رام الله ـ فلسطينن المحتلة
لعل من أصعب الأمور تنبؤاً موضوع التنبؤ بحركة الجماهير. ويذكر في هذا الباب أن وليم رايش المفكر اليساري البارز اقترح أن أهم صعوبة تواجه الثورة هي إيجاد علم نفس اجتماعي سياسي لقراءة تفكير الجماهير. دون ذلك لن نتمكن مطلقاً من فهم كيفية التحكم بقوة الشعب الهائلة أو على الأقل ملاءمة مشاريعنا الثورية مع لحظة وثوبها الدقيقة. في لحظات معينة تبدو الجماهير في وضعية التثاؤب والانتظار: ربما في انتظار جودو أو في انتظار الخراب. وكما نقول بالعامية: "خلينا نشوف شو آخرتها." والمحزن في رغبة الجماهير في رؤية آخرتها أنها تتوهمه نوعاً من الخلاص. والحقيقة أنه عندما نبدأ في إدراك كنه آخرتها تكون الأمور قد وصلت إلى نقطة اللاعودة، ويكون ما كسر غير قابل للإصلاح.
بدأنا هذه المقاربة لما يجري من أحداث في مشهد السيرك العربي ظناً منا أنها المفتاح لفهم الحالة العجيبة التي وصلت إليها الأمور في الساحة العربية. ونود هنا أن ننبه أن الأوضاع العربية هي ما هي منذ بعض الوقت، ونعني على وجه الدقة منذ اجتياح الكويت أو تحريره من قبل الجيش العراقي في آب 90 من القرن المنصرم. أما ما يميز القمة الجديدة للحضيض العربي فهو في الواقع اقتناع القادة العرب بفكرة أرنستو تشي جيفارا الشهيرة" كل الحقيقة للجماهير". وهكذا قرر السيرك العربي تقديم عروضه المجانية بغرض دفع الملل والأمل جميعاً عن كل المواطنين الكسالى الذين كانوا ينتظرون بضجر ولامبالاة واضحة ساعة ذبح الخروف العراقي التي طال انتظارها حتى أصبحت قصة مملة لا تثير شهية أحد أو اهتمامه. ومن هنا عبقرية السجية العربية المفطورة على خفة الظل وحضور البديهة. فجاءت كلمة العقيد معمر لقذافي قائد ثورة الفاتح لتسلية الجمهور والتخفيف من إحساسه بالضجر الشديد بسبب تكرار نفس المواد الغنائية والسياسية في الفضائيات على الرغم من كثرتها الشديدة التي لا تمنع من تحقيقها الوحدة في الإثارة وهبوط البرامج بشكل يعوض عن فشل الوحدة العربية من النواحي السياسية والاقتصادية وما لف لفها.
كان الرد السعودي مبهجاً بالفعل. ولا بد أن الجمهور لا تتاح له الفرصة في كل الأحوال للاستماع للزعماء العرب وهم يعرضون مواهبهم، خصوصاً في مجال استخدام لغتهم الأم، وقد استكمل القذافي المشهد بالتساؤل في آخر لحظة قبل انقطاع البث عن محتوى كلام الأمير عبد الله وهو ما يجسد مدى التجانس الثقافي بين زعماء " الأمة العربية الواحدة". ولقد بلغ السيل الزبى بمبادرة الشيخ زايد الذي " طم الوادي على القرى " العربية بتبنيه "الذكي والشجاع" على حد تعبير تلفزيون الدولة الرسمي لخطة شجاعة تنقذ العراق والعرب. ومن عندنا نضيف عن طريق وضع العرب مباشرة تحت السيطرة الأمريكية وهو بيت القصيد. سوف يقول أناس ولكن " يا إلهي، ما العمل والذي يجري إنما يجري بفضل العراق أو بفضل جرم قيادته، لا فرق، فليس هذا زمان التمييز بين الحاكم والمحكوم في وقت ترى أمريكا رؤوساً عربية كثيرة قد أينعت وحان قطافها، في العراق وبر الشام وغيرهما. ربما حتى جزيرة العرب وأصدقاء أمريكا المشايخ، ربما لن تخطئهم السكين لأمريكية بسبب الغلطة التاريخية والجغرافية ألتي لا تغتفر لهم، لأنهم تواجدوا عن قصد أو عن غير قصد في البلاد التي ينبع منها النفط العزيز على العقل والقلب والفكر الأمريكي الحر، لأنه حيوي لتعزيز قيم الديمقراطية الحقة وحقوق الإنسان في كل العالم.
