أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح- الذروة في الحضارة العبودية 3- ظهور ميديا - الفرس ، ومفترق الطرق بين الشرق والغرب 1-17















المزيد.....



من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح- الذروة في الحضارة العبودية 3- ظهور ميديا - الفرس ، ومفترق الطرق بين الشرق والغرب 1-17


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1494 - 2006 / 3 / 19 - 11:27
المحور: القضية الكردية
    


إن تعرض شعوب الشرق الأوسط وثقافاتهم لسياسة القمع والترحال والتي لم يعرف لها مثيل في أي مرحلة تاريخية، ترك آثاراً عميقة في البنية الذهنية والروحية للإنسانية بالقدر الذي مهدت السبيل أمام أزمة عميقة، وهذا ما بدا واضحاً في نهاية الهيمنة الآشورية حيث أخذت الروح تشتاق إلى التحرر والبحث عن نظام بديل. ففي حين مهدت هذه الجهود الموجهة الطريق أمام الأديان التوحيدية التي تبشر بالشفاعة والتحرر وأمام المجموعات الصوفية من جهة، جلبت معها من جهة أخرى تباين الشرق ـ الغرب في مواقفها الحضارية.
فديار ميديا التي لاقى الآشوريون صعوبة في إخضاعها، طورت الأنظمة والطرق التي من شأنها ان تنقذها من القهر وذلك بالاستناد الى قوة بنيان التراث الخاص بشعب الاورارتو، وبهذا المعنى يتضمن تقييم مجموعات الميديين باعتبارهم قوم جاؤوا من شمال شرق إيران ـ ما وراء الخزر ـ خطأ كبير، بل على العكس، يعتبر الميديون من المجموعات الآرية صاحبة الثقافة النواة في الهلال الخصيب، وظهروا على مسرح التاريخ باكتسابهم اسماً جديدأ في عصر الآشوريين وجوهراً إيديولوجياً خاصاً قائماً على الإرادة القوية التي ولدتها المقاومة التي استمرت فترة طويلة. للإمبراطورية انبعاثاً جديداً وانتشاراً وذلك اعتباراً من 1000 ق.م، كرد فعل على الظلم الآشوري.
اتحدت القبائل العبرية لأول مرة ووصلت إلى بناء مملكة في عهود "شاوول، داوود، سليمان". كما انتصر الهلينيون على طروادة ووضعوا أساس حضارة جديدة على شكل دولة مدينة أثينا. وأدى سحق المقاومات القائمة على أساس الإمارات الأثنية وتطوير الناس المشردين لعقائد وعادات سرية خارجة عن الخصائص الأثنية، إلى الدخول في مرحلة تشكل الطرائق. فمفهوم البحث عن إنقاذ الذات لدى كل شخص وكل مجموعة يدفع دائماً إلى تشكل النسيج الاجتماعي لهذا النموذج من الميول الصوفية.
ويعد البحث الذي يقوم به الكهنة الذين أطلق عليهم اسم المغان "Mag" في ميديا جزءاً من هذه النزعة العامة. فقد كان الكهنة المغان يمثلون إيديولوجية التحرر والتكتل. أما جوانب التجديد عند المغان فقد كانت تتمثل في كونهم قاموا بتركيب المفاهيم الدينية الآرية مع الميثولوجية السومرية، واتخذوا موقفاً ذا نزعة تحررية وأكثر قرباً من الإنسان. وهكذا فأن الولادة الميثولوجية ضرورية جداً وتحظى بالأولوية في كل تطور حضاري جاد، إذ لا يمكن حدوث انطلاقة حضارية جديدة دون تجاوز ميثولوجيا النظام السائد ومفاهيمه الدينية، وسيتم تطوير حركة اجتماعية وسياسية جديدة بعد مرحلة العطاء التي امتازت بتفوق الجانب المثيولوجي والتي استمرت فترة طويلة، فهي تكاد تلعب دور الوقود والتشحيم الضروريان. وربما تكون الجغرافيا المترامية الأطراف لميديا وثقافة المقاومة المديدة قد شكلتا مصدر إلهام إيديولوجي للرهبان المغان. فبالإضافة لكونهم تأثروا بالسومريين وبالمفاهيم الدينية الطبيعية للآريين فقد قاموا بتأمين انسجام بين الجديد والمحلي، مقدمين بذلك رداً عليهم عن طريق إجراء عملية تبني جديدة. ومن الممكن تقييم مقاومة "كاوا الحداد" أيضاً باعتبارها الجانب التطبيقي الملحمي لهذه النزعة مثلها مثل "داؤود الحداد" لدى العبرانيين في نفس المرحلة، وكذلك يلعب "أخيليوس" نفس الدور البطولي لدى الهلينيين. من الممكن هنا الحديث عن تشابه مذهل إلى أبعد حد، لكن في هذه المرحلة تعد الجبهة الإيديولوجية هي الجانب الأقوى ويمثلها الكهنة، وفي الفترة نفسها نجد أن الكهنة البراهمانيين في الهند يمثلون هذه النزعة بشكل قوي، وأما كهنة المغان الميديين فإنهم يقومون بتمثيل هذه النزعة التاريخية في ساحة استراتيجية اعتباراً من 1000 ق.م. ولكن رغم الوصول إلى قوة سلطة أقرب إلى مستوى الإمارة التي تدعى "كاوي مير" Kavi-Mirفي البنية الأثنية، إلا أنه لا يمكن رؤية تشكل مجتمع طبقي وتكون دولة؛ فمادامت العشائر تحافظ على وجودها لا يمكن ممارسة سياسة تتجاوز الطراز الأميري، وأكثر ما كان يمكن القيام به هو إقامة كونفدراليات عشائرية، وغالباً ما كانت المكانة السياسية والاجتماعية لقبائل الميد في ميديا ولقبائل الفرس في جنوب غرب إيران ووسطها في عام 1000 ق.م، بهذا الشكل السياسي والاجتماعي مثل العديد من القبائل الأخرى. فقد كان يشاهد في البنى الميثولوجية والدينية نظام في أعلى الهرم مكون من ثلاثة أرباب، وعلى العموم كانت هذه الأنظمة الثلاثية تعتمد على تمجيد ثقافة الأب والأم والولد القوي باعتبارها دين ذكوري، وبالرغم من كل التباينات في التمثيل والرموز فإنه يمكن رصد تطور ديني له نفس الاتجاه لدى التكتلات الموجودة في هذه المناطق القريبة والموجودة ضمن حضارة هذه المرحلة، حيث كان يطلق اسم إندرا ـ ميترا ـ فارونا، على هذا النظام الثلاثي الموجود لدى المجموعات الآرية ـ الهندية التي لم تتفرع بعد في أعوام 1500 ق.م. وفي الألواح الموقعة والعائدة للدولة الميتانية والحثية كان يتم القسم باسم هذه الآلهة الثلاثة.

