|
العرب بين الغزو الامبريالي والجنون الديني [2]
منذر علي
الحوار المتمدن-العدد: 5863 - 2018 / 5 / 3 - 05:33
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تحدثت في الحلقة الأولى عن الاشتراكية البيروقراطية، انتصاراتها الكبرى ، وانتكاستها المدوية ، وما ترتب على سقوطها ، سواء على صعيد الاتحاد السوفيتي وشرق أوربا، أو على صعيد بعض الدول في العالم الثالث، التي استلهمت التجربة البلشفية في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، و وصول معظمها إلى طريق مسدود. ثم اختتمتُ الحلقة بطرح ثلاثة أسئلة محورية، مفادها: ماذا بشأن الأنظمة الرأسمالية ذاتها؟ ألم تحقق التقدم المنشود ؟ ألا تشكل منارة الأمل للبشرية المعذبة ؟ وها أنا أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة. ب) النظم الرأسمالية
مع أفول الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع عشر، دخلت الشعوب الأوربية عصر النهضة، Renaissance، بفعل عوامل تاريخية متعددة ، بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر ، و تجلىت نهضتها، وإن بشكل متباين ، في الفن والأدب والتعليم والانسحاب التدريجي من الخرافة بالاعتماد على الملاحظة الحسية والتأمل العقلي. و تمكنت النظم السياسية ، وبشكل خاص في شمال غرب القارة الأوربية وعلى مدى أكثر من خمس مائة عام ، من مضاعفة التراكم الرأسمالي ، بعد الولوج في عصر التنوير Age of Enlightenment ، و" تجاوز مرحلة القصور العقلي" ، بحسب تعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وإبداع الثورة الفرنسية ، والثورة الصناعية ، وبروز النظم الرأسمالية في شكلها المكتمل. واستطاعت النظم الرأسمالية تطوير أدواتها الإنتاجية، وإنماء إمكانياتها التكنولوجيا ، وتعزيز آلتها الحربية ، بشكل لم تعهده البشرية من قبل. الأمر الذي مكنها من حماية كياناتها السيادية ، Sovereign entities ، وتثبيت سلطاتها السياسية على الصعيد الوطني و التوسع في غزو الخارج ، تحت ذرائع مختلفة، بهدف التحكم بالطرق البحرية ، و تصريف منتجاتها الفائضة ، ونهب المواد الخام من البلدان المستعمرة. الأمر أدى ، بدوره ، وبشكل متسارع إلى تنمية قواها الإنتاجية ، وتعزيز إمكانياتها الاقتصادية وتطوير بنياتها الاجتماعية وأتساع تجارتها الخارجية وهيمنتها بالقوة الحربية والمالية على جزء كبير من العالم. وبعد الحرب العالمية الثانية وفي إطار التنافس مع المعسكر الاشتراكي الصاعد في الاتحاد السوفيتي و في الضفة الشرقية من أوربا، عَمدت الدول الرأسمالية إلى تقديم تنازلات و إحداث تغييرات جذرية في البنية التعليمية والاجتماعية ، فسعت إلى النهوض بالتعليم ، وتوسيع نطاق التعليم المجاني ، وتحسين مستوى حياة السكان ، من خلال إنشاء دولة الرفاهية welfare State، التي لبَّتِ المتطلبات الجوهرية للسكان كالتعليم المجاني ، والتطبيب المجاني ، والإسكان المجاني للعاطلين عن العمل ، وتوفير فرص العمل لمن لا يعمل من السكان ، و تقديم مساعدات مالية ، أسبوعية للعاطلين عن العمل ، فضلًا عن تقديم مخصصات مالية أسبوعية ، شاملة ، universal ، للأطفال، بصرف النظر عن خلفياتهم الطبقية، وفتح المجال ، بشكل واسع أمام مشاركة المرأة في العملية الإنتاجية . الأمر الذي ترتب على هذه التحولات تغيرات بنيوية كبيرة وإيجابية في المجتمع الرأسمالي، وحراك اجتماعي هائل، Social mobility ، أتاح لقطاعات واسعة من أبناء الطبقة العاملة الصعود إلى مواقع الطبقة الوسطى ، وشَغْل مواقع مهمة في بنية الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بين منتصف الخمسينيات ونهاية السبعينيات من القرن المنصرم، ولكن تم الإنسحاب من تلك المكتسبات والدخول في عصر الليبرالية الجديدة ، و الخصخصة ، privatization ، الرأسمالية ، والتقويض التدريجي للتحولات الايجابية السابقة ، وخاصة عقب صعود اليمين إلى سدة الحكم ، أمثال مارجريت تاتشر في بريطانيا ، ورونالد ريجان في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهلموت كول في ألمانيا وغيرهم من القيادات اليمينية في أوربا واليابان وكندا واستراليا ، و تدهور الأوضاع في المعسكر الاشتراكي وسقوطه المأساوي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي. لقد خلقت النظم الرأسمالية نخب سياسية ماهرة ، وأفلحت في إدارة المجتمع بمهارة ، وكبح المعارضة العمالية الناهضة ، بمزيج من الوسائل اللينة والقاسية، Soft and harsh means ، و نجحت في تنظيم الفوضى الرأسمالية، وتجاوز الأزمات الموسمية العاصفة ، المصاحبة للنُظم الرأسمالية، ولكن من خلال نهب الفقراء على الصعيدين الداخلي والخارجي. لقد تعاملت الأنظمة الرأسمالية مع الخارج بقسوة بالغة، عبر الحروب ، وعملت في الداخل على إنتاج فائض هائل من وسائل العيش، والأدوات الاستهلاكية ، والترفيهية ، ولكنها ، بالمقابل، دخلت في تناقض مع بعضها ، وأفلحت في خلق القنابل الذكية والغبية والاستعمار و الحروب والمجاعات والعنصرية والتعفن ، والانحطاط الأخلاقي والقمع. وترتب على تنافس الأنظمة الرأسمالية وتوسعها الاستعماري وصراعاتها المتعددة ، مقتل عشرات الملايين في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، في أوربا ، وفي الحروب اللاحقة في كل من كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن وفلسطين، فضلًا عن الحروب في دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية. و منذ سقوط جدار برلين، تغيرت النُظم الرأسمالية كثيرًا ،ولكن إلى الأسوأ. فقد جرى ضرب النقابات العمالية الراديكالية ، في العالم الرأسمالي، و تم التطويح بكثير من منجزات دولة الرفاهية، ودخولها مرحلة جديدة من التوحش. واليوم فأنَّ هذه الأنظمة ، وفي غياب القوة الضاغطة داخليًا ، بسبب كسر شوكة النقابات العمالية الراديكالية، وسقوط المنظومة الاشتراكية ، الرادعة خارجيًا، وانحدار أنظمة حركة الوطني إلى قاع الهاوية ، و في عالم مفتوح، بلا ضفاف ، وفي ظل الهيمنة الرأسمالية ، و العولمة الامبريالية الكاسحة ، ليس هناك مناطق مغلقة أمام العالم الرأسمالي. اليوم ، وفي ظل المناخ السياسي الجديد، تسعى النظم الرأسمالية إلى المزيد من الأرباح ، بمضامينها المالية والتجارية والاقتصادية والسياسية، فتلجأ إلى تحقيق ذلك عبر طرق عديدة :
الأولى: عبر تجارة السلاح ، بدون أية ضوابط أخلاقية ، إلى دول العالم الثالث ، وبشكل خاص إلى بلدان العالم العربي ، بغرض الربح، ومساعدتها على الانتحار والفناء ، دونما حاجة إلى التدخل ، وإعفاءها من ممارسة دور القاتل المباشر ، مادام هناك من هو مستعد للقتل والأنتحار من تلك البلدان ، وإفساح الطريق للهيمنة الامبريالية. وهناك أمثلة لا تحصى على ذلك ، أبرزها بيع السلاح للسعودية ، وقطر والإمارات ، وتسليح الأنظمة القمعية و الجماعات السياسية الموالية للغرب ، بصرف النظر عن معتقداتها الدينية و السياسية ، في كل من أوكرانيا ، و جورجيا ، وليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا و سوريا و دول أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. الثانية، عبْر إجبار الدول الغنية ، الضعيفة عسكريًا، على دفع إتاوات مالية ، مقابل الحماية. فالأمور لم تعد كما كانت في الماضي ، حينما كانت الولايات المتحدة ، تقيم قواعدها في دول العالم، وتنفق عليها لحماية نفوذها ومصالحها المتداخلة مع مصالح الدول التابعة. اليوم ، وفي عصر ترامب ، الرمز الأقبح للرأسمالية ، تُجبر الدول التابعة على الدفع مقابل الحماية ، وإذا رفضت فأنها تُهدد بالصفع والركل ، والإهمال ، وتركها نهبًا للضياع والضباع . تخيلوا معي للحظة واحدة: هل يمكن ترفض السعودية أو قطر أو الأمارات في دفع الإتاوات ؟ من الواضح ، أنَّ هذه الدول وغيرها، في ورطة كبرى وليس أمامها من خيار سوى الدفع وهي صاغرة. والدول التي ليس في مقدورها الدفع ، لاعتبارات اقتصادية ، فستقوم، مُجبرة ، بتنظيف المراحيض، هنا أو هناك ، أي بأداء مهمات قذرة ومحسوبة في خدمة الرأسمالية ، وفي إطار إستراتيجية القوى الامبريالية.
