http://www.alimizher.info/
"إما الفجيعة وإما.. الفجيعة. فيا له من بلد مغدور ويا لشعبه من شعب مخذول بين الأمم"
كاظم جهاد
1
الوقت الذي اختاره مخططوا البنتاغون للهجوم على العراق، هو الربيع، ليس لإكمال استعداداتهم العسكرية أو لاعتدال الطقس فحسب، بل لضمان توفّر عدد كاف من الزهور من أجل أن ينثرها العراقيون عليهم، ولم تفت الفرصة الحكومة العراقية التي مازالت تحنّ إلى تحالفاتها القديمة، وهي المشهودة بالكرم، فضاعفت حصة الرز التموينية الشهرية، ليسد العراقيون جوعهم بنصفها أما النصف الآخر فيرشّون به الجنود الأمريكان المنتصرين، بعد أن يكونوا قد وصلوا إلى حالة شبيهة بالانتشاء الصوفي الذي سيسببه الرعب.
2
"الصدمة والرعب" هو عنوان العملية العسكرية، التي سيطلق خلالها الجيش الأمريكي 3000 قنبلة دقيقة وصاروخاً موجهاً، خلال اليومين الأولين من الحرب. فتحدث هذه القنابل الصدمة، ويصاب الجميع بالرعب. فتسقط الحكومة بسرعة شديدة ولكن لن يموت أحد. سيهزم صدام وحده، ويموت هو وأعوانه ولا يموت العراقيون. فمقرر لهم الحرية في هذه الحملة لا الموت. ليس عليهم الموت، بل الذهول والخشية وهي واحدة من معاني الكلمة في اللغة الإنجليزية ومنسجمة مع المسحة الدينية المتأخرة للرئيس الأمريكي. لا أدري لم أوحت لي هذه التسمية برواية وليم فوكنر الصخب والعنف، ربما لما فيها من صخب وعنف، ونعلم أن مخططي البنتاغون ليسوا جهلاء متخلفون. ولكن فوكنر، اقتبس عنوان روايته من مسرحية شكسبير الشهيرة" مكبث" وثيمتها الأساسية مثلما هو معروف هي الصراع على السلطة والاستحواذ عليها. ماذا ستفعل الصدمة والرعب غير تغيير الحكومة العراقية ورسم الخارطة السياسية وانتاج شرق أوسط مهذب؟ ولكن السؤال الآخر الذي يحضرني، من هو المعتوه الذي سيروي حكاية الصدمة والرعب؟
هامش: الصدمة والرعب هي الجزء الثاني من متوالية "الحرية اللانهائية" التي يسهر على تأليفها الرئيس الأمريكي وجنرالاته.
3
من المعروف أن النقد البنيوي قد ركز في ممارسته النقدية على ابراز الثنائيات التي تتصارع في النص، ومن هذه الثنائيات التي يزخر بها خطاب الرئيس الأمريكي، هي الخير والشر، الأبيض والأسود. الحزب الجمهوري، يكاد يكون حزب البيض في الولايات المتحدة. ولا داعي لذكر التعليقات العدائية المستقزة التي يطلقها أعضاءه بحق السود والأقليات الأخرى، وآخرها تلك التي سببت استقالة زعيم الأغلبية ترنت لوت من مجلس الشيوخ. نتخيل، أن عبارة يحكم العراق جنرال أسمر/ ليس أبيض مكتوبة في كتاب السياسة، وهي بحاجة إلى تغيير على المحور الأفقي(التعاقبي كما يسميه أهل البنيوية) ولكن عملية التأليف هي اختيارية واستبدالية، والحرب على العراق هي حرب اختيار وليس اضطرار. استبدال كلمات بأخرى في الدرس النقدي وتحليل النصوص ضروري أحياناً لمعرفة مدى انحراف العبارة عن السائد والمعياري. تلك العبارة المنحرفة بحاجة إلى تعديل لتستقيم بلاغة النص المسمّى بالنظام العالمي الجديد. فتصبح كالتالي: يحكم العراق جنرال أبيض. أي ينتقل العراق بذلك من حكم عسكري إلى حكم عسكري آخر، ولكنه سيتحول من محور الشرّ إلى محور الخير، من أسود إلى أبيض.
هامش: النظام العالمي الجديد هو غيره الخاص ببوش الأب الذي أنتج أوسلو. هذا النظام هو الخاص ببوش الابن، الذي استفاق من تأملاته الدينية بعد انهيار البرجين. وهذا المفهوم العقدي شبيه بالتجييل الشعري لدينا. فكل عشرة أعوام يطلع لنا رئيس أمريكي بنظام عالمي جديد.
