|
الهويات القاتلة والهوية الحضارية
قيس جرجس
الحوار المتمدن-العدد: 5873 - 2018 / 5 / 15 - 23:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن الإجابة على إشكالية الهوية بنفي وجودها أو السعي لنفيها، لا يسد رمق العقل السياسي، وهو أقرب إلى الأمنية أكثر من كونه مواجهة علمية حقيقة لما تسببه من حروب داخل المجتمع وحروب بين الدول في العالم. لابد من الاجتهاد في إجابة منطقية منسجمة مع طبيعة الاجتماع وطبيعة الإنسان ومصلحة ضمان مستقبل أفضل له وللبشرية جمعاء. أولا - الهوية في الاجتماع والتطور الاجتماعي: الهوية مسار وليست خيارا في الاجتماع: كما الأفراد محكومون بالتشابه والاختلاف بالصفات والإمكانيات في نفس الوقت. كذلك الشعوب والمجتمعات محكومة بالتشابه والاختلاف في نفس الوقت. وكما يُقال أن رحم الأم بستان كذلك حضن الأرض بستان أيضا. بين بستان وبستان وبين رحم الأم وحضن الأرض نجد علّة الهوية. ما يحكم نشوء المجتمعات وتطورها وتمايزها قانونان في سياق ومتن التفاعل الاجتماعي الأفقي والعامودي بين الأفراد وبين الجماعات داخل المجتمع وبين المجتمعات داخل العالم. داخل المجتمع: قانون التماثل وهو ما ينتج التجانس الاجتماعي وقانون التمايز وهو ما ينتج التنوع الاجتماعي وبين المجتمعات: قانون التماثل وهو ما ينتج التجانس الأممي الإنساني وقانون التمايز وهو ما ينتج التنوع الأممي الإنساني من أهم ما يحكم مسار القانونين - هو تنوع البيئات الجغرافية والعوازل الطبيعية التي كان لها دورا كبيرا في حدّ التواصل العمراني وشموله واتساعه وهذا العامل عامل طبيعي سلبي.. - وأيضا تطور وسائل التواصل والاتصال بفاعلية التطور العلمي المضطرد وهو الذي يعمل مع الزمن على قهر العوازل الطبيعية ويقرّب المسافات بين الجماعات داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات..وهذا عامل إنساني(من صنع الإنسان) ايجابي..
الطبيعة الاجتماعية إذا: - لا تقبل المساواة بين الأفراد والمجتمعات من ناحية الإمكانيات والصفات، والمساواتية الإيديولوجية السياسية قاهرة وفاشلة، لذا المطلوب من الناحية القيمية هو المساواة في الكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص وهذا ما يصطلح عليه بالعدل كلفظة أكثر دقة وتعبيرا إنسانيا.. - لا تقبل التطابق أيضا داخل المجتمع، بل تقبل التنوع على أرضية التجانس، لذا السعي الإيديولوجي السياسي للتطابق بين أفراد المجتمع على رأي أو لغة أو دين أو حزب أو أي مقوم آخر سيكون مصيره الفشل والسقوط في العنف والاستبداد ولو كان تحت مسمى أو مبرر وطني أو قومي توحيدي.. - لا تقبل الفراغ كما الطبيعة - ولا تقبل الحتمية في مسار التطور وتصوره وتفسيره، طالما العقل المعرفي الجمعي والتاريخي إمكانية غير محدودة.
إذا الهوية مسار وليست خيارا في الاجتماع: الأفراد يولدون وهم محاطون بمجموعة من الروابط الجزئية الموروثة، كرابطة العائلة والطائفة والدين واللغة والعرق..، على أرضية رابطة أساسية عابرة لكل الجماعات الجزئية، لأنها رابطة تأمين الحياة، وسبب نشوء الاستقرار والعمل والاشتراك في الحياة والتواصل، وبالتالي نشوء المتحدات البسيطة والمركبة والمجتمعات، وهي رابطة غير منتهية مفتوحة دائما بفاعلية التطور والتفاعل داخل المجتمعات وبينها، والتي يقودها التطور العلمي والمعرفي وتطور وسائل الاتصال والتواصل، وهي التي تأسست عليها الهوية الوطنية والحقوق الوطنية..
