أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي (2)















المزيد.....



الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي (2)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 5873 - 2018 / 5 / 15 - 17:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عندما كتب إسماعيل مظهر عن الاحتياج إلى ما اسماه "بالروح الجديدة"، "روح التحرر من التقاليد وفك العقول والأخيلة من إسارها القديم" و"الفصل بين الدنيا والدين"، و"بين الحياة والموت"، فانه لم يدرك الأبعاد المدمرة لهذه العبارات الجميلة المظهر. فالحرية ليست تحررا من التقاليد، بل من تقليد الباطل والميت، والفصل بين الدين والدنيا لا يتطابق مع "فصل الحياة عن الموت". والمسالة هنا ليست فقط في انه لا معنى لمطابقة هذه الأفكار أو سذاجة فصل الحياة عن الموت، بل ولان وضع القضية بهذا الشكل هو إقحام لإشكاليات التاريخ الأوربي وتناقضاته الحية التي نشأت في ظل مرجعيات ثقافية عريقة خاصة أبدعت في مجرى تاريخها الطويل حكمة الاعتدال وتجانس الرؤية التي شكلت فيها ثنائية الدين والدنيا مكونا جوهريا في نظام أوسع وأعمق واشمل عن تجانس ووحدة الطبيعي والماوراطبيعي في الفرد والجماعة والأمة والتاريخ والروح والجسد والعقل والحكمة. وهي وحدة لا تتعارض مع الحرية ولا تتقاطع معها، بل تصنعها بمعايير ومقاييس مناسبة لها. إذ لا مقدار ونموذج للحرية سوى مقدار ونموذج تحسسها وإدراكها بمعايير المرجعيات الثقافية الخاصة. فهو الطريق الوحيد للحرية بوصفها جزءا من نظام اشمل، ومكونا جوهريا لأسلوب الإفصاح عن المتسامي، وطريقة لتحقيقها في الحياة.
إن الشيء الوحيد السليم في آراء إسماعيل مظهر آنذاك هو موقفه الداعي إلى النقد الحر، وبالأخص عندما شدد على ما اسماه بالحاجة إلى نقد لا ينفك عنه الدين في علاقته بالأدب ولا القانون في علاقته بالأنظمة السياسية. وهي فكرة شاطرها طه حسين (1889-1873)، عندما قال بأنه لابد من أن يكون في مصر رأي عام في الأدب يدافع عن الحرية الأدبية، كما يكون فيها رأي عام في السياسة يدافع عن الحرية السياسية .
وهي ذات الفكرة التي عبر عنها احمد زكي (أبو شادي) بصورة أدق وأعمق عندما قال، بان المعاصرة أن يكون بيان الشاعر صورة لمزاجه وفكره وان يكون أكثر الأدباء رغبة في الحرية. لذا فمن الحكمة إطلاق العنان له في حدود واسعة ولو خالف السماع والقياس أحيانا. فالشاعر الكبير لن يسيء إلى هذه الحرية . أما في الواقع فان القضية ليست في إساءة أو عدم إساءة الشاعر الكبير للحرية، بقدر ما أن حجم الشاعر يتحدد بجمال الحرية التي يقدمها في الصورة والمعنى. إذ الإساءة للحرية تقتل الشاعر. أنها يمكن أن تصنع مستبدا لا غير، أي كيانا منافيا لحقيقة الشعر. لهذا لا يسئ لها الشاعر الكبير. وهي معادلة تراكم إدراكها التاريخي في مجري تعمق النقد الأدبي بشكل عام والشعري بشكل خاص. أي في مجرى تحول فكرة حرية النقد إلى نقد الفكرة ومنها إلى نقد الأسلوب ومنه إلى أسلوب النقد. وهي مراحل تراكمت بصورة تدريجية كجزء من تراكم وعي الذات النقدي العربي، أو كجزء من تيار تنامي وعيه الذاتي، الذي اتخذ في بداية الأمر صيغة الطرافة الفردية التي نعثر عليها في سيرة الشعراء بوصفها شعورا فرديا وسيرة الشعر بوصفه شعورا ذاتيا للامة.
فقد أشار الشدياق (1804-1887) على سبيل المثال، بأنه ترك نظم الشعر بسبب إدراكه ضعف وزهادة ما ينظمه قياسا بما في شعر المتنبي. ويمكن فهم سلوك الشدياق على انه احترام للنفس وعملا بقاعدة "رحم الله امرؤ عرف قدر نفسه". أما بالنسبة لمسيرة الشعر فقد كان يشير إلى تعمق الشعور الذاتي للأمة. إذ لم يكن المتنبي بالنسبة للشدياق كفاية الشعر وحدوده القصوى، بقدر ما كان نموذج امثل. وهي رؤية تحتوي في أعماقها على إدراك لقيمة النماذج المثلى بالنسبة للشعر (العربي) المعاصر وتعميق الشعور النقدي تجاه النفس (الشاعر) والفكرة (الشعور). وذلك لان ارتقاء الشعور إلى الشعر يعني تاريخيا بالنسبة لسيرة الشعراء والشعر ارتقاء المشاعر القومية إلى شعور قومي، والشعور القومي إلى فكرة قومية، والفكرة القومية إلى فلسفة قادرة على تجديد ذاتها كاستجابة دائمة للمشاكل الجوهرية و"تحديات الزمن" وإصلاح النفس. فمسيرة الشاعر هي سيرة وجدانه الفردي والاجتماعي والقومي. وعلى مقدار وعمق وجدانه تتوقف سيرته شعره بوصفه وجدانا فرديا - اجتماعيا- قوميا. وهي الحالة التي عانت منها المشاعر العربية الناتئة في أول تحسس "لمصيرها التاريخي" في آخر مرحلة الانحطاط التام للعثمانية (التركية) وبداية عنفوان وهيمنة الكولونيالية (الأوربية).
