أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - رحيم العراقي - مملكة الاخلاق















المزيد.....

مملكة الاخلاق


رحيم العراقي

الحوار المتمدن-العدد: 1496 - 2006 / 3 / 21 - 10:47
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


كريستوف دونير، مؤلف هذا الكتاب، هو صاحب «ذهنية الثأر» اي الكتاب الذي نال شهرة كبيرة في فرنسا وتحدث فيه عن تجربته مع اسرته حيث وصف الجد بأنه «رجل عصابي» والأم بأنها قد حولت منزل الاسرة الى «أرض للقلق الصرف».
واذا كان كريستوف دونير قد حلل في كتابه الاول واقع الاسرة المتفسخ في اطار علاقات المجتمع الاستهلاكي فإنه يغوص في هذا العمل الجديد «مملكة الاخلاق» اكثر في البحث عن اصول «الشرور» في مجتمعه وحيث يجد جذرين رئيسيين هما، بالنسبة لحالته على الاقل الشيوعية والتحليل النفسي.
وتجدر الاشارة منذ البداية الى ان هذا الكاتب الذي حاز على شهرة واسعة منذ عمله الاول يقدم نوعاً جديداً في اسلوب الكتابة اذ انه لا يهتم ابدا بأية بلاغة او صنعة وانما يتبنى اسلوب الكتابة المباشرة فكل ما يهمه على حد تعبيره هو الحقيقة اذ حلم بأن يصبح ممثل ادب الواقع في عصره.. بل انه لم يتردد في ان يصف الادب بأنه محاكاة للواقع وبأن رهانه الوحيد هو رسم الواقع كما هو وبالتالي ينبغي ان يحتوي أي عمل كتابي على بعد من السيرة الذاتية لصاحبه وان يكون نوعا من يومياته.
في هذا الكتاب يقدم المؤلف في واقع الامر محطات رئيسية من سيرة حياته بكل دقائقها وتفاصيلها ولحظاتها الحميمة دون اية مواربة الى درجة يقترب فيها من خدش كل قيم المملكة الاخلاقية السائدة.. انه يصل الى الخطوط الحمراء لكنه لا يتجاوزها وانما يمشي عليها وكأنه اختار ان يجعل الخطر مهنته، ألا يقال بأن الحقيقة تضج اما هو فيكاد ان يقول عنها بأنها لا تخجل ولذلك ينبغي قولها ولو اثارت فضيحة.
واذا كان كريستوف دونير يتحدث بكل صراحة ووضوح عن اسباب نفوره من افراد اسرته الجد والعم والأم فإنه يبحث في هذا العمل عن تصفية حساباته بشكل خاص مع ابيه الشيوعي الستاليني الذي اراد ان يصيغ العالم تبعا لقواعد ثابتة وان يلوي عنق الحقيقة باسم «قوانين التاريخ» هذا الاب مارس ـ كما يصفه المؤلف ـ الابن نوعاً من الدكتاتورية الستالينية التي قمعت لدى الطفل كل اشكال الابداع الممكنة وشكلت سدا امام مخيلته.. ومن هنا يبدو هذا الكتاب «مملكة الاخلاق» والكتاب الآخر ذهنية الثأر بمثابة محاولة لتجاوز الكوابح التي صنعها الماضي الاسري وذلك عبر البوح بها اي التحرر منها.
ان هذا الموقف الناقم حيال شخصية الأب ليس جديداً على الادب ولعل المثال الصارخ على مثل هذه العلاقة التنافرية قد رسمه الرئيس الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير صاحب احد اهم الروائع الادبية العالمية اي «مدام بوفاري» وذلك في كتابه الشهير «أبله القرية».
و«ابله القرية» هذا لم يكن سوى الصورة التي رسمه بها والده عندما رأى به «ابن القرية» كما نعته وحيث ان مثل هذا الوصف قد شكل لديه عقدة نفسية تمت ترجمتها في سلوكياته بنوع من الخوف الدائم حيال اي علاقة مع الآخرين وخاصة على صعيد العلاقة مع الجنس الآخر.. وهكذا اسقط فلوبير كل رغباته الدفينة في الخروج على المألوف عبر شخصية مدام بوفاري نفسها.. ولم يتردد في القول باحدى مقابلاته «مدام بوفاري هي أنا».
