هاني عبد الفتاح
الحوار المتمدن-العدد: 5882 - 2018 / 5 / 24 - 05:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كان زكي نجيب محمود الذي كانَ حلقةَ الوصلِ بين جيلينِ, جيلِ الأساتذةِ , أمثال محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وأحمد لطفي السيد, وجيلِ المعاصرين ؛ أمثال فؤاد زكريا وإمام عبد الفتاح وحسن حنفي.
وإن كان سقراط_كما قال شيشرون_ قد "أنزلَ الفلسفةَ من السماءِ إلي الأرضِ" أي أنه قد جعلَ موضوعَ بحثِها هو "الإنسان" بدلا من "الوجودِ المطلق", فيمكنني أن أقولَ ,علي هذا المنوال؛ إن زكي نجيب محمود قد أخرجَ الفلسفةَ من ضيقِ الغُموضِ والتعقيدِ إلي سِعَةِ البساطةِ والوضوح, ومن جفوةِ الجُملة الأكاديمية إلي رشاقةِ العبارةِ الأدبيةِ, فإنك لتقرأ عندما تقرأ له أدبًا وفلسفةً في آن واحد , حتي أًطلق عليه بأنه "أديب الفلاسفة", كما أًطلق علي أبو حيان التوحيدي بأنه "فيلسوف الأدباء".
وزكي نجيب محمود هو كما نعرف, هو رائدُ الوضعيةً المنطقية في الوطن العربي, ومعلومُ أيضا أن عُقرَ دارِ الوضعيةِ المنطقية كانت انجلترا, والتي مكث فيها مفكرنا قُرابة العشر سنوات.. الأمر الذي جعله متعصبًا شديدَ التعصبِ للفكرة القائلة بأنه "لا قيامَ لنهضة ولا تقدم إلا بالقطيعة مع الماضي والتراث قطيعةً تامةً" , أو على حد تعبيره حينما قال: " أن نسيرَ على خُطى الغربِ, فنأكلْ كما يأكلون, ونلعب كما يلعبون , ونكتب من اليسارِ إلي اليمينِ كما يكتبون".
وبرأيي , فإن مشروع زكي نجيب محمود يتلخص في أربعة محاور هم مرتكزات مشروعه وآلياته في التجديد.
المحور الأول: صراع الأصيل والوافد:
وهو يعتبر ملمحٌ مهمٌ لمعرفةِ موقفَ زكي نجيب محمود الأخير وتجربته النهائية مع التراث, فيقول بعد أن مكث فترة غيرَ قليلةٍ في انجلترا, ثم عاد إلى الثقافة العربية والإسلامية مرة أخرى من جديد, فشرعَ يقرأ ويقرأ, ويعبُ من صحائفِ التراث, بدافعِ البحثِ تارةً , وبدافع النقد تارة أخرى, فطفقَ يلملمُ من التراث كما يلملمُ المسافرُ حقيبتَه مسرعاً ليلحق بالقطار خشيةَ أن يفوته.
فبدا موقفُه يتزحزحُ شيئا فشيئا, من الوقوف على الطرف إلى الوسط قليلا قليلا, ليقف موقفا وسطيا نقديا من الأصيلِ والوافدِ معا.
ويبدأ زكي نجيب محمود في أن يمرر سؤالا في البداية غاية في الأهمية, ربما الإجابة عليه تنازع عليها الكثيرون, بل وربما حري بأي متعرض لمشكلة التراث أن يسأل نفسه هذا السؤال, فيقول :" ماذا عسانا أن نأخذَ من تراثِ الأقدمين وماذا عسانا أن ترك ؟"ومثلُه نقول في قيمِ الثقافةِ الجديدة الوافدة؟
ويجيبُ زكي نجيب محمود على هذا السؤال بإجابةِ مباشرةٍ, فيقول "أن نأخذَ من تراثِ الأقدمين ما نستطيعُ تطبيقه اليومَ تطبيقا عمليًا, وما عدا ذلك فمكانِه رفوفُ الماضي الذي لا يُعني بها إلا المؤرخون".
