عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5863 - 2018 / 5 / 3 - 04:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفلسفة الطريق المستقيم الذي يخطوه العقل نحو استكشاف الحل, لا ولن يكون بديلا عن البحث والتجربة والتأمل والبرهان، لأنها ببساطة هي من إبداعات العقل البشري ونتاجه وليست كيانا منفصلا عنه ليكون خالقا من خارج وجود الإنسان الذاتي, صحيح أن الفلسفة ترسم الطريق الأفضل ولكن أيضا على العقل أحيانا أن لا تشتبه عليه الطرق، إن لم يعد جديرا وفقا لقواعد وأصول منطقية تساعده على الاستدلال والفرز والتقرير ليرسم الحل, الذي يسلك الطريق المستقيم يصل بالنتائج حتما بأقصر وأمتن الطرق وبأقل التكاليف، لأنها بصراحة هي الأقرب بين نقطة البداية ونقطة الهدف كما نعرف, وعليه أولا تحديد هاتين النقطتين ليعلم أنهما مطابقتان للصراط من عدمه, هذه هي من الإشكاليات الكبرى على العقل البشري ملاحظتها وإدراكها قبل الشروع في البحث عن حلول.
كما نريد من الفلسفة أن تبلغ بنا الغايات الكمالية النسبية في التفكير وإبداع الحلول، علينا أيضا واجب أن نفكر بذات المنطق وهو أن نفكر بطريقة كمالية, ليس من المعقول أن تسند الفلسفة لمن لا يؤمن بها وليس له مران تكويني وتكتيكي في عملياته العقلانية, أي أن التفلسف كوظيفة أو نشاط فكري ليس حكرا على البعض ممن درس الفلسفة كما أنها ليست مشاعا لكل من أراد التفكير, التفلسف قدرة عقلية لها شروطها ومقدماتها المرتبطة بالمعطيات التكوينية وليس فقط كما يظن البعض أنها نتيجة تمرين وتجربة, وبالتالي لا يمكن أن يصبح الجميع ممن درس أو قرأ الفلسفة كمنهج أو نظرية أن يصبح من المتفلسفين, كما ولا يؤمل من الجميع أن ينتجوا فلسفة ضروريا, المسألة تتعلق بمعايير وأطر وملكات وأستعداد وقابليات وديناميكيات أولية.
المطلوب اليوم من الفلسفة شيئين سبق وأن حددنا الماهية فيهما، وهما أولا الإنتفاض على الواقع الفكري والسلفية المقيتة التي طبعت غالب التراث الفلسفي وما بني عليه من نظريات ورؤى وإرهاصات, وثانيا التخلص من الثوب الملوكي الأرستقراطي الذي كثيرا ما تباهى به الفلاسفة أمام عامة الشعب, على الفلسفة أن تحمل روح العصر بيد وبالأخرى تحمل قضية الإنسان بتوازن دون أخلال بالضروريات والمحتمات، هنا يمكننا أن نأمل منها حلول متوافقة مع أس المشكلة وهو مواجهة التخلف وبذات الوقت لا تحمل الإنسان ما لا يطيق.
الكلام ألأجمالي والعام لا ينطبق مع مذهب الفلسفة في الفروض الفلسفية ولا يمكن البناء عليه, أولا علينا أن نحصر نقطة البداية ونحدها بالحدود التي عليها أن تتداركها بكل وضوح، دون أن نخشى منها عراقيل أو تداعيات تطيح بأملنا بالوصول للنقطة الغائية التي يجب أيضا أن تحدد بكل وضوح وجدية وتجرد, لا هدف واضح بدون خطة واضحة ومنهج مناسب ونقطة بداية بينة, كما لا يمكن الابتداء من اللا هدف حتى لو استخدمنا أرقى التقنيات المنهجية بأفضل أداء تكتيكي, وحدة الهدف مع البداية هي البديهية التي بعدها يمكن أختيار البرنامج والمنهج التكتيكي الملائم للتنفيذ, القاعدة العقلية الفلسفية هي أن تعرف أي الطرق الواجب أتخاذه ومدركا حدوده، ثم عليك أن تختار الأقصر والأفضل والأسرع من الطرق للربط بينهما وصولا لتحقيق ماهية الحل الواصل بينهما, التخطيط جزء من هذه القاعدة والتناسب بين الممكنات والعزائم العقلية تتجلى عندما نعرف أين يمكن أن نستخدمهما كل مع ظرف الواقع الموضوعي.