أثارت هذه الحالة مسألة ماهية الشعر، التي لم تكن آنذاك سوى المسألة المترتبة على تعمق الشعور الذاتي العربي في مواجهة "مصيره التاريخي" الجديد. فقد كانت هذه الماهية بالنسبة لسيرة الشاعر تقوم في "ماهية الشاعر"؟ وبالنسبة لسيرة الشعر في "ماهية الشعر"؟ وليس مصادفة أن يؤكد سليمان البستاني في معرض مقارنته المعري مع المتنبي للقول "كان المعري يرجح كثيرا في ميزان الرجال على المتنبي وأمثاله، مع أن الرجحان بّين للمتنبي في ميزان الشعراء" . وهي فكرة تتوافق مع ما وضعه الشدياق بهذا الصدد. في حين شدد المازني على نموذجية المعري في الشعر انطلاقا من أن شعره يتسامى عن الحس المباشر ليرتقي إلى مستوى ما اسماه بالشعور الحي والوجدان. والخلاف الظاهري بين الشدياق والمازني، وبين سليمان البستاني والمازني يقوم في قطع الشعر لمسيرته التاريخية من مشاعر إلى شعور ومنها إلى شعر ومنه إلى فكرة (فلسفية) قادرة إلى تجديد ذاتها برؤية نقدية كما مثلتها (مدرسة الديوان).
وهو الأمر الذي يفسر سبب اهتمام الفكر العربي الأدبي والنقدي والتاريخي المتعلق بالشعر أولا بالشاعر وليس بالشعر. وفي وقت لاحق يجري الاهتمام بالشعر وليس بالشاعر. وفيما بعد بوحدتهما، التي استلزمها بالضرورة ارتقاء المشاعر إلى شعر ومنها إلى فكرة. فالاهتمام بالشاعر هو اهتمام بالشعراء، أي بالتنوع. أما الاهتمام بالشعر فهو اهتمام بالوحدة الملموسة، باعتبارها مقدمة الفكرة المجردة. لهذا أصبح تحديد ماهية الشاعر ومن هو الشاعر وجهين لحقيقة واحدة هي الشعور الصادق والإخلاص فيه. فنرى احمد شوقي (1888-1932) يحتج على حصر نزلة الشعر بالمدح، واعتبرها "تجزئة يجلّ عنها ويتبرأ الشعراء منها". ومن هذه المقدمة استمد تحديده للشاعر باعتباره "من وقف بين الثريا والثرى يقلبّ إحدى عينه في الذرّ ويجيل أخرى في الذرى. يأسر الطير ويطلقه ويكلم الجماد وينطقه" . فهو العيون التي تنظر في السماوات والأرض، والكيان القادر على جذب الكائنات الحية وتحريرها واستنطاق الجماد. وليست هذه الصيغة الشاعرية سوى التعبير الأول عن إدراك قيمة الشاعر في تحسسه للمادي والمعنوي وقدرته على سبر أغوارها والنفاذ من خلالها إلى الثرى والثريا. إذ أن وجوده فيهما هو توليف وحلقة ربط للمختلفات. وهي فكرة تلمسها عبد الرحمن شكري عندما حصر وظيفة الشاعر في "الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره". بحيث ارجع الشعر إلى ما اسماه بطبيعة "التأليف بين الحقائق". ومن ثم فان الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يولف هذه الحقائق في "قصيدة أبدية". لان الشاعر هو من يميز "معاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد". إذ كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله. والشاعر ابلغ قصائده. وليس المقصود بان الشاعر ابلغ قصائد الوجود سوى كونه الصوت المعّبر عن خلجات أعماقها السحيقة، أو ما اسماه عبد الرحمن شكري بنفوس الأمة الكبيرة. فإذا كان الشعر هو مرآة حياة الأمة، فان عظمة الشعر على قدر عظمة نفوسها. فكلما كانت نفوس أفرادها صغيرة كان شعرها ألفاظ مرصوفة ميتة . وهو استنتاج يعكس في الواقع إدراك ماهية الشاعر الواجبة، بوصفه تمثيلا وممثلا للمشاعر في شعر ينطق عن أعماق الحياة وصخبها وفورانها باسم القيم المتسامية و"الأبدية". لهذا اعتبر بأنه لا ينبغي للشاعر أن يكتب للعامة ولا لقرية ولا لأمة، وإنما يكتب للعقل البشري ونفس الإنسان أينما كان. يكتب لا ليومه بل لكل يوم وكل دهر. وهذا ليس معناه انه لا يكتب أولا لامته المتأثر بحالتها المتهيئ ببيئتها.
