نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 5925 - 2018 / 7 / 6 - 01:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في العلمانية – 9 – عن الطبيعة البشرية، و تشابكها مع المقدَّس - 3 – الارتقاء بعد فك التشابك.
إنَّ فك التشابك مع المقدس لا يُعتبرُ الهدف َ في المنظومة ِ العلمانية إنما الأداة َ لتحقيق الأهداف. و يتوجب هنا أن نقوم َ بتحديد هذه الإهداف ِ التي يمكن تحديدُ إطارها الجامع على أساس ِ كونِه إطارا ً شديد َ الاتِّساع بقدر ِ و قيمة ِ و أبعاد ِ المُمكن ِ تحقيقُه بحسب ِ الطاقات الكامنة ِ في الطبيعة ِ البشرية و المحكومة ِ بالعقل ِ المُنفتح ِ على الوجدان ِ البشري و على التوق الإنساني للارتقاء ِ بالنوع نحو الوعي الأعلى.
هذا التحرُّرُ من المقدَّس ِ إنما هو في ذاتِه تحطيم القيودِ المفروضة ِ على العقل البشري ليستطيع أن ينطلق َ ليُقيِّم الواقع كما هو حاصل ٌ، فُيصدر َ عليه حُكم التَّحديد، أي حُكم تعريفِ ماهية ِ هذا الواقع و بالتالي حقيقة العلاقات ِ الناشئة عن تفاعُل الكائنات ِ على تنوُّعها: البشرية، الحيوانية، و الجمادات، لُينشئَ تعريفا ً لشبكة العلاقات و أبعاد َ ما ينتُج ُ عنها مما هو ناتج ٌ بالفعل أو قابلٌ للإنتاج، فيستطيع َ أن يستحضر َ المُمكن قبل حدوثه، و يجد حُلولا ً بالتالي لكلا ما يحدُث و ما يُمكن أن يحدث؟
يختلفُ حُكم التحديد في المنظومة ِ العلمانية عمّا يتم ُّ الترويج ُ له على أنَّه نظيره في تلك المنظومة الدينية التي تستحضرُ قيمها من المُفارق الإلهي و كائناتِه المزعومة في معيار ٍ شديد ِ الأهمِّية بل أزعُم مدعوما ً بالعلوم الطبيعية و الإنسانية أنَّه المعيار الأهمُّ على الإطلاق، أعني بهِ: مِعيار َ الفحصِ الحُر غير المقيد.
هذا المعيار الحُرُّ غير المُقيَّد سيستطيع ُ حين يندمجُ فاعِله بلا قيود، أن يقدِّم للبشرية نظرة ً جديدة ً للواقع: تتفاعلُ معه، و تُدرك ماهيَّته كما أبرزها العلم الحديث، و تفحص ُ تشابكَ الفرد ِ و حاجاته مع هذا الواقع، و بالتالي كنتيجة ٍ يُخبر ُ بكل ِّ صدق عن الأسباب الدافعة التي تكمنُ وراء سلوكيِّات الفرد و الجماعة، و عن الهُويَّات المختلفة المتداخلة التي يقبلها الفردُ و الجماعة لأنفسهم، وهي النقطة ُ الخطيرة ُ التي تُحدِّدُ موقفهما (فرداً و جماعةً) من الأخر ِ و جماعته.
هنا بالذات ينبغي علينا أن نستحضر َ الأمثلة َ الواقعية َ من كلا المنظومتين: العلمانية و الدينية، لنُقابل َ بين السُّلوكيِّات ِ الناتجةِ عن كل ٍّ منهما، و عن آثار هذه السلوكيِّات على إنتاج المجموعات ِ التي تتبنَّاهما، و التي تُحدِّدُ مكان و قدر تلك المجموعات على خطِّ الحضارة ِ المُستقيم.
ففي المنظومة ِ الدينية لا بدَّ ان تتم َّ استشارة ُ النص بالدرجة الأولى، و فهم ِ السابقين َ و من لحقوهم منذ البداية ِ حتى عصر ِ المُستشير، لتحديد ِ موقف الجماعة ِ من الحدث ِ الحالي. و هي استشارة ٌ لا بدَّ أن ينتج َ عنها بالضرورة و بغير ِ استغناء ٍ عودة ٌ إلى قديم و استحضار ٌ لسابقٍ ليقدِّم َ حكما ً على حالي ٍّ لم يعرفه ذلك القديم و لم يختبره ذلك السابق، و هي مفارقة ٌ غريبة بين الحاجة و الحل، تعرضُ فيها الحاجة ُ نفسها بكل ِّ أبعادها الكائنة ِ في الحاضر، و بين الحل ِّ الذي يُقدِّمُ ذاتا ً تنتمي إلى عصور ٍ سابقة و عوالما ً اندثرت، فتتشكَّل َ مشاكل ُ جديدة نتجت من تطبيق ٍ لمفارق على مُشكلة ٍ لمعاصر، فتتعقد المُشكلة و تتخذ أبعادا ً تنشد ُ بدورها حلولا ً، و تُنشِأ شبكة ً من التفاعلات تطلبُ لنفسها خلاصا ً من تعقيدات ٍ لم يوجدها الحاضر، إنما أوجدها استحضارُ الماضي الذي تم َّ حقنُه في هذا الحاضر.
