|
الفولكلور والتنمية(مهاد نظري)
محمد حسن عبد الحافظ
الحوار المتمدن-العدد: 1494 - 2006 / 3 / 19 - 10:45
المحور:
المجتمع المدني
1. في ضرورة المسألة الثقافية
السؤال الملح الآن - وهنا – هو: ما الذي يجعل عودة الحقل الثقافي، وهاجس المسألة الثقافية، شأنين ممكنين في وعي النهضة المصرية بعد طول غياب، أو قل: تغييب؟ هل تنتمي هذه العودة – التي باتت محسوسة اليوم – إلى صحوة نقدية في هذا الوعي، أم هي ناجمة عن مصادفة تاريخية محض؟ ثم هل يمكن لهذه الصحوة أو تلك المصادفة أن تكون دافعًا موضوعيًا لتنمية ناجعة في بلدنا؟ لقد عاين الوعي المصري – والعربي - المعاصر سلسلة إخفاقات حصد مجتمعنا "الغلبان" ثمراتها المرة: إخفاق في السياسة، يمثله انهيار حلم التوحيد القومي، ثم انهيار حلم الدولة الوطنية الحديثة. وإخفاق في الاقتصاد، يمثله فشل المشروع التنموي الاشتراكي والليبرالي على السواء، والانتقال من أحلام التنمية المستقلة إلى مجاهل الكساد والتضخم والمديونية والتسول لدى بنوك القرض الدولية. وإخفاق في الاجتماع، يمثله الفشل في بناء اجتماع وطني وقومي متماسك، ودخول البنى الاجتماعية في دوامة التناقضات الذاتية والصراعات والفتن. وإخفاق في الفكر، يمثله الفشل في تأسيس ثقافة تاريخية إيجابية، متوازنة مع الذات ومتواصلة مع العصر، مقابل الانتقال إلى لحظة من الانشقاق الحاد في الوعي، ومن الحرب الأهلية الفكرية بين تيارات انكفائية منغلقة، وأخرى اتباعية متغرِّبة1. وفي اعتقادي أن هذا الإخفاق التاريخي كان قمينًا بإنجاب لحظات من الوعي متباينة في المضمون والمسلك الفكري، أبرزها لحظتان: لحظة وعي محبَط اتصل بسيناريو التشاؤم، ولحظة وعي نقدي دعا إلى بناء سيناريو أكثر تفاؤلاً ورحابة على أنقاض هذه الإخفاقات. قادت اللحظة الأولى إلى مغامرات فكرية جددت متاهة الوعي، وكان من تلك المتاهة أن اختُلِقَت مشكلات لا يطرحها التاريخ، أو قُدِّمت طروحات انزوائية في موضوعات شديدة التغرُّب عن محيط الاجتماع المصري والعربي. بينما قادت اللحظة الثانية (الموازية) إلى إنضاج خطاب تاريخي عكف على تشخيص الآليات التي عملت بموجبها حالة الإخفاق الذريع، وتجهيز تساؤلات طموحة حول خيارات بديلة للمستقبل؛ ومحاولة ضخ الحيوية وروح التجديد الخلاق. الآن، يدفعنا هذه الإخفاق المتناسل إلى التفكير – بأناة – في الوعي بأهمية المسألة الثقافية – التي طالما أُهدرت - في مشروع النهضة؛ والمطالبة بتأسيس سيادة ذاتية للمجال الثقافي – الذي هو مجال "آداب الناس وأحوالهم في المعيش" بتعبير ابن خلدون - من خلال استقلالية "الثقافي" عن "السياسي"، والاعتراف للأول بـ"حكم ذاتي" في مملكة الثاني، متحررًا من عمليات الأدلجة والتسييس والتوفيق. إن فعالية الثقافة تتحدد في مدى امتلاكها – أو قل: امتلاكنا - القدرة على مقاومة القصور الذاتي والاجترار والاستهلاك، وقدرتها/قدرتنا على تأسيس منظومة الاعتماد على النفس والتحرر من التبعية، بتحرير اقتصادي ينهض على تنمية مستقلة منتجة وعادلة في التوزيع؛ إسهامًا في ترقية خصائص حامليها، وتأسيسًا لنسق قيمي إيجابي، وتجاوزًا لنقائض تراث الأنا الميت، وحاضر الآخر المهيمن. ولا مناص – عندما يتوقف المجتمع عن إنتاج المعنى لحياته ورغباته وإرادته – من ابتلاع القيم الثقافية المادية والرمزية التي بناها أجدادنا وآباؤنا، ولا يبقى أمامنا غير التزود بزاد ثقافي جاهز ليس من جنس نيلنا وطيننا وهوانا، تتم زراعته في كهف الماضي التليد غير الحيوي في حياتنا، أو تخليقه في معامل الحاضر العولمي الذي لم نشارك فيه2. لا نقصد أن تعكس مقاربة هذا الموضوع مجرد رغبة عفوية في ربط الحقل الاجتماعي والأنثروبولوجي للثقافة بالمدار التنموي للمجتمعات المحلية؛ وإنما تعكس تصورات نظرية أولية نتجت عن خبرة ميدانية لا بأس بها، موضوعها: إمكانية إسهام الفولكلور (= المأثورات الشعبية)، بجانب تخصصات ومعارف أخرى، بحصة فعالة في مضمار التنمية (خاصة في المجتمعات الريفية). فمعرفة مكونات الثقافة الشعبية، في سياقاتها الاجتماعية الحيوية، هي مفتاح رئيس لاكتناه قيم المجتمعات المحلية، ولاحتياجاتها المادية والرمزية، ولتصوراتها الروحية والفكرية، ولرؤاها الخاصة بالعالم المحيط، ولنقاط ضعفها وعناصر قوتها، وتلكم هي العناوين الرئيسة في استراتيجية أية تنمية تستهدف المجتمع حقًا. ومن ثم، فإن التعرف على الثقافة الشعبية ومعارفها، هو تعرف على الموضوع الذي لا يقوم المشروع التنموي إلا بالوعي به.
