لانتخابات مجلس الشعب السوري التي جرت في 2 و3 آذار الجاري مغزى سياسي كبير حتى لو كان المجلس ذاته فاقدا لأية وظيفة أو تأثير سياسيين. فالمجلس الذي ستتمخض عنه الانتخابات هو أول مأسسة حقيقية لـ"الاستقرار والاستمرار"أي بالضبط للاسياسة، أو للمثابرة على عملية نزع السياسة من المجتمع والدولة السوريين. ولا يخطئ المراقب إن قيم هذه الانتخابات قبل إجرائها، وهو ليس في حاجة إلى انتظار نتائج انتخابات "الدور التشريعي الثامن" حتى يقول إن تغييب الشعب السوري مستمر وإن التسلطية تمدد لنفسها.
لقد كان مجلس الشعب السوري منذ استحداثه عام 1973 مجردا من السياسة ومعطل الوظائف التمثيلية والتشريعية والرقابية، بل هو إداة إضافية في احتواء السياسة، أي إحباط الاستقلال السياسي لمشاعر الاعتراض والرفض الشعبي، مثله في ذلك مثل الجبهة الوطنية التقدمية والمنظمات الشعبية ونقابات ما بعد عام 1980. وليس أعضاء مجلس الشعب السوري رجال سياسة، ولا علاقة لهم بالسياسة "علما وعملا" (حسب شعار أحد المرشحين الدمشقيين) ولا موقفا أو سلوكا أو رأيا. ولا يفيدنا مجلس الشعب في فهم أي شيئ مفيد عن النظام السياسي في سورية، بالعكس يجب أن نفهم النظام السياسي السوري لكي ندرك الدور الذي يقوم به مجلس الشعب. فالسياق السياسي والمؤسسي للمجلس وللحياة السياسية عامة في سورية يجرد العملية الانتخابية من أية قيمة سياسية ووطنية فعلية، ويجعل أية مراهنة عليهما ضربا من الانتفاع السياسي الخاص.
سنتخذ من انتخابات مجلس الشعب، وخصوصا بالصورة التي أجريت عليها والنتائج التي أثمرتها، مناسبة للنظر في قواعد عمل نظامنا السياسي ومحاولة لاستخلاص بعض اتجاهات تطوره المحتملة.
1- حول المشاركة في عملية التصويت: لم يغب عن "العرس الوطني الديمقراطي" كما وصفته صحيفة "الثورة" الرسمية في 3 آذار إلا أهل العرس الذي كان إقبالهم بين ضعيف و"مقبول" حسب تعبير مجامل لمراسل جريدة "السفير" اللبنانية. ويقدر بعض المتابعين أن هذا "الدور التشريعي" شهد أدنى إقبال شعبي بالمقارنة مع الأدوار السابقة. فقد التقى الاستياء الشعبي من السياسات الحكومية مع انكفاء الظل الكثيف للخوف ليفسرا امتناع أكثرية الناس عن المشاركة في هذا "الاستحقاق". إن هذه المشاركة الشعبية المحدودة تعادل بالفعل تصويتا مبكرا بعدم الثقة بجهاز"مجلس الشعب" وبالسياسات التي يرمز لها.