أننا نتلمس في هذه الآراء عن الشاعر ارتقاء الشعور إلى شعر ومنه إلى فكرة. فالشاعر الحقيقي هو الذي يتحرر من قيود الزمان والمكان مع البقاء فيها، بوصفه "قصيدة" الزمن الدائم والتراث القومي. إذ ليست الأبدية في الواقع سوى توليف حقائق الزمن الدائم وتراث الأسلاف في تأمل "معاني الحياة التي يوحي بها الأبد" للشاعر. وهي أفكار سبق وان بلورها المازني بهيئة موقف نقدي أدبي متجانس عندما اعتبر الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها. إذ ليست مزية الشاعر أن يقول لنا ماذا يشبه هذا الشيء، بل أن يقول لنا "ما هو هذا الشيء" ويكشف عن "لبابه وصلة الحياة به" . ذلك يعني أن ماهية الشاعر تتطابق مع الشعور بجوهر الأشياء وماهياتها المرتبطة بالحياة. ووضع هذه الفكرة العميقة فيما اسماه بمحك الشعر الذي لا يخطئ في نقده للشعر إلا وهو إرجاعه إلى مصدره. فان كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذاك شعر الشعور، وان استطعنا أن نلمح وراء الحواس شعورا فيه وجدانا تعود إليه المحسوسات فذاك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية . وطبق ذلك على كيفية تناول المعري واحمد شوقي لمسالة الموت، ومن خلالها حاول أن يكشف عن نموذجين في تناولها، بوصفهما رؤيتين وأسلوبين في الشعر. أحدهما عميق كما هو عند المعري وآخر مباشر كما هو عند شوقي. وكتب بهذا الصدد يقول، بان المعري لم ير الموت في مظهره الضيق والعادي بوصفه حادثا متكررا تختم به حياة كل شيء كما هو الحال عند شوقي، بل رآه على حقيقته الخالدة حربا سرمدية قائمة بين قوتين خفيتين (بين الخير والشر، النور والظلمة، البقاء والفناء، الحق والباطل) ميدانهما كل نفس حية وكل ذرة من طباق الأرض .
وتعمقت فكرة تطابق ماهية الشاعر الحقيقي مع ماهية "الحقيقة الخالدة"، وان الشاعر يعّبر عن تجليها المتنوع وصلتها بالحياة، في الوعي الشعري العربي الحديث من خلال تحويل الشاعر نفسه إلى كيان يحتوي في ذاته على تجليات متنوعة لإدراك ماهية الأشياء وصلتها بالحياة من خلال صوته. وهي فكرة نعثر عليها عند ميخائيل نعيمة ()، الذي اعتبر الشاعر نبيا وفيلسوفا ومصورا وموسيقيا وكاهنا. فهو نبي، لأنه يرى بعينه الروحية ما لا يراه البشر العاديين، وانه مصور، لأنه يقدر على سكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وانه موسيقي، لأنه يسمع أصوات متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة. وانه كاهن، لأنه يخدم إلها هو الحقيقة والجمال.
إن تحول الشاعر إلى ذات تحمل في أعماقها مختلف "الاختصاصات" الكبرى للروح الإنساني يعكس أولا وقبل كل شيء تعمق الشعور الذاتي وإدراك قيمته بالنسبة للكل. فالشاعر هو من يحمل أمانة الشعور المميزة للأنبياء والفلاسفة والموسيقيين والكهنة. وهو واقع يكشف تاريخيا عن صعود المشاعر الاجتماعية والقومية أو صوتها النابض في المشاعر باعتباره الكيان الذي يرى ويسمع ويتنبأ ويفعل باسم الخير والحقيقة والجمال.
أدى تعمق الشعور الذاتي العربي في موقفه من الشاعر إلى تعمق الشعور الذاتي في موقفه من الشعر. ومن الممكن القول، بان مسالة ماهية الشاعر هي نفسها مسالة ماهية الشعر. إلا أن هذا التطابق بينهما هو الصيغة الظاهرية لالتقاء مسيرة الشعراء والشعر العربي الحديث، وفي باطنها هي المعضلة التي كانت تثير الإشكالية الأعقد بالنسبة لوجدان الوعي الذاتي العربي القومي والثقافي. فالوجد من الفقد كما تقول المتصوفة. ووجدان الشعر كان يفترض في البداية فقدان الشعراء لسيرتهم الذاتية والاندماج بالتيار الأوسع لوعي الذات الثقافي آنذاك بوصفه بحثا عن الحرية. وظهر ذلك للمرة الأولى في إثارة قضايا ماهية الشعر وغايته وحقيقته والخيال فيه، مسالة الشكل والمضمون، والتجديد والتقليد. وبلغ ذروته في قضية تحرير الشعر من القافية و"الشعر الحر".
فقد وجد الشعراء في هذه القضايا مفقودهم، الذي شحذ وجدانهم الفكري والعقائدي. فعندما يبلغ الشعر ذروته وتتنافس مدارسه ونماذجه الكبرى، فان موضوعات الماهية والأسلوب والشكل والمضمون والحرية تصبح قضايا منحلّة في الذوق الجمالي. وتفقد بالتالي مبرر وجودها كمعضلات قائمة بحد ذاتها.
فمن الناحية التاريخية كان ظهور تلك القضايا جزءا من البحث عن الحرية وجزءا من صيرورتها الوجدانية في الوعي العربي الحديث. من هنا تضارب الآراء عن ماهية الشعر وغايته وعلاقته بالحقيقة والخيال، واشتراكهم في نفس الوقت في وضع أسس الحرية باعتبارها الهمّ الدفين لمساعي العقل والوجدان بالنسبة لتعميق الشعور العربي الذاتي. فنرى الشدياق يحدد ماهية الشعر بكونه "ملكة يقتدر بها الإنسان على تصوير معان في ألفاظ مناسبة"،. وهي ملكة تجعل من الشعر "يشبه الجمال في كونه لا يحّد ولا يعّرف ولا يكيّف ولا يوصف". لقد جعل الشدياق من ماهية الشعر سرا، لا يعني هنا سوى الكيان المحرر من القيود. فعدم تحديده وتقييده وتكييفه وتعريفه هو حريته التامة بوصفه ملكة، أي قوة قادرة على الإبداع الحر.