عندما يجهز العقل بهذه المقدمات والمعطيات يمكننا أن نسأل الفلسفة ماذا نريد؟ بل بماذا تقترح علينا أن نفعل؟, القواعد الفلسفية والمقولات تستخدم هنا كدلائل الطريق تبين لنا الحدود والمديات والعلامات الفارقة والمفرقة, تذهب بنا حيث يجب أن يكون الطريق الصحيح, الفلسفة تصبح فرض واجب لا يقدر لنا أن نخرج الروح الفلسفية منها أي من موضوع الإشكالية التي تبحث بها, لأننا أمام أمتحان جدي للعقل وأمتحان يراد منه على الأقل تحديد الدرجة الفائقة القريبة من التمامية وهذا ما يمنح الفلسفة الحق بالتدخل, لأن بلوغ هذه الدرجة لا تتم بالتعقل الأعتيادي الطبيعي, نحتاج لمنهج صارم جاد متجرد ومنضبط وعميق وذو مصداقية يمكن الوثوق به تماما.
هذا على المستوى التكتيكي وقد بينا من قبل المستوى العقلي وبين هذه المستويات تتجلى قيمة ما نريده من الفلسفة, وبه تتجلى قيمة المنتج الفلسفي وقدرته على التغيير والخلق والتحول, قد لا نوفق بسبب ما أو لعلة أخرى أن نصل مباشرة للهدف، وقد نقف في نقطة ما على الطريق أو تظهر لنا إشكالية مرتبطة بذات الإشكالية الأم وعلينا حسمها للتواصل بين البداية والنتيجة التي نسعى لها, طالما أننا في نفس الخط وبذات والوسائل والمناهج وعلى مستوى ترابط البداية مع الهدف يحب علينا أن لا نخشى الفشل لأننا في الطريق الصحيح, من ميزات العقل المنتج هو التوقف عند الإشكاليات دون أقتحام الوهم أو التبرير الخيالي, العقل السليم يقف ويقف كثيرا عندها لكنه لا يمنحنا حلولا ناقصة يمكن أن ينتقص من أهمية منتجه ولكنه أبدا لا يغالي في تقدير النتائج الحقيقة.
هذه المفاهيم ليست جديدة على الفكر الفلسفي ولا هي من مبتكراتي الشخصية أبدا، ولكن أحببت أن أقدم بها لموضوع ماذا نتأمل أن تعطينا الفلسفة, قد يقنع المتفلسف المهني الذي يراعي ويرى في تفاعله مع الموضوع أنه يؤدي واجب تقليدي له, أن تبني هذا الموقف يشكل أداء حقيقي لرسالته وواجبه العقلي تقليديا, وقد يكون محقا في ما ترتكز عليه الفلسفة التقليدية من مفاهيم, في عالمنا الجديد لا بد أن تسود به صيغة أخرى وفهم أخر للفلسفة كي يبدو فيه هذا الطرح غير كامل وغير مهم بالمرة, الفلسفة في عالم ما بعد الفلسفة عليها أن تكون الرائدة في أستباق الزمن وربطة بسلسة من القراءات التي ترسم ملامح الغد قبل ولادته, وأن تكون الحامي الحقيقي الإيجابي المدافع عن حق الوجود الإنساني, وهذا لا يتم بالجلوس خلف المكاتب وقراءة أفلاطونيات وكلاسيكيات عالم الفلسفة القديم, المطلوب اليوم أن نجعل العقل الفلسفي يعيش في الغد قبل أن يولد الغد بيوم.
