هيام محمود
الحوار المتمدن-العدد: 5932 - 2018 / 7 / 13 - 22:45
المحور:
سيرة ذاتية
* ( تامارا ) و ( أميرة ) .. 3 ..
يَحفظُ أغلبُ البشرِ سيرَ رُموزٍ صُنِعَتْ لهم , وبعضُهم الآخر يَحفظُ سيرَ رُموزٍ صَنعوهَا بأنفسهم .. يُدَقِّقونَ في كلّ التفاصيل حتى التافهة منها ويَفتخِرونَ بسلوكهم الغريب ذَاك الذي يُسَمُّونَهُ أديانا وأيديولوجيات وفلسفات و .. فكر . الغريب أنّ نفس أولئك البشر لا يَبحثونَ عن أنفسهم وعن معرفتها , وفي كثير مِنَ الأحيان لا يَكتشفونَ قيمةَ ذلك إلا في عِيادة الأطباء عندما يَعجزونَ عن فَهْمِ أَهَمِّ ما يَجِبُ فَهْمه قَبْلَ كلّ شيء : أَنفسهم !
"ذلك" الرجل - ( علاء ) - حُلْمٌ كنتُ أَظُنُّ أنّي "أعيشه" , لكني بَدأْتُ "عَيْشَهُ" فقط مُنذُ وَقْتٍ قَصيرٍ .... لمْ أَستطعْ ذلك إلا بَعْدَ أنْ فَهِمْتُ ماذا تَعْنِي المرأةُ لي ؛ وكيفَ لي أنْ أُحِبَّه بِكلِّ ذَاتي وأنا أَتْرُكُ جزء مِنْهَا ؟ ذلك الجزء الذي ظَنَنْتُهُ لِزَمَنٍ حِكْرًا على النساء ولا دَخْلَ لهُ بِهِ !
( تامارا ) كانتْ الأولى التي فَهمْتُ , لكنَّ ذلك تَزَامَنَ معَ ( أميرة ) الغائِبة الحاضِرة دَوْمًا , ( تامارا ) كانت تلك الطبيبة التي دَفَعَتْنِي إلى مُوَاجَهَةِ الواقع كمَا هُوَ وإلى وَصْفِهِ بِحقيقتهِ كمَا هِيَ دُونَ أيّ "تفلسف" .. "الواقع" كانَ هِيَ , لكنّها لم تَكنْ وحدَها لأنّ ( أميرة ) قَدْ سَبقَتْ بسنوات ومع فَهْمِ ذلك "الواقع" عَلمْتُ عِلْمَ اليَقينْ لماذَا لَمْ تَغِبْ .... ( أميرة ) .... طوال تلكَ السِّنينْ .
فترة الطفولة لم أكنْ أَنْظُرُ لِـ ( أميرة ) كما صِرْتُ أَفْعَلُ بعد سنوات , في الجامعة .. كنتُ أراها "صديقتي" الوحيدة التي تمَيَّزَتْ عندي في كل شيء عن الجميع إلى أنْ حضَرَتْ تلك القُبْلة وتَلَتْهَا تلك الصَّفْعَة .. لم يَكنْ غريبًا عندي أن تَقولَ لي أنها مثليّة ولا أذكرُ أنّي سَألتُها عن ذلك أو تَساءلْتُ وحدي كيف تُحِبُّ اِمرأةٌ اِمرأةً , الأهم عندي كانت تلك القُبلة التي لمْ أَقْبَلْهَا ..
لمْ أَقْبَلْ اِعتذارَها ولم أَرقّ لبكائها ولتوسلاتها , حتى رسائلها لمْ أَكُنْ أُكْمِلْ قراءتها وفي بعض الأحيان كنت أقطع الورقة دُونَ قراءة ما فيها .. كنتُ أراها مُقَزِّزة وكنتُ أَتأفّفُ من تلك القبلة كلما تَذَكَّرْتُهَا وكانتْ لا تَغيبُ عن بالي كلما رَأيْتُ ( أميرة ) في المدرسة تَنظرُ لي مِن بعيد تُريدُ أن تَقتربَ لتُكلِّمني لكنها لا تَتجرّأ ..
لاحظتْ ماما في تلك الفترة أنها لم تأتِ معي إلى المنزل منذ مدة , فقلتُ لها أنها لمْ تَعُدْ صديقتي دون أنْ أُعْلِمَهَا بالسبب .. مع منتصفِ تلك السنة الدراسية , تَغَيَّبَتْ ( أميرة ) عن المدرسة فلاحظْتُ ذلك دون أن أكترثَ في البدء بل قلتُ "أحسن ! لا أُريدُ أن تكون عندي صديقة هكذا !" , لم يكن أحد يعلم أينَ غادرَ أهلها فكثرتْ الأقاويل عن إلى أين اِنتقلوا حتّى قال البعض أنهم غادروا البلد , أذكر جيدا أني بَقيتُ على موقفي منها بقية تلك السنة لكني قلتُ أني لو لمْ أَصْفَعْهَا لكنتُ أكثر لباقة ....
