أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي المَدَن - تطييف التراث















المزيد.....

تطييف التراث


علي المَدَن

الحوار المتمدن-العدد: 5903 - 2018 / 6 / 14 - 20:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في العقود الأخيرة؛ حيث زحفت علينا أمواج الطائفية من كل حدب وصوب، وباتت الاستقطابات الطائفية شيئا مألوفا في السياسة والفكر والتاريخ والأدب، حتى صار البعض لا يخجل من إعلان طائفيته، تنامت لدينا مشاعر العزلة. أن يعزل المرء نفسه داخل جدران مذهبه وطائفته ودينه، وأن يتفنن في تشييد تلك الجدران لبنة لبنة، وطابوقة بعد أخرى.
واحدة من تلك اللبنات، طابوقةٌ طائفيةٌ من النوع الخاص!! هو ظاهرة "تطييف التراث".
ماذا يعني ذلك؟ لنشرح قليلا ما نعنيه بهذا المصطلح.
المسلمون أمة واحدة، أي يجتمعون في عامل مشترك واحد يضمهم جميعا وهو الانتماء للإسلام. هذا أمر واضح وبديهي. ومع ذلك فهم منقسمون إلى عدة فرق ومذاهب، وهذا أيضا أمر بديهي ثانٍ. نشأ عن هذا الانقسام اختلافات فكرية كثيرة، وصلت أحيانا إلى حد الصدام والمواجهة فيما بينهم. وهذا هو الأمر البديهي الثالث الذي لا يختلف عليه اثنان. إلى هنا يشترك دعاة "تطييف التراث" مع ما نعرفه عن تاريخنا الفكري الإسلامي، ولكن ما سيستنتجه أصحاب مشروع التطييف من هذه البديهيات الثلاث، وما سيتعملون عليه، أمر آخر مختلف.
يقول هذا الفريق إن كتابة هذا التراث كان بهاجس "المواجهة الطائفية"، وإن علماء المسلمين كانوا واعين، وقاصدين منذ البدء، على الكتابة والتأليف تحت هذا الهاجس الطائفي، بحيث يمتنع الوثوق بما يقولونه عن مخالفيهم من المذاهب الأخرى، بل ويمنع حتى الوثوق بما يقولونه عن مذاهبهم؛ لأنهم عرضة للانحياز واتباع الأهواء وتغطية الثغرات أو النواقص في تراثهم المذهبي الخاص. والإجراء الذي يتخذه أصحاب مشروع تطييف التراث أمام هذا الوضع الذي يفترضون أنه واقع الفكر الإسلامي هو دعوتهم المستمرة إلى التمييز بين تراثين: تراث المسلمين السنة، وتراث المسلمين الشيعة. عند كل كتاب، وفي أي علم أو فن أو مسألة فكرية يجب أن تطرح على نفسك هذا السؤال: إلى أي تراث ينتمي هذا الكتاب، السنة أو الشيعة؟ وماذا يقابله عند الطرف الآخر؟ وصار هؤلاء يتحدثون عن كتب علم تاريخ شيعي وكتب علم تاريخ سني، كتب علم تفسير شيعي وكتب علم تفسير سني، كتب علم فقه شيعي وكتب علم فقه سني، وهكذا في العلوم والمعارف والفنون الإسلامية كافة.
هل الأمور بالفعل بهذا الشكل تاريخيا؟! وإلى أي حد يساعدنا هذا المقترح في النظر لتاريخنا الفكري في فهم حقيقة هذا التاريخ والواقع الذي يعبّر عنه؟ هذا هو السؤال الأهم في التعليق على هذه الظاهرة! ظاهرة "تطييف التراث". ولنوضح موقفنا من هذا المشروع في التعليقات الآتية:
أولا: من نتائج هذا المشروع زوال ما يمكن أن نسميه "تراث المسلمين المشترك"، حين يتحول هذا التراث إلى "تراث طوائف متناحرة" فاقدٍ للقيمة العلمية الموضوعية كجهد فكري ملتزم بالضوابط الصارمة للحياد والأمانة والصدق، ويصبح من السائغ تسفيه كل رأي أو نقل بأنه انحياز طائفي متعمد.