بناء على ذلك يمكن أن نقول هناك انتماءات ثانوية وانتماء أساسي لكل فرد أي هناك هويات ثانوية وهوية أساسية اجتماعية.. إذا طالما هناك رابطة تربط الفرد وتجمعه مع آخرين ضمن جماعة معينة هناك انتماء وهناك هوية معينة.. هل يمكن أن نتصور منطقيا وجود الفرد منذ نشوء الحياة على هذه الأرض وحتى نهايتها بدون جماعة بدون حياة اجتماعية بدون روابط مهما كان نوع الرابطة..عند إذٍ يمكن أن نتصور عالما بلا هويات.. وفي العلاقة بين الفرد والجماعة، ونتاجا لتطور الصراع التاريخي بينهما، تطور ما يسمى الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية، حيث يمكن أن نوجزه بالخلاصة التالية: الفرد من نقطة في موجة الجماعة إلى شخصية إنسانية ذات سيادة على نفسه الجماعة من ثقافة القبيلة إلى ثقافة الحزب والمؤسسات والدولة ذات السيادة على نفسها. ثانيا- الهوية في السياسة والتطور السياسي: الهوية خيار في السياسة: السياسة بنية فوقية صنعية أي من صنع الإنسان، وبشكل أدق هي ترتيب وتنظيم ثقافي معرفي اقتصادي لناتج اجتماعي، وأهم عامل في تطورها هو التطور الثقافي العلمي وتطور الوعي السياسي الجمعي والفردي.. أهم تطور حدث في الفكر الثقافي السياسي: هو تطور فكرة الدولة ونشوء الأحزاب كمؤسسات تقود وتعبر وتمثل الإرادة الشعبية كظاهرة برزت مع بروز الدول القومية الديمقراطية.. في قاموس السياسة تحضر الدولة والصراع على السلطة وتحضر المصالح والاستثمار السياسي وتبرز لفظة مواطن ودولة وطنية ونظام سياسي واقتصادي وأحزاب وطوائف وطبقات وأعراق واستثمار إيديولوجي للمصالح..
في السياسة المتخلفة: نجد ضياع للشخصية الفردية وقهرها، وضياع للشخصية الاجتماعية وتفتيتها وتمزيقها، وضياع وتشتت الإرادة الشعبية، لا حقوق إنسان ولا حقوق وطنية وقومية ولا سيادة إلا للعنف والتخلف والجهل والقهر..
غياب وتشتت الهوية الوطنية وسيطرة الأحزاب الهوياتية الطائفية والعائلية والدينية والعرقية واللغوية والطبقية واتجاه انعزالي تقوقعي هوياتي يناسب أحجامها وتواجدها..
غياب للدولة العادلة الوطنية، وبروز الظلم والإقصاء والإلغاء والتسلط والاستبداد والسعي القهري للتطابق تحت مسمى فردي أو عائلي أو طائفي أو لغوي أو حزبي أو ديني، كل أشكال الاستبداد تستبيح الإنسان والطبيعة والاجتماع..
في هذه السياسة هناك استثمار إيديولوجي غاصب لكل الروابط الجزئية الموروثة: على شكل هويات ثقافية سياسية قاتلة، على شكل أحزاب وتيارات طاحنة إعلاميا وماليا، وتلزيم سياسي لمصالح الجماعات الجزئية الوراثية على شكل وكالات حصرية عائلية وحزبية في مناقصات ومحاصصات سلطوية، طاغية من قبل جماعة طائفية معينة أو عائلية في بعض البلدان، أو توافقية في إدارات الدولة وسلطاتها في بعضها الآخر. وكل ذلك على أرضية تعزيز الجهل والفقر والظلم وبعث الموروث الديني والطائفي وثقافة القرون الوسطى.. أخطر ما مورس وما يمارس هو استثمار إيديولوجي للقيم كأقنعة عصرية لوجوه ثقافية متخلفة ذات حيثية استبدادية تسلطية قهرية.. الاستثمار الإيديولوجي للديمقراطية: - اختزالها لصندوق انتخابي يفضي لاستبداد العدد بالنوع على أرضية الأديان والطوائف - الأكثريات الحزبية الدينية من دعاتها لغاية تسلطية في نفسها. الاستثمار الإيديولوجي للعلمانية: - على أرضية نفي الديمقراطية لتبرير عنفها واستبدادها السياسي واحتكارها للسلطة. - الأقليات الحزبية الطائفية من دعاتها لغاية تسلطية في نفسها. كما أصبح للسيادة طائفة وللمقاومة