مع بداية السنة الدراسية الجديدة , لم أستطعْ اِنكار أني اِفتقدتُها كثيرا فقلتُ "إنها صديقتي ولا يَهمّ إن كانت .. كذلك !" , بعد مدة صغيرة ذهبتُ إلى مكتب المدير وسألتُه هل يَعرف أين غادروا فلمْ يَجزمْ بشيء لكنه قال لي أنْ الأرجحَ أنهم غادروا البلد بسبب عمل والدها الذي نادِرًا ما كنتُ أراه عندما كنتُ أَزورُ ( أميرة ) في منزلها وأُمْضِي الليلة عندها .
تأسفتُ كثيرا يومها وبَكَيْتُ .... وفي الأيام التي تَلَتْ ذلك اليوم فكَّرْتُ في أن أُكلِّمها لكني في البداية لم أَفعلْ , ثم لمْ أَستطعْ الاتصال فاكتفيتُ برسائل SMS , لا أذكر ماذا كتبتُ وقتها لكني أذكر أني أرسلْتُ الأولى فارِغة .. قلتُ في نفسي سأقول لها عندما تُجيبني أني أرسَلْتُ ذلك الـ SMS بالخطأ لأني تعوَّدْتُ على الاتصال وإرسال الرسائل تقريبًا وبصفة حصرية لها وحدها .... لكنها لم تَردّ .. اِنتظرتُ واِنتظرتُ أياما حتى نفذ صبري فاتَّصَلْتُ لأجدَ أنّ الموبايل "مُغْلَق" , اِستمرَّ ذلك لأسابيع اِتَّصلْتُ فيها ربما آلاف المرات والموبايل مُغْلَق حتى سَمعْتُ ذلك الصوت الذي قالَ أنَّ "الخطَّ غيرُ نشط" ....
غَضبتُ ودونَ أن أَشعر كسرْتُ الموبايل الذي غَضبَ بابا كثيرًا عندما اِشترته لي خالتي قائلا أنه باهض الثمن ليُهْدَى إلى طفلة صغيرة وأنّ خالتي "تُفسدُ" تَربيتي لأنّها تُعَلِّمُنِي الجَهْلَ بقيمةِ الأشياء والبذخَ والإسرافَ . ذلك الموبايل كان الوحيد الذي اِستعملتُ , لأني بعد تلك الحادثة كرهْتُ الموبايلات ورفضتُ اِستعمالها بالرغم منْ إصرار ماما وبابا على ذلك للاتصال بي والاطمئنان عليّ متى أرادا بل وصل ببابا الأمر إلى أن اِشترى لي موبايل "باهضا" ظنًّا منه أني غاضبة من موقفه مِن الأول ..
بقيتُ كذلك حتى اِنتقلتُ إلى الجامعة , أمضيْتُ السنة الأولى دون موبايل وكان جميع الطلبة يتندّرون منّي بسبب ذلك , إضافة إلى رفض ماما وخالتي لذلك ولغَضبِ بابا منّي .. فكّرْتُ في الموبايل من جديد في السنة الثانية عندما "عرفتُ" ( تامارا ) وكان ذلك فقط لأُكلِّمَها عندما لا تكون معي ولأَبقى على اِتصالٍ بها .. في كل لحظةٍ .
لا أذكر شيئا يَستحقّ الذكر طوال بقية تلك السنوات , في الفصل وفي المدرسة وفي .. ساحة المدرسة .... خارج المدرسة كان الأمرُ مُختلفًا لأني أذكرُ مَنْ لنْ أَنْسَ ما حَييتُ ؛ صديقي الوحيد تقريبًا الذي سَمحْتُ لهُ بالإقتراب مِنِّي وكنتُ مُحِقَّةً , أذكر صراخ بابا في وجهي "من الكرة إلى المجرمين تجار المخدرات ! لا أعلم ماذا سأفعلُ معكِ !" وأذكر اِستجوابات ماما "هل فَعَلَ شيئا غيرَ مُؤدب ؟ هلْ لمسكِ ؟ هل طلبَ منكِ شيئا ؟" وأذكر يوم قلتُ لها أني أزوره في منزلهِ أُغمِيَ عليها وعندما اِستيقظَتْ اِتصلتْ بخالتي التي عندما حضَرَتْ قالتْ لي أنّها لم تَضرِبْ أحدا طوال حياتها لكنّ ما فعلتُهُ يَستحقُّ الضرب وأنها تُريدُ ضربي .. لكنّها لمْ تَفعلْ ..
