عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5854 - 2018 / 4 / 23 - 02:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تساؤلات وإشكاليات تكشف الدليل الذي يقود الإنسان ككائن مفكر ومسئول وخاضع للسؤال ومطلوب منه الإجابة والتفسير والتبرير والتعليل, وتجعل منه حالة غير مستقرة ومستفزة تبحث عن أي وسيلة تعيد له السلام العقلي أولا وتبعد عنه شبح الخيبة والفشل, لذا فهو كلما يتعمق في فهم جزئية تفتح له هذه العملية المزيد من الأبواب المشرعة التي تحيط بمداركه وتجعله في صراع بين القبول اللا أبالية وأمضاء بقية الفترة الوجودية للتمتع بملذات الحياة والانخراط في التنازع الضروري للبقاء, أو التوقف عند نقاط محددة ليثير العقل ويستولي على مفاتيح ضرورية تقوده لإجابات أيضا محددة وصريحة أو تكسب قناعته بمستويات تتدرج من الاحتمال الظني لليقين القاطع بها.
أصل الصراع الوجودي الذي يعيشه الإنسان وبمنتهى الجرأة هو صراعه مع الدين كطرف حاكم ومع الطبيعة كطرف متجبر, وخياره بين الخضوع لهما والتطبع تحت سطوة الخوف والرغبة وبين أصله الطبيعي الباحث عن التفلت الفطري عن الضابط واستسهال الحياة بما يعرف باللا مسئولية ألطبيعية, هذا الصراع الذي لا ينتهي هو مجرد البداية التي تجر ورائها الكثير من الإشكاليات والتي لم يتعرض لها كائن في الوجود غير الإنسان, لأنه يحمل بين تراكيب تكوينه علة لا تنتهي في إثارة القلق الفكري وترسم له أثر كل سؤال حيرة, وتأخذه كل مجال يضعه بين ما هو كائن وما هو مفهوم وأمامه فسحة تكبر كلما أكتشف مقدار من العلم لتضيق عليه الحرية التي يتمتع بها مؤقتا مع كل أكتشاف جديد .
فهو ككائن مختار يريد والدين يريد والطبيعة تفرض أحكام بدية تتناسب مع قدرته على إدارة الوجود, وسعة تدبيره لوسائل الفهم والتكيف معها, ولكنها تصبح عدوة أو نقيض لا يحتمل إن لم يستطيع إدراك مفاتيح اللعبة ويسيطر بعقله على عالم المجهول والمغيب منه تحديدا بالعلل أو بالأسباب, فعاش مشتتا بين صراع وتنازع إرادات كل منها تعده بشيء جميل وتحرمه من شيء أجمل وتكشف عن وجهها الغاضب في حالة عدم الامتثال, هنا الإنسان يريد الحياة الممتعة بدون ألتزامات تحد من تفلت طبيعي عن الضبط ويرغب بالجنة ويتمنى أن تكون الطبيعة أكثر كرما معه في عطاء الوجود وتمنحه فرصة أطول للتمتع فيها .
هذه الأمنية سهلة الافتراض ولكنها صعبة التحقق فكلما تعرف الإنسان على قواعد النزاع والتنازع والصراع وأدرك حدود طاقته ومقدار الفعل الذي يمنحه مساحة أكبر في المناورة والأنتقال صار بمقدره أن يتجنب الكثير من الخسائر وحالات الفشل, هنا عليه أن يكون مهيئا بالدوام على أن يكون مراقبا وملاحظا ومنتقدا وخالقا ما يمكنه أن يدافع عن وجوده, هذه الحالية تستوجب منه أن يكون ذا فاعلية عقلية لا تحد بحدود ولا تقف عند حاجز العجز أو عدم المقدرة, لأنه بذلك أيضا يعلن فشله وانزواءه على أن يصبح لاعب مهم ويتحول إلى مجرد وسيلة بيد لاعبين آخرين, هم من يحدد مصيره وسيرورته الوجوديه ولكونه في جزء من حالاته الواعية يرفض هذه النتيجة التي خاض غمار البحث والنقد والاكتشاف والخلق.