كلما تعرضت الثقافة المشتركة في المناطق المحلية لعملية تحول، يزداد التمايز الميثولوجي، وتعبر هذه الميزة عن نفسها بالتسميات التي تطلق على الإله، وسيقدم زرادشت اعظم إسهام للإصلاح الميثولوجي في ميديا، وتتجلى الأهمية العظيمة لشخصية زرادشت الذي عاش على أغلب الظن في عام 600ق.م، في أن الإصلاح الذي أنجزه كان الأقوى والأقدم من الإصلاح الأخلاقي الكبير الذي قام به كل من كونفوشيوس في الصين وبوذا في الهند وسقراط عند الإغريق. وبسبب مفهوم العباد والعبيد المطلق الذي مثلوه في الميثولوجية السومرية والمصرية وفي المفاهيم التي تستند عليها، فإن الإنسان العبد العاجز والمسلوب الإرادة هو الأساس، ولا يمكن أن يكون للإنسان حتى ظلاً خاصاً به، فكل شيء يأتي من الرب، هذا يعني أن إرادة طبقة الأسياد الصاعدة مطلقة ومقدسة، ولا يمكن أن يمتلك الإنسان ظلاً دون إذن، كانت هذه الأيديولوجية مهيمنة على البنية الذهنية والروحية لتلك المرحلة، وكانت النتيجة السياسة لهذه الأيديولوجية هي نظام الرب ـ الملك، ونظام الأمر الذي لا حدود له، فكل كلمة يقولها الملك لها قيمة قانونية، وهكذا فان زرادشت كان الأسبق من بين جميع المصلحين في تصديع هذه القوالب الأيديولوجية المهيمنة.
يسود Gatha زرادشت ( كلام زرادشت؛ = gotin الكلمة بالكردية) أسلوب توسل وكأنه يستجوب الآلهة، وفي الحقيقة كان يحاكم الأيديولوجية التي كانت سائدة في تلك الفترة. إنه يقوم بذلك بإرادة متمردة وبوضوح وبجرأة لا مثيل لها، فلا توجد أوامر إلهية أحادية الجانب، بل إننا نقف وجهاً لوجه أمام طابع ذو ارادة تحاكم ولا تتخلى عن نيل الجواب، حتى ذلك العهد لم يقم احد من بني البشر ومن ضمنهم الملك باستجواب الإله، وأول من حقق ذلك هو زرادشت، في الحقيقة إنه يضع هذه "الأولوية" ضد دين الطبيعة البدائي من جهة، وضد التقليد الديني السومري ذو الإله المطلق الحاكم من جهة أخرى. لقد فهم الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه معنى هذه الانطلاقة التاريخية واستوعبها بعمق ولم يطلق عبثاً عنوان " هكذا تكلم زرادشت " على أثره الشهير، ليمهد الطريق أمام إرادة الإنسان السامية عن طريق خرق الأيديولوجية التي تحتضن النظام بأكمله والسائدة خلال مراحل تدفق الحضارة وهو عبارة عن إحدى أكبر الثورات الإيديولوجية، فتعنيف الإله بقوله " أنا موجود، وأقول لك، رد علي " عبارة عن خطوة كبرى على مفترق الطريق ضمن إرادة وذهنية الإنسانية التي لم يكن يحق لها أن تكون حتى صاحبة لظلها لغاية تلك المرحلة، إنها أول صيحة تطالب بالحرية الفردية ضمن النظام السياسي والاجتماعي، وإنها زعزعة عصر الآلهة المطلقة المهيمنة وضد نظام الرق غير المحدود الذي يمثل هذه الآلهة وقسرها على القيام بعملية إصلاح.