2. في إشكاليات الثقافة والثقافة الشعبية والإصلاح والتنمية
ثمة أبعاد ثلاثة للواقع الاجتماعي: الاقتصادي والسياسي والثقافي. لكن هناك اختلافًا بيِّنًا في درجات المعرفة العلمية لهذه الأبعاد. يمثل البعد الاقتصادي أكثر تقدمًا، يليه التحليل العلمي في مجال السياسة والسلطة. أما البعد الثقافي، فهو البعد الأقل تقدمًا، حيث لايزال شطره الاجتماعي الميداني محفوفًا بالأسرار الخافية3. ابتداءً، يجب التأكيد على أن المتغير الرئيس لكل نهوض إنما يكمن في الاقتصاد. وتحضرنا مفارقة لافتة في هذا الشأن تتمثل في عزوف الحركة الإصلاحية العربية – منذ ميلادها في منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين – عن الوعي بالمسألة الاقتصادية والنظر فيها. فقد تحدث الإصلاحيون العرب في كل شيء تقريبًا: المجتمع، والدين، والتراث (القديم)، والتربية، والتعليم، والثقافة الحديثة، والدولة، وطبائع الاستبداد، والدستور، والهوية، والغرب، والمرأة... إلخ، إلا في الاقتصاد، فيكاد المنجز العلمي في حقل الاقتصاد يكون الغائب الأكبر في الوعي العربي الحديث، وهو غياب يضع علامة استفهام على حجة فكرة الإصلاح ذاتها، ومدى ما تتمتع به من مشروعية التحقيق؛ إذ لا سبيل إلى نهوض مجتمعي دون توافر رصيد كبير من التصورات في المسألة الاقتصادية، وهو ما افتقر إليه التراث الإصلاحي الحديث، وربما المعاصر أيضًا، فقد انتظرنا حتى خمسينيات القرن العشرين حتى شهدنا بدايات تكون خطاب عربي في المسألة الاقتصادية مع مفكرين ماركسيين وقوميين عرب، وهو تأخر يشهد على واحد من أهم أسباب قصور الوعي الإصلاحي العربي4. مقابل الغياب الكامل للمسألة الاقتصادية، والضمور المتزايد للمسألة الاجتماعية، ورث الفكر العربي المعاصر ظاهرة حكمت الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ وهي ظاهرة هيمنة المسألة السياسية وطغيانها، بسبب التحولات الكبرى التي عاشها الوطن العربي في هذا المشهد التاريخي، وقد بدا دومًا أنه لا فائدة من التعويل على أي شيء آخر غير السياسة، وتزايد الطلب على السياسة سبيلاً وحيدًا لخوض ودفع التحديات الجديدة، بقطع النظر عن طبيعة الوسائل المعتمدة لبلوغ هذا الهدف. قد يكون تحرير الفكر/العقل ضروريًا للتقدم بحسب محمد عبده أو طه حسين، وقد يكون تحرير المجتمع/المرأة شرطًا حيويًا لذلك بحسب قاسم أمين، غير أنه لا هذا ولا ذاك يقوم مقام التحرر السياسي: إنْ من الدولة التقليدية، أو من الاستعمار، أو من الدولة القطرية والقبائلية، أو من الدولة العلمانية وسلطة النخب المُتَغَرِّبَة، أو من دولة التبعية للمدار الرأسمالي. إنه الخطاب نفسه عند رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وعبدالرحمن الكواكبي، وأحمد لطفي السيد، وميشيل عفلق، وحسن البنا، وسيد قطب، وسمير أمين، ومهدي عامل... إلخ، كلٌّ من موقع تياره الفكري ومنظومته المرجعية وحقل اشتغاله الفكري5. يواكب الاحتفال المفرط بالمسألة السياسية، من قبل تيارات الفكر العربي المعاصر، فقر فكري مدقع في مجال إنتاج معرفة نظرية بالمسألة السياسية: الدولة والسلطة والمجال السياسي، وهو فقر يشترك فيه سائر الخطابات السياسية العربية مع تفاوت في الدرجة وليس في النوع: فقد انصرف الخطاب الإسلامي المعاصر، خطاب "التأصيل" الإخواني، إلى إعادة إنتاج منظومة السياسة الشرعية التقليدية، دون اجتهاد يُذكر، عدا محاولات تحسين أوضاعه الداخلية ببعض استعارات مفهومية حديثة سطحية المعنى والأثر. بينما انغمس الخطاب القومي، مع ميشيل عفلق وساطع الحصري ونديم البيطار واللاحقين عليهم، في إنتاج نظرية في الأمة لا في الدولة على قاعدة تماهٍ ملتبس بين المفهومين (هي نفسها تعبير عن التباس المشكلة السياسية في الوعي القومي). واستمرأ الخطاب الليبرالي عادته في ترديد مقولات الفكر الحديث في الدولة الوطنية، دون العمل على تأصيلها، أو صوغ مشروع ليبرالي عربي حقيقي. أما الخطاب الماركسي، فلم يبرح موقع التبشير بعموميات نظرية في المسألة، مستقاة من حقل تاريخي وسياسي آخر (وهو وعي ينتمي إلى فقه التبعية الذهنية مثل نظيره الليبرالي6)، دون النظر بعين مقارنة تكشف الفوارق التاريخية والاجتماعية7. لا مناص من مفارقة تفاصيل هذه الأزمة في تاريخ الفكر الإصلاحي العربي، والتي قاربها – بعمق - المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، فنعود إلى موضوعنا المحوري هنا، فنقول إن حال غياب التجليات الشعبية للثقافة كان كحال ضمور الإنجاز العلمي للاقتصاد، فحتى الخمسينيات، لم يكن ثمة وعي بأهمية ثقافة الناس المُراد النهوض بهم. وبالرغم مما تحقق بدءًا من النصف الثاني من القرن الماضي في مجال الثقافة الشعبية، فلايزال الجانب الاجتماعي الميداني لهذه الثقافة يتعرض إلى الإهمال، فضلاً عن استمرار إزاحته بعيدًا عن مشهد النهوض والتنمية. ربما يرجع الأمر إلى صعوبة مقاربته وإدراجه، خاصة إذا تعلق الأمر بالمجتمعات الطرفية والبعيدة والمعزولة، فالبحوث الحضرية "أرخص" وأكثر أمانًا، وأوفر في المجهود والمال، كما أنها تبدو- زيفًا – أكثر كفاءة من البحوث الريفية. وإذا ما تعين القيام بعمل ميداني في الريف، فإن العمل في المناطق القريبة من الحضر، يفضل على العمل في المناطق الأبعد. إن الباحثين والخبراء والمسؤولين هم من قاطني المدينة، ومثقفي المدينة؛ هم طبقة ثقافة المكتوب التي تتحاشى "العقاب" بالعمل في منطقة رعوية، بعيدة، هامشية، طرفية، منطقة ليس بها ري، منطقة حارة وغير صحية. باختصار: تحاشي المكان الذي يوجد به الناس الأشد فقرًا8. إجمالاً، لم يوضع الإنجاز الاجتماعي للثقافة في اعتبار أية سياسة تنمية، أو أية عملية تنموية. ومن ثم، يصبح ضربًا من الوهم ذلك الزعم بأن مشروعات التنمية تنهض على أساس قاعدي (من أسفل إلى أعلى)، فالحقيقة أن النموذج التنموي السائد نموذج علوي – أبوي، نموذج يجهل الحياة الرمزية للناس. وفي المقابل، ثمة انحياز صارخ للبعد الاقتصادي، الذي يعتمد - في الغالب - معايير كمية، منمذجة، استاتيكية، مفرغة - في الغالب أيضًا - من المضامين الإنسانية، والخيال الإبداعي للأفراد والجماعات، وتصورات الناس وحكمتهم، وإرادتهم الحرة في الاختيار. وقد ظل هذا الانحياز يواصل دوره - طوال نصف قرن - في ترويج الأنموذج "الاقتصادوي" المستعار للتنمية، باعتباره أنموذج التغيير الوحيد، الممكن والمرغوب فيه، في سياق تحديث المجتمع وتنميته. كما اضطلع هذا الانحياز بدور حاسم في رسم الاستراتيجية السائدة للتدخل في حياة الناس، وفي تلفيق تصورات - ليست من جنس ثقافتهم - للواقع، وللعالم، وللإمكانيات المتاحة، ولنقاط الضعف ونقاط القوة، وللمشكلات والحلول، وللمفاهيم كافة بدءًا من مفهوم الفقر وحتى مفهوم السعادة9. وفي هذا السياق، لن يعود في وسعنا الاكتفاء بالنظر إلى الثقافة الشعبية باعتبارها تمثيل الناس لمحيطهم، وتعبيرًا عن نظامهم الاجتماعي والقيمي، بل سيصبح مطروحًا علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة، أو قيم ثقافية، لا تقوم صلة بينها والنظام الاجتماعي الذي ينتمون إليه، فحين يحمل الناس – لجملة عوامل داخلية متصلة بأنماط التحديث والتنمية وعوامل خارجية متصلة بضغوط العولمة وإمبراطورياتها الاقتصادية والإعلامية – منظومات من الأفكار والقيم لم تخرج من رحم التطور الاجتماعي الطبيعي، لا يبقى ثمة ما يدعو إلى استصغار الأمر، فمن رحم هذا الانفكاك والتجافي بين الاجتماعي والثقافي ستتناسل أنواع من التجافي والخلل في البنى الاجتماعية والثقافية، بل أيضًا في البنى الاقتصادية الطبيعية، مما سوف يعرضها إلى تشويه مضاعف، ينضاف إلى تشوه الخِلقة الأصلي الذي نشأ من حداثة رثة - تابعة - شهدتها هذه البنى دون تقديم مقدمات وتمهيد أصول10، بلغة أهل الفقه. إن الغرباء (الباحثون وخبراء التنمية والممولون الأجانب) لا يجهلون الواقع فحسب، بل الأنكى من ذلك أنهم يجهلون أنهم جاهلون11. إن هذا التدخل الجهول الذي تمارسه فئات "الكوماندوز" التنموي هو ضرب من ضروب الاستعمار، لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني؛ حيث يجعل الناس مستعمرين لذاتهم بذاتهم، إنه الغزو "بلباس التنمية"، الغزو الذي يلتهم "تباعًا" ملايين المهمشين من ضحايا التنمية12. ويتسبب في ضمور مروع لملكة الخيال والإبداع الاجتماعيين، بل قتل الحيوية الاقتصادية الطبيعية التي تتمتع بها المواقع المحلية في نطاق تضامني إنساني بسيط. خلاصة القول: إنه اغتيال لجماليات التنمية باسم "عقلانية التنمية". لا أزال أتذكر كلمات أستاذتي الهندية الجليلة "كورين كومار" في افتتاحها لدورة تدريبية حول "إشكاليات العولمة وثقافات الجنوب"، انعقدت في الرباط في نوفمبر 1999، حيث قالت: آن الأوان للتنصل من النظريات الفخمة. ومن طرح الأسئلة القديمة، ومن استخدام المقولات القديمة، ومن التعويل على الأطر القديمة. فلن يكون ذلك سوى قطع الطريق على إمكانية استبصار مسالك جديدة، وفتح سبل جديدة. آن الأوان لكي نتجاسر على طرح الأسئلة التي لا تعد أسئلة تُطرح، وتحلل ما لا يُعتبر من باب البيانات والمعلومات، المعممة والمكرسة كونيًا، وما يصنف في خانة الأسطوري، غير المعقول وغير العلمي، بالمعنى الذي طرحته المركزية الأوروبية حول العقل والعلم. ينبغي لنا أن نبدأ بالبحث خارج الخطاب السائد، في مجال يقع دون المستوى المطلوب من العلمية، وما وراء مقاييس المعرفة القائمة، لنكتشف معارف شعبية وطرائق أصيلة، لنكتشف التجارب الخاصة لمجموعات المهمشين، والمنبوذين، والفقراء، والنساء، والفلاحين، والأرزقية، والحكماء المحليين، والرواة الشعبيين، والحكَّائين، وأصحاب الخيال البسطاء، وأصحاب المعارف التي لا تعرفها النخب، لتبين ما في مأثوراتهم، ومعارفهم، ومقولاتهم، من رؤى أخرى للعالم، وطرائق تصدّ للضغوط. يتعين علينا مفارقة تقاليد الخطاب المهيمن، فنجد أنفسنا في ذلك المجال الذي احتقره هذا الخطاب، أي مجال الجماعات الشعبية، والثقافة الشعبية، لنكتشف ما يكتنز به من معارف مطموسة؛ خبيئة. لنصغي إلى صوت الحكمة يتصاعد من المعارف الشعبية العامية المحلية. لعلنا ننتقل- حينئذ – إلى مرحلة استنباط رؤى سياسية وتنموية جديدة، فيها مزيد من الأصالة، مؤهلة لمجابهة ما في الواقع من تعقد مستمر، رؤى فيها مزيج عضوي من الروح النقدية والإبداع؛ المنطقي والأسطوري؛ السياسي والشعري؛ العلمي والجمالي. إن ما يدور في أذهان المنتمين إلى هذا الاتجاه، ليس دعوة ساذجة للعودة إلى القرون الوسطى، وليس دعوة - ساذجة أيضًا - لمنع الشعوب من أخذ نصيبها مما حققته العلوم والتقنية، في مجالات اهتمامها، من إنجازات حقيقية؛ إنما هم يرفضون التسليم بأن تكون أنماط الإقصاء، والتجريد من صفة الإنسانية، وفقدان حرية الإرادة التي ما فتئت تتزايد وتتوحش في الوقت الراهن، هي الثمن الذي يجب على الشعوب بذله في سبيل تحقيق حياة أفضل13. يهاجم المبشرون بتوسيع قاعدة الاقتصاد العالمي كل من يقف في طريق تلك التحولات المدمرة باسم "التنمية" بإطلاق أحكام مطلقة من قبيل أنه متخلف وضد "التقدم"، ويصمونه بالجهل والدونية، وهو في نظرهم مريض بعلة الحنين إلى الماضي، وإلى الثقافة المنحطة14. وفي تصوري، يمثل هذا الهجوم عنفًا رمزيًا ضد كل باحث عن بديل للإصلاح وللتنمية وللتغيير من قلب ثقافة الوطنية التي تمثل الثقافة الشعبية قاعدتها المكينة. لا بأس، يظل البحث عن نماذج بديلة فعلاً لا ينقطع؛ بحث لا يضحي بالديمقراطية أو بحقوق الإنسان أو بالطبيعة من أجل التنمية الشمطاء؛ بحث عن بديل للنظام القائم، بديل يمكنه تجنب عبودية التقنية، وعبودية المسوح الإحصائية15، ويمكنه العمل على إيقاف الدمار البيئي والعمل الاستعلائي، وعلى إعلاء شأن المرأة، واستنباط الوسائل الملائمة لتعزيز العمل الإنساني بدلاً من إزاحته. هو نفسه البحث عن نموذج تتجاور فيه العدالة مع التنمية، وتتوازن التقنية بالطاقة البشرية، نموذج يمكنه الحفاظ على موارد الأرض. ألا يؤخذ منها أكثر مما يعاد إليها. إن القادرين حقًا على ذلك هم السكان المحليون والقبائل والصيادون وزراع ضرورات العيش. يجب أن يتجه هذا النموذج للاعتماد على الذات، يجب الانسلاخ من الارتباط الوثيق بالاستيلاء على الخبرة الإنسانية، وتقدير قيمتها نقدًا، ثم بيعها للناس مرة أخرى. إن ما يحاوله الناس هو التمسك بالصلات التقليدية. بروابط الاعتماد على الذات الجماعية، بالقرابة والقُربَة والجيرة وحسن "العشرة". إن هؤلاء الناس لديهم شيء حيوي يمكن أن يقولوه للعالم، بما يمتلكونه من قيم إنسانية محبة للحياة وللطبيعة وللإنسان16.