وفي نفس الاتجاه سار إبراهيم اليازجي (1848-1906) في تحديده لماهية الشعر. فالجوهري بالنسبة له هو المعنى في اللفظ. لهذا اعتبر الشعر الذي "يقصد به من راء مدلول اللفظ في مناغاة النفس ومناجاة الوجدان، فتوّرى فيه المقاصد تحت الصور الخيالية وتبرز المعاني تحت ثوب من المجاز" . فالشعر هو ليس الكلام المنظوم، بل من يجمع في ذاته شرف المعنى وجزالة اللفظ وقوة الأسلوب . لان مقصود الشعر في نهاية المطاف هو الاستيلاء على قوى النفس وإلباس المعاني المتأدية إليها من طريق الحس ثوبا من الخيال. ولا يعني إلباس المعاني الحسية والعقلية ثوبا من الخيال سوى تحرير المعاني من قيود اللفظ العقائدية. فالخيال في الصورة والمجاز في المعنى هما سبيكة الحرية التي تشكل ماهية الشعر.
وهي فكرة شاطرها محمود سامي البارودي (1839-1904). عندما كتب في مقدمة ديوانه قائلا، بان "الشعر لمعة خيالية يتألق ومضها في سماء الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب فيفيض بلآلئها نورا فيصل خيطه باللسان". ذلك يعني أن ماهية الشعر بالنسبة له تقوم في ترابط اللفظ والحس والعقل والحدس. وهو ترابط وجد تجسيده فيما اسماه البارودي بائتلاف اللفظ والمعنى. وكتب بهذا الصدد يقول، بان "خير الكلام ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليما من وصمة التكلف" .
لقد انتهى القرن التاسع عشر بصيغة واضحة المعالم عن ماهية الشعر، باعتباره الملكة القادرة على إبداع الخيال وتوليف اللفظ والمعنى، وفيما بينهما وجدت الرؤية الشعرية العربية طرفي المعادلة الصعبة للحرية والإبداع. وهي معادلة عمّقت الشعور الذاتي العربي صوب الماضي والمستقبل، وتجاه النفس والآخرين، والتاريخ والفكرة. ولم تعد ماهية الشعر "عبارة عن …"، بل تعبيرا عن سريان له عقده وتعقيداته. فنرى شكيب ارسلان (1870-1946) يكتب في مقال عن (حقيقة الشعر) قائلا، بان الشعر قول ثقيل وبحث عقلي باهض، و"انه مظهر المرء في أسمى خواطر فكره وأقصى عواطف لبه وابعد مرامي إدراكه"، و"انه رؤية الإنسان الطبيعية بمرآة طبعه. فهو شعور عام وحسّ متفرق يأخذ المرء بكليته"، وهو "ملك الكلام يتصرف كيفما يشاء فيه تجسيم المجرد وتجريد المجسم، وتشيئة المجردات وتلطيف المحسوسات"، وإذا كان "أبقى آثار الآدميين هو المقال، فان أبقى أصناف القول هو الشعر. لان النثر يتناثر تناثر الشرر، والنظم يرسخ رسوخ النقش في الحجر. بل قد تمحى النقوش من صفحات الحجر ولا تمحى من رؤوس البشر" . ذلك يعني انه أعطى لماهية الشعر أبعادا تامة في تمثل الشعور والإحساس. ومن ثم لا يعني اخذ المرء بكليته سوى قدرته على زج الشعور والإحساس الفردي والاجتماعي في إنتاج البقاء الدائم للعقل والوجدان، الذي وجد انعكاسه في إعادة ترسيخ الفكرة، التي سبق وان أبدعتها الرؤية الشعرية العربية القائلة، بان الشعر هو ديوان العرب. وأصبحت هذه الفكرة الآن هي "الشعر ديوان الأمة ومعرض آدابها ومرآة بواطنها ونموذج أخلاقها وعاداتها" كما يقول جرجي زيدان (1861-1914) في مقاله عن (الشعر العصري) . كما جرى استعادة حقيقة الفكرة العربية القديمة عن أن الشعر هو "الكلام المقفّى الموزون"، أي ذاك الذي تتناسق فيه الموسيقى والمعنى. لهذا نرى الإجماع المتراكم على فكرة أن الشعر هو ليس مجرد الكلام المنظوم. وان ما كل موزون شعرا. بل الشعر كما يقول المنفلوطي (1876-1924) "أمر وراء الأنغام والأوزان، وانه لا يذهب بحسنه وروائه انه منظوم ولا موزون". واعتبر الكاتب الخيالي شاعرا بلا قافية ولا بحر. وشدد ميخائيل نعيمة على أن "الوزن ضروري. أما القافية فليس من ضرورات الشعر" . وعّبر معروف الرصافي (1873-1945) عن نفس الاتجاه عندما كتب في مقال له يقول، بان الشعر لا يختص بالمنظوم، وانه قد يكون منثورا. والعرب قالت في القران انه شعر، مع انهم يرونه غير موزون ولا مقفى. وعلى هذه المقدمة بنى استنتاجه القائل، بان "المنظوم سمي شعرا لا لكونه ذا وزن وقافية، بل لكونه في الغالب يتضمن المعاني الشعرية" . وليست هذه "المعاني الشعرية" في الواقع سوى الحصيلة المجردة لترسيخ الشعور الذاتي في الوعي النقدي الأدبي العربي عن جوهرية الحرية. وذلك لان تحرير الشعر من القافية، وأحيانا من الوزن (بأبحره التقليدية) هو محاولة جعل الشعور الصادق شعرا، والشعر شعورا صادقا. وهي الدورة التي تجسدها الحياة كما هي في كل شيء. لذا نرى الرصافي نفسه يبحث عن منشأ الشعر في الرقص والغناء. إذ اعتبر السجع الحلقة التي تربط بين النثر والنظم، والوزن تولد من السجع وأوله الرجز. والرجز بالتالي هو أول الشعر، أبوه المصادفة وأمه الغناء وابنه الرقص. ومن ثم فان الرقص والغناء هما مصدرا الشعر. وهي فكرة شاطرها ميخائيل نعيمة عندما قال بان الشعر موجود ما دام الإنسان إنسان، وما دام فيه ميل فطري إلى الغناء.