انقسمت الحضارة الى فرعين في ميديا ـ البلد الذي عاش فيه زرادشت ـ بين تأليه نظام السلطة المطلقة لنفسها في كل من الهند والصين ومصر وفي العديد من الدويلات، وبين السياسة والإله المحدد بشكل جزئي بالجمهورية وبالعقل والذي كان سائداً في النظام الإغريقي ـ الروماني. إذ تكمن الانطلاقة الإصلاحية التي لعب زرادشت الدور الأكبر فيها لأول مرة وراء تطور هذين الفرعين الكبيرين للحضارة أو وراء ما أسميناه التمايز الشرقي ـ الغربي، وهي على الأقل تعتبر الخطوة التاريخية الكبرى الثانية التي تتحقق في دولة ميديا بقسرها على التغيير المتفرع لدرجة ولادة الحضارة. يضع زرادشت المصطلحات الموجودة في أيديولوجيته مثل النور ـ الظلام، والخير ـ الشر، والجنة ـ الجحيم، والجمال ـ القبح، والاستقامة ـ الانحراف، في مكانها المناسب، وقبل كل شيء لقد تم الوصول إلى مبدأ فلسفي أساسي: وهو مبدأ وجود الأضداد الذي لا يمكن أن يتم التطور بدونه، هذا المبدأ الذي أكدت العلوم المعاصرة صحته ويعبر عن القانون الذي يحرك كافة التطورات في الطبيعة وفي المجتمع، وهذا ما نطلق عليه مصطلح التبدل. فليس من السهل إخراج هذا التبدل من مجتمع يعيش تحت تأثير الإله المتفرد، غير مبدع، الذي لا يتحرك، وصاحب الذهنية المطلقة والذي يتصرف دائماً بسلوك أحادي الجانب .
إن البنى الروحية التي تمتلك ذهنية يمتد عمرها ثلاثة آلاف عام، وتعتمد على قوانين الطبيعة الخاصة بالزواحف للعصر النيوليثي وعلى قوانين الآلهة للحضارة العبودية التي يتم فرضها بحيث لا يمكن للإنسان حتى من تبني ظله، تغدو ثورة أخلاقية وذهنية ضعيفة جداً وذلك عندما يقول: "انهض وتبنى إرادتك وذهنيتك وكن محترماً ". وهذه هي مساهمة زرادشت في الحضارة التي تحققت وباتت تدرك أهميتها بشكل افضل مع الزمن.
إن وجود مصطلح إله الخير " أهورا ـ مازدا " ومصطلح إله الشر " أهريمان " في اعتقادات زرادشت، يعني إكساب هذه الحقيقة تعبيراً دينياً، الا ان هذا لا يشكل النقطة الأساسية في الأمر، ولأن المقولات الإيديولوجية لتلك المرحلة كانت تقتضي وجود مثل هذه القوالب، فإن زرادشت يلجأ الى استخدام نفس المصطلحات، وبهذا فما حققه يعد في جوهره عبارة عن ثورة فلسفية، وما حققه في المجتمع كان عبارة عن ثورة أخلاقية كبيرة. نعرف جيداً بعض النتائج التطبيقية لذلك، فقد كان يريد إنهاء تقليد التضحية بالحيوانات الذي كان سائداً والمتبقي من دين الطبيعة البدائي، حيث كان يحب الحيوانات كثيراً ويقول: علينا ألا نضحي بهذه الحيوانات التي تقدم لنا فوائد كثيرة في حياتنا. وفي الوقت ذاته يعد نبي الزراعة، فقد كان يولي أهمية كبيرة للزراعة، أي كان مولعاً بالزراعة. كما يعد العيش مع زوجة صاحبة صفات الكمال، امتلاكاً لأقوى تعبير أخلاقي للحياة. ويعتبر العيش المشترك مع زوجة تمتلك إرادتها الحرة وحسب مقاييس المساواة لهي أهم سعادة للإنسان، حيث لا نجد هذا المفهوم القيم للزوجة في أي نظام في عصره. كما ان له صلة وثيقة بالجهد، ولعله يعتبر أقوى ممثل لمفهوم السعادة المعتمدة على عرق الجبين، وكان متيماً بالنور والضياء، ومدركاً لجمال المرأة، كما جعل من مواجهة الظلام والبرد الميزة الأساسية لفلسفته.
لاشك بأن تحليل كلام " gatha" زرادشت وتحليل عقائده الدينية الخاصة به عمل يحتاج لخبير في هذا الموضوع، ولكن لا يوجد أدنى شك بأن الخطوط العريضة لفلسفته هي كما أوردناها سابقاً. من المعلوم أن مواقفه الفكرية والأخلاقية لم تكتمل، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنها لم تطبق بشكل كامل، وأنها لم تأخذ شكل النظام الاجتماعي، فإننا سندرك جيداً عظمة فكر زرادشت الذي يعتمد على الوصول إلى تركيب عن طريق صراع الأضداد، وعلى الدفاع عن حقوق الفرد الحر. و يجب أن نوضح أيضاً وباهتمام أن تأثيره لا زال قوياً جداً على تلك المجتمعات التي عاش فيها أو التي اثر عليها، ولم يتأخر زرادشت وأتباعه الذين يمثلون الزرادشتية من بعده في خلق النتائج السياسية.