عقد العرب مؤتمر قمتهم بعد كبير تلكؤ وتثاؤب. وقد قاوموا حتى اللحظات الأخيرة رغبات بعض المغرضين مثل أوروبا " القديمة " على حد تعبير الحكيم بوش الابن، وكذلك الرغبات الصينية الحاقدة والحاسدة والمكبوتة جيداً والتي لا تخفى على فطنة الأذكياء . فالصينيون يريدون أن يأخذوا موضع قدم لهم في التنافس في السوق الدولية بعد أن دخلوها بشق الأنفس وسط معارضة أمريكية صريحة ومستترة. والعرب يعرفون المطامع الصينية، ولذلك فإنهم غير قابلين لأن ينخدعوا بالهدوء والحكمة الصينية المزيفة. ولكن إذا أمكن للعرب أن " يتفهموا " المطامع الأوروبية أو الصينية أو حتى الروسية المشروعة، فإنهم بالطبع لا يستطيعون إلا أن يرفعوا حواجبهم دهشة ويضربوا كفاً بكف وهم يشاهدون وقاحة مهاتير محمد الذي يتشارك معهم في الملة دون أن يحفظ ما للمشارك في الملة من ذمة أو حق، ويسلك كما يسلك الأوروبي الغريب فيطالب الجامعة العربية بأن تأخذ موقفاً مناهضاً للحرب، كأن الجامعة العربية لم يكفها شرور مطامع الأوروبيين القدماء، ورغباتهم المريضة في تشكيل جبهة واسعة معادية للحرب والهيمنة الأمريكية على السواء.
جاءت الضربة الأخيرة من تركيا التي لا يجهل أحد من العالمين حدود ديمقراطيتها المفصلة على قدر علمانية العسكر الأتراك التي تستعصي تقريباً على التفسير. وقد يدرك المرء دون صعوبة كيف تم حظر الحزب الذي فارز بانتخابات 1998 لأنه لم يكيف نفسه على مقدار مقاييس ومكاييل ديمقراطية الجيش. وهو ما يذكرنا بتجربة جيرانهم من بني جلدتنا الذين يلغون نتائج الانتخابات إذا لم تكن متوائمة مع رغبات الجهاز الحاكم. وقد تسبب ذلك كما هو معروف في حمام دم ما زال ينز طازجاً في جزائر لم يتمكن حتى اللحظة من أن يبرأ من جروحه رغم حاجة العرب إلى كل قطرة دم وعرق على السواء، من أجل معارك تفرض على هذه الأمة دون رغبتها على مدار الساعة من أقصى المحيط إلى أدنى الخليج. بعد هذا الاستطراد الذي تفرضه مقارنة كل شيء في الدنيا بأوضاع العرب الخارجة عن كل المألوفات، نقول إن الأتراك بعد كل شيء قد صوتوا في مجلس نوابهم ضد الحرب، وضد السماح بنشر قوات الحرب الأمريكية على ترابهم. وهذا القرار ربما يخلط الأوراق قليلاً أو كثيراً لكنه في كل الأحوال لا يخلو من أهمية لاعتبارات كثيرة تتعلق بالدور التركي، وليس هنا موضع مناقشتها.