3. في أسئلة المدخل الفولكلوري للتنمية
لماذا الثقافة الشعبية والجماعة الشعبية مدخلاً للتنمية؟ ذلك لأن المأثورات الشعبية والمجتمعات الشعبية تقدمان نموذجًا مغايرًا للإبداع والممارسة على السواء، وهما الأعمق ارتباطًا بأنماط التنمية التي نتغياها ونقصدها، بفلسفتها التي تستهدف الإنسان بالأساس17؛ أي تستهدف تغيير المجتمع إلى الأفضل، وتستهدف الفقراء والمحرومين والمستضعفين، وتستهدف مشاركة الفاعلين المحليين في عملية تنمية مجتمعهم المحلي. كما أنهما تجسدان ما يسمى في الأدبيات التنموية المعاصرة بـ "الاعتماد على الذات"، من خلال النمط الإبداعي في الإنتاج والاستهلاك، والتعامل الواعي الرشيد مع الموارد المتاحة في البيئة الفقيرة. ولأن إبداع الجماعات الشعبية يمكن أن يغير ما يسمى بـ "الحد الأدنى" لإشباع الحاجات الأساسية الذي يحوله إبداعهم إلى حد أدنى نسبي ومتحرك، فيخلقون من "الفسيخ شربات". ولأن إبداعهم يقدم نماذج تفيد في درس التعبئة، لمواجهة اليومي المباشر، ولتحدى التبعية بآلياتها التي تكاد تقتل الآخرين يأسًا. ولأنه إبداع يُظهر، في بعده الفني والروحي، ضرورة التصالح مع الحياة، للبقاء وللاستمرار وللتجدد، ولمواجهة المشكلات مواجهة مبدعة، رغم أنف الظروف المحيطة به وبأصحابه الذين لا يملكون إلا قوة عملهم التي تُستنزف مع الأيام، ويبذلون فيها كل طاقاتهم العقلية والذهنية والنفسية. إنهم نتاج أوضاع البنية الاجتماعية التي تجبرهم على التصرف بلا اختيارات حقيقية، ليلتقطوا ما هو متاح من فرص، بينما يفتقدون الشروط التي توسع دائرة اختياراتهم. إنهم أصحاب القطع القزميَّة من الأرض (وربما أكثرهم الآن بلا أرض). هم العمال الأجراء ذكورًا وإناثًا وأطفالاً، ومنتجو بعض أدوات العمل وبعض السلع. هم أصحاب الحرف والصناعات اليدوية البسيطة والشاقة. ورغم أنهم يعملون أكثر من غيرهم- بمجهود مضاعف – في الحقول، وفي الشوارع، وفي الدور، وفي الورش، وفي البحيرات، فإنهم يعيشون من أيديهم إلى أفواههم مباشرة، مضطرون لقبول ما يسمح به الآخر لهم. إنهم الفئات التي حوصر إبداعها ومقولاتها، وحجبا عن المرور إلى الثقافة المكتوبة والمسموعة والتاريخ المسجل والسياسات العليا، هم الذين فرضت أوضاع البنية الاجتماعية أن يكون إبداعهم من أجل البقاء، من خلال المقاومة اليومية لكل ما يحول دون تحقيق مقادير من إنسانيتهم18. إنهم يمثلون قوة الضعفاء، وقوة من لا قوة لهم. بوسعنا أن نسوق عددًا من الأمثال الشعبية التي أبدعها الإنسان المصري لكي يورث بها "الحكمة" للأجيال التي تأتي، بعد أن أودع فيها منظومة متكاملة من القيم الرمزية التي يبدو مغزاها واضحًا، لتحمي الناس من الوقوع في شرك الإذعان، والاستسلام للضغوط وللفقر، عبر تعزيز قيم التفاؤل والكرامة والتضامن والتواصل والترشيد الاجتماعي وقيم العمل والمثابرة وحب الحياة والاعتداد بالنفس والاعتماد على الذات والتعاون ومقاومة الفقر والعوز وتحقيق المشاركة الجماعية والالتصاق بالواقع وبالأرض وبالأصول وبالناس19: 1- الفِِلاحه فَلاَحه 2- الحركة بركه 3- الجود في الموجود 4- ازرع كل يوم تاكل كل يوم 5- إدّاين وازرع ولا تداين وتبلع 6- الإيد التعبانه شبعانه 7- الإيد البطالة نجسه 8- لو جار عليك الزمن جور على دراعك 9- اشتغل لحد ما تاكل ولا تستحمل الذل 10- اشتدي يا أزمة تنفرجي 11- إحنا ساعيين والرب معين 12- الزبده ما تطلعش إلا بالخض 13- الندب بالطار ولا قعاد الرجال في الدار 14- إزرع المعروف تحصد الشكر 15- جوع سنه واشبع العمر كله 16- ما يمسحش دمعتك إلا إيدك 17- إحنا بنزرع لأولادنا يحصدم 18- الناس لبعضيها 19- جنه من غير ناس ما تنداس 20- صنعه ف الإيد تغني عن الفقر 21- أكل البلح حلو بس النخل ف العالي 22- إن جالك الشر اتلقاه 23- صبرك على بطنك ولا صبر الجزار عليك 24- كُلْ كَمُّوْنْ وامشي عرض وطول 25- قمر وزيت دا خراب بيت 26- قيمة كل إنسان ما يحسنه 27- التدبير نص المعيشة تحضرني ملاحظة منهجية ملحة هنا؛ فلا مراء في أهمية دراسة "المثل الشعبي" بوصفه جنسًا أدبيًا شفهيًا يحمل خصائص لسانية ومقومات جمالية شديدة الخصوصية. لكن ما ندعو إليه هو – باختصار – دراسة محتوى شكل المثل؛ أي تحليل قيمه الجمالية والاجتماعية في آن معًا. فالمثل الشعبي نوع أدبي كاشف عن شمائل المجتمع وطرائق عيشه ومختلف معارفه وعلومه ووجوه تفاعل أفراده مع الطبيعة المحيطة بهم. وفي الوقت نفسه، هو جنس أدبي شعبي ذو خصيصة فنية متميزة، كثيف للغاية – أو قل: فقير جدًا - على مستوى الدوال اللغوية، بينما يتمتع بثراء واسع على مستوى الدلائل والدلالات الاجتماعية، مما يجعل دراسة "سياق" أداء المثل شأنًا استراتيجيًا لا غنى عنه20. من المشروع تمامًا أن تفترض استحالة تنمية مجتمع محلي ما، يحكمه إطار مرجعي (ثقافي – اجتماعي) خاص، دون معرفة عميقة بأنساق القيم والثقافة التي يتبناها. والتي تتبدى في جملة معتقداته وعاداته وتقاليده وسلوكه ومأثوراته الشفهية وإنتاجه المادي والرمزي، إلى آخر ملامح حياته الشعبية اليومية. وأكدت خبرات ميدانية طويلة، أنه من القصور حقًا أن يُتصور تحقيق تنمية - أية تنمية – منبتة الصلة عن الواقع الثقافي والاجتماعي والتاريخي للمجتمع المراد تنميته، ذلك هو الأساس الفلسفي الذي تنهض عليه تجارب تنموية جديدة في العالم، منها ما يعرف بـ"اقتصاديات المواقع الرمزية"21، وغيرها من التجارب التي تبحث عن بدائل جديدة للتعبير وللتدبير الاجتماعي، قصد إحياء الفضاءات البشرية والثقافية في عالم التنمية، وإيجاد تعريف لحياة بسيطة في سياق التحديث والإصلاح، إنها تجارب جارية على كل المستويات في مناطق شتى. ومما يدعو للأمل أن حركات التصدي لأنموذج التنمية السائد، لا تقتصر على بلدان الجنوب فحسب، بل شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين بحثًا مثمرًا جدًا في بلدان الشمال أيضًا22. هناك اتجاه آخر يتصور أن دور القيم المعنوية والمعتقدات والمعارف الشعبية ليس هو الدور الحاسم في عملية التنمية، وأن القصور يكمن في تصور أن التنمية تتحدد بفعل الثقافة، لكن هذا الاتجاه – على أية حال – لا ينكر الأهمية الشديدة للخصائص السوسيولوجية والثقافية في عملية التنمية، إنما يكمن مغزاه الحقيقي في الدعوة إلى عدم التبسيط الزائد في العلاقة بين الثقافة والتنمية23. يمكننا أن نطور أفكار جرامشي الذهبية24، حول أهمية الثقافة الشعبية لحل مشكلة التغيير والتنمية في المجتمع المدني، وهي أفكار تتسق مع الاتجاه الذي يتبناه الباحث، حيث يحذر جرامشي من التعامل مع الفولكلور باعتباره طرفة، أو باعتباره أمرًا مثيرًا للعجب، فالحقيقة أنه شيء جاد جدًا، يجب التعامل معه بجدية، إنه تصور للعالم وللحياة، وهو خاص ببعض الفئات الاجتماعية (محددة بالزمان والمكان)؛ أي إنه خاص بـ "الشعب"، من حيث هو "مجموع الطبقات الخاضعة"، والفولكلور متعدد، وشديد التنوع، يقف في تعارض وتناقض ومعارضة ضد التصورات الرسمية، وضد تصورات "الطبقات الحاكمة"، وضد "الدولة"، أي إن الفولكلور يتناقض مع "المجتمع الرسمي" بشكل عام. من هنا، يمكن فهم الفولكلور باعتباره انعكاسًا لشروط حياة الشعب الثقافية. من جانب آخر، يشير جرامشي – محترزًا – إلى أن الشعب لا يستطيع امتلاك تصورات واضحة ومنتظمة ومنظمة وممركزة سياسيًا. وبسبب هذا العجز، يصبح الفولكلور – الذي هو انعكاس لشروط الحياة الشعبية – امتدادًا غير مباشر للثقافة المسيطرة، أو مجالاً للوقوع في شرك الاستتباع للثقافة العالمة أو المسيطرة، لكن الفولكلور – في نهاية المطاف – يمكن أن يمنحنا المادة الخام التي يجب على النخب العضوية تشكيلها، وإغناؤها بالاتساق، دون أن يُستغل ذلك لصالح أطراف أخرى غير أصحابها.
