عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5852 - 2018 / 4 / 21 - 20:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سقط الفكر الإسلامي المعاصر والذي هو بالنتيجة صناعة إعتباطية وقراءة ذاتية من قبل مجموعات نشأت تأريخيا بصور مختلفة ومن ورائها دوافع مختلفة وأهداف متنوعة، كلها ساهمت بشكل أو بأخر في إخراجه من دائرة الإنسانية المطلقة التي تعني إن الأنتماء والانتساب للإسلام فقط، في طريق لا يمر عبر شخصيات وقيم فردية, بل عبر موضوعية الهدف من الدين والغاية من الفكر والشمولية في المخاطبة والأداء .
أراد القرآن من الإسلام أن يكون الحل النهائي لمسألة الظلم والعدل والحق والباطل والخير والشر, فحولها سلاطين السلطة وأتباعهم وفرقهم ومفكرين إلى فكر أحادي الجانب، بتبني وبشكل منفرد مفاهيم الحق والخير والعدل وترك البصمة الأخرى للطرف الأخر ونعته بكل الأوصاف، لمجرد أنه مختلف ببعض الشيء معه, لقد نعي الفكر الإسلامي نفسه يوم قبل أن يكون أداة بيد الظالم وتسامح في فرض محددات ومناهج لا تنتمي له ولا تتناسب مع صفة التجرد والحيادية .
السؤال أذن هنا هل يمكن للفكر الإسلامي أن يعاود السيرورة وينطلق من نقطة أخرى غير تلك النقاط المتشابكة التي حرفت بوصلة العقل العربي والإسلامي وأخرجته من دائرة الطبيعي الخاضع للتنازع والنقد؟, إلا الحد الذي بلورت مع هذا المنهج رؤية وضعية تماما لا تنتمي للإسلام المحمدي الأصلي, بمعنى هل يمكن أن نكون إسلاميين محمديين براهنية حداثوية أو متناسبة مع روح العصر دون أن نسقط في ذات الفخ الذي سقط به أسلافنا؟, وأن ننجو جميعا من نتائج ومسببات ومقدمات القراءة الاعتباطية الذاتية في فهم النص وتدويره، ليكون معين جديد ورافد حر للمعرفة المعاصرة ومتناسب مع إشكالية الفهم الإنساني لتعارض الدين مع الحداثة .
أكاد أجزم وبدون تردد أن المحاولة ممكنة وجديرة بالأخذ بها بل وقادرة على المساهمة في أن تكون جزء أصيل من الرؤية الكونية العالمية، بشرط واحد أن تبتعد عن الأنتماء للزمن والمكان والأشخاص المقدسين, الدين أي دين كان مهمته الأساسية الدعوة لتبني خيارات وجودية قبل أن يطالب بفرضيات طقوسيه, هذه الخيارات تعتمد على فكرة النجاة من الشيطان أو الشر أو الزيف والخ من المسميات التي تعني في لفة المنطق العلمي القوى السالبة، التي تجر الإنسان للخلف وتضعه في موضع التلاشي تمهيدا لإبطال مفعوله الوجودي الأصلي في الكون .
لو أتخذنا هذه الفكرة وبنينا على مضامين مفهوم المعاكسة لها وهي أن يكون معنى الخير والفضيلة والتدين والتمسك بخيارات الدين في أن يكون للإنسان فعل إيجابي نحو العبور من النقطة الحرجة نقطة الواقع، ومنها إلى أكثر النقاط قدرة على التجاوب مع الإنسانيته بمفهوم المنطق العلمي, سيكون للدين فضل في تبني حركة الوجود ذاتها التي يسعى العلم والمعرفة والفنون إلى تحقيقها وهي البحث عما يسعد الإنسان ويمنحه القدرة على التلبية والأستجابة الإيجابية لإشكاليات الواقع لغرض تجاوزها .
السؤال أيضا هنا هل يستطيع الإسلام مثلا أن يكون كذلك عامل إيجابي في ذلك ومساهم في بناء عالم خالي من الظلم والشرور ومستجيب لحق الإنسان الأساسي في التعبير الحر عن وجوده؟, طبعا الجواب لا بد أن يحتكم إلى وقائع وتجربة ومبادئ وهذا من أصل فكرة البرهان العقلي, لو سلمنا أن الإسلام كدين كسائر الأفكار التي تعرف عليها الإنسان في تأريخه فيه جانب مشرق ومضيء ولو بنسبة العشرة بالمائة وبالمقابل فيه جانب قهري تعسفي يمثل النسبة الباقية, فحتى مع هذه النسبة المتدنية يمكن للعقل الإنساني السوي والمسئول أن يستخدم هذه النسبة القليلة ويقدمها كأثر إيجابي ويترك ما بقى مجمدا ومهملا، لأن الإنسانية ليس بحاجة له بهذا الكون السالب, إذن الإشكالية ليست في الفكر بل بالعقل الذي يقرأ ويهضم ويقدم الفكر على أنه حل ويصنع منه منظومة تطرح نفسها على أنها هيكل متكامل .
