عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5862 - 2018 / 5 / 2 - 05:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من قوانين الوجود الأزلية والتي خطها الوجود بحدوثه الطبيعي أن الحياة والموت يقترنان في ذات اللحظة دون أن يفترقا بعد ذلك في صورة من صور أتحاد المتناقضين على سطح واحد وفي حالة راهنة حرجة, علة هذا الأقتران هو وحدة الحدث ذاته بمعنى أن ولادة الحياة تقابلها في ذات الخط وعلى نفس المستوى وفي نفس الوحدة الزمنية بخطها الأفقي حدث الوفاة وبحدود مفهوم وحدة الزمن الأصغر, فكل ماض لا يمكن أن يصبح ماضي إلا بولادة حاضر قادم وهكذا تدور العجلة بدون توقف, هذه الجدلية منها أشتق الوجود مفهوم الحركة التأريخية وبه أنتظم في حركته الأفقية أيضا.
هذه اللحظة لا تنتمي لزمن محدد أو موصوف مستقل وإن كانت من عناصره، فلا هي من جنس الماضي لأنها ما زالت في دور الحدوث، وكما لا تنتمي للحاضر فهي منصرفة عنه، ولأن تحديد الجهات يحتاج لمحدد خارجي مستقل عنها وموضوعيا لا بد أن يكون محايد غير منتمي, هنا يمكن أن يرى الماضي فيها نفسه كموت مستقبلي, أما الحاضر فينظر لها من كونها تشهد ولادته كماضي, هذا التفاوت لا يمكن عده نسبيا ولا يمكن عده مطلقا لأن في الحالتين العنصر الخارجي غير موجود أما العنصر الذاتي فهو واحد ماضي حاضر وحاضر ماضي, هنا يتحدد الزمن بالكينونة المتغيرة لا الكينونة الثابتة التي تصلح معيار قياس ومقارنه.
هذا الوضع الزمني المحدد باللحظة المزدوجة يختصر معادلة تتساوي فيها القيمة الفاقدة لجنسها مع القيمة المكتسبة بجنسها، أي أنها بالمفهوم الرياضي قيمة الصفر الرياضي المطلق موجب صفر سالب صفر، وإذا حذفنا المشترك الحسابي بينهما يبقى موجب سالب بعد تنزيل الصفر, الموجب السالب هو في الحقيقة الكينونة التي تمر عبرها الموجودات كعناوين وكحقائق في عالم الانتقال من صورة إلى صورة تنطبق فيها كل القوانين على كل الموجودات, هنا نعود إلى مسألة هل أن الولادة كحدث هو زمن تأريخي أم أن الموت هو الزمن التأريخي المطلوب, أشك أننا قادرين على تمييز التأريخي بمعنى مرور الزمن به أو فيه لأن التأريخ يحتاج ماضي بقراءة حاضر، وحيث لا حاضر هنا ولا ماض يبقى الزمن أيضا مجرد من التسمية ومتعلق بوصف ذات اللحظة.
الفلسفة التي تؤمن بحدود الزمن وحدود التأريخ تنكر وحدة الحدث لأنها لا تفرق بين الحدوث والحدث بين الفعل والواقع, لا بد لنا أن نفرق بين الوجود المحدد بإحداثيات معلومه ومؤطرة وحدود بينة وواضحة، وبين الوجود الحر الذي هو الواقع أصلا لأنه غير محتاج لمعيار خارجي عنه, لأن عقل الإنسان المحتاج لأشارات وعلامات توضيحية ودلالات على الطريق هو الذي صنع الحدود وليس الواقع, مثلا كانت معلومات الإنسان قديما تختلف بالشكل والتكوين والحدود والمدى عنها اليوم مع بقاء الوجود كما هو, العقل هو الذي صنع ذلك وصنع هذا وهو قادر أيضا على الانفلات من تلك الحدود ليكتشف حقيقة قصر نظره، هو وأن الوجود الحر هو النقيض للحقيقة التي طالما سلم بها بأنه ماهية وعرض.