أمّا في المنظومة ِ العلمانية، فإن الحل َّ هو نتيجة ٌ لفحص ِ العقل ِ الحُر، الذي لا يستحضر ُ حلولا ً جاهزة، إنَّما يستطيع ُ أن يبتكر َ الحلول المُناسبة َ للواقع من ذات هذا الواقع، و من الإمكانيَّات الحاضرة ِ في الطبيعة البشرية، أو الكامنة ِ فيها القابلة ِ للاستحضار. هنا نعتمدُ على الفحص، و الإنتاج، ثم تقيم المُنتج، ثم إصدار الُحكم على قدرةِ هذا المُنتج لتحقيق ِ النتائِج المُرادة منه، فاستبقائه، أو تطويره، أو تعديله، أو التخلُّص منه بالكليَّة ِ لإنتاج غيره، حتى نصل إلى الحلول.
في المنظومة ِ العلمانية ِ و بعد فك ِّ التشابك ِ مع المُقدّسِ و إنتاج الحلول المعاصرة يستمرُ هذا الإنتاج بصفتِه ِ مُتحصِّلا ً من منهجٍ علميٍّ، لا قائما ً في ذاتِه ِ كشئ ٍ جامد ٍ ثابت ٍ غير مُتغيِّر، و بالتالي يتحصَّل ُ عن استمرار ِ هذا الإنتاج منتوجاتٌ جديدة قد تُلغي القديم و قد تستبقيه بكلِّيته أو بجزئيات ٍ منه، لتتفاعل َ هذه المنتوجات ُ الجديدة و القديمة مع الواقع الجديد، فُيصدر هذا الأخيرُ بدوره ِ حكما ً عليها إمَّا بصلاحيَّتها أو بحاجتها للتطوير أو الأستبدال. هذه هي قوَّة المنظومة ِ العلمانية، و هنا مكمنُ جوهرها و منشؤ انطلاقها المُنتِج.
إن َّ المنظومة َ العلمانية َ في فحصها للطبيعة ِ البشرية تستطيع ُ أن تُدرك أن كلا السلوكيات ِ المحكومة ِ بالقيم المُتعلِّقة بالخير و الشر أصيلة ٌ في الإنسان، قابلة ٌ للتَّبدِّي و الاستعلان، مُمكنة ُ التمظهُر بل حتميَّة الوجودِ في الواقع. و هي - أي المنظومة العلمانية – تحملُ في مبدئها و معيارها الذي أعلنتُه في الأعلى: أي معيار الفحص الحر غير المُقيَّد، الإمكانيَّة الكامنة للتَّعامل ِ مع طيف السلوكيات ِ الخيِّرة و الشريرة، لأنها تفحصُ منشأها في النفس، و دافعها في الوجدان، و باعثها في العقل، و قاِدح َ نارِ اشتعالِها في العاطفة، و بالتالي و بكل ِّ اقتدار تُشبع ُ كل َّ الحاجات ِ المُتعلِّقة ِ بها بطُرقِها القانونية ِ و الحضارية في سياقاتِ الاقتصادِ و الاجتماعِ و الإنسانيات و السياسة على حدِّ سواء.