الثالثة ، من خلال الاحتلال بالقوة المباشرة ، وتنصيب نخب تابعة لها ، تمكنها من نهب ثروات تلك البلدان ، أو من خلال السيطرة ، بشكل غير المباشر ، على نخب حاكمة قائمة ، عبر الشراء والترويض السياسي والابتزاز، أو عن طريق الانقلابات الممولة ، في كثير من دول أفريقيا وآسيا و أمريكا للاتينية، وفي كل الحالات يتم إخضاع النخب في العالم الثالث، عبر الاتفاقيات التجارية والاقتصادية غير المتكافئة ، من خلال مؤسسات دولية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة و جعل اقتصاديات البلدان الفقيرة ، ومن ثم سياستها ، تحت هيمنة القوى الامبريالية الكبرى ، بغية انسياب ثروات تلك البلدان إلى المصارف الغربية، لمعالجة الأزمات العضوية المتفاقمة التي تعصف بالدول الرأسمالية.
الرابعة ، نقل بعض الاستثمارات من البلدان الصناعية المتقدمة إلى البلدان الصناعية الأقل تقدماً، وإلى بلدان العالم الثالث الأقل اضطراباً، أي إلى بلدان تتوفر فيها المواد الخام الرخيصة، والعمالة الماهرة الرخيصة، والاستقرار السياسي ، والمناخ الاقتصادي والاجتماعي الملائمين ، بغية النهب والاستغلال الرأسماليين، فتزداد ثروة الرأسماليين بمعدلات قياسية، وتتضاعف ثروة النخب العميلة في تلك البلدان ، ويزداد فقر العمال، جراء الاستغلال والقمع ، فيهربون من بلدانهم الفقيرة إلى الغرب الرأسمالي ، فيُستغلون في التنظيف ، والأنشطة الخدمية والدعارة ، وغالبًا ما ينظمون إلى جيش البطالة ، وكثيراً ما يُستخدمون في مواجهة عمال الدول الصناعية ، وأحيانًا يجندون للعودة إلى بلدانهم الأصلية للانتقام من شعوبهم تحت راية الليبرالية الجديدة والإسلام .
الخامسة ، وعلى صعيد البلدان الرأسمالية المتقدمة، يجري إدخال الأتمتة Automation ، والاعتماد على التكنولوجيا الفائقة الدقة ، high-tech industry ، والإنسان الآلي ‘Robot‘ على العمليات الاقتصادية ، بشقيها الصناعي والخدمي ، لتحل محل العمالة البشرية . و يترتب على تلك العملية ، الاستغناء عن عشرات ملايين العمال، الذين يجدون أنفسهم فجأة بدون عمل أو أمل، أي يتم طردهم من الحياة ، Expulsion of life ، بحسب تعبير عالمة الاجتماع الهولندية SASKIA SASSEN . وبالتالي زيادة أرباح الطبقة الرأسمالية بمئات المليارات، مقابل تنامي بؤس مئات الملايين من الفقراء على مستوى الكوكب الأرضي. ولكن كيف توزع الثروات على صعيد البلدان الرأسمالية وعلى الصعيد العالمي، وما هي انعكاساتها السياسية والاجتماعية على الشعوب ، وما هي الأفاق الممكنة لخروج العالم الرأسمالي من أزماته ؟ هذه الأسئلة وغيرها ستكون موضوع الحلقة الثالثة.
#منذر_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرب بين الغزو الامبريالي والجنون الديني (1)
-
اللعبة الكبرى في سوريا !
-
ما بعد العدوان الغاشم على سوريا!
-
العالم العربي قُبَيْلَ العدوان المرتقب !
-
كفى صراعًا : علي ومعاوية تصالحا، يا جماعة!
-
أبشركم: اليمنيون سينتصرون!
-
العرب التعليم الديني والمستقبل
-
مجرد تساؤلات في ضوء المحنة اليمنية!
-
اليمن وعلي سالم البيض وحكم التاريخ!
-
تأملات في دلالات الأحداث الأخيرة في اليمن !
-
جار الله عُمر سيبقى مشرقاً كالحقيقة!
-
اليمن الوضع القائم والاختيارات الممكنة
-
لنوقف الحرب ونتصالح صوناً لليمن (2)
-
لنوقف الحرب ونتصالح صوناً لليمن (1)
-
أضوء على العلمانية
-
الضمير الإنساني والموقف السياسي!
-
أي وطن هذا الذي نحلم به؟
-
ما الوطن ؟
-
حتى لا نفقد البوصلة تحت وقع المحنة!
-
كيف نتجاوز التخلف؟
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|