اعود إلى نقطة الافتراق الرئيسية بين الفلسفة بكافة عصورها ومسمياتها وبين مسارات فلسفة ما بعد الفلسفة, هذا الفكر الخارق الذي لا يعتمد ولا يؤمن بالحدود اولا ولا يتوقع أصلا أن هناك حدود في العالم الوجودي كونه غير محدد، فالعالم الافتراضي أكبر من قدرة العقل الراهن من التحديد والتخبل لأنه عالم حر وغير مقيد, بينما العقل الإنساني محبوس ومقيد بما في عالم الوجود الموصوف والمحدد بقوانين سابقة, العلم اليوم يثبت للعقل البشري وبالدليل القاطع انه غير محدد ولا محدود، وحتى وجود الوجود ما هو إلا صورة ذهنية تلتقطها عدسة العقل لتثبت نظرية وهمية مفادها (أن هذا الوجود هو طبق للصورة وليس الصورة طبقا للوجود).
فبالتالي التحديد الفكري المطلوب يكمن ليس في حركة الوجود وحدها بل بعدسة العقل أصلا، وهي التي تجعل الاشياء بحدود قدرتها المتجددة لا بحدود واقعها، فالعبور من العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي بحاجة ماسة وأولا إلى تحرير العقل من عدسة الواقع وانفلاته من حاجز الممكن والمعقول، عندها سيقف على حافة (اللا حدود الوجودية) ليرى الحقيقة شيء اخر غير التي يرسمها الواقع له, الفلسفة البعدية تؤمن يقينا ان الواقع غالبا ما يناقض العقل ولا يطابق وجوده الماهوي والحدوثي، وأن العقل يمكن أن يسبق الوجود للحاق بحركة الزمن التي تمت من أمد بعيد وبعيد جدا.
ووفقا لمنطق ومسار الرؤية الحرة التي أمنا بها بعدم محدودية الوجود المادي وأتساعه اللا متناهي تبقى مساحة شاسعة بين المفترض أصلا كواقع مجسد محسوس ومدرك، وهو الواقع الذي يفهم حدوده العقل ويتقيد بها، وبين قدرة النظر العقلي الممكن أفتراضا من خلال مفهوم الخلاص من الحدود، ومنطق الممكن الواقعي لا الممكن العقلي المتجرد من واقع الواقع, والله تعالى يقول وما بلغتم من العلم إلا قليلا, هذا القليل بمعنى عدم الكمال أو التساوي مع الواقع الذي هو في الأصل كما هو والذي لا تدركه العقول ولا الألباب، واقع الخلق كما هو محيط بنا ونحن تحت دائرة الفلك المحيط, لأن التساوي يعني العلم بالإحاطة وتجاوز فلكيتها ثم النظر لها من خارجها, أي أن الإحاطة تستوجب خروج العلم من دائرة المحيط (داخلا) إلى المحيط (خارجا).
هنا نقع في أشكال عقلي مفاده كيف يكون العقل داخل الواقع من جهة وفي خارجه أيضا وفي ذات الوقت, هذا اولا وثانيا الخروج يستلزم أن نشارك المحيط أي العاقل الذي أحاط بالواقع كما هو لا كما نحن ندركه نشاركه بالضرورة بكل شيء بعلمه، أي الشراكة مع الله بالعلم والتساوي بالقدرة عليه وهذا ما لا يمكن ايضا عقلا، لفارق الفرق بين الصانع والمصنوع لأننا أصلا جزء من علم الله .
أذن كيف لنا أن ننفلت من الواقع هذا الى الواقع ذاك أو ذات وما هي المبررات التي تتيح لنا مجرد التفكير بذلك أولا؟ وهل من الممكن لو افترضنا جدلا أننا عزمنا أن ننطلق كما رسمنا في مفهومنا هذا التي تتبناه الفلسفة البعدية أن نرسم صورة أولية للخطوط والمسارات؟, وهل حقا يمكننا كعقل مجرد أن يقبل الخروج من طبيعته التي تحدها حدود مادية تتعلق ببدنية الإنسان وأبعادية الواقع من جهة؟ أو أن تقبل الفلسفة أن تغامر وتجازف بتأريخها الرصين والكلاسيكي في الطرائق والوسائل التي تعتمد الضبطية والمنطقية في حساب كل خطوة تخطوها نحو دراسة أو حتى بلورة افتراض يتعلق بمسألة ما ؟.