و يكفينا أن نفحص َ الدساتير َ و القوانين التي وضعتها الدُّولُ العلمانية، و تأثيرها على إنشاءِ و استدامة ثقافات ِ إنسان ِ الغرب ِ، و انعكاساتِ تفاعُل تلك الدساتير و القوانين و الثقافات على سلوكيات ذلك الإنسان ِ الذي يعيشُ معنا على ذات الكوكب، لنُدرك َ نجاح تلك المنظومة، و الحاجة َ لتبنِّيها في مُجتمعاتنا و أوطاننا التي تُعاني و تذوق أصنافا ً مُرَّة ،ً مسمومة ً ،ناقعا ً سُمُّ ذلِّها لكرامة الإنسان و لتقدُّم الأوطان. يكفي أن ننظرَ بعين ِ الانكسار ِ و الحسرة ِ و الأسى إلى العراق و سوريا و ليبيا و اليمن كنماذج َ لاستفحال ِ تلك المشاكل ِ في أقصى درجات ِ تجلِّي مآسي: اجترار ِ الماضي بأبعاده المذهبية المحدودة ِ الضيِّقة، و استشارة ِالأموات ِ في أمور الأحياء، و تبنِّي المظلومية ِ التي ترى في الآخر ِ سببا ً لكل مصائبها، و انتشار ِ ثقافة ِ التفكير الغيبي السحري المُفارِق للعلم و المعرفة، و الانسياق ِ نحو قبول ِ الأدلجة بلا تروٍ أو تدبُّر ٍ بديلا ً كارثيا ً عن الفكر النقدي الفاحص المُتأمِّل ِ المُتوقِّف أمام ما يُعطى.
هُنا في مقام ِ العلمانية ِ و تعامُلها مع الشرِّ الكامن، نرى ارتقاءها في الاعتراف ِ بالشر كأداة لتحقيق ِ الحاجة، و بالتالي تجاوُزِه كـ َ "شئ ٍ في ذاته" نحو منشئِهِ و باعثه، و بالتالي تحقيق ِ الحاجات ِ المُتعلِّقة ِ به، من رفد ٍ للاقتصاد بما يُقيمُه و يستديمُه و يضمن سداد مطلوبات ٍ غريزية ٍ من مأكل ٍ و مشرب ٍ و ملبس ٍ و ترفيه ٍ و تعبير ٍ عن الرأي و مُشاركة ٍ في صُنع القرار و وفرة ٍ و غنى ً و فرح، و هي المطلوبات ُ التي عندما يتعذّرُ إشباعها تنتفض النفس ُ البشرية لتُنتج الشر َّ بدرجات ٍ و مُستويات.
في ذات المقام ِ العلماني لكن في الاعتراف ِ بالوجه ِ الآخر للطبيعة ِ البشرية و سلوكيِّات الخير، تقف ُ الإنسانية ُ عن طريق الاختيار الواعي الحُر، لتعترف أن السلوك َ بحسب أناها الأعلى و و تكامُل ِ طاقات ِ نفوسها أفرادها لا بُدَّ و أن يمضي بها إلى مستويات ٍ أعلى و أرقى في الوعي، تتجاوزُ به الطبيعة َ الحيوانية َ لأفرادها دون أن تنفصل َ عنها، لكي تُبدع ُ في تكوين ِ و إنشاء الثقافات ِ الإنسانية ِ المُختلفة التي تحتفي و تحتفلُ بالإنسان و تُعلي من مقامه، و تحتملُ هفواته و نوازعه و أخطائه و سخافاته و انحطاطاته، فتأخذ َ بيده و تعلِّمَهُ أن يتدبَّر َ سُلوكَهُ و يفهم َ ذاته، و علاقة َ تلك الذات ِ بالآخر ِ القريبِ و البعيد، ليُعيد َ تشكيل َ نواة ِ نفسه، و يعودَ لوجدانهِ فيصوغه ُ من جديد بحيثُ يُصبح الآخر شريكا ً رئيسيا ً في صياغة هذا الوجدان و بناء الشبكة الجمعية ِ الإنسانية.
إن هذا الارتقاء الناشئَ عن المنظومة ِ العلمانية هو حاصلٌ في الدول العلمانية ٍ بمستوياتٍ ملموسة ٍ مُدركة ٍ على كُل ِّ المستويات، دون َ أن أدَّعي َ لك الكمالَ – و هو غير موجود ٍ و لا مُتحصِّل ٍ و لم نلمسهُ في التاريخ و أجزم ُ أننا لن نتحصَّل عليه أي الكمال في المستقبل -، لكن بإصرار ٍ منِّي على أن المتحصِّل َ و الموجودَ كافٍ لو تبنته البشرية لكي يرفعها إلى مقام ٍ لم يعرفه التاريخ.
إننا إذ نثق ُ في العلمانية لا نُقدِّم إيمانا ً على شاكلة ِ ما يعرضُه علينا أهل الدين، إنما نقدِّمُ وقائع َ و حقائق َ تحقَّقت على الأرض تفصلنا عنها رحلة ٌ بالطائرة إلى أوروبا أو أمريكا أو أستراليا، نُحلِّق بها فوق الغيوم لنرى أن هناك، و فوق، لا يوجد ُ سوى الإنسان.
من له عقل ٌ للفهم، فليفهم.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