كاتب عربي يقيم في وارسو
من هي المرجعية التي يمكنها أن تحدد الديمقراطي الفلسطيني؟ الولايات المتحدة الأمريكية. ومن نصب الولايات المتحدة حكما على توصيف الآخرين؟ نحن العرب. فأية جهة كانت فردا أم منظمة أم دولة لن تصبح مرجعية مهما أعلنت، ومهما صرخت حتى يقبل الآخرون بها. حينذاك فقط تصبح مرجعية. لقد قبلت السلطة الفلسطينية بالولايات المتحدة مرجعية تفصل بينها وبين إسرائيل في كل القضايا. ولم تخدع الولايات المتحدة الفلسطينيين حينما قبلت أن تقوم بذلك الدور، فقد أعلنت على الملأ أين تقف في كل مسألة، كما أوضحت كيف تنظر إلى إسرائيل قولا وعملا. فليس هناك مواربة، وليس هناك تضليلا. وحينما لم تستطع القيادة الفلسطينية القبول بصفقة كامب ديفيد الثانية لأنها لم تكن سوى ما على الفلسطينيين التخلي عنه من حقوق في العودة والقدس والدولة الحقيقية، سارعت الإدارة الأمريكية إلى تقليد عنق القيادة الفلسطينية مسؤولية الإخفاق. ولم تستطع الأخيرة أن تنبس ببنت شفة. فليس من تقاليد المحكوم عليهم أن يتهموا القضاة الذين اختاروهم بالظلم.
لقد رأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في الأمم المتحدة قيدا على تحركها في بعض القضايا، فاختارت بين الحين والآخر أن تعمل خارج إطارها كما حصل في اتفاقية كامب ديفيد الأولى، اتفاقية السادات بيغن، واتفاقيات أوسلو. غير أن كون الكثير من السياسيين الأمريكان انتموا إلى المدرسة الليبرالية التي ترى فائدة في المنظمات الدولية عموما لخدمة مصالحها، دأبوا على التمسك بها. لكن السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة أفاق الكثير من هؤلاء السياسيين الأمريكان على حقيقة أن جسدهم العسكري والسياسي بات أضخم من ملابس الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية. فبدأت تضيق عليهم وتظهر فيها الفتوقات، وقد ظهر ذلك بوضوح في عهد اللييبرالي كلينتون. وكانت تنمو في نفس الوقت المدرسة الواقعية التي تعطي ميزان القوى الثقل الأرجح. وليست إدارة بوش إلا مثالها الصارخ في الاعتقاد بأن الحياة للأقوى. ولذلك بدأت في تمزيق النظام الحالي بأشكال مختلفة، سواء في تعطيل الاتفاقيات أم في عدم احترامها، أم في الانسحاب منها، أم في تقديم إنذارات للمنظمات الدولية حتى تفعل ما تريد أو أن تذهب إلى الجحيم. فكل الذي نراه من صراع بين الدول الكبرى يمكن اختصاره بكونه صراع على تحديد المرجعية في العالم. فقد كانت الشرعية الدولية، منظماتها واتفاقياتها وتقاليدها، المرجعية التي كانت ترسم عموما العلاقات بين البلدان وطرق معالجة المشاكل الناشبة. وأمريكا تريد أن تكون هي المرجعية دون قيود الشرعية الدولية. وقد أنشأت لذلك مبادئ جديدة مثل الحروب الوقائية.
ويتضمن مبدأ الحروب الوقائية مبدأ آخرا ضمنيا فيه. ذلكم هو أن تكون الولايات المتحدة مرجعية للقوانين الداخلية للبلدان. فهي التي تقرر إن كانت مساعي أي بلد في التقدم العلمي عسكرية عدوانية أو مدنية تنموية، وهي التي تفصل في كون البلد مستبدا أو ديمقراطيا، وهي التي تحكم إن كانت سياسات البلد النفطية تضر بالاقتصاد العالمي أو تنفعه، وهي التي تقرر إن كان البلد ينزع أسلحته أو لا ينزعها. وهي في كل الأحوال قرارات ذاتية لا تحكمها معايير مفصلة. فهي تريد أن تستبدل الموضوعي، إلى حد ما، المتجسد في مواثيق وأعراف وقرارات المجتمع الدولي بالذاتي الذي يعكس مصالح الولايات المتحدة. وقد يظن البعض خطأ أن المصالح معيار موضوعي قد يمكن للعالم أن يتعايش معه. ووجه الخطأ فيه أن المصالح أنواع وأبعاد. فما هو مصلحة في الأجل القصير قد لا يكون مصلحة في الأجل الطويل. كما أن مصالح جماعات الضغط متنوعة، ففي كل فترة ستبرز مصالح جديدة لها تفرض على الإدارات الأمريكية أن تضغط على بلدان العالم للاستجابة لها. وحينما تغيب المعرفة النسبية بالأحكام التي ينبغي التقيد بها يحصل القلق والاضطراب السياسي، ويصبح العالم محكوما برغبات الطاغية المتغيرة والمتجددة.