عندما نقوم بتقييم الظروف السياسية والثقافية التي أعتمد عليها الميديون والفرس في انطلاقتهم، نجد بان تبني المعلومات الصحيحة بخطوطها العريضة هامة بقدر اهمية تخطي المفاهيم وأخطاء الأسلوب، وبعكس ذلك لن نستطيع فهم القيمة التحليلية لهذه الانطلاقة التي تمثل وضع المفتاح في الشرق الأوسط وتمثل مفترق الشرق والغرب بشكل صحيح. في الوقت الذي تفتح هذه الانطلاقة مرحلة جديدة، يتسارع تطور الحضارة الإغريقية الرومانية في الغرب، بينما في الشرق نرى أن الحضارة العبودية في الهند والصين لا تختنق مثل ما حدث لحضارة هارابا العبودية التي سبقتها بل على العكس انها تلعب دوراً رئيسياً أثناء دخولها في مرحلة النضج، حيث لعب ذلك التمايز دوراً أساسياً فيها.
إن الرأي الذي يلقى قبولاً بشكل عام يفيد بأنه لولا وجود هذه الحلقة لما كان للحضارة التي ازدهرت في الشرق والغرب أن تتحقق أو لكانت أتبعت مساراً مختلفاً تماماً. فهذه الميزة لا تأتي من الموقع الجغرافي وحسب، بل مرتبطة بالجوهر عن كثب والتقليد الزرادشتي الذي قمنا بتعريفه كإصلاح إيديولوجي وأخلاقي، هدف إلى توجيه عملية التباين الشرقي ـ الغربي وإلى تحقيقه أكثر مما يعتقد. إن أنظمة الرق السومرية والمصرية والخطوات الحضارية المغلقة نسبياً والتي اعتمدت على هذين النظامين، عملت على تأسيس دولة متجاوزة بذلك نظام الرق المطلق الذي طبق على البنية الروحية والذهنية للإنسانية طوال ثلاثة آلاف عام ونفذوا كل أنواع السيطرة المعتمدة على هذه الدولة. فمن ناحية الحرية تم وضع البشرية في وضع مختلف عما كان موجوداً في العصور النيوليثية بدرجة كبيرة، إذ لجأ صانعوا هذا الوضع إلى كل أشكال الحيلة والاستبداد وجعلوها قناعاً إيديولوجياً مذهلاً لممارساتهم بشكل لم تشهدها العلاقات الاجتماعية حتى ذلك اليوم، وجعلوا من ذلك إيديولوجية القدر باسم (النظام السماوي وعالم الآلهة التي توجهه) وقد تحقق ذلك على حساب انحطاط كبير في مستوى الحرية الإنسانية؛ فمن جهة هناك أصحاب النظام العبودي الذين يعتبرون كل كلمة ينطقون بها تمثل إرادة الرب التي يجب فهمها وإطاعتها مطلقاً، ومن الجانب الآخر هناك نظام العباد والعبيد الذين لا يملكون ظلهم وليس لهم مكان سوى أن يكونوا وسيلة للإنتاج.
لا شك أنه حدثت مقاومة مستمرة ضد هذا النظام، وعلى عكس ما دونته الكتب السماوية لم يعمل هذا النظام بإرادة الآلهة العظيمة. فمع كل خطوة تطور فيها الظلم والكذب والاستغلال، قوبلت بالمقاومة ونضال الصواب والحق، وهنا ايضاً نفذ التطور قانون وحدة الأضداد بلا أدنى رحمة. لكن قد يكون انتصار انطلاقة الميد ـ الفرس، بمثابة فتح نهج للتاريخ لأول مرة. وفي النهاية اضطرت هذه الانطلاقة للسقوط في منطق النظام المسيطر وتطبيقاته، فلم يتم هدم النظام السياسي والاجتماعي السائد ولم يتم تأسيس نظام جديد مكانه، إذ لعب نمط الإنتاج المميز دوراً أساسياً في ذلك، ولكن لا يوجد أدنى شك من انها حملة تاريخية وفرت الظروف المناسبة للدخول في نظام رق اكثر مرونة بواسطة تطبيقات إصلاحية تنفس عن الإنسانية بعض الشيء، وذلك عن طريق نظام الرق الذي استمر ثلاثة آلاف عام، ترك خلالها الشرق الأوسط وبالتالي الإنسانية في حالة ذهول نتيجة الممارسات الغادرة والتي تستأصل الجذور، متمثلاً ذلك في الآشوريين. ولا يوجد أدنى شك أيضاً من أنه تمت بلورة مرحلة جديدة في التاريخ من خلال تمهيد السبيل امام مفترق طرق كبير، بتفعيل قانون وحدة الأضداد في مرحلة حضارية أكثر تقدماً من المراحل السابقة. وإنني على يقين إن ما قدمناه هو التعبير الأكثر واقعية في تعريف الدور الذي لعبته انطلاقة الميد ـ الفرس في التاريخ .
هناك رأي متفق عليه يفيد بأن التنظيم الميدي باتجاه تطور تاريخي ملموس يشكل مرحلة الكونفدرالية العشائرية، ويلاحظ بأن هذا التنظيم يحاول أن يكون مركزياً في همذان " EKBATAN "، وقد تم ظهورهم على مسرح التاريخ ولمرات عدة بفضل التحالفات التي أقاموها بنجاح مع الكوتيين والكاسيين. كما أن التحالف البابلي الميدي الذي كان في نزاع وتنافس دائم مع الآشوريين، استطاع إحراق وهدم عاصمتهم "نينوى" في عام 612 ق.م. وبينما كان الطريق ينفتح أمام بابل باعتبارها تعتمد على المفهوم المركزي السومري من جهة، ومن جهة أخرى فقد سنحت فرصة تاريخية لازدهار حضاري في شرق زاغروس ولتشكل مرحلة جديدة وأهم تطور في التاريخ، ومن الواضح أن هذا الازدهار اعتمد على قاعدة تاريخية تغذت من إرث المقاومة الشعبية مثل " كاوا الحداد" الذي أعتمد في مقاومته على التقاليد المتوارثة من الحضارة السومرية وبعدها من العيلاميين والكوتيين والكاسيين والهوريين والميتانيين والأورارتو، وهو الذي احتل لنفسه مكانة في الذاكرة الشعبية كنوع من أنواع الأساطير وأجرى تركيباً مع ثورة الإرادة ـ الأخلاق الزرادشتية، وما تبقى من تفاصيل فهو من عمل البحوث التاريخية التي تعتمد على الوثائق.