شكلت الحياة والحرية وجهان لحقيقة واحدة هي ضرورة التعبير الصادق عن المشاعر. فمن هذا الصدق تنعكس ملامح الحرية وغايتها، كما تعبر في نفس الوقت عن الحياة في حقائقها الكبرى ومظاهرها المتنوعة. فنرى عبد الرحمن شكري يتوصل إلى فكرة أن "الشعر ليس كذبا، بل منظار الحقائق ومفسر لها". و"ليست حلاوة الشعر في قلب الحقائق، بل في إقامة الحقائق المقلوبة". و"لئن كان بعض الشعر نزهة، فان بعض النزهة فرض. ولئن كان بعض الشعر رحلة، فهي رحلة إلى عالم أجمل وأكمل واصدق من هذا العالم" ، كما وجد حافظ إبراهيم (1871-1932) في الشعر "ظرف الحكمة ومسرح الخيال ومعنى الفصاحة ووعاء الحكمة". وارجع مصطفى الرافعي (1880-1937) ماهية الشعر إلى "طبع صقلته الحكمة، وفكر جلا صفحته البيان".
ولم يعد سمو الشعر، بوصفه تعبيرا عن حقائق الحياة الكبرى ووضعها في مكانها المناسب والارتقاء بها إلى عالم الجمال والكمال التام حكرا للحكمة والبيان، بل ولمظاهر الحياة المتنوعة. حيث تتحول الحياة وما فيها إلى شعر، فنرى ميخائيل نعيمة يقول، بان "الشعر هو الحياة باكية وضاحكة، ناطقة وصامتة، مولولة ومهللة، شاكية ومسبّحة، مقبلة ومدبرة" . في حين كتب مصطفى الرافعي يقول، بان "الشعر موجود في كل نفس كل إنسان. أننا نسمعه عند الفتاة في خدرها، والمرة في كسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوانه في أقاصيصهم وأحلامهم" . وقد دفع ذلك المنفلوطي للقول، بأنه "لا مؤثر في نفس الإنسان غير الشعر"، الذي نعثر عليه في "هدير الأمواج وظلام الليل وحفيف أوراق الشجر وبكاء الحمائم". بل انه وجد في "النغمات التي نسمعها من فم الإنسان مرة ومن فم الطبيعة مرة أخرى هي التي زخرفت لنا هذه الحياة" . في حين قدّم الزهاوي صورة صادقة عن الحياة في شعره وعن شعره في تمثل الحياة. وكتب بهذا الصدد يقول، بان هناك في بغداد على ضفة دجلة سماء صافية زرقاء تلمع في ليلها النجوم فرادى وأزواجا وأشتاتا وركاما، وارض خضراء أديمها هي منبت جسده وعقله، وأصحاب يوالون وأعداء يناوئون، وجهاد مستمر وآمال بيض ويأس اسود، وفساد في النظام، وعادات سيئة تضر بالمجتمع، ونفس له حرة لا تقيم على الضيم … كل ذلك قد انطقه شعرا هو شعور كان يمشي في نفسه قبل أن ينطق هو به .
وبهذا الاتجاه سارت آراء المازني عندما شدد على أن الشعر هو الحياة. وكتب بهذا الصدد قائلا، بان الحب والبغض، والخوف والرجاء، والاحتقار والغيرة، والندم والإعجاب والرحمة. كل ذلك مادة الحياة. ثم أن الشعر ينقذ خواطر الإلهام من الفناء والعدم انه يحولها إلى مادة ملتهبة للعقل والضمير ويجبرهما على العمل حسب منطق ما سيدعوه احمد زكي لاحقا "بالاندماج في الأبدية". ولكنها أبدية ملموسة لها حدودها ومنطقها التاريخي فيما دعته المتصوفة بالجلال والجمال، أي في العلم والخيال والعلم والعمل. ووضع المازني هذه الفكرة في عبارة تقول، بان الشعر يحلل بالمرء قوة الحياة ويرغمه أن يحس ما يرى وان يرى ما يحس، وان يتخيل ما يعلم وان يعلم ما يتخيل. إذ الشعر أساسه صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي، كما يقول المازني. لهذا كان على يقين، من استحالة وجود شعر إلا وفي مطاويه مبدأ أخلاقي أدبي صحيح. لهذا نراه يتوصل إلى حكمه القائل، بان أبو نؤاس اصح مبادئ وأنقى ضميرا من البحتري، وامرؤ القيس افطن إلى معاني الفضيلة وأعظم رجولة من أبي تمام .