لكن يبقى السؤال الأهم كيف ننتقل بالفلسفة من عالمها الحاد والحيادي إلى عالم لم يولد يعد، ولم تتبين ملامحه بالشكل الذي يجعل من خطواتنا نحوه خطوات حقيقية وجادة، وقد لا أكون متشائما للحد الذي لا يمكنني تلمس الطريق إلى ذلك, أقول أن الفكر التقني النانوي والحساس جدا للمتغيرات الذوقية والمنساق كليا لطور المصغرات متعددة الوظائف والخارقة لحدود المعقولية وفق قياسات كم قليل من السنين، سيشكل صورة تساعد العقل الفلسفي على الانتقال للعالم المنشود عالم فلسفته تعتمد على نظم التسابق والرشاقة وتعدد المهام واختراق حدود المعقولية, عالم ينطلق كل شيء فيه بتعجيل رهيب لا ينتظر التصحيح وإعادة البرمجة ومن ثم خسارة زمن وفرصة للتطور, وهذه نقطة مهمة في عالم التغيير إن لم تكن قادرا على التعجيل بالتصحيح أترك النموذج وحاول بنموذج أو موضوع أخر على أن لا تعود إلى نفس خط الآلية الذي أنتج الموضوع السابق أو أفضى له.
عالم الفلسفة البعدية يتميز بدينامكية وحركية تصطبغ بصباغ الزمن وتلائم معطيات الحركة الوجودية فيه، وتتناسب مع التعجيل الحركي الذي هو السمة الرئيسية لعالم ما بعد بَعَدَ الحداثة, وبما أن الفكر عموما هو انعكاس لخصائص وصفات وآليات الحركة للزمان مقرون بالواقع بشقيه المعرفي أولا والمكاني, فلابد أذن أن نقول أن الفلسفة البعدية فلسفة متسارعة متبدلة غير مستقرة على صورة متكاملة من الأوصاف إلا ما يتناسب مع الواقع الوجودي, لا يمكن حصر الموضوعات فيها ولا تحديد لمدى معين أو أفق نحصر فيه أهتماماتها, كما أن من مميزاتها غياب التقليدية التي طغت على أسس التفكير فيها والذي رافق نشأة الفلسفة وحتى يومنا الحاضر, هنا أمكننا أن نعطي صورة ومخطط لعموم وجه هذه الفلسفة ويمكن أن نتتبع هذه الدلائل لنصيغ منها فكرة عن كيفية التلاؤم العقلي مع هذه الصورة والغرض منها تحويل العقل نحو وجهة جديدة، دون هجر الفلسفة التقليدية التي عشنا فيها والتي لا بد أن تقود إن كانت حقيقية ومميزة بتحسسها إلى هذه النتيجة.
هل تستطيع الفلسفة ألآن تنتقل بكامل واقعها الفكري والتقليدي نحو عالم التسارع بدون أن تخسر خصيصتها التي عرفت بها، وأقصد الرزانة والمظهر المتعالي ودقة و حدة المصطلح والفكرة عدم هشاشة البناء الفكري المقيد بمنطق جاف, نعم أقولها وبالممكن حتى في عالم الفكر الرقمي كمنتج اليوم يحرك ويسير كل تفاصيل العجلة الكونية، هناك نقاط تشابه ومطابقة مع قوانين الفلسفة وجفاف موضوعاتها لكنه تحرك في أطار روح العصر وكيف ما يمكن تكيفيه مع المستحق الواجب، وتخلص من قمقمية القالب المتقيد إلى وضعية التوافق المرن, وكلا الفكرين الرقمي والفلسفي بإمكانهما التحرك سويا وبنفس الحالية.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