4. في حماية الثقافة الشعبية من أجل التنمية
تُرى، هل ثمة إمكانية لمقاومة زحف المخاطر والتهديدات التي تستهدف - في الصميم - طمر الثقافة الشعبية ومأثوراتها وتراثها؟ قد يكون الجواب البديهي المباشر عن هذا السؤال هو أن مثل هذه الإمكانية منعدم الآن بعد أن فاتتنا فرص تاريخية لتحقيق هذه الإمكانية، وهو - في الحقيقة - جواب يتغذى من معاينة درجة الخلل الرهيبة في توازن القوى الثقافي - سواء على الصعيد الوطني الداخلي، أم على الصعيد الكوكبي الخارجي - بين ثقافة تتمتع برصيد هائل من الدعم والقوة والحماية، وأخرى مجردة من أية حماية وقائية تصد الهجمات الشرسات التي قد تتعرض إليها. ليست هناك معجزات في الأفق، ولكن من المفيد القول بأن فعل العدوان والتهديد لا يحتل المشهد وحده، بل هو غالبًا ما يستنهض نقيضه، بسبب ما ينطوي عليه عنفه الرمزي من استفزاز لشخصية المعتدى عليه ومن تشبث بثقافته وهويته. ماذا يمكن أن نسمى - مثلاً - حالة الانكفاء الثقافي للمغلوب إلى منظوماته الثقافية الشعبية والتقليدية؟ إنها شكل من الممانعة الثقافية ضد الاستسلام، ومحاولة البحث عن نقطة توازن في مواجهة عصف التيار الثقافي الجارف. إنها محاولة للاحتماء من عملية اقتلاع كاسحة، وهى تبدو أحيانًا دفاعًا سلبيًا عن الثقافة الشعبية والوعي الجمعي، لكنها تظل - في نهاية المطاف - مظهرًا من مظاهر المقاومة الثقافية المشروعة، وإن كان من الواجب القول بأن معركتها مع العولمة الثقافية خاسرة في النهاية، إن لم تتحول إلى مقاومة إيجابية تتسلح بالأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة26، كما أن مقاومتها للمتغيرات الجديدة والقيم الثقافية المكرسة والمُعَمَّمَة، الرسمية وغير الرسمية، يلزمها حماية ودعم يعيدان لها قدراتها على فرض الوجود، وتغيير موازين القوى الثقافية لصالحها. اهتمت اليونسكو - طوال العقود الخمسة الأخيرة في القرن العشرين - بإرساء مجموعة كافية من الشروط والقواعد للسياسات الثقافية من أجل التنمية27، وللدفاع عن الحقوق الثقافية وحمايتها للجماعات والأفراد. وانتهت اليونسكو إلى أن مفهوم التراث الثقافي قد اتسع في السنوات الأخيرة، بسبب التحولات العالمية في تسعينيات القرن العشرين، وترجع الشعبية المتزايدة التي يتمتع بها التراث الثقافي والاجتماعي إلى وعى متزايد لدى الناس بثرائه وبنواحي ضعفه. لذلك، تتعاظم أهمية تطبيق الدول للتدابير التشريعية والإدارية والتقنية والمالية التي سبق تحديدها لحماية تراثها. ثم إن مجموعة المعايير التي أعدت اليونسكو نفسها جزءًا كبيرًا منها، لا تقتضى، على ما يبدو، تجديدًا جذريًا؛ بل إن المطلوب هو تطبيقها تطبيقًا جذريًا. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ أن هناك حزمة من الشروط التي أهملت كثيرًا ولم تنل - بعد - حقها من الاحترام الواجب: المبادئ الإرشادية الأساسية المتعلقة بحصر التراث الثقافي، وتدريب الموظفين المؤهلين، وإدارة التراث والمأثور بصورة متكاملة. وقد توجت اليونسكو جهودها في هذا المضمار بصدور اتفاقية "حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي" في أكتوبر 2005، حيث جددت الاتفاقية - في أهدافها التسعة - التأكيد على أهمية الصلة بين الثقافة والتنمية بالنسبة لجميع البلدان، وبالأخص للبلدان النامية، ومساندة الأنشطة المضطلع بها على الصعيدين الوطني والدولي، لضمان الاعتراف بالقيمة الحقيقة لهذه الصلة. وجددت التأكيد على حق الدول السيادي في مواصلة سياساتها الوطنية واعتمادها وتنفيذها، واتخاذ التدابير التي تراها ملائمة لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير على أراضيها. وفي الفقرة الخاصة بالمبادئ التوجيهية الثمانية للاتفاقية، اختص دور الثقافة في عملية التنمية بمبدأين منها: 1- مبدأ تكامل الجوانب الاقتصادية والثقافية للتنمية: لما كانت الثقافة أحد المحركات الرئيسية للتنمية، فإن الجوانب الثقافية للتنمية لا تقل أهمية عن جوانبها الاقتصادية، وللأفراد والشعوب حق أساسي في المشاركة فيها والتمتع بها. 2- مبدأ التنمية المستدامة: يشكل التنوع الثقافي ثروة نفيسة للأفراد والمجتمعات. وتعد حماية التنوع الثقافي وتعزيزه والحفاظ عليه شرطًا أساسيًا لتحقيق التنمية المستدامة لصالح الأجيال الحاضرة والمقبلة. في المستطاع تأمل بعض فقرات الوثيقة المهمة التي أعدتها اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية27، وطرحت على المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية28، مع ملاحظة أنني لا أدرجها على نحو نصي، بل بتصرف ينهض على التفاعل مع مغزى الغايات التي استهدفتها منظمة اليونسكو: 1- سيتعين على كل مجتمع أن يقيم طبيعة تراثه الثقافي والطبيعي، وظروف ضعفه، وسياسات جمعه وحفظه، بحسب معاييره الخاصة، وأن يحدد مجالات استغلالها، والصلات التي يود إقامتها فيما بينها. ولذلك، فمن الأهمية أن تشارك في عملية "التحديد الجغرافي للتراث" في كل بلد، جميع فئات المجتمع. وبالمثل، ينبغي ألا تقع مسؤولية توفير السبل للاضطلاع بهذا العمل على الهيئات المركزية للدولة فحسب، بل أيضًا، إن لم يكن ذلك في المقام الأول، على البلديات [المحليات] والجمعيات الأهلية، والمناطق [الأقاليم]. وينبغي أن يكون الأسلوب المتبع في هذه العملية قائمًا على التجارب الراهنة والمعارف الجديدة؛ ذلك لأن الغرض لا يتمثل في الصون فحسب؛ بل أيضًا في إقامة صلات حكيمة بين الماضي والحاضر. 2- إن تلك الصلات بين كل هذه الأطراف ستزداد هشاشة - بلا شك - ما لم يكن هناك مدربون. لذا، ينبغي للأولوية الممنوحة لحصر التراث بالمعنى الواسع، أن تقترن بتدريب يشمل مجموعة كاملة من المهارات، ابتداءً من الجمع الميداني للمأثورات الشعبية، وانتهاء بتقنيات الصون العملية للتراث الشعبي، ذلك أن حماية المأثور وصون التراث لا يمكن أن يصبح حقيقة واقعة إلا بامتلاك التقنيات الميدانية والتكنولوجية والمعارف والدراية الفنية والدربة، التقليدية والمعاصرة في آن معًا. وإذا تسنى لهذا القدر الكبير من المأثور البقاء لهذه الفترة الطويلة، فإن ذلك يرجع إلى وجود أساليب تقليدية وطبيعية للحماية والصون سادت طوال قرون عدة في كثير من الثقافات. لكن، الآن، هل يمكن جمع هذه العناصر المترابطة في إطار رؤية سياسية واحدة، بحيث نقترب من الهدف الرئيسي المنشود، وهو ترسيخ عمليات الجمع والحماية والصون على المستوى المحلى، بحيث تصبح حقيقة علمية وعملية واقعة؟ 