يختلف النقاش الحادّ الدائر الآن في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بشأن الأزمة العراقية، عن مثيله السائد في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. ففي أميركا ودول الغرب، المعارضون للحرب هم متّهمون بأنّهم يدعمون استمرار النظام الحالي في بغداد من خلال رفضهم لأسلوب الحرب عليه. بل إنّ الأمر يصل أحياناً حدّ اتّهام هؤلاء المعارضين بأنّهم يدعمون الإرهاب ولا يحرصون على أمن وسلامة هذا البلد الغربي أو ذاك. فالحرب على العراق أضحت لدى المؤيّدين لها وعداً بالقضاء على الإرهاب الدولي وأملاً بعالمٍ مسالمٍ بعدها.
وحتى تأخذ هذه الحرب المرتقبة "مسحة قيمٍ غربية" فإنّ دعاتها بالغرب يتحدّثون أيضاً عن "الجنّة الديمقراطية" التي ستتبع هذه الحرب بعد إزالة دكتاتورية الشرّ في العراق!
إذن، في أميركا ودول الغرب، أنت متّهم بدعم النظام الدكتاتوري في العراق، وبالتساهل في الأمن الوطني، إن كنتَ ضدَّ أسلوب الحرب الآن.
ويردّ المعارضون للحرب على هذه الاتهامات بالتأكيد على أنَّ موقفهم هو الذي يحرص على المصالح الأميركية (أو مصالح هذا البلد الغربي أو ذاك)، وبأنَّ الحرب ستؤدّي إلى زيادة الإرهاب الدولي لا القضاء عليه، وبأنَّ الحرب دون موافقة مجلس الأمن تعني عزلةً لأميركا ومزيداً من الضرر على الأميركيين في كلّ مكان.
أمّا في الشرق العربي والإسلامي، فإنَّ المسألة معكوسة إلى حدٍّ ما، فأيّ حديثٍ عن ضرورة تغيير النظام في العراق أو تنحّي قيادته الآن، يعني بالنسبة للبعض الآخر دعماً للحرب على العراق وتورّطاً في المشاريع الأميركية، إن لم يصل بهم الاتّهام إلى حدّ أوصاف العمالة لواشنطن.
في الشرق: من يتحدّث عن تنحّي صدام حسين هو متّهم بخدمة أميركا. وفي الغرب، من يتحدّث ضدّ حربٍ على العراق هو متّهم بالدفاع عن نظام ديكتاتوري، ومفرّط بالأمن الوطني.
لعلّ هذا الانقسام الحادّ، السائد في الشرق والغرب معاً، هو خير دليلٍ عن مكمن هذه المشكلة وكيفيّة التعامل معها.
الإرهاب الفكري في أميركا (وبعض دول الغرب) يمارَس على الرافضين للحرب حتى تتراجع طروحاتهم، فيتعزّز منطق أصحاب المصالح في الحرب. أمّا الإرهاب الفكري في الشرق فهو يستهدف تحويل الموقف الرافض للحرب على العراق، إلى موقفٍ داعمٍ لنظام الحكم فيه.
في ظلّ هذه الأجواء الاستقطابية الحادة، ومع هيمنة مقولة: "من ليس معنا فهو ضدّنا"، انعقدت القمّة العربية قبل موعدها العادي المحدّد، وتغيّر مكان انعقادها من البحرين لشرم الشيخ، لا من أجل تغييرٍ نوعي في واقع الحال القائم عربياً ودولياً، بل فقط لإصدار بيانٍ يتضمّن إجماع القادة العرب على رفض الحرب دون التقرير طبعاً لأيّة إجراءاتٍ عملية تمنع من حدوثها.