وأما البعد الآخر والأهم لهذه الحقيقة فيتمثل بظاهرة الفرس الذين ظهروا على مسرح التاريخ باسمهم لأول مرة، وأواصر قرابة الفرس مع الميديين معلومة، بالإضافة إلى أن الميديون ومن سبقوهم، وبتعريف عام الهوريون ذوو الجذور الآرية يمثلون أجداد الكرد في يومنا هذا، حيث يمكن إثبات انتماء الكرد إليهم بسهولة، أما الشعوب الأخرى كالكوتيون والكاسيتيون والميتانيون والأورارتو هم الذين أخذوا أسمائهم المختلفة في العصور التاريخية المختلفة ولكنهم ينطقون بنفس اللغة ويحملون نفس الثقافة وهذا هو الرأي الذي يلقى قبولاً عاماً. وظهور الفرس الذين لم يثبتوا اسمهم حتى مرحلة تنظيم الميديين على المسرح التاريخي، يصبح مفهوماً من خلال قاعدة انتشار الحضارة، ووضع القرابة الوثيقة بين اللغة والثقافة قائم حتى يومنا في جغرافية إيران حيث تتجاور ولايات الفرس مع ولاية كردستان التابعتين لإيران، ويبدو واضحاً أنه لم يحصل انفصال كبير في المراحل التاريخية السابقة، بل كانوا ضمن نظام مشترك، وكذلك الأمر بالنسبة للمجموعات الآرية التي هاجرت فيما بعد إلى الهند والمناطق الشرقية الأخرى، حيث نرى أن الانفصال الأساسي قد حدث في أعوام 1500 ق.م، ونتيجة لانفصال هذه التجمعات سمي القاطنون في شمال غرب إيران بـ "الماديين" والقاطنون في الشمال الشرقي بـ "البايديين"، والقاطنون في الوسط والجنوب الغربي بـ "البارسيين" والقاطنون في الجنوب الشرقي بـ "البلوجيين"، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة، وهجرات الآريين التي حدثت إلى أفغانستان والهند هي بمثابة امتداد لهذه التجمعات الرئيسية، وبهذا الانفصال فإن الماديون هم الأقرب إلى المراكز الحضارية للسومريين وللحضارة النيوليثية، وبناء عليه فإن العشائر والسلالات المادية استمدت القوة واضطرت لان تتصدى للتوسعات السومرية والآكادية والبابلية والآشورية نظراً لموقعها الجغرافي، وانهيار الامبراطورية الآشورية يدل على أن واقع الماديين لا يمثل أمراً اعتيادياً بل له ارتباط بالتكوين التاريخي لعصور طويلة، وكل الدلائل التاريخية تشير إلى هذا الواقع.
إن عدم تشرم الفرس خلال هذه الفترة التاريخية الطويلة وازدياد قوتهم عن طريق الميديين باستمرار هي حقيقة تاريخية مفهومة. والأهم من ذلك هو أن تخطي الميديين لمرحلة كونفيدرالياتهم العشائرية وتأسيسهم لحضارة مركزية أدى إلى خلل في التوازن بينهما. ومن الإثباتات التاريخية أنه عندما اتجهت الكونفدرالية الميدية التي انضم إليها الفرس ايضاً ونجحوا في تشكيل دولة مركزية، قد قوبلت بانقلاب مضاد من قبل العشائر الفارسية. حقيقة عندما تم الإطاحة بـ"استياغ" زعيم الكونفدرالية الميدية الفارسية الأخيرة بانقلاب من داخل القصر من قبل ابن أخيه كيروس" كورش"، انتقلت السلطة إلى سلالة الأخامينيشيين الفارسية المهيمنة. وبالرغم من أن العديد من المؤرخين يعتبرون ذلك هزيمة للميديين وانتصاراً للفرس، لكن يمكن بسهولة واعتماداً على المنهاج إثبات أن هذا الرأي ليس واقعياً، إذ ان ما حدث هو عبارة عن تغيير في السلالة لدولة تشكلت حديثاً، وإنه لمن الخطأ الفادح تقديم هذا التغيير على أنه هزيمة لكيان أثني، انها لنظرة خاطئة. ففي نظام لاحق يحتل الميديون والفرس مكانة طليعية في نفس المستوى، وحتى هيرودوت نفسه الذي عاش في نفس المرحلة يشرح هذا الترتيب داخل الدولة بشكل واضح. كما ان إعطاء المراتب للميديين والفرس مع بعضهما يشير إلى غلبة البنية الأثنية الموحدة في الامبراطورية الفارسية التي كانت تتألف من أثنا وعشرون مركز ولاية “satrap “. وأما الصراع فقد كان بين بعض زعماء الميديين وبين الكهنة المغان الميديين أيضاً، وغالباً ما كان هذا الوضع يؤدي إلى الكثير من التمردات والمجازر. وباختصار إن النظر بهذا الشكل إلى جدلية العلاقات بين الميديين والفرس تؤدي بنا إلى التوصل لنتائج سليمة.