والتحرير طائفة وللثورة طائفة وللعلمانية طائفة وهكذا.. لماذا لا نحتكم للديمقراطية العلمانية الحيادية(غير الإلحادية) والتي وصلت إلى تطبيقها أغلب النظم السياسية الحاكمة في العالم الحر والمتطور والحضاري.. في السياسة الحضارية المتقدمة: أهم الخلاصات التي تستخلصها من مسارها التطوري التقدمي التاريخي الذي احتاج لكثير من الحروب والثورات والتجارب والنظريات والإبداعات العلمية والمعرفية.. العبور من الموروث إلى رحاب وفضاء العلم وأنسنة الفرد والمجتمع والعالم.. - السياسة منسجمة مع نواميس الطبيعة والاجتماع، وليست قامعة لها ومعيقة لتطورها ومشوهة لنتائجها. هناك اعتراف بالشخصية الفردية وحقوقها في تفاعل إيجابي مع الشخصية الاجتماعية وحقوقها وتثبيت وترجمة ذلك في دستور الدولة، وهناك اعتراف بالهوية الحضارية الوطنية القومية الاجتماعية للجميع وتثبيت حقوقها في الدولة، هناك اعتراف بما يمليه قانون التواصل والتفاعل الداخلي والخارجي بين الأمم والعابر للحدود القومية السابقة وترجمته إلى وحدات إقليمية كبرى مع احترام إرادات الشعوب ومصالحها في ذلك، هناك تطور في مفهوم السيادة المطلقة إلى ما يسمى السيادة التساندية، هناك اعتراف بالتنافس الأممي وتطوره إلى صراع سلمي كبديل عن الحروب المدمرة عبر مؤسسات دولية ما تزال ترعى مصالح الأقوى من الأمم. - السياسة تقودها المعرفة والمعرفة يقودها الإبداع العلمي والفلسفي. - القضاء على الاستثمار السياسي للروابط الموروثة في الهوية. - تأسيس ثقافي سياسي على أساس رابطة الحياة، الرابطة الاقتصادية الاجتماعية الشاملة لكل الجماعات الجزئية كتنوع ضمن كلّ اجتماعي متجانس، وهي ما تسمى الهوية الوطنية الموحدة الجامعة، والمؤسس عليها وحدة حقوق المواطنة لكل فرد مستقر ومشترك في دورة الحياة عبر العمل والإنتاج والتواصل وخاضع لقوة القانون العادل في الدولة. - ليس هناك سعي سياسي قهري لإلغاء الجماعات الجزئية الموروثة، أي لإلغاء التنوع كحاصل لناموس اجتماعي، وعدم استغلالها واستثمار مصالحها سياسيا على حساب المصلحة العامة الشاملة للجميع والمصلحة العليا للدولة الراعية والضامنة للجميع. - في السياسة هناك مواطن ودولة وطنية وليس هناك وكالات حصرية سياسية لأحزاب أو عائلات أو نافذين تكون وسيطا بين الدولة والمواطنين. القانون هو الحكم السيد. - حتى على مستوى النظام الاقتصادي ومعالجة مشكلة التباين الطبقي الحاد والمسبب للحرمان والمفجّر للعنف الطبقي هناك تحديد لدور الرأسمال الموروث عبر الضرائب المتصاعدة.. - نستطيع القول هناك قضاء على كل أشكال الحرمان الثقافي والسياسي والاقتصادي والذي يعتبر صاعق التفجير للحروب الأهلية بكل أطيافها وأشكالها. - ليس هناك تجزئة لمفهوم الحرية بين حرية سياسية وحرية فكرية وعقلية واقتصادية، هناك ضبط قانوني عادل لممارسة الحرية في إطار الصالح العام وإنسانية الإنسان، وصولا لإلغاء كل أشكال العنف من منظومة العلاقات الاجتماعية بدءا من العائلة وصولا للدولة. - هذا مسار تطوري ما يزال مفتوحا على كل الاحتمالات والانحرافات والتقدم أو التراجع، لقد دُفنت الحتميات المادية الجزئية والروحية الجزئية في قراءة التطور الإنساني والبناء على نتائجها المدمرة.
د. قيس جرجس - كاتب وشاعر سوري
#قيس_جرجس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النظام السياسي المرن
-
العلم والحرية والصراع الإنساني
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|