|
رواء الجصاني: الجواهري يناغي، ويناجي والدته : تَعالى المجدُ يا -قفصَ العظامِ-
رواء الجصاني
الحوار المتمدن-العدد: 5920 - 2018 / 7 / 1 - 01:19
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كتبت قبل عشرة اعوام، وثنيّتُ ذلك من جديد عام 2013 عن بعض علاقة الجواهري بوالدته: فاطمة بن الشيخ شريف، حفيد "صاحب الجواهر" عميد الاسرة الجواهرية النجفية، وها هي المرة الثالثة التي اعيد النشر عن الموضوع ذاته، بعد اضافات، وتنقيحات قد تعطي بعض الغاية المرجوة ... ولربما وراء تلك الاعادة ايضاً، ارتدادات نفسية، تخفف جوانب من غلواء الغربة، والاغتراب، في مركب العمر الجاري وسط صخب الامواج والرياح .. ... و"قفص العظام" في العنوان أعلاه، وصف أشاعه الجواهري عن والدته، فاطمة، في قصيدته الذائعة عام 1951 وكانت نحيلة بشكل ملحوظ جداً، جراء تراكمات الهضيمة والحزن والأذى، والهموم والشجون، وقد زارها الشاعر العظيم وهي على تلكم الحال، في بيت طفولته وعائلته بالنجف، مودعاً، وهو يقرر الاغتراب إلى مصر، ضائقاً بالاجواء السياسية السائدة في العراق آنذاك، وغاضبا من النخب الوطنية والثقافية، بل المجتمع عموماً... وجاء مطلع القصيدة:
تعالى المجدُ يا قَفصَ العِظامِ، وبورِكَ في رحيلِك والمُقامِ وبورك ذلك العُشّ المُضوّي، بوحشته، وبالغُصص الدوامي... تعالى المجدُ لا مالٌ فيُخزي، ولا مُلْكٌ يُحلّلُ بالحرام ولا نشبٌ تُهانُ الروح فيه، فتَخضَعَ للطّغاة وللطّغام ولكن مهجةٌ عَظُمَتْ فجلّت، وَجَلّ بها المرومُ عن المَرام
ويعود الجواهري في مقطع تالٍ من ميميته ذاتها ليضيف لوالدته وصفا أخر بالغ التأثير، فيناديها بـ "أم الرزايا" منوهاً بشكل خاص لفقدانها ولدها الأصغر، جعفر، شهيد وثبة كانون الثاني الجماهيرية، في بغداد عام 1948 ضد معاهدة "بورت سموث" العراقية - البريطانية :
تعالى المجدُ يا أمّ الرزايا، تَمَخّضُ عن جبابرةٍ ضخامِ تملّى القبرُ منها أيّ عطرٍ، ووجهُ الأرضِ أيّ فتىً هُمام وُهبْتِ الثورةَ الكبرى دماءً، وروحاً وارتكنتِ إلى حُطام ونوّرتِ الدروبَ لساكنيها، وعُدْتِ من ((السواد)) إلى ظلام وأبْتِ كما يؤوبُ النّسْرُ هيضَتْ، قوادِمُــــهُ بعـاصفـــةٍ عُرامِ
ولكي تتضح صورة ما يعانيه الشاعر الخالد، في حينها من هضيمة، راح يستمر في مناجاة والدته، وهو "يحجّ" اليها مودعاً، مرتحلاً الى رحلة غربة وشيكة، كما سبق القول، مستذكراً سنواته الأولى في حضنها الرؤوف، والبيــت، والفطام، وقد مرتّ على ذلك سنوات خمسون:
حَجَجْتُ إليكِ والدنيا تلاقي، عليك بكل قاصمةٍ عُقامِ وفي صدري تجولُ مسوّماتٌ، من البلوى عَصَيّنَ على اللّجام وأُمّاتُ المطامح في ضلوعي، حواشدُ يضطربنَ من الزّحامِ وطارتْ بي على الخمسينَ ذكرى، أقلّتني إلى عهدِ الفطام وحُطّتْ بين تلك وبين هذي، حُمُولٌ من دموعٍ وابتسام ورحتُ أُعيذُ أعداداً رطاباً، وأحطاباً إلى ((عُشّ الحمام)) (1) ... ورفّتْ في ندِيفٍ منْ مشيب، ذوائبُ لم ترِفّ على أثامِ وضوّت من جبينك لي غضونٌ، بها يَغْنى الزمانُ عن الكلام وطُفتِ بخاطري حتى تمشّى، حنانُكِ مثلَ بُرْءٍ في سَقامِ
ثم يختتم الجواهري ميميته الثائرة، والحنون في آن، فراح يودع بمفردات جلها ايجاز لمعاناة، واعتذارعما قد يسببه اغترابه القريب، والفراق الجديد، من آلام إضافية للأم التي طفحت عندها الآلام، مثبتاً مرة اخرى بعض مواقف ورؤى اختطها طيلة عقود في الشموخ والاباء، وارتكز اليها طوال حياته :
فيا شمسي إذا غابت حياتي، نشدتُك ضارعاً ألاّ تُغامي ويا ((متعوبة)) قلباً وروحاً، أخافُ عليكِ عاقبةَ الجَمام ويا مكفوفةً عن كلّ ضرّ، نشدتُكِ أن تَكُفي عن ملامي فليس يُطيقُ سهماً مثلَ هذا، فؤادي وهو مُرْتَكَزُ السّهام لقد كنت الحسامَ على ظروفٍ، حُمِلْتُ بها على حدّ الحسام وقد كنتُ الحرون على هجين، يحاول أن يُسَيّرَ من زمامي وليس رضيعُ ثديكِ بالمجاري، وليس ربيبُ حِجْرِكِ بالمُضامِ
ولعل ما يناسب المقام هنا، ونحن نتابع، ونوثق، ولوعلى عجالة، ان نشير الى صورة أخرى من صور مناغاة، واشارات الجواهري ومناجاته لوالدته، وعنها، مقتبسين مما جاء في ختام قصيدته الشهيرة، بمناسبة استشهاد أخيه جعفر عام 1948 حين يصف الحال آنذاك، بعد ان تأكد الخبر الفاجع، وينوّه الى حال الام "العجوز" والأخت الوحيدة، فيخاطب فقيده الأعز:
.. إلى أنْ صَدَقْتَ لهمْ ظَنّهم، فيا لكَ من غارمٍ يَغنَمُ فهمْ بك أولى فلمّا نَزَل، كجَذْرٍ على عَددٍ يُقسم وهم بك أولى، وإن رُوّعَت ((عجوزٌ)) على فِلذةٍ تلطِم وتكفُرُ أنّ السما لم تعُدْ، تُغيثُ حَريباً، ولا تَرْحَم و"أخـتٌ" تشُقّ عليك الجيوب، فيُغرَزُ في صدرهــا مِعصَم تناشِدُ عنك بريقَ النّجوم، لعلّك مِن بينها تنجُم وتَزْعُمُ أنّك تأتي الصّباحَ، وقد كذّبَ القبرُ ما تَزْعُم ثم تمر على الجواهري سنوات حبلى بالشجون والهموم الوطنية والثقافية وما بينهما:اغتراب، واعتقال، وقنوط، وتمرد، وثورة، وكبوة، وانطلاق، وثبات وعلو وشموخ، وكلها تصيب، وتؤثر، وتقلق، وجميعها تلهب الوالدة المبتلاة، فتزداد هموماً وشجوناً ... وهاهو الابن المتفرد، يضطرمجدداً للاغتراب الى براغ عام 1961 تاركاً أهلاً وصحاباً وديارا، حين رأى "الذل اسارا" و"رأى العيش مجاراة زنيمٍ لا يُجارى"... وهناك يسمع النبأ المفجع برحيل والدته عام 1961... ففاض يوثق شعراً، بعض آلامه، وحزنه، لذلكم الرحيل، مستذكراً في ذات الوقت شقيقه الشهيد جعفر، كما جاء في نونيته الأشهر "دجلة الخير" عام 1962 حين يقول في شبه خاتمة للقصيدة العصماء:
ويا ضجيعَي كرىً أعمى يلفّهما، لفّ الحبيبين فـي مطمورةٍ دُون حسبي وحسبُكما من فرقةٍ وجوىً، بلاعجٍ ضَرِمٍ كالجمْرِ يَكويني لم أعدُ أبوابَ ستينٍ، وأحسبني، هِمّاً وقفتُ على أبواب تسعين يا صاحبيّ إذا أبصرت طيفَكما، يمشي إليّ على مَهلٍ يحييني أطبقتُ جَفناً على جَفَنٍ لأبصُرَه، حتى كأنّ بريقَ الموتِ يُعشيني إنّي شممتُ ثرىً عفناً يضمّكما، وفـي لُهاثي منه عِطرُ (دارين) بـنـوةً وإخاءً حلفَ ذي ولَـعٍ، بتربةٍ في الغدِ الداني تغطّيني لقد وَدِدتُ ـ وأسرابُ المنى خُدع - لو تَسلمان وأنّ الموتَ يطويني قد مُتّ سبعينَ موتاً بعد يومِكما، يا ذلّ من يشتري موتاً بسبعين لم أقوَ صبراً على شجوٍ يرمّضُني، حرّانَ فـي قفصِ الأضلاعِ مسجون تصعدتْ آهِ من تلقاء فطرتها، وأردفت آهةٌ أخرى بآمينِ
ولعل ما يعبر ايضاً عن بعض ذلكم الحزن والألم، ولكن نثراً هذه المرة، ما جاء في رسالة المواساة التي بعث بها الجواهري، من براغ، الى اخته، "نبيهــــة"(2) وهي في العراق، مواسياً برحيل والدتهما فكتب اليها: " ... انك تعلمين مدى صعوبة ان يمشي القلم على الورق في ظرف مثل هذا الظرف، وبحادث كهذا الحادث. ولولا انني أعد نفسي مسؤولا امامك، وامام الواجب بأن اقول لك شيئا، لما سهل علي مجرد الاشارة الى مثل هذه الخسارة ... ... ان كل شيء قد يهون لدي، الاّ تصوري انها حملت معها إلى قبرها جبلاً ضخماً من الآلام، ومن الذكريات، ومن العبر القاسية. لقد رأيت أن أعزيك فأسأت اليك من حيث لا اريد، بما اثرت من أشجان، أو بما زدت فيها تقريباً. فاذا بكيت فأضيفي دمعى لحسابي فان عيني جمود. واذا تسليت بالصبر الجميل، فكما هو المأمول فيك..." (3).
وأخيراً دعونا نوثق اضافة اخرى، جاء بعضها في مقدمة هذه الكتابة، وبعضها ، شهادة عيان لكاتب هذه التأرخة، عن تلكم الامرأة الشموخ، الاستثناء، والدة الجواهري العظيم: فاطمة، ابنة الشيخ شريف، وزوجة الشيخ عبد الحسين، وكلاهما، اي الأب والزوج، عالمان وفقيهان نجفيان شهيران، حفيدان مباشران للامام الشيخ محمد حسن الجواهري، صاحب المؤلف الاشهر: "جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ". كما انها أخت آية الله الشيخ عبد الرسول الجواهري. وكنيّت بأم (عبد العزيز) نسبة الى بكرها، الفقيه والشاعر المعروف. وقد أنجبت بعده كلاً من: (محمد مهدي) شاعر العراق والعرب الاكبر، و(عبد الهادي) الاديب "المتمرد"... ثم (نبيهة) وهي الشقيقة الوحيدة بين الأخوة الأربعة، الذين كان آخرهم، الشهيد جعفر.