4
يمكن تصنيف علاقة الولايات المتحدة بالأكراد ضمن نفس الثنائية، خير/شرّ. فالحكومة العراقية شرّ لأنها قتلت الأكراد وقمعتهم باستخدام الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، وعلى هذا الأساس يكون أكراد العراق أخياراً، يستحقون الحماية. على الجانب الآخر من الخط الذي يفصل كردستان العراق عن كردستان تركيا، يُقمع الأكراد ويضطهدون ويقتلون بالأسلحة التقليدية، ولا يسمح لهم حتى بالتحدث بلسانهم الكردي. تعتبر الولايات المتحدة الحكومة التركية حليفة رئيسة لها ولذا فهي حكومة خيّرة، وأكراد تركيا هم أشرار، لأنهم يعملون ضدها، فلا يستحقون الحماية. لا تفكّر الحكومة الأمريكية بوضع هذه العلاقة موضع التساؤل. غير أن البرلمان التركي رفض السماح بوجود قوات أمريكية، في عملية ديمقراطية، أي عملية احتكمت إلى الأغلبية التركية التي ترفض غزو العراق. فسارع أكراد العراق إلى التظاهر فرحين، لأنهم لا يريدون لتركيا أن تتوغل في بلداتهم، وتغزوهم. ولكن الحكومة التركية خير كحكومة الولايات المتحدة فلماذا يرفضهم الأكراد العراقيون في الوقت الذي يرحبّون بالأمريكان وغزوهم؟ أليس البحث عن علاقات بسيطة مثل هذه في السياسة، وخاصة عندما تتعلق بالحرب، أمراً مرعباً؟
5
لم تعجب ديمقراطية تركيا الرئيس بوش رغم أنه امتدحها، ولم تعجبه أيضاً ديمقراطية شافيز فيحاول بلبلة فنزويلا، من طريق حث المعارضة التي أنهكت البلاد منذ أن حكمته قبل شافيز بعقود، على العصيان واسقاط الرئيس المنتخب ديمقراطياً مثلما رأينا في اضراب النفط. وجورج بوش كما معروف هو الرئيس المعيّن بأمر من المحمكة العليا، والذي كلفته حملته الرئاسية نصف مليار دولار، دفعتها له شركات النفط وغيرها، والتي يريد الآن رد جميلها بحماية نفط العراق واعتباره" أمانة" كما صرّح باول والشعب العراقي هو الوحيد الذي سيتصرف بها. الديمقراطية نصاً، أي واقعاً سياسياً ، تنتج قراءات متعددة، وهذا النوع من النقد التي يتناول هذه الاستجابات يسمى بنقد استجابة القاريء، ولكن للأسف، لا يستطيع محافظوا البيت الأبيض، إلاّ أن ينزلقوا، إلى أيديولوجيتهم التي لا تقبل سوى قراءة واحدة، ذلك أن الأمانة هنا هي المعنى القابل لأن يستل ّ من النص العراقي. لأن ُيقبض عليه. لأن يُمتلك. سوء القراءة في الأمثلة السابقة، مردّه عدم القدرة على القبض على تعددية المعنى المنسوج في شبكة النص ودلالاته المفتوحة على تفسير آخر. كيف لي أن أحلم مثلاً، كقاريء، بشكل الديمقراطية التي يريدها بوش للعراق؟ الديمقراطية، حسب الاستعمال اليوناني، حكم الأغلبية ، والديمقرطية الأمريكية التي نسمع عنها دائماً هي حكم مصالح جماعات الضغط ، ولا دخل لها بحرية الكلام والتظاهر الذي يكفله الدستور. فلنتظاهر ونتكلم مثلما نريد، ولكن الذي يحكم فعلاً، هم هؤلاء الذين يمثلون مصالح أقلية ليست بالضرورة متطابقة مع مصالح الأغلبية – الغوغاء.
6
في تحليلها للنص العراقي، تتمنى البنتاغون، عملية جراحية، تستأصل فيها، أصل الشرور ومنبعها، فتبدو بذلك، متماهية مع نزعتها المحافظة، رافضة، لكل تفكيك، يمكن أن يقوم به ناقد آخر، كدريدا الفرنسي مثلاً. ولكن جسد النص ،الذي يكون عرضة للتفكيك أحياناً، وذلك لغرض التحليل، أي خلخلة الأسس الذي ينبني عليها، يصاب أحياناً بالتشتت، والتمرّق، وخاصة بعد توظيف مفهوم نقدي مثل " الصدمة والرعب" يمكن أن يشف عن البنية التحتية أو العميقة، كما حدث في حرب الخليج الأولى. البنتاغون، يريد أن يصحح النسخة العراقية، ليس عن طريق إعادة كتابة المخطوطة كلّها بل الاشتغال على مقاطع محدودة، أي باجراء عملية جراحية، صغيرة، سريعة، خاطفة، نظيفة ينثر العراقيون بعدها الزهور على المنتصرين ويرشون الرز، ولا تنسوا ماء الورد.