3- ينبغي التشديد بالقوة نفسها على إدارة المأثور الشعبي غير المادي، الذي لا يُراعى بالقدر الكافي في عملية وضع السياسات، وربما يرجع ذلك إلى أن المأثور الشفهي واللغات (= اللهجات)29، وفنون الأداء التقليدية30، والمعارف الشعبية والعادات والتقاليد والمعتقدات، لاتزال تندرج في إطار الممارسات الحياتية اليومية، ولكن حتى متى؟ فهده العناصر مهددة، ولا تقدر هشاشتها، وضعفها، وحاجتها إلى الحماية، حق قدرها، ولاتزال السياسات أكثر تركيزًا على الآثار والمواقع التاريخية. ومن شأن برنامج اليونسكو، الذي أصبح يركز منذ فترة قريبة، خلال عقد التسعينيات، على المأثور والتراث غير المادي، أن يسعف هذا الوضع، كما ينبغي للأطر السياسية الوطنية أن تمهد السبيل إلى هذا الاتجاه، ويتعين، في هذا المجال أيضًا، على الحكومة ومعها المؤسسات الأهلية، أن تضطلع بمسؤولية توعية الجمهور، ذلك لأن الثقافة الشعبية غير المادية، بعناصرها التراثية والمأثورة، التي تجد جذورها في المجتمعات الريفية وغيرها، أصبحت نوعًا من اللغز يتعيَّن إيضاحه، أو مجموعة من المعارف الجزئية يتعيَّن تجميعها وتنظيمها. إن عملية تجميع كل هذه العناصر وانتظامها في نسيج علمي / ثقافي جديد يضفى مغزى على مستقبل الثقافة الشعبية، ومستقبل المَلَكَة الإبداعية التي تتمتع بها الجماعات الشعبية. 4- إذا أريد للثقافة الشعبية أن تنتقل من حالة التهميش إلى احتلال الصميم في عملية رسم السياسات، فلابد من تعبئة المتخصصين لبلوغ هذا الهدف، في مؤسسات توفير المنهجية اللازمة، وجملة من الحوافز المتعاونة، فالقطاع الأكاديمي كثيرًا ما تتوفر لديه الكفاءات في تطبيق الأطر المفهومية والمنهجيات، وقطاع المجتمع المحلى كثيرًا ما يمتلك المعارف المحلية اللازمة، في حين يمتلك القطاع الحكومي أكثر من غيره السلطات والموارد المطلوبة لتطبيق السياسات. 5- لا يمكن تنفيذ أية سياسة ثقافية، حتى وإن كانت أفضل السياسات إحاطة بواقع الحال، وأشدها تماسكًا وطموحًا، ما لم تتوافر عليها الأموال الكافية لذلك. كما لا يمكن تنفيذ هذه السياسة ما لم يُدرب باحثون أَكْـفَاء، فالتدريب أحد الشروط الرئيسة في سياسات الجمع الميداني وحماية الثقافة الشعبية ومأثوراتها وصون تراثها. كما لا يمكن إدارتها بالحكومة وحدها التي غالبًا ما تخصص معظم الميزانية المرصودة لقطاع الثقافة من أجل المدن الكبيرة، بينما يضعف الإنفاق على الأقاليم البعيدة عن مراكز السلطة. وهذه الأقاليم في الغالب الأعم هي الحاضنة للثقافة الشعبية. وبالتالي، فإنها حتمًا معرضة لعوامل التهديد دون حماية. 6- لقد أصبحت البلدان التي أدركت الأهمية الاستراتيجية لقضايا الثقافات الشعبية ودفع الذاتيات الثقافية إلى الازدهار وإدراجها في الحدث التنموي، تتمتع اليوم بوضع ممتاز على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، بينما أصبحت البلدان التي أهملت هذه الأمور تواجه خيارين أحلاهما مر: فإما أن تخضع لفيض من المنتجات والمضامين الثقافية الأجنبية - الأمر الذي يستتبع دفع ضرائب باهظة، فضلاً عن الشعور المرير بالخطر المحدق بذاتيتها الثقافية - وإما أن تسلك سبيل الحماية باللجوء إلى الانغلاق. لذا، فإن تأسيس مجال وطني للمنتجات الثقافية السمعية والبصرية قائمة على اكتشاف جوانب الثقافة الشعبية، يمثل تجربة واعدة في مجال صون ملامح ثقافية تتصف بالخصوصية. مع الاحتراز كثيرًا، فقد أصبحت الثقافة الشعبية - في كثير من البلدان- تشكل عنصرًا أساسيًا من عناصر الثقافة الجماهيرية، حيث تستخدم التقاليد وكل ما يخص المأثور الثقافي على نحو بات، في نظر الكثير، ألعوبة تستغل لأغراض تجارية؛ أي تحويل الأصول الثقافية إلى سلع، وإذا كانت السوق العالمية تدعى توفير فرص جديدة لحماية المأثور وإحياء التراث ومشاطرة الثقافة الشعبية، فهي تقترن أيضًا بمجموعة من الأخطار والمحاذير، لكنها أخطار يمكن التخفيف منها، إذا ما أمكن ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. 7- يشكل إدراج النشاط الإبداعي الشعبي في تحسين العلاقات الاجتماعية مسألة رئيسية، فقد ظلت أشكال كثيرة للتعبير الشعبي تستخدم في البرامج الإنمائية من أجل تعزيز هوية الجماعة وترسيخ الشعور بالانتماء إليها، ومن أجل التوعية بالظلم الاجتماعي وغيره من الإشكالات. واليوم، إذا أصبحت قوى الاستبعاد واللاتسامح تتنامى من جديد، صار النشاط الإبداعي أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذا ما أردنا للأفراد والجماعات أن يعيدوا تشكيل أنماط عيشهم معا, وأن ينشدوا صيغة جديدة في المعاشرة، على المستويين المحلى والعالمي، وذلك كشكل للاستجابة لتحدٍّ كبير يتمثل في تحقيق تنمية بشرية مُستدامة للقرن الحادي والعشرين. 8- إن التعددية الثقافية ليست بالأمر الجديد على عصرنا، إذ إن هناك مجتمعات كثيرة تتكون، منذ وقت طويل، من جماعات ثقافية مختلفة، وقد وجد كل منها طريقه الخاص لممارسة التنوع، بل إن طابع التعددية قد ازداد في الثقافة المعاصرة التي أصبحت تتصف ببعض السمات الفريدة التي تميزها عن ثقافات مجتمعات الفترة ما قبل الحديثة. كما أن هذه التعددية هي واقع معيش في ظل تزايد العولمة الاقتصادية والثقافية التي تؤدى إلى التماثل في مجالات عدة من ناحية، وإلى تزايد الوعي بالطابع من ناحية أخرى، غير أن التعددية الثقافية تستثير المخاوف بشأن فقدان الهوية، وتدفع إلى إعادة اكتشاف أو إبداع تقاليد ذاتية تؤكد الشعور بالاختلاف الثقافي، مع إضفاء صبغة المشروعية على هذا الشعور. ومع ذلك، فإن لكل مجتمع اختلافاته الثقافية، ليس على الصعيد الإثنيّ فحسب؛ بل كذلك على صعيد العلاقات بين الجنسين، واعتبارات السن، والمعتقدات الدينية، وتقاليد الفئات المهنية والاجتماعية، وغير ذلك من المجالات. ولقد عالجت بعض الدول هذه القضايا بتطبيق سياسات صريحة للتعددية الثقافية، بينما هناك دول أخرى تعالج هذه القضايا باعتماد مواقف تقوم على الاستيعاب الثقافي الذي يكاد لا يترك مجالاً للحفاظ على ممارسات ثقافية متميزة. إن معظم مجتمعات اليوم القوية تواجه ضرورة التوفيق بين مستلزمات الوحدة والتنوع بأساليب ملموسة في إطار الحياة اليومية، فبدون توافر الوحدة، لا يمكن لهذه المجتمعات أن تبقى متماسكة، وأن تتخذ وتنفذ قرارات ملزمة للجميع، ولا بد أن يتولد فيها الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة. أما التنوع، فلا يجب النظر إليه بوصفه أمرًا مفروضًا لا مفر منه؛ وإنما بوصفه عامل إثراء في مجال الوحدة.