أما ما يرد بشكل صريح عن المُوثق لها، في مؤلف "ذكرياتي" للجواهري، الى جانب اشارات متعددة أخرى، فهذا النص الذي كتبه الشاعر الخالد عن أمه، الأثيرة والمؤثرة، قوية الشخصية، والنافذة في العائلة والأسرة، وباجماع كل من عرفها: "ولا تقلُّ والدتي "فاطمة بنت الشيخ شريف" عن والدي في التعبّد والايمان. ورغم انها ربة بيت، إلا انها تعلمت القراءة قليلاً من الكتابة وشيئاً من التذوق في مجال الشعر والأدب. وعنها ورثت ذلك، بل وزادت عليه، شقيقتي الوحيدة (نبيهة). ورغم تعبّـد والديّ، وايمانهما النظيف، إلا انهما لم ينجيّا من عقابيل العوائل النجفية العريقة كلها، وهو حب التنافس". (4)
هوامش واحالات:---------------------------------------------------------------------- (1) "عش الحمام": أشارة الى ما يتذكره الجواهري، في فترة طفولته، من اوكار للطيور في باحة منزل العائلة في النجف. (2) نبيهة: تزوجت من التربوي، والمربي المعروف، السيد جواد الجصاني. (3) نص الرسالة المنوه عنها منشورعلى الصفحة 229 من كتاب "الجواهري بلسانه، وقلمي" لمؤلفه، سليم البصون – بغداد 2013. (4) الاقتباس مستل من مؤلف "ذكرياتي" للجواهري. الصفحة 45 الجزء الأول - / دمشق 1989.
#رواء_الجصاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواء الجصاني: الجواهري، حول مواقف المثقفين، التنويرية.. والت
...
-
رواء الجصاني : الجواهري يؤرخُ لبعضِ سيرتهِ ... شعرا //
-
محطات في سيرة فرات الجواهري .. وحياته، في ذكرى ميلاه الثامنة
...
-
رواء الجصاني : الجواهريّ، يصمتُ مدوياً.. ويتصدى!
-
مثقفونَ بكاؤون وندّابونَ، بلا نَظير !
-
رواء الجصاني : شهاداتٌ، وسيرة ٌ، ومسيرة... في الذكرى السبعين
...
-
رواء الجصاني : نموذجٌ عن ترويج بعضِ “المثقفين“ للطائفيةِ وال
...
-
رواء الجصاني : هذا بعض ما كان بين الجواهري والشيوعيين؟!
-
رواء الجصاني : الجواهريّ، حينَ تقتلهُ الاحزانُ !!!
-
شهداء وراحلون عراقيون في ذاكرة سياسية وثقافية
-
رواء الجصاني : شهداء أماجد، وراحلون نيّرون، في ذاكرة سياسي..
...
-
رواء الجصاني : شهداء أماجد، وراحلون نيّرون، في ذاكرة سياسي .
...
-
رواء الجصاني : على اعتاب الذكرى 84 للحزب الشيوعي العراقي //
...
-
مع فالح عبد الجبار، وعنه، في براغ - رواء الجصاني
-
رواء الجصاني: شهادات عراقية، في تاريخ اتحاد الطلاب العالمي (
...
-
رواء الجصاني : براغ تحتضن لقاءً عراقياُ زاهياً، لاستعادة بعض
...
-
رواء الجصاني : جميعُ العراقيين -سائرون- (2-2)
-
أسرتا الجصاني والجواهري تنعيان
-
رواء الجصاني : جميعُ العراقيين -سائرون- (1- 2)
-
رواء الجصاني: الجواهري ... وأرا خاجادور/ علاقات حميمة ... ود
...
المزيد.....
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|