وبعد أن جمع المازني، في رؤية نظرية نقدية، مختلف الآراء والتصورات والأحكام الشعرية والوجدانية للسابقين والمعاصرين، توصل إلى أن الشعر ليس مجرد الكلام الموزون المقفى، وليس مرآة الخواطر الأبدية الصادقة، بل هو مرآة الحقائق العصرية. لان الشاعر لا قبل له بالخلاص من عصره والانفكاك من زمنه. فحكمته حكمة عصره وروحه روح عصره . فالجيد في الشعر والأدب بشكل عام، بنظر المازني، لا يختص بلغة ولا زمان ولا مكان، لان مرده إلى أصول الحياة العامة لا إلى المظاهر والأحوال الخاصة العابرة .
كان تحول الحياة إلى مصدر الشعر والبحث في تجلياتها عن شعر يعكس الاقتراب المتبادل بين سيرة الشعر وسيرة الشعراء. وبهذا الاتجاه أيضا سار الإدراك النقدي والأدبي عن ماهية الشعر والشاعر. فسواء جرى وضع ذلك بعبارات وجدانية أم منطقية مثل السر والجمال والبيان والعقل والحكمة في الشعر، فان الحصيلة كانت تصب في استظهار هذه الأحكام من خلال إرجاع حقيقة الشعر والشاعر إلى الحياة، ومنها إلى الحياة الفردية ومعاناتها، ومنها إلى الحياة العامة وإشكالاتها، ومنها إلى حقائق الحياة الأبدية. ولا يعني هذا الاتجاه في الواقع سوى تمثل الحركة الذاتية عن تطابق شكل الإبداع ومضمونه التاريخي. وفي ميدان الشعر كان يعني تطابق الشعور الذاتي للشعر والشعراء في الموقف من الحياة وحقائقها الكبرى، باعتباره أصلا جوهريا يحدد غاية الشعر ووظيفته.
وقد حدس احمد زكي (أبو شادي) هذه العلاقة ووضعها في عبارة مقتضبة ودقيقة عندما قال، بان الشعر هو لغة الجاذبية وان تنوع بيانها، وهو أوحدي الأصل في المنشأ والغاية وصفا وغزلا ومداعبة ورثاء ووعظا وقصصا وتمثيلا وفلسفة وتصويرا، لان مبعثه التفاعل بين الحواس ومؤثرات الطبيعة . وهي فكرة استندت إلى تراث (الديوان) وتأسيسها النظري عن ماهية الشعر ووظيفته كما بلورها المازني.
فقد قرن المازني غاية الشعر بنبوئته. وجعل منه بالتالي القوة القادرة على استشراف المستقبل من خلال حدسه المجرد والواقعي للأشياء وإشارته الصريحة والمستترة إلى الغاية العليا في الوجود. لهذا يشّبه المازني الشعر بالدين من حيث هو فكرة تسمو بالقوم إلى "درجة من الفكر أعلى، ومستوى من التطور أرقى" . ووجد في الشاعر نبي عصره وطفله في نفس الوقت. وكتب بهذا الصدد يقول، بان غاية الدين وغاية الشعر كانت ولا تزال واحدة. الدين يسعى للسمو بالإنسان. وهي نفس الغاية التي يسعى إليها الشعر ولكن عن طريق الجمال. وهي فكرة تستعيد في بعض جوانبها الأبعاد العميقة لتقاليد الاعتدال الإسلامية في تأسيساتها النظرية عن المعقول والمنقول، وعن الدين والحكمة. بمعنى الحديث عن وحدة الغاية واختلاف السبل والوسائل. فالمازني يؤكد على أن غاية الشعر، كما هو الحال بالنسبة للدين، السمو بالإنسان. وسبل الشعر هي سبل الجمال. من هنا سعي الشعر لان يدخل في متناول الحس والمدركات كل ما له وجود في العقل، وان يملأ القلب ويشعر النفس كل ما تستطيع الطبيعة البشرية احتماله، وكل ما له قدرة على تحريكها وانبعاثها. وذلك لان مهمة الشعر تدريب المرء على الاستمتاع بتدبر عظمة الجلال والأبد والحق . بصيغة أن مهمة الشعر أن يجعل من المعقولات جميعا محسوسات، وان يثير في النفس الإنسانية استعدادها وقدراتها على تمثل كل ما في استطاعتها، وان يعلم الإنسان تأمل التجلي الخالد للوجود والتلذذ به. أي أن مهمته هي توحيد الحس والعقل، والعلم والعمل. إذ الأصل في الحياة هو الصراع، كما يقول المازني. لهذا نراه ينتقد بحدة من اسماهم "بصعاليك الفكرة الذين تقوم عليهم الإمارة الشوقية" (اتباع احمد شوقي). مشددا على أن "الأدباء في الأمم هم عنوان حياتها الروحية ومعيار لما تحسه من مفاخر الحياة وقوى الطبيعة ومعاني الوجود".
وبهذا الاتجاه أيضا سارت مدرسة (الغربال) و(ابولو). بل يمكن القول، بان (الديوان) و(الغربال) و(ابولو) هو الثالوث الذي تمثل عمليا ونظريا الأبعاد الحقيقية لغاية الشعر العربي في النصف الأول للقرن العشرين. لذا نرى ميخائيل نعيمة يشدد على أن الشاعر لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه ينظم ما يطلبون منه فقط، ويفوه ما يروقهم سماعه. وفي نفس الوقت لا يجب أن يطبق عينيه ويصم أذنيه عن حاجيات الحياة. في حين اعتبر احمد زكي مهمة الشعر درس الحياة وتجلياتها وبحثها وإذاعة خيرها ومكافحة شرها. وهي مهمة لها صور شتى. فقد تظهر في لباس الإنسانية العامة أو في لباس الجامعة القومية أو الجامعة الدينية، غير أن مهمة الشاعر (والأديب) ينبغي أن تبقى هي هي سواء في مظهرها الإنساني العام أو القومي أو الديني إلى جانب الخير ومعارضة الشر. لهذا طالب الأديب والشاعر بالأخص أن يكون فوق ما اسماه بسفسطة وأكاذيب المداهنات السياسية والخداع والدجل. أي أن الانهماك في الصراع يفترض الخروج من لعبة الحزبية الضيقة والبقاء ضمن حيز الانتماء الكامل للخير والجمال. بل ودعا إلى العمل ضد ما اسماه بغوائل التحزب والغدر عبر بناء "مؤسسة علمية غايتها القضاء على الفردية بما تبثه من الثقافة العلمية نظريا وتطبيقيا"، بما في ذلك للشعر، انطلاقا من أن الشعر هو من اجلّ مظاهر الفن وفي تدهوره إساءة للروح القومية.