هكذا وجدت قمة السيرك العربي نفسها محاصرة بأوروبا وروسيا والصين وماليزيا وحتى تركيا ـ حتى أنت يا بروتس ـ وربما لم يبق من متسع في هذه القائمة المجنونة إلا أن تقول إسرائيل إن هذه حرب استعمارية تريد نهب المنطقة وإخضاعها للهيمنة الأمريكية والعودة بعقارب الساعة إلى زمن الإمبريالية الصريحة. لكن لو حصل ذلك هل سيغير في الأمر شيئاً؟
خرج الناس في كل العالم بالملايين ـ كما لم يخرجوا في يوم من الأيام ـ من أجل نزاع أو في سبيل قضية من القضايا. وقد بدا مشهد المتظاهرين تغص بهم شوارع لندن ويربو عددهم على المليون حدثاً خارقاً بكل المعايير. وخرج مثلهم في إيطاليا والبرازيل وألمانيا وفرنسا مما زاد حرج الموقف العربي الرسمي والشعبي. وكرد مفحم على ذلك، وعلى تلك الحشرنة الشاذة من قبل تلك الشعوب المجنونة، رفعت شعارات " الأمم " الإقليمية المختلفة فظهرت في كل مكان من عالمنا العربي شعارات " القطر الذي أنتمي إليه أولاً " بل أولاً وأخيراً. ويمكن تعديل الشعار ليكتسب بعداً واقعياً بالقول" الكرسي الذي أجلس عليه فقط، وبعده خراب البصرة وبغداد والقدس جميعاً."
أما المواطن العربي الذي يشاهد العروض البهلوانية في القمم جميعاً والتي توجتها قمة الفاتح من شباط 03 عبر الحوار الكوميدي بين قائد ثورة الفاتح ومساعد خادم الحرمين، أما هذا المواطن فقد وصل حد السلبية المطلقة على وجه التقريب، معتقداً أن رافعة عملاقة من طراز " كاتر بلر " لا تستطيع أن تغير شيئا في الأوضاع العربية. ولذلك انتشرت وعلى نطاق أوسع من ذي قبل حكم من قبيل " احفظ لسانك عند اختلاف الدول" و" حط رأسك بين الروس وقول يا قاطع الروس" وتغذي هذه السلبية قناعة راسخة تؤكدها وتدعم وثوقيتها باستمرار الأجهزة الرسمية وغير الرسمية من إعلام وتعليم وأجهزة أمن وأنشطة فنية ومجالس نميمة تسبح كلها بقدرات البطش الأمريكية لتي لا حد لها، وعجزنا نحن العرب عن فعل أي شيء في مواجهتها. وهي ما نظرها معظم الزعماء الذين وجدوا فرصة ليتفقوا على الأمر وبسرعة عجيبة. تعلم الشيخ زايد من وزير خارجية قطر " أسرار حكمة الشيوخ " في زمن النفط باعتبار أن أمريكا قضاء لا دافع له. فانتقل من التنظير السابق الذي طالما رددته إذاعة وتلفزيون الإمارات بسبب من بعدها الجغرافي عن فلسطين ـ وبالتالي عن دولة إسرائيل ـ إلى التبني والترويج للأفكار الأمريكية. كان الشيخ زايد قد قال في سالف العصر والأوان: " ويش هي إسرائيل؟ إسرائيل مثل الشعرة السوداء في ظهر الخروف الأبيض" هكذا بالضبط من البيئة. وهكذا بالضبط من البيئة أيضاً:" يمكن لصدام أن يرحل معزز مكرم ..الخ". أخشى أن الإنسان العربي لن يستطيع الصبر أكثر مما فعل على أنظمة تشكل ندبات ولطخات شائهة في جسد العروبة. وربما أن النظام ـ أو اللانظام/ الفوضى الرسمية ـ في حاجة إلى من ينصح بأهمية التوقف عن ألعاب الأكروبات، وإيلاء اهتمام أكبر لحياة الناس. وإلا فإن أمريكا ـ التي لا ترغب أصلاً ولا تهتم ـ لن تنفع أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،عندما تدق ساعة حساب الناس.