حتى في الأفكار القديمة التي سبقت الإسلام بآلاف السنين لها أثر وضعي ووجود حقيقي في طيات وأسس الفكر الإنساني المتداول اليوم, الفلسفة وقضايا مثل العقائد والقيم الأخلاقية من الحضارات القديمة والديانات التي سبقت الإسلام، وأفكار مثل الديمقراطية والجمهورية والمثالية الأخلاقية ما زالت تنمو وتتطور مع الزمن ومع اشتداد حركته نحو الأمام, بالرغم أنها كانت جزء من رؤية أعتبرت في حينها متكاملة أو مترابطة, لكن ما هذبها وسعى لانتشارها ونقصد الجزء الإيجابي هو العقل البشري الذي يؤمن بالإيجابية ولا يحارب الفكرة بمجموعها لأنها مثلا تنتمي لجغرافية محددة أو لعنصر بشري محدد .
المهمة الأساسية اليوم في تحقيق ما يمكن أن يجعل من النص الديني أو حتى الدين بمنظوره الإيجابي للحياة تقع على العقل البشري, العقل الذي يتخلى عن غروره وانتماءه ويجنح لمبدأ الخيرية والأحسنية ويعيد قراءة الوجه الديني من كل الزوايا وبعمق وأخلاص وتجرد, في بعض زوايا الفكر الديني الإسلامي ومضات إنسانية لم يصلها الإنسان اليوم برغم تطوره الفكري والمعرفي، كونها أهملت وجنبت لأنها لا تتلاءم مع القراءات اللا حيادية التي سخرت الدين كما سخرت اسم الله لأغراض أنانوية وخاصة ومحدودة، أملا بالفوز بالسلطة والجاه والثروة, ولم يكن يهمها من الأمر لا الإنسان ولا الدين .
علينا أن نجرد الفكرة الدينية من تاريخيتها ومن إطارها المنتمي للجغرافية والناقل والمفسر، ونعيد طرحها كأنها رسالة ولدت اليوم لتكون غذاء روحي وفكري للمستقبل, وأن لا نتحجر بقراءات سلفية ونستخدمها كشواهد أو أملاءات يجب أن تحضر مع الرسالة على ذات الطاولة النقدية, المطلوب اليوم من العقل الإنساني أن يكون نبي هذا الزمان ورسولا مهتما بحق الإنسان وبذاتية الوجود الفاعل الإيجابي، ليعيد الحيوية لجزء مهم من الدين بمعنى الأخلاق والقيم, هو الجزء الذي يتبنى خيار السلام والمحبة والتعايش والعدل والعمل والحرية وأن يشيع في أجواء الفكر الإنساني روح التعاون والحوار والجنوح نحو الواقعية العقلانية، التي تتجاوز الواقع المر وتتجه بخطواته نحو الكمال البشري النسبي بدون تحسس أو تناقض مع روافد الفكر الإنساني الجمعي والمتكامل .
المحاولة التي نادى فيها الكثيرون وعمل على تجسيدها آخرون كانت متوجه أصلا إلى نقد جوانب مهمة من الفكر الإسلامي الأساس، بأعتباره فكرا مرتبطا براهنية المرحلة وبذاتية المبشر إضافة إلى تعلقه بالبيئة والمنشأ, كان يتركز النقد على جوانب شكلية ليس لها مساس محدد بما ندعو له أو نفكر فيه كمشروع خلاق, منهم مثلا المدرسة التي يمثلها عبد الكريم سروش وآخرون، الذين ينادون بفصل النص الديني عن المصدر الذي يصفنه بالمزعوم أي يفصلون بين الله كوجود وبين الرسول، ويعتبرون أن بشرية النص تتيح لهم حق رفضه بأعتباره غير ملزم ولو أخلاقيا, في حين أن مفكرين آخرين ربط بين البيئة التي ولد فيها النص وحاجاته الأساسية التي أستجاب لها النص أيضا لا تتيح له الحق التواجد اليوم بيننا, وغيرها من النظريات التي تشخصن الفكرة وتجعل بينها وبين الواقع الحالي مسافة لا يمكن تجسيرها أو حتى أفتراض إمكانية ذلك .