يبدأ تاريخ سيطرة سلالة أخامينيش الفارسية مع كيروس "كورش" حوالي عام 550 ق. م، وفي وقت قصير يحقق انفتاحاً كبيراً حيث يتم ضم بابل في عام 1539 ق.م، لينتقل مركز الحضارة إلى خارج ميزوبوتاميا لأول مرة في برسا بوليس, وفي نهاية القرن تم الاستيلاء على مصر والأناضول في أقصى الغرب، وتم الوصول إلى أبواب أثينا، ولأول مرة يتم تشكيل مراكز ولايات أرمنية في القوقاز، ويتم الوصول إلى البحر الأسود وبحر الخزر ويتم الدخول إلى بارتيا وأفغانستان والهند في أقصى الشرق، وهكذا تم تحقيق أكبر تنظيم سياسي في التاريخ حتى ذلك الوقت. لقد ساهم النظام العقلاني الأكثر مرونة، مقارنة بالإمبراطورية الآشورية، في تطور التاريخ الكبير والسريع بنفس الدرجة التي ساهمت بها الأرضية التاريخية والثقافية القوية التي اعتمدوا عليها. فناهيك من أن الآشوريين لم يتركوا أي متنفس للبنى الأثنية المحلية، فقد قاموا بتهجير هؤلاء من أوطانهم ووضع الذين قبلوا أن يكونوا عبيداً مكانهم، أما الفرس فعلى العكس من ذلك لم يكتفوا بإبقاء هؤلاء في أوطانهم، بل منحوهم فرصة إقامة حكم ذاتي على مستوى الإمارة، وتم تشكيل مركز ولاية باسم كل مجموعة أثنية أو قومية وتركوهم أحراراً باستثناء فرض بعض الضرائب والواجبات العسكرية.
لا شك بأنه كانت للإمبراطورية خصائص أخرى، فقد كان الإشراف الذي يعتمد على شبكة مواصلات وأخبار جيدة مؤثراً جداً. فقد تم إنشاء شبكة طرق ممتازة ابتداء من سواحل بحر إيجة ومن مدينة سارد المشهورة تاريخياً وحتى برس بوليس، وكان باستطاعة مجموعة من الفرسان المستعدة بشكل يومي أن توصل الأخبار التي تتلقاها كل مجموعة إلى الأخرى من مدينة سارد وحتى برس بوليس خلال تسعين يوماً، وتعتبر هذه أقصى سرعة في ذلك العصر، كما تطورت التشكيلات البيروقراطية، وأهم تجديد تم القيام به هو تجاوز الميثولوجية السومرية وترسيخ مزدا الإله الكبير حسب تقاليد زرادشت، ولأنهم الغوا عمليات النفي في بابل فقد تأثر العبريون الذين احترموا الفرس كثيراً بعقيدة مزدا بنسبة كبيرة واستخدموها، فتطوير ثقافة الدين الواحد بدرجة أنه تم تشكيل حزب الفرس العبري القوي الذي كان مناصراً للفرس وحتى يومنا هذا تمتد جذور هذا الحزب لدى الإسرائيليين.
في الحقيقة هناك بعض الأدلة "الأتيمولوجية" تشير إلى أن النبي إبراهيم الذي يعد من أوائل مؤسسي الثقافة العبرية لم يكن زعيماً قبلياً للعبريين وحسب، بل كانت له علاقات وثيقة مع الهوريين "المجموعات الأثنية المسيطرة على أورفا" وأن هذه الثقافة قد أثرت على العبريين على شكل تقاليد للنبي إبراهيم، إن مكانة الثقافات الهورية والفارسية هامة جداً والبحث فيها عمل ضروري لابد منه. وفقد منحت الامبراطورية الفارسية متنفساً واسعاً لكافة الكيانات الأثنية والسياسية في الشرق الأوسط، وتلعب هذه المرحلة دوراً هاماً في الاحتفال بعيد النيروز "نوروز" باعتباره عيداً للحرية وتوفرت إمكانيات التقدم والتطور لكل الثقافات الموجودة، وتم الاعتراف بشرعية الإمارات في الثقافة السياسية كما اكتسب النظام الأميري وضوحاً في هذه المراحل، ولم يجر تجاوز نظام العبيد بأكمله لكنه اكتسب بعض المرونة، وجرت العديد من الإصلاحات التي تضمنت الكثير من التجديد. لقد كان النظام يستمد قوته الأساسية من هذه التبدلات السياسية بالإضافة إلى أنه لم يواجه كثيراً من المعارضة. بل لجأ إليه كثير من التكوينات المستجدة وبحثت عن دعمه ومساندته. والأمثلة على ذلك كثيرة وموثقة، فعدم حدوث تمرادت داخلية عدا نزاع السلالات الميدية الحاكمة يؤكد هذا الأمر.