2- برز في هذه الدورة نفوذ المال بصورة تفوق الدورات السابقة. يتداول الناس أحاديث متواترة عن إنفاق بعض المرشحين مليون أو مليوني دولار على الدعاية الانتخابية (صور ومضافات مفتوحة وشراء أصوات بتقدمات مالية أو خدمية...). ويمكن القول أن وزن المال في الحياة السورية العامة أقوى اليوم مما كان في أي فترة سابقة من تاريخ سورية منذ وصول حزب البعث على السلطة عام 1963. فقد أصبحت الدولة السورية ضعيفة إيديولوجيا واقتصاديا أمام أصحاب المال مهما تكن مصادر ثرواتهم. فهي ضعيفة إيديولوجيا بسبب تراكم إخفاقات النموذج التنموي الدولاني الذي استندت إليه وفقدانه لجاذبيته في كل مكان، لكن كذلك لأن رجالاتها لم يظهروا أي إيمان بخطابهم الاشتراكي بالرغم من حرصهم امام مئات ألوف البعثيين الفقراء أنفسهم على استبقاء هذا الخطاب. وهي ضعيفة اقتصاديا أمام سلطة المال لأن الممسكين بمفاصلها بالذات هم من أثرياء السلطة ومليونيراتها. ثم أن فشلها المزمن في تحقيق تراكم تنموي معقول منح أصحاب الثروة من البرجوازيين الجدد، وبدرجة أقل، القدماء، وزنا وقوة تفاوضية لا يمكن تجاهلها. من هنا جاء مجلس الشعب الجديد ليعكس بنية هجينة (قد تكون انتقالية) تجمع بين نظام السلطة الأوامرية التي تسير بالإكراه، وبين هامش من سلطة الأغنياء الجدد الذين تكونت ثرواتهم بالتعاون مع أغنياء السلطة وبتلقي بركاتهم وتحت أعينهم الساهرة.
وبقدر ما أن الدولة ضعيفة اقتصاديا امام الطبقة الجديدة التي نمت على الأغلب في كنفها فإن هذه الطبقة ضعيفة سياسيا أمام الدولة. فبينما ستنسى هذه نسيانا جميلا إجراءاتها الاشتراكية حيال ربيبتها الطفيلية فإن هذه الطبقة لن تفكر من جانبها بأية مطالب سياسية ولو حتى من مستوى جهاز قضائي أكفأ وأكثر استقلالية.
3- لذلك لن يختلف حال "المستقلين" في هذه الدورة عن حالهم في أية دورة سابقة من الناحية السياسية، بل إن سابقة رفع الحصانة عن النائب الدمشقي المستقل رياض سيف ستمثل الخيط الهادي للمستقلين الجدد: إن ثمن وصولهم إلى المجلس واستقلالهم الاقتصادي هو استقالتهم السياسية. فالجميع من الناحية السياسية "جبهة وطنية تقدمية" بصرف النظر عن مدى النزاهة الشخصية لبعضهم. هذا يعني حرمان الشعب السوري من التمثيل الاجتماعي الحقيقي، أي منع المصالح الاجتماعية المختلفة من العثور على تعبيرات سياسية عامة. وإزاء سياسات اقتصادية ذات مضمون ليبرالي جديد فإن حرمان الشعب من التمثيل ومنعه من تنظيم ذاته والدفاع عن مصالحه من شأنه أن يزيد من الأضرار التي لحقت بالنسيج الاجتماعي الوطني ويجرد فئات من الشعب تجد نفسها منزوعة الإنسانية أكثر فأكثر من وطنيتها. فحتى لو لم تتم خصخصة القطاع العام،(وهي على الأرجح لن تتم لأن هذا القطاع هو القاعدة الاقتصادية للفئات الأضعف من البيروقراطية الحزبية والإدارية والعسكرية) فإن عدم توسعه، إضافة إلى نهبه وإهماله، سيقود بصورة محتومة إلى تراجع وزنه النسبي في الاقتصاد المحلي. وبالتضافر مع ضعف الدولة أمام الثروة وخراب الجهاز القضائي وسوء قوانين العمل ومنع المجتمع من الدفاع عن نفسه سواء بصيغ نقابية أم سياسية ومنع الإعلام المستقل أو منحه لبعض الأبناء الخاصين لآبائهم العامين أو من في حكمهم (مجلة "أسود وأبيض"، مجلة "ميرا"، جريدة "الرياضية"...)، ستكون النتيجة شيئا يقترب من الثمار المعتادة للبرنامج الليبرالي الجديد من بطالة وتراجع الخدمات الاجتماعية وانخفاض الدخول الحقيقة... أي باختصار المزيد من إضعاف الضعفاء في نظامنا الاجتماعي.
