|
استقلال تونس .. بدون عدسات الحكومة اللاصقة .. والملونة
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1498 - 2006 / 3 / 23 - 09:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تولدت داخلى حساسية، أو أرتيكاريا، تطورت مع السنين إلى ما يشبه العقدة النفسية، ضد الاحتفالات "الوطنية" فى البلاد العربية. حيث تحولت هذه الاحتفالات – فى معظم الأحيان – إلى مناسبات دوريه للضحك على ذقون الشعوب والكذب عليها بشعارات معسولة تتناقض تناقضاً صارخاً مع الواقع المرير. لذلك .. لم أتحمس كثيراً عندما تلقيت دعوة لحضور احتفالات تونس بمناسبة مرور خمسين عاماً على استقلالها. وعندما وافقت ذهبت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى. لكنى قررت أن أدير ظهرى لكل مظاهر الاحتفال الرسمية وأن أرى مناسبة الذكرى الخمسينية لاستقلال البلاد بعيون أخرى. وقد كان. فقد اتفقت مع الزميل الصحفى النابه حمدى رزق على أن نترك تونس "العاصمة" وان نجوب تونس "البلد" بمعرفتنا دون مرشد أو دليل. وهكذا شددنا الرحال إلى حلق الوادى وكرم وخير الدين باشا وسيدى بوسعيد والمرسى وقمرت ونابل وجرومباليه وبنزرت والحمامات وسوسه والمنستير والقيروان. وأقلعنا عن ارتياد الفنادق ذات النجوم الخمسة مفضلين أن نأكل "الكسكروت اللبلابى" على كورنيش بنزرت و"التستيره" فى نابل و"أمك حوريه" فى سوسه، وأن نحلى بـ "المقروض" فى القيروان. وتمشينا قليلاً على الشواطئ السياحية الساحرة فى الحمامات لكننا قضينا أغلب الوقت داخل أسوار المدن العتيقة وأسواقها التقليدية المذهلة. ذهبنا إلى عناوين "المعلوماتية" ومعالم "ما بعد الحداثة" التى تسابق المستقبل مثلما أبحرنا فى رحلة يصعب وصف مقدار متعتها إلى رحاب الماضى حين استعدنا عبق التاريخ فى الجامع الكبير بالقيروان، أقدم معلم بالمغرب الاسلامى، تم تشييده خلال الفتح العربى للمغرب فى منتصف القرن السابع الميلادى، ويعد تحفة فنية فى العمارة الاسلامية يعود تاريخ بنائها إلى عصر عقبة بن نافع وتدين بفضل تطويرها إلى عصر الامارة الأغلبية، أول أسرة حاكمة "مستقلة" للبلاد. هذا الجامع المدهش لم يكن مجرد دار للعبادة بل كان منارة للعلم والتعليم وقبلة للقضاء وطلب العدالة أيضاً. وإلى جواره دلفنا إلى جامع الثلاث أبواب الذى بناه ابن زيدون ورأينا المكان الذى تردد عليه العلامة أبو الوليد عبد الرحمن بن خلدون. وخلال تنقلنا في "الجغرافيا" بين البلدان، وفى "التاريخ" بين العصور، ومخالطتنا للناس العاديين، مثلى ومثلك، فى الشوارع والطرقات والحوارى والأزقة والأسواق .. لفتت أنظارنا أمور كثيرة كان "أهمها" هو "أبسطها" .. أو ما يبدو أنه كذلك. لاحظنا مثلاً .. الغياب شبه الكامل للتسول والمتسولين، حيث لم نصادف فى كل هذه المدن والبلدات التى جبنا شوارعها سوى عدد محدود للغاية من المتسولين. وهذا مؤشر لا تخطئه العين على أمرين: أولهما انخفاض حقيقى فى نسبة الفقر، وثانيهما "هيبة" للقانون. وبمراجعة البيانات الدولية بهذا الصدد نجد بالفعل أن نسبة الفقر قد تراجعت من 50% عام 1956، سنة الاستقلال، إلى 3.6% عام 2005، أى أن الفقر انخفض بمعدل 1% تقريبا كل عام منذ إعلان الاستقلال فى الآن. لاحظنا كذلك .. ارتفاع مستوى النظافة فى كل المدن وفى معظم الأحياء، جنبا إلى جنب مع لمحة جمالية منتشرة، وانضباط حقيقى فى الأنماط المعمارية والذوق العام حيث اللون الأبيض هو اللون السائد للغالبية الساحقة من الأبنية والمنازل بينما اللون الأزرق هو اللون الموحد للأبواب والنوافذ. لاحظنا أيضاً .. من خلال ترحالنا بين المدن والبلدان وجود شبكة طرق جيدة جداً، وكمية هائلة من الفنادق على اختلاف درجاتها وعدد نجومها.