إن النزاع الأساسي للفرس كان في شبه الجزيرة الإغريقية، إذ كانت تتقدم باتجاه الهند والصين في الشرق باعتبارها ذات دور تقدمي، كما واصلت التقدم ذاته في مراكز السومريين والمصريين القديمة، وكانت في وضع متقدم أيضاً، فقد تطورت العديد من الثقافات الأثنية والمحلية وأجريت تغييرات سياسية واجتماعية مما تشكل تقدماً مهماً. في الوقت الذي كانت فيه هذه الميزة التطويرية تفتح الطريق أمام تعاظم قوة الإمبراطورية، كانت من جهة أخرى تؤدي إلى الخلل في توازنها وتتسبب في تحجرها، وشيئاً فشيئاً تجعلها أكثر تعصباً، أي أنها كانت تخلق معارضتها، لقد كان النظام تقدمياً مقارنة بالآشوريين ولكنه كان متخلفاً بالنسبة للنظام الموجود في الأناضول الغربية وفي شبه الجزيرة الإغريقية، فكما كان الكهنة المغان الميديون وإصلاحات زرادشت تشكل العجينة الإيديولوجية للازدهار الميدي ـ الفارسي، كان البحث الإيديولوجي الفلسفي الذي ابتدأ بتالس الميليتي في أرضية الأناضول يشكل عجينة ازدهار الحضارة الإغريقية، وسجلت الفلسفة باعتبارها أسلوب التفكير الأكثر عقلانية مقارنة بالفرس تطوراً كبيراً، وفي الحقيقة فإن الاستفادة من الآثار الميثولوجية البابلية من جهة ومن الإصلاحات الأخلاقية لزرادشت من جهة أخرى، لعبت دوراً كبيراً في هذا التطور، إذ أقام كافة الفلاسفة الهلينيون مدة طويلة في هذه المراكز وتعلموا فيها، وما قاموا به هو عبارة عن قفزة فكرية رفيعة المستوى بالاعتماد على هذه التراكمات الغنية، إنها حملة حرية في السلوك الإنساني أي على صعيد الأخلاق والإرادة، حيث يمكننا رؤية التأثير ورد الفعل بشكل كثيف في النصوص الأدبية الإغريقية بشكل بارز، وأصبح ذلك موضوعاً واسما للكثير من المنجزات الأدبية التي تطرقت إلى هذه العلائق والتناقضات. فقد بدأت حملة إيديولوجية مكثفة ضد هجمات الفرس ورغم أن كتاب التاريخ لهيروديت يأخذ موقعه في القطب المقابل فإنه يتناول هذا الأمر بشمولية ويعكس ثقله. إن تفوق الفرس السياسي والعسكري أمر مؤكد حتى ان إنقاذ أثينا ذاتها من السقوط كان بالغ الصعوبة، ولكن هذا الوضع الخطير الذي شهدته هذه المرحلة أدى إلى تحقيق الكثير من التطورات التي لم تكن قد تحققت حتى ذلك الوقت حتى ان إمكانية تحقيقها آنذاك لم يجر التفكير بها، فقد تحققت الوحدة بين إسبارطة وأثينا، وحدث توسع في الشمال وصل إلى مقدونيا في عهد الملك فيليبوس، ولا شك أن عظمة الأخطار كانت السبب الأساسي في هذا التوجه، ولكن الازدهار الإيديولوجي كان السبب الآخر الكبير، والصراع الفارسي الإغريقي الذي استمر لمدة طويلة له علاقة وثيقة بحقيقة تفرع الحضارات.
إن ابتعاد الفرس عن الجوهر الذي شكل نقلة نوعية على مستوى الفرد الحر صاحب الإرادة الذي فتح طريق الغرب في البداية، وتأليههم لأنفسهم باعتبارهم الإرادة المطلقة، أدى في الوقت ذاته إلى بروز الأسباب الإيديولوجية لخسارتهم، إنه طغيان يشبه الملكيات المستبدة السومرية والمصرية، ولم يكن له أن ينجح أمام الديمقراطية التي حققها الإغريق في أثينا، إذ أن الصراع في الأساس كان بين استبداد بيرس بوليس وديمقراطية أثينا، وإذا ما نظرنا إلى الموضوع من زاوية أكثر اتساعاً، نجد أنه الصراع الجدي الأول للتفرع الحضاري بين الطريق الشرقي والغربي الذي تم فتحه مجدداً، وبالرغم من ضعف الثقافة الهلينية عددياً، وكقوة سياسية وعسكرية فأن ريادتها الإيديولوجية وتفوقها في التكتيكات السياسية والعسكرية سيظهران تأثيرهما خلال فترة وجيزة على يد الاسكندر الكبير، وستواصل الثقافة الهلينية انتصاراتها بسرعة البرق حتى حدود الهند، لقد كان الاسكندر شاباً يافعاً ولكن كان يقف خلفه أرسطو الذي يعد خزينة للقوة العقلية، وكما أوضح نابليون أن الذي يحدد النجاح هو العقل الجديد وقوة الإرادة والتكتيكات التي تعتمد عليها، وقد أظهر نابليون نفسه هذا النوع من التطور السريع في مرحلة انتشار الثورة البرجوازية.
أن بنى الامبراطورية الفارسية كانت عبارة عن مؤسسات وثقيلة وبطيئة الحركة ومحافظة، ولم تكن في وضع يسمح لهم بأجراء أي تجديد في الطراز الإغريقي، حتى لم تكن هناك رغبة في ذلك، وان فقدان الجوهر أضاع هذه الفرصة من البداية، وهذا الموجز الذي عرضناه، يكفي لنستنتج أن تطور النظام الإغريقي عن طريق أسلوب التأثير والتأثر مرتبط بنسبة كبيرة بالواقع الفارسي، وهناك علاقة جدلية ديالكتيكية مستمرة بين الغالب والمغلوب، ولولاها لما كان للانتصار أو للهزيمة أي معنى، ولا يمكن أبداً أن تنبع أسباب الهزيمة أو الانتصار من طرف واحد بمفرده، فاستمرارية الفرس والإغريق على شكل الشرق والغرب هو حكم هذا القانون ضمن مسيرة التاريخ الكبرى.