5. في معارف أهل الريف
على مدار تسع سنوات (1996-2005) من العمل الميداني في قرى أسيوط وسوهاج وقنا، قمت بتدوين قائمة من الملاحظات حول قضايا اجتماعية، من خلال ما تضمنته نصوص السيرة الهلالية من موضوعات، أو ما أشار إليه الرواة أو الجمهور، أو ما لاحظته من منظومة الرموز المحيطة، أو ما تشكله أنواع أدبية شعبية أخرى من دلالات اجتماعية وفكرية محلية (كنصوص الموال والأمثال). في سياقات مناسبة، كنت أحاول الربط بين هذه القضايا والحدث الشفهي للنص الأدبي الشعبي، فلاحظت تفاعل الجمهور وحماسه لإبداء وجهة نظرهم في مختلف هذه القضايا، وبالفعل دارت مناقشات طويلة ومتقطعة. انطوت على عدد من الأفكار والتحليلات حول التنمية الريفية – كما هي مطبقة في القرية – والتعليم، وتعليم الكبار، والتسرب، وقضايا المرأة (أدوار النساء)، والمشاركة السياسية، ومشكلات الزراعة، والاحتياجات الحقيقية للقرية، وطرائق مواجهة الظروف المعيشية الصعبة. عبر هذه المصادفة المثيرة، أدركت أهمية العمل الميداني لجمع المأثورات الشعبية في الولوج إلى القضايا المحلية الدقيقة والعميقة والتفصيلية، واكتشفت أن احتواء النصوص الشفهية (نصوص السيرة والموال والحواديت والأغاني والأمثال) على وجهات نظر رمزية تتصل بالمجتمع وقضاياه يمثل مفتاحًا سحريًا للأبواب الموصودة في ذاكرة الرواة وذاكرة الجمهور والأطراف المحلية على السواء، حيث تتحقق فرصة الكلام بقلوب مفتوحة في الموضوعات المثارة، وفي سرد طرائق المجتمع في التعامل مع المشكلات الأساسية في حياته اليومية، ومعرفة خبرات الأفراد... إلخ. كما انتبهت إلى أهمية جمع السياق الشفهي الذي يؤدى فيه النص الشعبي، ووصف السياق الاجتماعي الذي يتداول فيه. لقد مثَّلت هذه التجربة نافذة على كنز معرفي كبير، يبدو أنه تجوهل من قبل الباحثين والخبراء، وبدا لي أن النخبة لا تعلم أن الفقراء هم خبراء مقاومة الفقر، وخبراء المجال الاجتماعي الذي يعيشون فيه، وأن الفلاحين هم خبراء الزراعة، وخبراء المجال الريفي بكل قطاعاته ومفرداته. وأن أفراد المجتمع المحلي هم المصدر الرئيس – إن لم يكن الوحيد - لمعرفة خصائص هذا المجتمع وأمنياته. كان طبيعيًا أن أسجل واحدًا من أهم نتائج عملي الميداني في أسيوط – ثم اعتمدت هذه النتيجة نفسها في عملي الميداني بسوهاج وقنا - تتمثل في ضرورة المعاينة الميدانية لمعارف أهل الريف، تلك المعارف التي توصف، في مضمار البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، بأنها علوم شعبية، وأيكولوجية شعبية، أو علوم القرية، أو المعارف الريفية الشعبية. تنطوي هذه العلوم والمعارف على مستويات معرفية ومفهومية واصطلاحية محلية في مختلف مجالات المحيط الريفي: الزراعة (التربة؛ النبات؛ الآفات؛ الحشائش... إلخ)؛ الحيوانات والطيور والزواحف والحشرات؛ الفصول؛ المناخ؛ المقاييس والمعايير والمكاييل والأوزان؛ الألوان؛ الأزياء والزينة؛ العمارة؛ الصناعات التقليدية؛ التطبيب الشعبي والتداوي؛ أدوات العمل والمنزل؛ النيل؛ المشروع (الترعة)؛ منظومة العلاقات الاجتماعية (علاقات القرابة؛ الجيرة؛ التكافل الشعبي والاجتماعي؛ الصراعات القبلية والعائلية... إلخ)؛ أوقات الفراغ (الألعاب الشعبية؛ التسلية)؛ الوعي الشفهي بالماضي وبالمستقبل؛ اللغة واللهجة واللسان؛ العادات والتقاليد والفنون المتصلة بدورة الحياة؛ المعتقدات (الدين؛ الغيب؛ السحر؛ الجن؛ التصوف... إلخ)؛ أسماء الأشياء وأوصافها وتفسير معانيها؛ المعرفة المتصلة بالمفاهيم والأدوار (الفقر؛ العمل؛ البطالة؛ التربية؛ التعليم؛ العلم؛ الجهل؛ التدبير؛ الاقتصاد؛ السياسة؛ الحكومة؛ النقطة؛ الجمعية الزراعية؛ الزواج؛ العائلة؛ الأسرة؛ الإنجاب؛ التعدد (تعدد الزوجات)؛ الطلاق؛ تحديد النسل؛ دور المرأة؛ دور الكبار والعجائز؛ دور الشباب؛ دور الجمعيات؛ دور الحكم المحلي؛ دور القادة المحليين؛ المدرسة؛ المسجد... إلخ). من الملاحظات التي أثارت انتباهي أن المناقشة المباشرة في هذا الموضوع ليست مجدية غالبًا، فالقرويون لا يستقبلون الأسئلة المباشرة على نحو جيد، ولا يتحمسون كثيرًا للمناقشة التي تقوم على أسلوب الاستبيان المقنن، والأسئلة المنظمة دون مبرر مقنع، وغالبًا ما يتوجسون من الممارس الميداني الذي يلتزم بهذه المنهجية، إن حيوية النقاش تتوقف على وجود سياق طبيعي، وأتصور أن جمع المأثورات الأدبية الشفهية يمثل وسيطًا ذهبيًا بين الباحث والرواة والجمهور المحلي، ومسوغًا طبيعيًا لمناقشة مفتوحة تتيح حرية تداعي الأفكار، وسرد الخبرات والمعارف والمواقف لدى الفئات والشرائح الاجتماعية المتنوعة في المجتمع الريفي. ولذلك، لا أنصح باستخدام أساليب الاستبيان، وإلقاء الأسئلة المنظمة على الرواة، أو على أفراد ومجموعات تنتمي إلى المجتمع المحلي في القرية، فهذه الأساليب لا تلائم السياق الاجتماعي والثقافي، والطبيعة السيكولوجية والذهنية لأفراد المجتمعات المحلية القروية. في الوقت نفسه، يمكن الاعتماد على الدراسات الميدانية السابقة، وعلى أدلة العمل الميداني التي تحتوي على مئات الأسئلة والتفاصيل، باعتبارها منظومة من التوجيهات الإرشادية للباحثين والجامعين، أي باعتبارها مادة تدريبية تكسبهم المهارات المعرفية اللازمة في العمل الميداني31. قبل أن نغادر هذه النقطة، ثمة مشكلة تتعلق بعمل الباحثين والجامعين في الميدان، حيث يجد الممارس الميداني نفسه في داخل شبكة العلاقات المعقدة في المجتمع المحلي، ومن ثم، سيكون محطًّا لمجموعة من الالتزامات والتوقعات التي سيكون من الصعب معالجتها، أو التعامل معها، خاصة إذا كانت غير ملائمة لطبيعة دوره، أو إمكاناته الذاتية، مما قد يتسبب في فوضى، واستجابات غير مناسبة، ومواقف صعبة، من شأنها أن تعوق سير العمل كما ينبغي، أو كما هو مخطط له. استنادًا إلى الخبرة الميدانية أيضًا، يتعين على الممارس الميداني أن يتمتع – قبل كل شيء - بقدر كاف من الصفات والمهارات الطبيعية والمكتسبة، على السواء، مثل القبول، وحسن التصرف، والصدق، وسرعة البديهة، والصبر، والتحمل، والإقناع، وهي خصائص يجب أن يتسم بها أي ميداني، خاصة في مجال جمع المأثورات الشعبية. ولكي يتعامل الميدانيون مع هذه الشبكة من العلاقات، التي لا مناص من الانخراط فيها، لابد أن يكونوا قادرين على تحديد نماذج السلوك الملائمة لهم، وللآخرين. وأن يكونوا ملمين بالبدائل، والاختيارات المتاحة، وبالوسائل والأساليب المناسبة للتعامل مع الرواة وأفراد المجتمع، وأن يهتدوا إلى أدلة بشرية، تنتمي إلى القرية نفسها، وتتمتع بالمعرفة المحلية، والحكمة، واحترام الأهالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1. عبد الإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء/بيروت، 1998، ص 18-19. 