ثانياً: يفترض أصحاب هذا المشروع أن فكرة الجدران الطائفية العالية والصلبة والعازلة كانت هي المهيمنة على جميع الأذهان، وفِي جميع المسائل الفكرية، حتى لو كانت تلك المسائل الفكرية علمية تطبيقية "بحتة"، فكل بحث عن آليات الإثبات التاريخي هو بحث طائفي، وكل محاولة للكشف عن طرق فهم النصوص الدينية التأسيسية هي محاولة طائفية، وكل ممارسة استنباطية فقهية هي ممارسة طائفية، وهكذا في بقية المناهج وأدوات البحث والتحقيق، بلا فرق في موضوعات المسائل ومجالات العلوم. الجميع محكوم بقانون التغالب والاحتراب الطائفي. أما التفكير بهذا المجالات بنحو منهاجي مستقل فهو غائب تماما.
ثالثا: لا يميز هذا المشروع بين الأفكار الوليدة عن مسلمات مذهبية خاصة، أصول فكرية خاصة بهذه الطائفة أو تلك، وتلك الأفكار التي تؤسس على مسلمات إسلامية عامة أو أصول فكرية تعبر عن اختيارات بحثية في التأمل الحر والمستقل في المعرفة. لا يميز مثلا بين توجيه الآيات القادحة في عصمة الأنبياء من قبل باحث مؤمن بفكرة العصمة كأصل موضوعي، وذاك الذي يحاول فهم تلك الأيات ذاتها، أو غيرها، على أساس سياقات اللغة وأبحاث الدلالة ووقائع التاريخ.
رابعا: يحق لنا أن نسائل القائمين على هذا المشروع ما هي دوافعهم وراء هذا المقترح في التعاطي مع تراثنا؟! هل هو الحرص العلمي على فهمٍ أفضل لتاريخنا الفكري أو الحرص الطائفي على زيادة تعميق الفجوة بين الطوائف بفعل الإيمان الأعمى بأنهم على حق وما سواهم على باطل؟ لماذا يهمل هؤلاء حقيقة أن علماء المسلمين وإن اختلفوا فيما بينهم مذهبيا فإنهم ما كانوا يردون آراء بعضهم البعض إلا في "خصوص" تلك المسائل التي يرفضون فيها صحة أدلة المخالف وسلامتها علميا أو يَرَوْن أن رأيه مؤسس على فكرة أو أصل مذهبي لا يعترفون به أو يعدّونه بطلاناً؟!
خامساً: بدل محاولة تجذير الخلافات بين المسلمين وإدامتها من خلال الطعن والتشكيك في نزاهة وأمانة وصدق بعضهم البعض، وبدل استحداث قطيعة معرفية على أسس طائفية تعيق التواصل المعرفي وترسي دعائم الصراع والتناحر بين المذاهب في مجتمعاتنا المختلطة، يجدر بِنَا أن نفكر بمعايير أوسع وأعمق في فهم وتحليل تراث المسلمين وتحولات حياتهم السياسية والاجتماعية. ليس من الصحيح رسم صورة وردية عن مجريات ولادة وتكوين ديانة المسلمين وتاريخهم العقائدي والسياسي والاجتماعي (وهذا هو المقترح الذي نادى به دعاة التقريب بين المسلمين في الثلثين الأولين من القرن العشرين)، كما ليس من الصحيح ما يفعله دعاة "تطييف التراث" منذ الثلث الأخير من القرن العشرين وما بعده حتى اليوم، إنما الصحيح هو تجاوز المقترحين معا. ولكن السؤال هو كيف؟ وبأي معنى؟