في البداية كنتُ أناديه "عمي كمال" ثم بعد مدة قصيرة ( بابا كمال ) , لا يُمكنُ أن أَنسى مدى سعادتي عند رؤيته كما لا يُمكن أن أنسى حزني الكبير على فقدانه .... كما لا يمكن أن أُنْكِرَ أني أفتقده اليوم وفي بعض الأوقات رُعبي مِنْ تَخَيُّلِ لوْ لمْ تَجْرِ الأمور كما جَرَتْ : ماذا عساني كنتُ أكون اليوم ؟!
( كنتُ في الطابق العُلوي عندما سَمعتُ ماما تُكلِّمه عند الباب , جَريْتُ إلى غرفة نومها واِلتصقْتُ بالنافذة لأسمعَ الحوار بينهما .. نافذةُ غرفةِ النوم كانت فوق الباب الرئيسي .. فسمعْتُ كل شيء .. تَألَّمْتُ حتى بَكَيْتُ وقَرَّرْتُ مُواجهتها وقلتُ في نفسي أنْ لَنْ أَسمحَ بأنْ تتواصلَ الأمورُ هكذا .. لنْ أَسمحَ لها بأنْ تَمْنَعَنِي مِنْ رؤيتهِ .. نَزَلْتُ مُسرِعةً وهَرَعْتُ إلى الباب لأفتحه وأَلتحقَ به فصرَخَتْ ماما في وجهي وحاولَتْ مَنْعِي لكني تمَكَّنْتُ مِنْ تَجاوزها ..
عند فتحي للباب رأيتُه يُشارِف على الخروج من الباب الخارجي بعد أن تَجاوزَ الحديقة , نادَيْتُهُ فتَوقّفَ , جَرَيْتُ نحوه وعند اِقترابي منه نَزَلَ على رُكبتيه وفتحَ لي ذراعيه .. اِرتميْتُ في حُضنه فاحتضنني بقوة .. قالَ لي أنه أرادَ رُؤيتي قبلَ أن يُغادِرَ المدينة , عنده "شغل" لأيام قد تَطول بعضَ الوقت .. قلتُ لهُ أني أُريدُ الذهابَ معه فذكّرني بالمدرسة وقال أني لا يجبُ أن أُغضِبَ ماما منِّي .. أخرجَ مِنْ معطفه حلوى وشكولاتة .. قَبَّلني وغادرَ . كان حزينًا وعندما قَبَّلني رَأَيْتُ الدّموعَ في عينيهِ , كانتْ تلكَ آخر مرّة رأيتُه فيها حتى سَمعْتُ بوفَاتهِ بعدَ شهرين تقريبًا وبأنّه دُفِنَ في الجبّانة القريبة مِن مدرستي .
قالوا عنه كل شيء ولم يتركوا أيّ أمرٍ شنيعٍ إلا ألصقوه به ؛ خمر مخدرات سرقات .... كل شيء قالوه فيه , لم يكن له زوجة .. لا أهل له .. كان وحيدًا وكنْتُ الوحيدة التي اِهْتَمَّ لها .. لمْ أَرَ منه شيئا من كل أقوال ماما , كان لطيفًا معي وكان جُلّ أيام الأسبوع ينتظرني أمام المدرسة حامِلا لي هدية و .. سلامًا .
زُرْتُهُ عديد المرات في منزله وكنتُ سعيدة , كان يلعَبُ معي كما لمْ يَفعلْ ذلك بابا يوما , كان يقول لي أنه لا يهتمّ لأحدٍ غيري وقال لي مرارًا : لا تُصدِّقي ما يَقولونَ عنّي .. ولمْ أُصدِّقهم يومًا حتى ماما لم أُصَدِّقها .. حتى عندما قالتْ أنّ عصابة المخدرات قَتَلَتْه , لم أُصَدِّقها !
كنتُ دائمًا أزور قبره وأُكلّمه .. أحكي له كل شيء .. كَلَّمته كثيرًا عن ( أميرة ) وقلتُ له أنّي أفتقدها ولا أَعلمُ أينَ ذهبَتْ .. كنتُ دائما أبكي عند قبره وفي مرات عديدة سأَلني رجال ونساء عن قرابتي به وفيهم مَنْ أَبْلَغَ ماما فعملَتْ كل جهدها على مَنْعِي مِن زيارته لكنّها لمْ تَنْجَحْ ..
أَفتقدهُ إلى اليوم , كان أول رجلٍ أَحبَّني , من أول نظرة .. هكذا قال لي عندما رآني أول مرة مع صديقاتي أمام المدرسة .. لا أعلمُ هل أنا أيضًا أَحببتهُ من أوّل نظرةٍ أم لا .. الذي أَذْكُرُه جيّدا أني لم أَخفْ منه عندما نَاداني .. أنتِ يا صغيرة .. تَعالي .. ما اِسمكِ ؟ .. اِبنةُ منْ ؟ .. لمْ أَخفْ , وذَهَبْتُ نحوهُ فكانتْ البداية .. بضعةُ أَشهرٍ ثم غَادَرَ مِنْ أَجلِ الـ "شغل" وَلَمْ .. يَعُدْ . )
#هيام_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