مما يعنى أن تدفق ما يقرب من ستة ملايين سائح سنوياً على تونس ليس مجرد صدفة، بل جاء نتيجة استعدادات جادة سواء بالنسبة للبنية التحتية أو بالنسبة لإتقان فنون السياحة. لاحظنا كذلك .. أن التاكسيات تعمل بالعداد وتلتزم به التزاماً صارماً، كما أن كل السيارات تلتزم التزاماً حرفياً بإشارات المرور(وبالمناسبة لاحظنا أن الأغلبية الساحقة من السيارات صغيرة الحجم وأن السيارات الفارهة والمسرفة فى الرفاهية والفخامة قليلة جداً إن لم تكن نادرة). لاحظنا انخفاض نسبة الفتيات والسيدات المحجبات بصورة ملفتة للنظر كما لاحظنا أن هناك توقيتين لصلاة الجمعة. التوقيت الأول هو المعتاد ساعة الزوال والثانى قبيل العصر حتى يلحق به الموظفون لأن يوم الجمعة ليس عطلة رسمية. لاحظنا أيضاً .. ارتفاع المتوسط العام للوعى والثقافة للمواطن العادى، مقترناً بدرجة ملحوظة من المحبة الشعبية لمصر والمصريين (لعن الله كرة القدم التى تعصف بهذا الود الحميم وربنا يسامح النقاد الرياضيين الذين يؤججون مشاعر الكراهية البدائية على الجانبين). ولعلنى أختتم هذه الملاحظات والانطباعات الأولية بواقعة مثيرة للتأمل. فعندما ذهبنا إلى مدينة الحمامات، واشتد بنا الجوع، بحثنا عن مطعم لنأكل به الكسكسى التونسى الشهير، ووجدنا أنفسنا أمام عدد من المطاعم، أحدها أثار أسمه إعجاب زميلنا حمدى رزق هو "لاله فاطمة". دخلنا إلى المطعم وطلبنا الكسكسى وعندما تبين للجرسون أننا مصريون تحدث معنا عن أدب صنع الله ابراهيم وجمال الغيطانى.. وشريف حتاته، وكان حديثه – الذى تطرق إلى تشيكوف ودستويفسكى وتولستوى – على مستوى رفيع جداً، ولا أبالغ إذا قلت أنه أفضل من كثير ممن يحملون لقب "ناقد أدبى". وكانت ملاحظاته الثاقبة والذكية عن روايات صنع الله إبراهيم "ذات" و"اللجنة" بالغة العمق .. مشفوعة بحسرة لأنه لم يتمكن من الحصول حتى الآن على رواية "امريكانلى". ولو أنى مكان "صنع الله" لأرسلت الرواية فوراً لهذا الجرسون المثقف "أحمد الطاهرى" الذى كانت مناقشتى معه من أجمل وقائع الاحتفال – على طريقتنا – باستقلال تونس. أما السياسة .. فتلك قصة أخرى .. وللحديث بقية.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
! أرباب الصناعة.. وأرباب السوابق
-
يا عم حمزة .. رجعوا الأساتذة .. للجد تانى
-
طرق أبواب مغلقة بالضبة والمفتاح!
-
البراءة ل»عمر أفندي«.. و»العبّارة«!
-
ليس من حق -بلير- التأكيد على أن الله معه
-
-ترماى- الكويز .. وقطار منطقة التجارة الحرة
-
حرمان زويل من الدكتوراه .. ومنع أبو الغار من الكلام!
-
السجن .. للصحفيين!
-
وزارة الثقافة تلبس العمامة .. وعمرو خالد يرتدى البدلة الإفرن
...
-
بنك الطعام .. الأمريكى
-
حرمان زويل من الدكتوراه .. ومنع أبو الغار من الكلام
-
إنهم يستقيلون .. بسبب النجاح!
-
البعض يفضل الكلابشات على الأقلام .. فى أيدى الصحفيين
-
نتيجة لعبة شد الحبل بين أمريكا وطهران .. تقرر مستقبل العرب!
-
هل استرحت الآن يا سيادة الوزير؟!
-
قانون -عشش الفراخ-!
-
الدكتورة كوندوليزا.. وسهامها المراوغة!
-
الرئيس الكذاب
-
بعد رسوم الإساءة صور التعذيب!
-
سولانا يذرف دموع التماسيح فى القاهرة .. لا تصدقوه
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|