لو سلمنا أننا لا بد أن نراعي مبادئ الفلسفة وقوانينها المحترمة وأن نتقوقع داخل كيانها الحديدي لا يمكننا أن نتخلص من تبعية العقل للواقع، هذا أولا وثانيا لا يمكننا أن نقود الواقع بالفلسفة إلى انتقاله تأريخية خارج الأستاتيك العقلي المحض, فلا بد أذن من أن نسعى لجر الفلسفة لهذه المغامرة لعدة عوامل مشجعة ومساعدة وقد خاضت تجربة ناجحة في ميدان العلم المجرد وهو مفهوم النانوية في التفكير, أي محاولة جعل الواقع أصغر بكثير بل بأصغريه متناهية, مثلا مكتبة الكونغرس الأمريكي وهي من المكتبات الأكثر ضخامة وعظمة على المستوى الكوني من حيث المخزون الورقي والتكوينات المساعدة والخادمة، استطاعت النانوية العلمية أن تختزل هذا الكيان كله في شريحة اليكترونية لا تتعدي 2 سم مربع, قد يظن القارئ أن الوسائل غير الرؤى ولكن قبل ذلك كانت هذه الوسائل مجرد رؤى.
العلم قادر من خلال تحرير العقل من قاعدة الممكن المعقول أن يخرج بالواقع ويقوده للممكن اللا معقول نسبة للتفكير العقلي الحالي, هنا لا بد من الإشارة إلى ما في التراث المتراكم من أشارات حقيقية لهذا الفهم لعالم الممكن اللا معقول وخاصة عندما نستعرضه من جانب الدين والعقيدة, في الروايات التأريخية هناك حوادث قد اهملها العقل الديني بنفس مستوى اهمال العقل العلمي لها ليس لعدم إيمانه بها بل لعجزه أن يفكر بمصداق لها, منها مثلا قصة الماء النازل من الميزاب وقول الإمام علي عليه السلام لو شئت لاتخذت لكم منه نورا, هذه القضية وإن كانت تأريخية مرت مرور الكرام على العقل لم يسأل أحد القائل هات البرهان أو كيف ؟.أو لماذا ؟ أو أين ؟ تلك العلامات التي تحرك العقل الحسي نحو المجهول.
اذن السؤال الآن هو هل تنجح الفلسفة في هذا الاختبار ومن يضمن أنها تستطيع أن تتجاوب مع النانوية الفكرية كما نجحت النانوية العلمية, القول ليس مجرد افتراض ولا تنظير خالي من المحاولة, بل لا بد من أن نفكر أولا بدراسة الظاهرة العلمية التي قادت للنانوية ونرى كيف نجح العلم في الوصول لها، هذا الخط الأهم والأجدر ثم البحث بالمشتركات التي تشترك فيها الفلسفة مع العلم وتلك التي تفصل بينهما لغرض فرز المعرقل، ومحاولة تطويع الممكنات أو المشتركات لهضم التجربة وأعادة بسط نموذج أقرب للفلسفة وأكثر تجاوبا معها، كي نحصل على إجابات سابقة ونفرض تساؤلات اخرى تعيد المشهد للاستمرارية البحثية، وهذا بالذات هو روح وجوهر الفلسفة والركيزة التي تفرق الفلسفة عن غيرها من المعارف الإنسانية, عندها يمكن أن نكتشف أكثر من ما يمكن أن نحدده كنقاط مهمة ترسم وجه الطريق نحو التفلت من مظهرية الفلسفة المتشيخة الى الفلسفة المراهقة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