مفاهيم وأفكار عديدة رافقت وجود الإنسان وتنبه لها وإن كان لا يملك تفسير مقنع عنها لكنه في الأخر أستسلم لفكرة ما, هو خلقها أو دست له من ضمن منظومة المعرفة, سواء بشكل مباشر أو من خلال الدعوات الدينية والرسالات أو من خلال تجربة الأخر ومفهومه الخاص, بالنتيجة أنه أمن بها وأزداد يقينا بالنتائج كلما فشل في إدراك العكس من خلال عجزه من التخلص من الفكرة الأولى, في قصة النبي إبراهيم الخليل الواردة في القرآن الكريم هناك نظرية ساقها النص الديني وفتح فيها الباب مواربا في تعليمه للإنسان كيف له أن يواجه أسئلة الوجود وإن كان متحصلا على بعض القناعات التي تشكل في شكه المستدام علة بحث وعلة تقصي عن الحقيقة مهما كانت النتائج .
هنا في الرواية واجه النبي قبل أن تصل له القناعة التي أستسلم لها بالأخر مشكلة الأنتماء للقيم المرعية أو الفطرية بما فيها المقدس والمحظور, ليس لأنه بحاجة لها كضرورة أنية تتماهى مع أطلاعاته أو حدسه من أنه مقبل على مرحلة تحول فكري عميق, ولكن أيضا هي نتاج واقع حقيقي يتعمد استفزاز العقل, ولكونه ولد في بيئة تهتم بهذه المحددات الدينية "أصنام ومعابد " وعلاقة بينية وتنشد لها وبها وعليها أن تقدم أجوبة تصبح أكثر وجوبيه وضرورية كلما حاول أن يتقرب من هذه المحددات, ليكتشف وجوده هو لا وجودها هي, لذا نجد أن السؤال المطروح إبراهيميا كان لماذا لا يأكلون لماذا لا يشربون لماذا لا يتحركون, كان يرى أنها عديمة الحركة الموت أقرب لها من الحياة ولا يمكن أن يطلب من ميت جواب, لذا تركها أيضا بلا جواب وأخذ يبحث عن الحركة عن الحياة المتجددة الغير جامدة.
كان القرار لديه التخلي عن هذه العلاقة الميتة الجامدة التي لا تجيب ولا تفسر له ولا تبرر تساؤلاته الذاتية, حاول أن يخرج منها إلى عالم حدد له شروط خاصة, منها أنها يجب أن تكون أولا حية ومتحركة ومجيبة ومستجيبة للخطاب الذاتي, ولكن ليس على أساس رفض فكرة الأخر السابق بل في ضمن إطارها ولكن تحت شعار أخر وبذات الهدف, أي أن إبراهيم لم ينكر قاعدة الغيب والمجهول المعظم ولا معادلة الخالق والمخلوق, لكن كانت محاولة فريدة منها أنها تتجاوز التقليد العقلي الديني, ولكنه لم ينجح من التخلص من الشبكة المحيطة بالعقل والتي نمت تحت ضغط أن الخالق المكون الأكبر الأعظم هو الفوق المتخفي وراء المجهول الأبدي المتستر بستار المطلق واللا محدود, وعاد ليبحث ضمن هذه الشبكة المنصوبة عن حقيقة عقلية نجح في أن يستدل على فضاء أكبر للعقل مع ربط المدى الذي منحه لعقله بالتحرر أن يكون ضمن حدود المعقول والممكن فعاد لذات النقطة التي أنطلق منها, وهنا سجل فشله الأول مع نجاح تقليدي ممكن.
وهذا الفشل المتوقع بدأ عندما أختار نفس القوانين والقواعد التي أوصلت صاحب الفكرة التي تخلى عنها وثار عليها دون أن يمنح نفسه أفتراضات متعددة وخيارات مستقلة في مساراتها وفي أشكال النمطية التي تقوده للبحث, بهذا ضيع الفائدة من المحاولة ولم يتجرأ أن يخرج عن فكرة الخالق والمخلوق والعابد والمعبود والتي من الصعب على نص ديني أن يصرح للعقل أن يخترقها نحو مدى أبعد, فأعطى نتيجة أجمالية مبهمة بنيت على منطق كلي غير برهاني مع أنه أستخدم منطق البرهان في تفنيد الفكرة السابقة لكن التقدير العقلي كان يشير على الإنسان أن يستلهم التجربة الإبراهيمية للدراسة والكشف ليس فقط للمتابعة بل لبيان أن عقل الإنسان قادر أن يخترق المنطق السائد والذي تم تغليفه بالاستحالة أو بالحرم المقدس.