4- بعيدا عن إعادة النظر الضرورية في قواعد الاجتماع السياسي السوري في مواجهة تغيرات خطيرة وغير مسبوقة تقريبا في البيئة الإقليمية، اتجهت نخبة السلطة، بالعكس، إلى تثبيت هذه الأسس والأجهزة المبنية عليها مستندة كعادتها إلى ابتزاز الداخل بالمخاطر الخارجية. والواقع أن سياسات العامين الأخيرين وصولا إلى "العرس الديمقراطي" الأخير لا تشير إلى ثقل البنية التسلطية للنظام وفقدانها للقدرة على الاستجابة المرنة على تغيرات أوضاع البيئة المحلية والإقليمية والدولية، إنها مع ذلك وقبله تشير إلى التكوين المحافظ واللاعقلاني، بل الانتحاري، لمصالح فئات نافذة ومسموعة الكلمة في النظام. تشكل هذه الفئات الدولة على مثالها وتصوغ أجهزتها على قياسها وقياس مصالحها. بهذا المعنى، إن بنية المصالح هذه وبنية النظام ككل تطلب مجلسا من النوع الذي تمخضت عنه الانتخابات الأخيرة، وهي، أي هذه المصالح والبنية، التي انتخبت المجلس وستحدد دوره ووظيفته. أما أكثرية الشعب فستترك على الأرجح لقدرها، لا على المستوى الاجتماعي الاقتصادي فحسب بل وأكثر من أي وقت سابق منذ الاستقلال على مستوى الاستقلال والأمن الوطني. ولا شك أن الانهيار العياني للنظام الرسمي العربي أمام الهجمة الأمريكية يفاقم من عسر ومصيرية التحدي الذي تواجهه سوريا، وهو تحدٍ لا يمكن القول إن نظامنا الحالي مؤهل للتصدي له بأي شكل من الأشكال.
5- لم يكن المطلوب من أجل رد جدي على تحديات التنمية الاقتصادية وإعادة البناء الوطني، ناهيك عن الرد على تحدي السيطرة الأمريكية المباشرة، أقل من إلغاء الدورة الانتخابية الثامنة ضمن رزمة من الإجراءات الإصلاحية الجدية في مقدمها المباشرة بحوار وطني واسع مع كل الفاعليات السياسة والاجتماعية والثقافية لوضع أسس جديدة للحياة السياسية في البلاد. فنوعية التحديات القائمة تقتضي أوسع إجماع وطني ممكن. ولا معنى للحديث عن إجماع وطني حقيقي دون مشاركة اجتماعية مستقلة في صنع السياسة والقرار الوطني. والترجمة المؤسسية لهذا الإجماع هي برلمان كامل السيادة لا برلمان كامل التبعية يقع تحت رحمة السلطة التنفيذية.
لقد باتت قواعد عمل نظامنا السياسي عبئا على مواجهة التحديات المصيرية التي تزداد حدة، بل بات تغيير جوهري لهذه القواعد أهم التحديات ومفتاح الرد على كل التحديات الأخرى. هناك اليوم تفارق واسع بين الوطنية الشعبية والوطنية الرسمية، وقد عبر عنه الانتخاب الأخير أوضح تعبير. لكن هذا وضع لا يضعف البلاد أمام أعداءها فحسب، ولا يشل طاقاتها ويهدر قواها فحسب، إنه قبل ذلك وضع منذر بانهيار عام خاصة في ظل الضغوط القوية التي تتعرض لها المنطقة العربية على يد الأمريكيين والإسرائيليين.
من غير الممكن استعادة الوطنية الشعبية كعمق استراتيجي وسياسي للبلد دون حرية الشعب في التعبير عن نفسه والدفاع عن ذاته وضمان استقلاله السياسي. فبقدر ما أمست البنى التسلطية عبئا على الكفاح الوطني والاجتماعي للشعب السوري، فقد باتت الديمقراطية والحريات السياسية للشعب السوري هي الأسلحة الأقوى في الكفاح الوطني وفي الجهد العسير للسيطرة على تغيرات داخلية وخارجية شديدة التعقيد.
*******
الراي 16