إن بلوغ الوعي النقدي الأدبي في الشعر إدراك قيمته الجوهرية بالنسبة للروح القومي، يعتبر أولا وقبل كل شئ تمثله وجدان الحقيقة التي بلورها تطور وعي الذات العربي بشكل عام والشعري بشكل خاص. فقد كان المسار العام لهذا الوعي يتجه صوب تثبيت فكرة الحرية عقلا ووجدانا وحدسا، بحيث جعل من هذا الثالوث معيار الحقيقة في الشعر ومحكها في نفس الوقت. وهي نتيجة جعلت البعض يرى مهمة الشعر الكبرى في قدرته على التأثير، أي جعله مرادفا لنبض الحياة نفسها كما هو الحال عند شوقي ضيف، الذي كتب بهذا الصدد يقول، أن الشعر قد يعمل على تنظيم ما يضطرب في العقول، وقد يوقظ العقل ويوسعه بترقية الإحساسات والأفكار. ولكن ذلك ليست غايته الكبرى. فالشعر هو ليس لسان الفلسفة ولا أداة الأخلاق. كما انه لا يخضع لقانون كما هو الحال بالنسبة للعلوم، ولا أصول ثابتة كما هو الحال بالنسبة للعقائد الدينية. إن التأثير هو كل شيء في الشعر وهو سر خلوده.
وفيما لو تركنا طنين العبارة الآنفة الذكر فان باعثها الحقيقي عند شوقي ضيف يكمن في إعلاء شأن الفاعلية الداخلية للشعر بوصفها غاية الشعر الكبرى. فمن المعلوم أن "سر خلود" كل شيء يكمن في قدرته على التأثير، أي في حياته وليس في الشعر فقط. فكل خالد مؤثر وليس كل مؤثر خالد. وخلود الشعر في تمثله للحقائق الخالدة وإثارتها الفاعلة في وجدان المعاصرين. إذ ليس كل مثير حقيقة، بينما كل حقيقة مثير. وهي المعضلة التي وقف أمامها الوعي النقدي الشعري العربي عبر محاولته الإجابة على الإشكالية القيميية والمعرفية لهذه القضية. وهي إشكالية تجمعت في مجرى القرن التاسع عشر وتراكمت عقدها العديدة في قضايا الإحساس واللغة، الشعر والحقيقة، الشعر والخيال، الشعر والرمز، الشعر والوزن (الموسيقى) وغيرها.
وهي عقد تراكمت في صيرورة ما أسميته بترسيخ وتعميق الشعور الذاتي العربي، والتي حصلت على أجابتها النظرية الرفيعة في مدرسة الديوان وابولو. فقد توصل المازني في تحليله علاقة اللغة بالإحساس الشعري إلى أن الإحساس مهما كان عميقا وجما وملحا لا يكفي بالنسبة للشعر. انه يفترض وجود "قوة قادرة على تأديته وترجمته بالعبارة. لهذا طالب ألا تكون لغة الشاعر مثل "لغة الناس"، بل مثل لغة اسماه "بالأفواه السماوية". ولا يتهيأ ذلك بالمجاز والاستعارة، بل بإغفال كل لفظ وضيع مضحك. ولم يقصد بذلك سوى الألفاظ التقليدية التي لا تعبر عن حقيقة الإحساس الفردي في تناوله مختلف تجليات الحياة والصراع. إذ لكل لفظ تاريخا، كما يقول المازني. وبالتالي قد ينحط اللفظ في زمن من الأزمان أو يرقى حسب ظروفه. أي ليس هناك من ألفاظ عظيمة أو سقيمة بحد ذاتها، وليست هناك من عبارات جميلة وقبيحة بحد ذاتها، وأن عظمتها وسقمها وجمالها ورفعتها متوقف على كيفية دمجها في إحساس الشاعر والتعبير عن خلجات نفسه في أتم الصيغ نموذجية في زمنه. لهذا طالب أن يكون الصدق في العبارة عن الإحساس أو الرأي أول ما ينبغي على الشاعر ولو كان في ذلك عدو الناس جميعا . وذلك لان الشعر مجاله العواطف لا العقل، والإحساس لا الفكر. ولم يقصد المازني بذلك تقليل شأن العقل والفكر، بل إبراز أولوية العاطفة والإحساس في الشعر. إذ ربما كان الفكر هو الأصل والإحساس فرعه، وربما كان الإحساس هو الأصل والفكر فرعه في الشعر. إلا أن الجوهري في التعبير والتأثير الشعري هو أن يكون من اجل الإحساس. وهي فكرة وضعها المازني في عبارة "الفكر من اجل الإحساس- شعر" . وبلورها العقاد بصورة أدق في إحدى عباراته النادرة قائلا "قد يخالف الشعر الحقيقة في صورته، ولكن الحر الأصيل منه إذا عبّر عن الوجدان لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى". وهي فكرة حاول تجسيدها في (يقظة الصباح) و(وهج الظهيرة) و(أشباح الأصيل) و(أشجان الليل)، كما لو أن "اليوم الأبدي" هو حصيلة يقظة حذرة ووهج محرق وأشباح قلقة وأشجان متسامية للمشاعر الحية في الوجود الإنساني.