وقد وجد التوجه الأمريكي نصيرا له في القيادة الفلسطينية التي انصاعت للمطالب الأمريكية الإسرائيلية في دمقرطة المجتمع الفلسطيني. وأول خطوات الديمقراطية تعيين رئيس وزراء فلسطيني مفروض من أمريكا وإسرائيل. أما السمات الأخرى في هذه العملية الديمقراطية، فهو إصرار رئيس الوزراء الجديد على أن تكون له صلاحيات مطلقة في المفاوضات والقضايا الأمنية. فرئيس السلطة الفلسطينية مستبد لأنه يحتفظ لنفسه بكل الصلاحيات ولا يريد أن يشارك الآخرين بها. أما رئيس الوزراء المعين فهو ديمقراطي لأنه لا يقبل أن يشاركه الرئيس في صلاحياته. ورئيس السلطة الفلسطينية مستبد لأنه يدين العمليات الاستشهادية فقط، أما رئيس الوزراء المعين فهو ديمقراطي لأنه يدين كل عسكرة للانتفاضة بل أنه يرى الانتفاضة نفسها عبثا لا طائل منه. ورئيس السلطة الفلسطينية فاسد لأنه يسمح ببعض الأموال لأن تذهب لأهالي بعض ضحايا الانتفاضة من فتح، أما رئيس الوزراء المعين فهو نظيف لأنه لا يسمح بذهاب الأموال إلا إلى أسرته والموالين لدعوة وقف الانتفاضة. ورئيس السلطة الفلسطينية لا يمتلك الجرأة على اتخاذ قرار بإسقاط حق العودة كما تريد إسرائيل، أما رئيس الوزراء المعين فهو رجل شجاع لأنه يستطيع في ظل الحراب الإسرائيلية والأباشي الأمريكية أن يوقظ الفلسطينيين من أحلام العودة. وستتوطد مفاهيم الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني حينما يعود إلى أجهزة الأمن الفلسطينية، في ظل رئيس الوزراء الديمقراطي، هيبتها فتعود إلى سالف عهدها باعتقال المقاومين وتعذيبهم وقتلهم في السجون.
ولكن الذي يحير في الديمقراطية الأمريكية هو إصرارها على استخدام الحرس القديم أو كثير منه. ففي أفغانستان جاءت بأمراء الحرب الذي دمروا البلاد وحكموا مناطقهم على غرار ما يفعله كل مستبد صغير، وهي في العراق لا تستعين إلا بمن أذاقوا الناس مرارة الاستبداد في مناطقهم مثل القيادات الكردية، أو بعض المعارضة العراقية التي كانت سندا في أوقات مختلفة للنظام. وتبعد من كانوا ضحايا النظام عن التمتع بثمار الديمقراطية. وهاهي في فلسطين تصر على أن يكون الحرس القديم الذين على امتداد عقود طويلة جعلوا من الشعب الفلسطيني منصات لثرائهم أول من يشقوا طرق الديمقراطية. ويبدو أن كلفة تحويل المستبدين إلى ديمقراطيين أمريكيين أقل كلفة وأسهل حصولا من البحث عنهم في عموم الناس. ومع ذلك يبقى شيء محير في الديمقراطيين الجدد أنهم كلما ازدادوا تنازلا للمطالب الأمريكية ازدادوا استبدادا بمصالح مجتمعاتهم. فالعلاقة عكسية ما بين مصالح شعوبهم ومصالح الولايات المتحدة.
وحينما نتحدث عن الديمقراطية الأمريكية فليس هناك أوهام حولها لدى الأمريكان أنفسهم ولا حتى لدى الذين تختارهم من أجل أن يسهروا على ديمقراطيتها. منابع الأوهام أخرى. ومن له أدنى متابعة لما يقوله المسؤولون الأمريكيون، ناهيك عما يفعلوه، يدرك أن ما يهمهم في المنطقة العربية هو أمران حماية النفط وحماية إسرائيل، وكل شيء أخر مشتق منهما. فالديمقراطية الأمريكية هي ديمقراطية حماية النفط، وهي ديمقراطية حماية إسرائيل. كما أن من يعرضوا أنفسهم في بازار الديمقراطية الأمريكية يعرفون الأولويات الأمريكية. فهم ليسوا واهمين. الوهم الذي لديهم قديم. فهم من قلة ما يقرؤون أو يتأملون فيما يقرؤون قد غاب عنهم التحول في التفكير الأمريكي. فقد كانت في الماضي تهتم إلى حد معين بمن يربط جسده وروحه بسلاسلها، وإن كانت قد رمتهم عند ما اشتد عليها الأمر عند أول قارعة طريق، كما حصل مع شاه إيران ونورييجا بنما. أما الآن فهي لا تهتم بالبلدان فكيف بها تهتم بالأفراد!
لكن عجبنا يزداد من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني. وقد كنا نأمل لو أنهم جعلوا من أعضاء البرلمان البريطاني مثلا يقتربون منه. فكثير من هؤلاء الأعضاء العماليين يثورون إحساسا منهم بالمسؤولية الإنسانية العامة، ومصالح بلدهم، فيتحدون من يتحدى رأي الناس في مجتمعهم. وبريطانيا ليست عند مفترق طرق تستدعي هذه المواقف الجادة. ولكن من يزعمون أنهم يمثلوننا في المجلس الوطني لم يجرؤا في عمومهم أن يقولوا لرئيس السلطة المستبد ولرئيس الوزراء المعين بالاستبداد كفى عبثا بمقدرات الشعب الفلسطيني وبمصيره، وأعيدوا الحقوق التي تغتصبونها بممارساتكم إلى الشعب الفلسطيني .
***************
كنعان