ومهما تم الحديث بشكل مبالغ فيه فان الجانب الذي طغى على مسيرة الاسكندر كان ثقافياً اكثر من الجانب العسكري والسياسي قوة، فالأدوات العسكرية والسياسية تلعب دور جسر بسيط، أنهما شرطان أوليان، ولكن الثقافة هي العنصر الذي يتمتع بتأثير مصيري ودائم وهي العامل الذي يحدد المسار، تتمتع الثقافة الهلينية بمكانة متقدمة لما تحمله من أفكار فلسفية، وكانت فرصة المؤسسات المتبقية من السومريين والمصريين تكاد تكون معدومة للتجاوب مع هذه التطورات، وكذلك الإصلاحات الميدية الفارسية المحدودة كانت بعيدة عن سد حاجة هذه التطورات، لذا يعد عصر الثقافة الهلينية الذي بدأ على يد الاسكندر الكبير في الشرق الأوسط خلال العهود الإغريقية الرومانية، مرحلة جديدة امتدت من 300 ق.م ـ 300 م. وهو أول تركيب كبير للشرق والغرب، والمراكز التي تركت أثراً دائماً لهذه الثقافة هي الإسكندرية في مصر وبرغاما الأناضول وإكتيسيتون في دجلة بالإضافة الى العديد من الوحدات المدينية الصغيرة والكبيرة إذ فتحت هذه المراكز الطريق امام تجديدات تاريخية، وإن مدينة "زيوغما"الفرات، التي ظهرت كموضوع حي هي مدينة متبقية من تلك الفترة، ويمكن القول إن الشرق الأوسط تعرف على المصطلحات المدنية مثل الحمام والمسرح والسوق والمدرسة خلال هذه الفترة، فقد تشكلت سوق نشطة امتدت من روما حتى الهند والصين، وشهدت طبقة التجار مزيداً من الاستقلال والتطور، وحصلت العديد من الفروع الحرفية على استقلاليتها كما تشكلت أسواق سلعية ضخمة وعلى رأسها أسواق النخاسة، وتخلص العالم إيديولوجياً من الدوغمائية وتعاظمت الأفكار والمذاهب كالكرة الثلجية وتم تجاوز النظام المعنوي والاجتماعي القديمين المعتمد على الدوغمائيات والبنى الأثنية إلى بنية اجتماعية جديدة. وظهرت تيارات صوفية تتخذ البنية الفكرية والعقيدة أساساً لها.
وبينما كان يتم تعلم القديم تولد كثير من التجديد، هذا هو العالم الجديد الذي نتج عن التركيب الشرقي ـ الغربي، لا شك أن تأثيرات الفرس وخاصة في المرحلة الأولى ونفوذ الثقافة الهلينية إلى الثقافة المحلية وما نتج عنها من تجديدات يشكل أساساً لذلك، ولم يكن الصعود الجديد لإيران في "250 ـ 216" ق.م الذي تحقق فيما بعد في بارتيا في الشرق أيام المرحلة الرومانية أن يصمد أمام هذا التطور الثقافي بل على العكس في خدمته، فمن المؤكد أنه شهد تشكلاً متقلباً أوصل نظام العبيد في المسيرة الفارسية الإغريقية الرومانية إلى الذروة، لم تستمر أو تترسخ خلال تاريخ الإنسانية أية مرحلة كما استمرت وترسخت هذه المرحلة، لقد فقدوا التجديد الإصلاحي في واقع الحضارة الرومانية سرعته بشكل عام اعتباراً من أعوام 300 م. ووصل إلى مرحلة تعصب عمياء، وبينما كان دين "عيسى" السيد المسيح يشكل النسيج الاعتقادي والاجتماعي المناهض لهذه المرحلة، لم يتأخر دين محمد (ص) بانقلاباته السياسية والعسكرية الثقيلة ليحاول دفن هذه المرحلة في أعماق التاريخ.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة اليمقراطية الفصل الاول ا ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...


المزيد.....




- مقتل واعتقال 76 ارهابيا في عملية فيلق القدس بجنوب شرق ايران ...
- -الدوما-: مذكرة الجنائية الدولية لاعتقال نتنياهو ستكشف مدى ا ...
- الداخلية الفنلندية توقف إصدار تصاريح الإقامة الدائمة للاجئين ...
- الإعلام الإسرائيلي يواصل مناقشة تداعيات أوامر اعتقال نتنياهو ...
- هذه أبرز العقبات التي تواجه اعتقال نتنياهو وغالانت
- الأمم المتحدة: إسرائيل منعت وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لق ...
- مقارنة ردة فعل بايدن على مذكرتي اعتقال بوتين ونتنياهو تبرزه ...
- كيف أثر قرار إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت على دعم ...
- سفير ايران الدائم بالأمم المتحدة: موقفنا واضح وشفاف ولن يتغي ...
- سفير ايران بالأمم المتحدة: أميركا وبريطانيا تساهمان في استمر ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح- الذروة في الحضارة العبودية 3- ظهور ميديا - الفرس ، ومفترق الطرق بين الشرق والغرب 1-17