وعلى خلفية العلاقة مع الأب وفيما هو ابعد منه مع الجد الذي كان هو الآخر شيوعيا ستالينيا يقوم مؤلف هذا الكتاب كريستوف دونير، بنوع من المرافعة ضد الشيوعية باعتبارها احد المصادر الاساسية لـ «الشرور» خلال القرن العشرين.. انه يصل من خلال مرافعته والمزج بين الخاص والعام بين حياته وسط اسرة شيوعية وبين المسار السياسي العالمي للشيوعية الدولية الى نوع من الادانة الصارمة لكل اشكال الفكر الستاليني الذي يرى به ايضا احد المصادر الاساسية ل«العنف المتزمت» القائم على خلفية ايديولوجية، وبهذا المعنى يصف المؤلف على مدى صفحات عديدة من هذا الكتاب الكيفية التي كانت تردد فيها «القبيلة» ويقصد بهذه القبيلة اباه وجده ـ وهي تردد «النشيد الاممى» في كل مناسبة بل وبدون مناسبة ويصف جده استاذ الرياضيات السابق بأنه طاغية متقاعد يؤمن بشكل كامل بفضائل دكتاتورية الطبقة العاملة ـ البروليتاريا وبأنها السبيل الامثل لتأمين مناخ الحرية ويتم التأكيد في هذا السياق على ان الفكر المتعصب والمتزمت يؤدي الى نفس النمط من التفكير مهما كانت مرجعياته الايديولوجية وليس فقط الى نفس النمط من التفكير وانما ايضا الى نفس النمط من ممارسة العنف الايديولوجي.
وتتبدى ملامح الفكر الشيوعي المتزمت اكثر في شخصية الاب نفسه والذي كان مصابا كما يراه المؤلف الابن بنوع من العماء الايديولوجي بحيث انه قد جعل علة حياته، العمل من اجل القيام بقطيعة كاملة مع كل ما هو برجوازي على اساس انه فاسد ومفسد. والقطيعة ايضا مع الكنيسة ومع كل ما هو روحاني على اساس ان مثل الانتماءات انما هي الاخرى ذات طبيعة رأسمالية وانها تكرس هيمنة السلطات البرجوازية القائمة باسم مقولات بعيدة عن المادية التاريخية وبهذا المعنى بدا ذلك الاب لا يرى سوى ذاته وبعيداً تماماً عن الواقع وبأن بينه وبين الواقع مسافة هي الواقع ذاته، بل ان ذلك الأب اقام ايضا قطيعة مع الاشكال الاخرى غير تلك التي يؤمن بها من الفكر الماركسي وهكذا اعلن الحرب على التروتسكية والماوية واعتبرهما تماما كما تنص المقولات الستالينية بمثابة انحراف عن النهج الصحيح، «النهج الماركسي ـ اللينيني» ومقابل هذا كله كانت صور لينين تملأ جدران المنزل العائلي للأب او الجد ايضا على اساس انه رمز لـ «التقدم» و«التحرر».
الامر الذي لم يكن في حقيقته كما يرى مؤلف هذا الكتاب، سوى نوع «الضحية» في العلاقات. وبناء على ما سبق كله يوجه المؤلف نقداً شديداً للحزب الشيوعي الفرنسي الذي يصفه بأنه حزب ستاليني استوحى مواقفه من توجيهات المركز في موسكو دون الاهتمام الحقيقي بواقع المجتمع الفرنسي ذاته، لذلك يرى بأن هذا الحزب انما هو مجرد تجميع لـ «قتلة في حالة كمون» بحيث يمكنهم الانتقال من حالة الكمون هذه الى حالة الفعل، هذا ما يصل اليه المؤلف عبر قراءته للمواقف التاريخية للحزب الشيوعي الفرنسي.
ومن الملفت للانتباه ان دار نشر غراسيه الباريسية التي اصدرت هذا الكتاب قد اختارت ان تزين غلافه بشريط قالت فيه بأن «ابن المنجل والمطرقة»، اي الشعار الشيوعي يصفي في هذا العمل حساباته مع من يسميهم القتلة في حالة كمون ومع الارثوذكسية الماركسية ومع التحليل النفسي.
وبالمقابل يبدي المؤلف اعجابه الشديد بالفكر اليوناني القديم وبـ «عوالمه الاخلاقية» وخاصة مقولات سوفوكليس. انه يبني على قاعدة مثل هذا الاعجاب رؤية فلسفية جريئة لـ «بروز الاخلاقيات القديمة» من جديد والتي يكفي ان تشكل غذاء للنفس، ويرى ان مفاهيم الخير والشر هي التي قادته بنفس الوقت الى نوع من استلاب الارادة بل والى نوع من الهلوسات التي قاربت حد الجنون.
وعلى قاعدة مثل هذه الهلوسات يبرز مصدر الشر الآخر الذي عرفه القرن العشرين والذي يتمثل كما يقدمه المؤلف في التحليل النفسي. ان مؤلف هذا الكتاب يرفض بشكل قاطع الانصياع الكامل الذي ابدته امه حيال مقولات سيغموند فرويد أب التحليل النفسي، وايضا حيال احد كبار ممثليه في فرنسا اي «جاك لاكان».
ولا يحدد المؤلف رفضه بالمقولة السائدة حول الغريزة الجنسية المكبوتة، الغريزة بالنسبة لفرويد وانما يحاول ان ينسف اسطورة التحليل النفسي من جذورها والتي تمثل منظومة تؤكد باستمرار على ان «الاطفال هم مخطئون دائما» وهنا ايضا يتداخل الخاص والعام في عمل كريستوف دونير حول مملكة الاخلاق اذ انه يسعى بنفس الوقت الى ان يحلل علاقته السيئة مع امه، المولعة بالتحليل النفسي، وان يفند الارث الفرويدي الذي شكل احد مصادر «المعرفة» في القرن العشرين.. لكنها «معرفة» مشوبة بالاخطاء والمعلومات المغلوطة منذ الاصل.