المحور الثاني: عقباتٌ على طريق التجديد: إن طُريقَ التغييرِ والسيرِ نحو التجديدِ طريقٌ صعبٌ بلاشك, يحتاجُ لكثيرٍ من الجرأةٍ والحكمةٍ أيضا, ومن أهم العقباتِ التي تواجهُ مشروعَ التجديدِ ثلاثةٌ , ذكرها المؤلف فقال:
أولا: استبدادُ الحاكمِ بالرأيِ: إذ إنَّ أُس البلاء في مجالِ الفكر هو أن يجتمعَ السيفُ والرأيُ في يدٍ واحدة.
ثانيا: سلطانُ الماضي علي الحاضر, وأن نميلَ إلي الدورانِ فيما قالوه السلف , ونعيدُ ما أعادوه ألف مرةٍ , ونكتفي بالشروحِ و بالتعليقاتِ والحواشي دون خلق أو إبداعٍ جديد.
ثالثا: تعطيلُ القوانينَ الطبيعيةِ بالكرامات, فالفرقُ بينَ العلمِ والخرافةِ؛ أنّ العلمَ عندما يُجابهُ مشكلاتِ الحياة , يذهبُ للعلة مباشرةً ليستأصلها, أما الخرافي فيلجأ إلى الجن والعفاريت , ودقِ الطبولَ وحرقِ البخورَ وكتابةِ الأحجبةَ والتمائمَ . فكيف يمكن لنا إذن أن نتعاملَ مع الواقع بهذه الأساليب الواهمة, ونحن نرى إلى الآن على شاشاتِ التلفزيون أن الشيخَ يستطيعُ إرجاعَ الزوجةَ إلى أحضانِ زوجها ببعضِ الأدعيةِ والتمائمِ, وأنا أتساءل , فلماذا هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم ويحلوا لنا مشاكلَ البطالةِ الاقتصادِ!
المحور الثالث: " ضرورةُ التحولِ "
من فكرٍ قديمٍ إلي فكرٍ جديدٍ :
ومن اللغةِ القديمةِ إلى لغةٍ حديثةٍ , فاللغةُ مرآةُ الفكرِ , والفكرُ إذا تجدد طلبَ بدورهِ لغةً جديدةً, والإسلام حينما جاء بفكرةٍ جديدةٍ جاء معها بلغةٍ جديدةٍ , فلم يكن العربُ يعرفون قبل الإسلامِ مصطلحاتٍ مثلَ الحساب, أو القيامة, أو الآخرة .
أيضا التحولُ من حضارةِ "الكلمةِ" إلي حضارةِ "العملِ", ومن حضارةِ (اللفظِ) إلي حضارةِ (الأداءِ). إن العربيَ خيرُ من يتكلم, وعبقريتُه في لغتِه, والشعرُ أصدقُ دليلُ على ذلك, لكنك إذا نزلتَ إلي أرضِ الواقعِ رأيتَ " القولَ في وادٍ والعملَ في وادٍ آخر".
المحور الرابع : قيمٌ باقيةٌ من تراثِنا:
قيمةٌ العقل في تراثنا, قيمة ثمينة , يتميز بها الفكر الإسلامي , "حتى لقد كانَ للفيلسوف محمد إقبال ملاحظةً جديرةً بالنظر, أوردها في كتابة " التجديد في الفكر الإسلامي" مؤداها ؛ لماذا النبي محمد عليه السلام خاتم الأنبياء, ورسالتَه آخر الرسالات, والإجابة : لأنه جاء ليدعوا إلي تحكيم (العقل) فيما يُعرُضُ للناسِ من مشكلات , وما دمتَ قد ركنتَ إلي العقلِ , فلم تَعدْ بحاجةٍ إلي هدايةٍ سوي ما يمليه عليك من العقلُ أحكامٍ , أليسَ العقلُ كما يقول الجاحظ (هو وكيلُ اللهِ في الإنسان)!"
على أية.. إذا شئنا أن نلخصَ مشروعَ زكي نجيب محمود في كلماتٍ فسوف نقول "العلمُ ثم العلمُ ثم العلمُ".
فيقول في أحد كتبه : "أنا مؤمنٌ بالعلمِ, كافرٌ بهذا اللغو الذي لا يُجدي علي أصحابِه ولا علي الناسِ شيءٌ, وعندي أن الأمةَ تأخذُ بنصيبٍ من المدنيّةِ بمقدارِ ما تأخذَ بنصيبٍ من العلم".
#هاني_عبد_الفتاح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