سادسا: ماذا يعني التفكير بالإسلام خارج الإشكالية الطائفية وكيف نحقق ذلك؟ تجاوز الإشكالية الطائفية في دراسة التراث لا يعني إلغاء وجود التعصبات المؤسسة على الإيمان بالطوائف أو إنكار وجود الانحياز لسرديات معينة في العقيدة والتاريخ والفقه وغير ذلك، إذ هذه التعصبات والانحيازات باتت جزءا معروفا من تاريخ الممارسة الاجتهادية للمسلمين في فهم الإسلام، ولا أحد يستطيع أن يخفيها أو يتجاهلها. كما لا يعني تجاوز هذه الإشكالية دعوة الناس إلى التنصل من مذاهبهم وانتماءاتهم العقدية؛ لأننا نعلم أن هذه الدعوة غير عملية ولا ممكنة (في المدى المنظور على الأقل)، وإنما تجاوز هذه الإشكالية يعني التفكيرُ "فيها" كواحدة من مكونات تاريخ الفكر الإسلامي لا التفكير "بها" كموجّه لهذا التاريخ وأساسا للنظر فيه. والفرق بين النظر للتراث كنتيجة لصراعات السلطة والمال والقوة والنفوذ وامتلاك الحقيقة أو النظر إليه كموجه في استكشاف تلك الصراعات ومعرفتها وتحديد الموقف منها هو الفرق بين إنسان يبقى أسيرا لتلك الصراعات وما تمليه عليه وإنسان آخر حرر نفسها منها. وتحرير الإنسان لنفسه من توجيه المعيار الطائفي إنما يكون بإدراكه أن هذا المعيار الطائفي كان جزءا من موقف قديم يتناسب مع عصره في فهم الحياة وأولوياتها وقيمها وأسباب الخلاف فيها وموازين ما هو صحيح أو خاطئ فيها. ومن لا يقبل بالمعيار الطائفي اليوم هو في الواقع شخص يرفض أن يجعل من فهم قديم للحياة، ومنطق قديم للصراعات، ومنظومة قديمة للقيم، وأسباب قديمة للخلاف، وقائمة قديمة من الاحتياجات، وآليات قديمة لفض النزاعات، معبّرة أو حاكمة على فهمه ومنطقه ومنظومته وأسبابه وقائمته وآلياته الحديثة للحياة.
من يرفض الخضوع للنظرة الطائفية هو فقط من يلتزم بتحويل ذلك التراث وكل ما فيه إلى "مادة بحثية" يدرسها على ضوء بديهيات حياته المعاصرة بكل ما تعنيه هذه البديهيات من منهجيات معرفية وقيم أخلاقية وقواعد للاجتماع السياسي والثقافي. أما من يجعل من التراث ومنهجياته وقيمه وقواعده معيارًا يلجأ إليه، فهو شخص قرر بمحض إرادته أن يعيش خارج عصره أو أراد إدارة عصره بمنطق عقيم لا يخدم أغراض وأهداف الحياة التي نعيشها اليوم. يجب أن نصدق بوجود خلافات طائفية أو دينية وقعت في الماضي، ولكن يجب أيضاً، ولي الآن ذاته، أن نرفض الخضوع إلى ما يقوله هؤلاء المختلفون عن دوافعهم وعما يرونه صحيحا أو خاطئا، مهمّاً أو عديم القيمة؛ لأن تحديد الدوافع وشرح مناشيء الصراع ومعايير ما هو الصح وما له قيمة إنما نحدده نحن اليوم وليس ما يقولونه هم بالأمس.
الخلل في مشروع "تطييف التراث" ليس فقط في إثارته مشاكل لسنا جزءا منها، وإنما في إرغامنا على الإمتناع عن القول فيها بما تمليه عليه معرفتنا المعاصرة. وحال أصحاب هذا المشروع كحال من يريد أن يشيد لك بيتاً دون أن يسمح لك أن تعرب عن رأيك في مواد البناء وتصميم البيت وخطة بنائه!!!



#علي_المَدَن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سَلْ مُجرِّباً ولا تسأل حكيماً
- قانون الأحوال الشخصية من دولة المواطنة إلى دولة المكونات
- الحلم الكردي كمشروع إنقاذ


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي المَدَن - تطييف التراث