ان المؤلف يرفض بشكل قاطع المقولة المعروفة التي تشكل احد اسس الفكر الفرويدي والمتعلقة بـ «عقدة اوديب» والتي تقيم نوعا من «العلاقة الثنائية» بين الابناء والآباء على قاعدة مستلزمات اللاوعي، هذه العقدة ليست بنظر كريستوف دونير سوى احد منتوجات اسوأ المخيلات.. وبالتالي يبدو سيغموند فرويد بمثابة مزور للحقائق اقام نظرياته على اساس تحكم اللاوعي بسلوكيات البشر.. ولكن ما هو اللاوعي؟ اللاوعي هو مجرد خرافة شريرة ترمي الى زرع الشقاق والفوضى بين البشر. وهكذا يجيب مؤلف هذا الكتاب ان مثل هذه الادانة لمفهوم اللاوعي وللنظرية الفرويدية انما تعني رفضه لمختلف التبريرات التي تعتمد مثل هذه النظرية لتفسير العنف في العالم! بعد تشريح العلاقات مع العائلة وتفنيد مساويء الشيوعية والتحليل النفسي كمصدرين للشرور في القرن العشرين وتبدياتهما في سيرته الشخصية، يحاول المؤلف في نهاية المطاف ايجاد مخرج له من المنفى العقلي الذي وجد نفسه به ولا يتردد في ان يكون قاسيا مع اولئك الذين كانوا قساة معه، الجد والاب والأم والأخت ايضا.. لقد اراد، كما يؤكد بأكثر من صورة التخلص من عالم الكذب الذي احاط به والبحث عن حقائق العالم القائم.
هذا كتاب يعود فيه مؤلفه الى الماضي، ماضيه كي يجعل مشهد الحقبة كلها اكثر وضوحا. انه يعود الى طفولته وهو الذي قدم العديد من الكتب لـ «الاطفال» ليؤكد بأن هناك اساسا بيولوجيا للأخلاق.. ويرى ان الفن هو وسيلة لـ «تقنين العنف واحتوائه ورفضه» انه اي الفن فوق صغائر البشر.
يكتب المؤلف في احد مقاطع مملكة الاخلاق ما يلي: هل من الممكن ألا يغدو هناك حب ومشاعر، بل اشكال من المقت ومن النظريات حول العلاقات الانسانية؟ فما الذي انقذني؟ انها الصدفة والحظ ثم الآخرون وخاصة الآخرون انهم يساعدون الانسان الجريح وينجدونه بالغريزة والحب حيال ما هو انساني، انني لا أدري سوى هذا.
ان المؤلف يتحدث عن نفسه كي يتحدث في الواقع، عن الآخرين.. الآخرون الذين قال عنهم جان بول سارتر ذات يوم «الآخرون هم الجحيم، ولكنهم هم سبيلنا للوصول الى ذواتنا».



#رحيم_العراقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول العولمة
- نظرات جديدة للتاريخ الأميركي في عصر العولمة
- النساء الايرانيات بين الاسلام والدولة والاسرة
- العولمة، الحركات الاجتماعية، والأمميات الجديدة
- تجربة الحروب الصليبية
- القصة العائلية لسيغموند فرويد
- تاريخ الفكر الفرنسي في القرن العشرين
- بوشكين
- أمرأة حكمت الهند..
- في بيتنا خادمة
- الروحانيون
- خاتمة السو ء...
- الفن والمجتمع
- يهود الجزيرة العربية
- من التعايش الى تحالف الحضارات
- فيلم لم يفهمه الجمهور
- لن يُصلب المسيح من جديد
- عنزة في حديقة إدوارد ألبي
- إدغار ألن بو..قصائده وتنظيره للشعر
- القصة العائلية لفرويد


المزيد.....




- لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق ...
- بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
- هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات- ...
- نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين ...
- أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا ...
- الفصل الخامس والسبعون - أمين
- السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال ...
- رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
- مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - رحيم العراقي - مملكة الاخلاق