المشروع الذي نتبناه اليوم وبكل وضوح بعيدا عن التنظيرات الغير حيادية والتخريجات التي تعتمد النظرة الأحادية نقول, أنه حتى لو كان الدين مشروعا بشريا خالصا رؤية وكتابة وبسط ونتيجة، فلنعتبره بالنهاية نظرية فكرية وأخلاقية وفلسفية ونتعامل معها على هذا الأساس, ومن يعتبرها أنها هبة الله للإنسان وفيها ما فيها من الخيرية والفضيلة ليأخذها كما هي ونجلس معا, لنحول كل الجوانب والقيم والأخلاقيات والمعارف والأهداف النبيلة فيها على أنها لب فكرة لم تنتهي فاعليتها وما زال فيها الكثير مما يمكن أن يعزز من سيرورة الإنسان نحو المستقبل, علينا أن نتفق أولا على مشتركات إنسانية بعيدا عن التفسيرات والتأويلات السابقة، والتي لم يعد بإمكانها التلاؤم مع حاجات ومتطلبات الإنسان المعاصر .
علينا أن لا نتدخل كمفكرين وإنسانيين في أن نبحث عن شكل وطول وأسم الملك الذي خاطب النبي, ولا عن أسماء الملائكة الحافين بالعرش, ولا عن رجم القردة الزانية والحمار الكاذب, علينا أن نستوعب الدين خطاب عقلاني بعيدا عن المقدسات والطقوسيات والشخصنة الفردية للرجال والنساء, أيضا علينا أن لا نهتم لمحدد الزمان والمكان فالفكر نتاج معرفة إنسان مجرد ويبقى مجرد أيضا، ليكون أداة تتناقلها الأجيال وتستخدمها في تجاوز إشكالاتها ومشاغلها .
المشروع موجه للإنسان الكلي السوي المثالي العلمي الذي يؤمن بأن الإنسان قبل أن يكون خاضعا لمؤثرات خارجية عليه أن يعقلن طريق المتحسسات، ويمهد لأن يكون طريق التأثير والتأثير المقابل يجب أن يري وفق قوانين خاضعة لمنطق, المشروع غير معني بمن يؤمن بوجود حقائق عدة ويؤمن بالمطلق والكمال، وأنه بإمكان الإنسان من خلال مشروع ما أن يحرزهما, أننا نعمل من أجل أن نبحث بين الأصداف البحرية عن أمل أن نجد الأنفع مما يمكننا الاستفادة منه في تيسير الحياة، وكسب منافعها لمصلحة الإنسان الذي أتعبته وأنهكته الصراعات والتنازع بين الأديان والأيديولوجيات دون أن يكسب إلا مزيدا من الدمار .
مشروعنا ليس فكرة طوباوية ولا عبث خيالي يتصل بأحلام العدل الكامل والسعادة الأبدية، فكلاهما لم يتحققا ما دام الإنسان يحتكم لذاته ولحسه الفردي الوجودي دون أستخدام المنطق والتدبر المعرفي وبمنهج واضح, ولكننا نحاول قدر الإمكان أن نهذب هذا كله من خلال المشتركات الإنسانية التي تساهم في نزع فتيل هذه المؤثرات السلبية, لتكون علامة ودعامة من دعامات السلام والحرية في الوجود, لقد نجحت الكثير من الأفكار المتنازعة حينما ألتقت عند مشتركات بينيه، وهذا أيضا جزء من خطاب الدين (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا) نعم نبحث عن فكرة سواء لنؤسس عليها فهم مشترك ومتشارك .
إن من أصعب المهمات التي تقع على عاتق الإنسان وعلى مر العصور هو هدم صرح القداسة المبنية على فكرة ما, وحيث أن فكرنا الإسلامي وحرصا ممن حرف وغير مساراته الأولى أحاطه بالكثير من المقدس الموهوم، وعزز ذلك بالكثير من النصوص المختلقة التي تتعارض حتى مع جوهر الفكرة الإسلامية, وحصن نفسه والطبقة التي شايعته وتابعته بالكثير من التجليل والتعظيم، حتى صارت سلاحا بوجه كل من يحاول التقرب من الدين كروح وأجبر المسلمون على التعاطي مع قراءات ذاتية متنازعة, بل وأجبر المسلم على أن يكون طرفا في نزاع وصراع مذهبي وطائفي شاء أم أبى دون أن يسأل ودون أن يختار، وحتى ودون أن يسمح له بالتفكير لماذا التنازع ولمصلحة من الصراع المذهبي .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