2. راجع: محمد حافظ دياب، الثقافة، سلسلة الشباب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002، ص 78. 3. محسن مرزوق (محررًا)، فضاءات أهلية: ريح الجنوب تهب على العالم، منظمة ألتايير، تونس، 1998، (انظر: سمير أمين، نحو نظرية للثقافة غير أوروبية التمركز، ص ص 143 - 145). 4. راجع: بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 2001، ص 46. 5.رضوان السيد وعبد الإله بلقزيز، أزمة الفكر السياسي العربي، دار الفكر، دمشق، 2000، ص 82-83. 6. حول مسألة التبعية الذهنية، راجع: سيد البحراوي، التبعية الذهنية في النقد العربي الحديث، أدب ونقد (القاهرة)، أبريل 1994. 7. السيد وبلقزيز، مرجع سبق ذكره، ص 83-84. 8. روبرت تشامبرز، التنمية الريفية: وضع الأواخر أوائل، ترجمة: محجوب عمر، دلمون للنشر، نيقوسيا، 1990، ص ص 23 - 25. 9. مجيد رهناما، نحو رؤى جديدة: الحاجة إلى نماذج جديدة وإلى لغة جديدة، ورقة مقدمة إلى الدورة التدريبية المعنونة بـ "إشكاليات العولمة وثقافات الجنوب"، منظمة ألتايير (تونس)، منظمة إندا (المغرب)، الرباط، نوفمبر 1999. 10. محمد حسن عبد الحافظ، محتوى الشكل في الرواية المصرية؛ علاء الديب نموذجًا، فصول (القاهرة)، العدد 59، ربيع 3002، ص 286. 11. تشامبرز، مرجع سبق ذكره، 23. 12. رهناما، مرجع سبق ذكره. 13. المرجع نفسه. 14. جيرمي سيبروك، ضحايا التنمية: المقاومة والبدائل، ترجمة: فخري لبيب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص 11. 15. راجع: تشامبرز، مرجع سبق ذكره، ص 70. 16.سيبروك، مرجع سبق ذكره، ص 12. 17. إبراهيم العيسوي، التنمية في عالم متغير: دراسة في مفهوم التنمية ومؤشراتها، منتدى العالم الثالث، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 35، 36. 18. عبد الباسط عبد المعطي، توزيع الفقر في الثقافة المصرية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1979. 19. راجع: أ - جون لويس بوركهارت، العادات والتقاليد الشعبية من خلال الأمثال الشعبية في عهد محمد علي، ترجمة: إبراهيم أحمد شعلان، سلسلة الألف كتاب الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000. ب - محمد سعيد أحمد زيدان، المثال الشارح: مدخل لتعليم التفلسف، سفير للإعلام والنشر، القاهرة، 2000. 20. حول منهجية دراسة المثل: انظر: حاتم عبيد، المثل قضاياه ومعناه، فصول (القاهرة)، العدد 67، صيف-خريف 2005، ص ص 34-59. 21. فضاءات أهلية، مرجع سبق ذكره، (انظر: حسن زوال، الاقتصاد الجديد للأقاليم: منهجية التحليل بالمواقف، ص ص 240 - 287). 22.رهناما، مرجع سبق ذكره. 23. المرجع نفسه. 24. راجع: أمينة رشيد (محررًا)، جرامشي وقضايا المجتمع المدني، مركز البحوث العربية (القاهرة)، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر (نيقوسيا)، الطبعة الأولى، 1991، (انظر: فيصل دراج، الثقافة الشعبية في سياسة جرامشي، ص ص 204-221. وانظر: عصام فوزي، آليات الهيمنة والمقاومة في الخطاب الشعبي، ص ص 240 - 355). 25. بلقزيز، العولمة والممانعة، منشورات رمسيس، الرباط، 1996، ص 66. 26. لمزيد من التفاصيل حول جهود منظمة اليونسكو - منذ خمسينيات القرن العشرين – في مضمار حماية المأثورات الشعبية من فيض التقدم التكنولوجي، وربطها بعمليات التنمية في العالم الثالث، راجع: رشدي صالح، الفولكلور والتنمية، عالم الفكر (الكويت)، يناير– فبراير- مارس 1967، ص ص 9 – 37. 27. راجع: منشورات اليونسكو، باريس 1996. 28. منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية، ستكهولهم، 30 مارس – 2 أبريل 1998. 29. لمزيد من التفاصيل حول قضايا الألسنة واللهجات، راجع: كليفورد فايل، اللغات الوطنية والذاتية الثقافية، رسالة اليونسكو (طبعة القاهرة)، يوليو 1983، ص 6-7. 30. حول فنون الأداء الشعبية، راجع: أ - أحمد مرسي، المبدعون والمؤدون: التدريب والأداء، التراث الشعبي (بغداد)، العدد الفصلي الأول، شتاء 1987. ب - محمد حافظ دياب، إبداعية الأداء في السيرة الشعبية (جزءان)، سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996. ج - بول زومتور، مدخل إلى الشعر الشفاهي، ترجمة: د. وليد الخشاب، دار شرقيات، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999. د - محمد أحمد عمران، موسيقا السيرة الهلالية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999. 31. انظر المراجع الأساسية في هذا المجال: أ - محمد الجوهري (وآخرون)، دليل العمل الميداني: الدراسة العلمية للمعتقدات الشعبية، دار الكتاب للتوزيع، القاهرة، 1978. ب - يان فانسينا، المأثورات الشفاهية، ترجمة وتقديم: أحمد علي مرسي، دار الثقافة، القاهرة، 1991. ج - زينب شاهين، الإثنومثيودولوجيا: رؤية جديدة لدراسة المجتمع، مركز التنمية البشرية والمعلومات، القاهرة، 1987. د - ديفيد هينج، التاريخ الشفهي، ترجمة: ميلاد المقرحي، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، طرابلس، 19991. هـ - محمد حافظ دياب، إبداعية الأداء في السيرة الشعبية، الجزء الثاني، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996.
#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أفق المرأة المصرية
-
محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا
-
الشعر مدينة خربانة؛ السيرة الشعبية وقضايا النوع الأدبي
-
طــريـق الــهـلالـيـة
-
الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
-
حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب
المزيد.....
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وجالانت لأ
...
-
كندا تؤكد التزامها بقرار الجنائية الدولية بخصوص اعتقال نتنيا
...
-
بايدن يصدر بيانا بشأن مذكرات اعتقال نتانياهو وغالانت
-
تغطية ميدانية: قوات الاحتلال تواصل قصف المنازل وارتكاب جرائم
...
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|