذلك فهي في رفضها لفكرة المراجعة الشاملة الفكرية والسياسية والثقافية إنما تعلن أنها تقاومها حفاظا على( المصلحة الوطنية) وصيانة للتقاليد وهذا كذب وهراء ونفاق مفضوح.
فهذه العناصر هي أبعد ما تكون عن المشروع الوطني وهي كما أثبتت الأيام ورغم فوات الأوان إنها عناصر مرتزقة قلبت الطاولة على القوى الوطنية الجذرية التي تدفع اليوم ثمن تساهلها المروع والخطير والذي لا يقل خطورة عن خطأ أو جريمة تحالفها مع النظام منتصف السبعينات.
سابعا: في الوقت الذي قامت فيه هذه القوى الانتهازية التي خرجت من العراق دون أن تخرج من النظام، لأن الخروج الحقيقي ليس خروجا من الجغرافية بل هو خروج من العقلية والموقف ووجهة النظر والذهنية، بقمع فكرة إعادة النظر وكشف سجلات السياسة وتأسيس مفاهيم جديدة للعمل الوطني، بناء على مصالح فردية أنانية مغلّفة، قامت القوى التقليدية هي الأخرى وللأسباب نفسها بقمع فكرة أعادة النظر حفاظا أيضا على مواقعها الحزبية التي تتمسك بها منذ عشرات السنين.
أي أننا بمعنى أدق وجدنا أنفسنا محشورين بين قوى انتهازية جديدة تريد العودة إلى الحكم بأي ثمن، وهي على وشك تحقيق هذا الحلم القاتل، وبين قوى تقليدية تريد الحفاظ على مواقع ومناصب حزبية وسياسية وتقاوم فكرة المراجعة الشاملة مستخدمة نفس شعار القوى البرغماتية الجديدة وهو الخوف من التطرف السياسي.
لذلك كان أصحاب فكرة التغيير والمراجعة وإعادة النظر غالبا ما يتم أحالتهم من باب تسخيف جوهر فكرة تغيير السلوك السياسي إلى مصحات عقلية أو نفسية وتصويرهم على أنهم حفنة من المرضى وإذا لم تنفع هذه ففكرة التهميش والمصادرة والوصم الخ.الخ.
وهذا سخف مجلوب من ميراث الحركات الشمولية في القمع والبتر والحذف والإقصاء والنفي السياسي والعقلي.
أي أن هؤلاء، كما يوحي الموقف، لا يمكن معارضتهم لنقاوتهم السياسية والأخلاقية والوطنية والفكرية إلا من قبل مأزومين نفسيا.
وهذا احتيال قاد إلى تهلكة قد تؤدي بدورها إلى حرب ابادة.
ثامنا: وهذا الخطأ هو الآخر من الأخطاء الفادحة.
خطأ فقدان الذاكرة السياسية.
أي أننا في كل مرة وفي كل حقبة نجد أنفسنا أمام نفس المشاكل بدون حل وهي مشاكل صارت دورية ومزمنة وعصية وفي نفس الوقت حلتها البشرية عبر طرق عديدة مثل قضية الحرية والسلطة والآخر والقانون والدولة والأقليات والحقوق..الخ.
وهذا، وأيضا، نتيجة إجهاض فكرة إعادة النظر والمراجعة لأن القادة السياسيين كما ثبت بالتجربة غير قادرين على قيادة مشروع تغيير وطني جوهري لذلك ظلت المشاكل التي كان يجب أن تحل منذ عقود تركض أمامنا في كل حقبة.
تاسعا: وهو من الأخطاء المهلكة التي قادت إلى استبعاد قوى وحشود واسعة من العمل السياسي بل الكفر به هو: ثقافة الوصم والتخوين وقد برع في هذه الثقافة حزب سياسي ( تاريخي!) حتى وصل عدد من شملهم هذا المنهج السلطوي نصف سكان العراق بل أكثر.
وهذا الخطأ البنيوي الشنيع، وقد قدم خدمة مجانية للسلطة، هو خطأ منهجي مزمن في تقاليد هذه القوى، قاد إلى شيوع عدمية سياسية وعبثية أخلاقية ولامبالاة ونزعة الهرب من العمل السياسي لأن كثيرين وجدوا أنفسهم على غير توقع أمام سلطة أخرى ثانية تحاكم وتوصم وتحذف وتعاقب وتصدر قرارات..الخ.
عاشرا: أما الخطأ العاشر وليس الأخير الذي قاد إلى هذا الوضع المزري والمتفسخ والممزق الذي مهد الطريق لحقبة جديدة من الهيمنة على الوطن، فهو خطأ الذات العراقية المصابة بإعطاب تاريخية واجتماعية عبر قرون.
وكان يمكن لمراجعة شاملة لهذه الذات والهوية والثقافة عبر تاريخها الطويل أن تقود نحو تجديد الهوية ونحو خلق ذات أخرى بعيدا عن التبجح والازدواجية ومراجل ثقافة ذكورية لم تنتج إلا الجبن.
ولم تجلب إلا الاحتلال.
نحن، أولا، نحن أخيرا،
من جلب هذه الجيوش.
ونحن من سيخرب، مرة أخرى، هذا الوطن.
ولن نعيد النظر، حتى بعد المحرقة القادمة، لا في المشروع الوطني ولو في مشروع دواجن.
إن كل عناصر الحرب الأهلية وبنيتها التحتية من احتقان وقمع وقهر وتشرذم وخنادق وأحقاد وعقائد ورؤى متقاطعة وثقافة عنف وأسلحة موجودة ومن يقول عكس ذلك لا يصلح لا كسياسي،
ولا كسائس خيل في إسطبل !
ـــــــــــ*
من سلسلة مقالات" محنة البطريق"