نحن لا ندين النص الديني على هذه النتائج التي تمخض عنها فعل إبراهيم وما نتج عنها أو ما أشارت له بالنص كحقيقة نهائية, وبأي صورة فهو لديه مشروع عقلي مقبول وطبيعي يحاكي منطق إنساني مبني على أن العقل الإنساني التقليدي في الأخر سينتهي بالعجز عن مجاراة ومماحكة الافتراضات الدينية الصعبة, عندما تطرح موضوعا معقدا وجذريا للفهم على أساس ما يجب وما هو الأوجب, لذا لا نستغرب النص التالي (أعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
هذا الانتظار المطلوب ليس أنتظارا سلبيا لكنه مقرون بحركة تتمثل في الإتيان الذاتي أو الوارد من جهة خارجية يفسره ويدركه العقل أيضا بالضرورة، فكان الانتظار جزء منه تسليم وقتي بالنتيجة السابقة دون الجزم بها لأنه عرضها النص غير ثابتة أو غير قطعية, وبالتالي صمته عن تبرير هذا التسليم الذي أودى بإبراهيم للنتيجة تطبيق لهذه الفكرة ومنها ما يعرف بإستحالة الفرض بناء على نظرية توالي العلل وهي نظرية خادعة أصلا يراد منها تعجيز العقل عن الوصول إلى نهاية ما من خلال جعل بوابة الأفتراض مفتوحة على اللا نهاية .
الخالق العاقل الكامل المطلق عندما يفتح باب العقل للتساؤل لا يفتحه على مجهول مطلق بل على قيم يمكنها أن تشير اليه وبوضوح كامل ومن خلال منطق العقل الذي منحه للاستدلال عليه, ويوجه بذلك مسارات البحث في النقطة التي تضع العقل الإنساني أمام خيارات منطقية لا أمام متاهات تفسد النظرية العقلية وتؤدي إلى الأستغراق التام بالعبثية التي لا تنتهي بنتيجة محددة,هنا لا يكفي أن يكون العجز لوحده وبدون تعليل أو أمل بتجاوزه عن إدراك حدود العالم الأخر دليل على وجود ولا دليل إنكار فكلاهما متساويان في القيمة التقديرية اليقينية عند الإنسان من زاوية أفتراض محضة, وعليه أن يبني على كلاهما منهج متناسب وأصيل ومجرد ومنطقي ليتوصل من خلال البرهان العقلي المساوق لفرض نظرية الخالق الرب إلى نتيجة ما تحسم الأمر ولو مؤقتا أنتظارا لظهور الدليل الكامل (اليقين المنتظر) .
في العودة إلى قصة الدليل العقلي في قضية إبراهيم الخليل لم يشأ النص أن يخرجنا عن سذاجة التبرير المشار إليه في أعلاه فأنطلق من حقيقة تتمحور حول أستحالة أن تكون الحالات التي أستدل عليها إبراهيم من خلال التأمل العقلي والمحاكمة النقدية لكل دليل على انفراد, على أنها غير دائمة وغير مستمرة بلا انقطاع دليل على ضعف الدليل من هذه الناحية فقط، فأفول الشمس والقمر والنجوم والكبر والصغر هذه الصفات والمحددات لا تكفي لوحدها أن تكون داحضة لحجية منطق الاستكشاف الأول لديه، ولا يعتد بها على أنها واقعا يمكن جعلها معيارا قياسيا للمفاضلة بين مجموعة دلائل، خاصة وإذا علمنا مثلا أن النجم أي نجم في السماء قد يكون أكبر وأعظم من الشمس حجما وإشراقا وتأثيرا على الكون وعلى الإنسان .