ودفع احمد زكي هذه الفكرة إلى أبعادها القصوى من خلال دمجها في إشكالية الحقيقة والرمز، باعتبارها الصيغة الأوسع لعلاقة الحقيقة بالخيال. وتوصل إلى استنتاج عميق مفاده أن الحقيقة والخيال لا يفترقان، وأنهما ليس بالمحدودين لا في الأشياء ولا في الأشخاص ولا في المذاهب. وبالتالي ليس هناك من صيغة أكثر سموا للتعبير عن وحدتها أكثر مما في الرمز. من هنا فكرته القائلة، بأنه كلما سما الفن كان رمزيا في بلاغته، أي قادرا على احتواء الأبعاد غير المتناهية للوجود في صيغ متناهية. إذ ليس هناك من قوة أكثر من "البلاغة الرمزية الجميلة" قادرة على أن تفسح المجال أمام الإنسان للتأمل وتنقله إلى جو يرى في الدقائق العظائم، وفي الحرية الالوهة، وفي ابسط الإشارات اكبر الذكريات، وفي مظاهر المعنى رسولا يهديها إلى سعادة الاندماج في الأبدية.
إن "الاندماج في الأبدية" يعادل إدراك حقيقة الكلّ، والتعبير الحي عن تجلياته المتغيرة بعد تحريرها من الأحوال الفردية للمشاعر. فالأبد الحق بالنسبة للشاعر هو الآن الدائم. إذ لا كيان مستقل للأبد بحد ذاته خارج الكلّ. وحقيقة الكلّ على قدر حقيقة الإدراك، الذي يتخذ بدوره صيغا شتى عند الشاعر. لهذا كان بإمكان ميخائيل نعيمة القول، بان خيال الشاعر هو حقيقته. إذ الشاعر الحقيقي لا يكتب ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية ويختمر في قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة .
في حين أعطى المازني للخيال قيمة كبرى بالنسبة للإبداع الشعري، بحيث اعتبر لذة الخيال في تحليقه. وهو السبب القائم وراء تعريفه الشعر بأنه "لمحة دالة ورمز لحقائق مستترة". وليس هذا التحليق بالنسبة للشعر سوى فضاء الحرية الواسع، التي تجعل من الشعر لمحة دالة، أي معنى خاطفا ورمزا لحقائق مستترة، أي مظهرا دائم للحقيقة المتلونة بمعاناة الشعراء الصادقة. فالخيال لا يجمد أمام كلمة ترد على السمع، أو منظر تكتحل به العين، وإنما يسعى دائما لكي يسد كل نقص ويملأ كل فراغ، كما يقول المازني . ولا يعني ذلك بالنسبة للشعر سوى مشاركته الفعالة في صنع الحرية وترسيخها في الظاهر والباطن. فالخيال هو الذي يعطي للمشاعر الصادقة إمكانية لحم ما يتكسر في الوجود الإنساني، وصهر سبيكة اليقين بالمثال. فالحياة نفسها حلم تنسج خيوطه الأماني. والأحلام هي مسبح الخواطر. ومن الصعب التخلي من الحالمين، كما يقول المازني. وبالتالي فان الشاعر هو الحالم الأكبر. والشعراء هم ليسوا مبتدعي فنون الموسيقى والرقص، بل انهم أيضا واضعون للشرائع ومؤسسون للمدنيات ومبتكرون لمختلف فنون الحياة. ولا يعني ذلك سوى أن الإبداع العظيم في مختلف الميادين هو شعر، لان حقيقة الشعر هي الإبداع العظيم. وشأن كل إبداع يبدأ بالخيال وينتهي به. فهو الحلقة الرابطة لوجود الإنسان، التي تعطي لكل ما يسعى إليه معنى الجمال والحق. إذ الخيال الحق هو ميدان وحركة الإبداع الحر (يتبع....).
***




#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي(1-3)
- فلسفة البديل العقلاني العراقي
- الطريق المسدود للطائفية السياسية
- الطائفية السياسية: عقيدة الأفق المسدود
- الطائفية السياسية أداة الخيانة الوطنية
- الدولة العراقية وإشكالية المؤقت والثابت فيها
- محمد عبده وتأسيس الفكرة السياسية والحقوقية للإصلاح
- محمد عبده - تأسيس الروح الثقافي
- محمد عبده ومهمة تأسيس العقل الثقافي
- محمد عبده: إصلاح التربية طريق الإصلاح الحق
- محمد عبده وفكرة التدرج في الإصلاح
- الفكرة الإصلاحية عند الشيخ محمد عبده
- مرجعية الخلافة الذاتية عند محمد عبده
- زكي الارسوزي - الفكرة القومية واللغة العربية
- كراهية الإسلام
- الصراع الديني - المذهبي في المشرق العربي المعاصر
- المشرق العربي وإيران في الصراع الروسي – الأمريكي
- روسيا والصراع من أجل الشرعية في سوريا
- الإمبراطورية (الأمريكية) والجغرافيا السياسية (للعالم العربي)
- في نقد طه حسين(7)


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي (2)