النص بما طرحه من فرض نتائج وافق بتلبية الميل الفطري البدائي عند الإنسان البسيط على ضرورة أن يكون الرب حاضرا بلا غياب وفعل بلا حدود، وأن يكون محدودا بجهة الفوق وخلف ستار من الغيبية وللمجهولية المطلقة, النص بإطراده في شرح الدليل هرب بالعقل بعيدا من خلال يقين إبراهيم النهائي ليوصله إلى أن يقع بحقيقة أكبر مما هرب منها، عندما وضع كل اليقين في خانة التعميم المموه بالأستحالة الإدراكية التي جعلها في أول مرة مقياس ومعيار حكمي, فالله الذي أستدل عليه لا يمتلك أي من مواصفات الثلاث المعبودات التي عبدها أول مرة لأنه بتبريره الخاص أكبر من أن يدرك حدود هذه العظمة الكبيرة، وبالتالي أفترض أن من كان يتحكم بهن من وراء عالم خفي هو من يستحق العبادة الخ القصة, هذا المنطق مقبول للعقل المحدود الذي يفترض العجز دليل الإثبات أما العقل الذي لا يبرره تبقى الأسئلة مفتوحة أمامه بنفس القيمة والمستوى السابق .
إذن الدليل الذي توصل إليه كان دليلا شعوريا افتراضيا أيضا لا دليل برهاني عملي عليه يؤازر الفكرة التي أنطلق منها ولا يبرر العجز في توفر ما أراد بالأصل من حقيقة مجهولة, هذا الأمر متأت من حقيقة الخلفية الدينية للمجتمع التي لم يستطيع التخلص منها بل وساعدت الكونية التي نشأ بها من إحاطة تامة للدين بمفاصل الحياة على أن تمنحه العذر بكون التعجز والعجز طبيعي مع كل حالة لا متناهية وطبيعة، ليس من الممكن مغادرتها بسهولة إلى حالة أكثر حراكية وأوسع في تقبلها الأفتراضات الثورية الغير معتادة, كما ولا يمكن الإحاطة بهذه الواقعية المتجذرة في أساس التكوين الفطري الإنساني لخصيصة ذاتية، وعليه أن يسلم بالنتيجة دون أن يمارس النقد الأستنكاري الفحصي للنتيجة .
هذا الشعور العاجز وإن رسمه النص على أنه فتح كبير وباب برهان عظيم فهو يعد نوع من أنواع الإستلاب القهري الذاتي والضعف الطبيعي والمبرر، لكنه ليس طبيعيا ولا مبررا من أن يكون تسليمي عام ومطلق لأن النص وإن كان دينيا محافظا إلا أنه فتح الباب واسعا للفرض والافتراض والبناء على مفاتيح متعددة، تؤدي إلى نتائج متغايرة ومتنوعة وطلب من الإنسان أن يخوض بها, وأفترض أنا أن القصة ستستمر باللا مباشر على أن إبراهيم الذي هو أنا وأنت ونحن بعد أن أستدل على المسمى لديه رب السماوات والأرض، أن يبحث بنفس المنهج والافتراض المنطقي بدليل أخر ليصل مع نهاية القناعة إلى أن يصرح برفض فكرة الله الغائب (لأنه لا يحب الغائبين )!.
أليس من الأحرى للإنسان بعد أن رسم النص الديني منهجا وإن كان بصيغة أخبار أو رواية ولكنه منحنا مشروعية يحتاجها العقل الإنساني أولا قبل أن يحتاجها صاحب النص أن يسير عليها، طالما أنها مباحة ومشروعة ولا تتعارض مع الكونية التي يرسمها البعض للنتيجة التي وصل لها إبراهيم، والتي أعتقد بل وأجزم أن حدودها هذه كانت كافية لتستفز العقل الإنساني المتحرر أن يستمر بتساؤلاته للنتيجة التي يصل بها الإنسان لأخر الأفتراضات، والتي وردت أيضا بنفس النص (أرنا الله جهرة) وإن كان لا يستلزم العقل الوصول لها لمجرد أن يمسك الدليل الذي يخرج الله من إطار الكيف والكون الغير تقليدي، أي الذي لا ينتسب للكيف والكون الوضعي الحسي الذي لا يمكن أن يكون صالحا للقياس كمعيار عام، لأنه وحسب النص ليس كمثله شيء, الحس الشيئي بحاجة إلى إزاحة من موضع القياس وأستبداله بمقومات قياسية يبتكرها العقل ويخلق بها عالم مناسب للمهمة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