لقد فقدت قمّة شرم الشيخ قيمتها العملية حينما تجنّبت تبنّي رسالة الشيخ زايد. وكان أولى بها أن تكون قمّة لرسالة الشيخ زايد وليس قمّة لبيان شرم الشيخ: فالمواقف المعلنة بالبيان هي عظيمة جداً من حيث الصياغة، لكن أين هي الخطوات العملية التي تُحوّل المواقف إلى وقفاتٍ عملية تساهم في إنقاذ العراق والمنطقة من حربٍ مدمّرة ومن تفاعلاتٍ سياسية خطيرة؟
لقد تضمّنت رسالة رئيس دولة الإمارات العربية خطوات محدّدة معنيّة بها الجامعة العربية والأمم المتحدة إضافةً إلى الحكم العراقي. لكن القمّة تجنّبت حتى طرح هذه الخطوات للنقاش واختارت البقاء في دائرة البيانات. فما كانت هذه القمّة تخشى من طرح الرسالة؟ حدوث اختلافٍ وسط المشاركين بها؟! أّوَلم تحدث مشادّات علنية في القمّة هي أقوى ممّا قد ينتج عن مناقشة مسائل أكثر أهمّية وردت في رسالة الشيخ زايد؟
إنَّ ما ورد في الرسالة الإماراتية يحمل حلاً سلمياً للأزمة العراقية ويضع العرب والمجتمع الدولي أمام مسؤولية إنقاذ العراق والمنطقة والعالم من حربٍ يعرف الكلّ كيف ستبدأ، لكن لا أحد يعلم كيف ستتطوّر وعلامَ تكون خواتيمها.
لقد عبّر الشيخ زايد عن جرأةٍ كبيرة وعن شجاعةٍ سياسية قومية في طرح هذه المبادرة التي تتجاوز التصريحات والبيانات، والتي تتعامل مع جوهر المشكلة وتضع حلولاً عملية لها تتناسب مع واقع الحال على المستويين العربي والدولي.
وكان أسخف التعليقات عليها ذاك الذي اعتبرها "تدخّلاً في الشؤون الداخلية العراقية". تُرى، هل من حقّ الأجانب التابعين لإمرة السويدي هانز بليكس أن يدخلوا منازل المسؤولين العراقيين، وأن يفتّشوا حتى في أدراج ملابسهم الداخلية، ولا يُعتبر ذلك "تدخّلاً في الشؤون الداخلية العراقية"؟!
هل أصبحت "الشؤون الداخلية" هي تلك المحصورة فقط بمسألة التنازل عن السلطة، وبات الاقتراب من هذه المسألة جريمة لا تغتفر، في حين أنّ التنازل عن سيادة العراق وعن حقوق المواطنين العراقيين مسألة فيها نظر؟!
وهل غزو دولةٍ عربية واحتلال كامل أراضيها ومحاولة فرض حكمٍ جديدٍ عليها، كما فعل النظام العراقي مع دولة الكويت عام 1990، هو حقّ مشروع للحكم العراقي ولا يُعتبر تدخّلاً في الشؤون الداخلية لبلدٍ عربيٍّ آخر؟!
هذه الأصوات، الحريصة الآن على "سيادة النظام العراقي"، وعلى "عدم التدخّل بالشؤون الداخلية"، لِمَ لم تخرج إلى العلن أيضاً عام 1990؟ أو أنَّ المسألة آنذاك كانت تحت "مظلّة القومية" و"عباءة العروبة" لتبرير الاجتياح العسكري الكامل لدولةٍ عربية، أمّا الآن فإنَّ "مظلّة السيادة الإقليمية الوطنية" هي المرفوعة إذا دُعي النظام العراقي إلى التنحّي حفاظاً على العراق من أن يحدث فيه ومعه ما مارسه حكمه عام 90 من اجتياحٍ كامل واحتلالٍ لكلّ الأرض ومحاولة فرض نظام حكمٍ جديد؟!
كيف يكون من يدعو الحكم العراقي إلى التنحّي حفاظاً على العراق وعلى الأمّة من مزيدٍ من الدمار والتدويل، هو الذي يتدخّل بالشؤون "الداخلية العراقية"، بينما أصبحت شؤون العراق كلّها الآن، بل ومنذ عام 91، "شؤوناً خارجية دولية"؟
إنَّ الحكم العراقي هو المسؤول عن تدويل المسألة العراقية، وعن جعل الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة حالة دائمة مرشّحة الآن للزيادة عدداً وعدّة. وقد مارس هذا الحكم في الماضي مع جيرانه العرب والمسلمين من منطق القوة والاستباحة ما تحاول أميركا أن تمارسه الآن كأسلوبٍ مع العراق.
لقد أخطأ الحكم العراقي عام 1990 في الأولويات والحسابات، تماماً كما تفعل الإدارة الأمريكية الحالية. واختار نظام بغداد آنذاك السير في ركاب الحرب ورفض تجنّبها عام 1991، رغم اعتراضاتٍ عربية ودولية، أيضاً تماماً كما تفعل واشنطن الآن. لكن بإمكان نظام بغداد الآن تجنّب حربٍ جديدة من خلال تبنّي الخطوات العملية التي جاءت في المبادرة الإماراتية وعدم تكرار سوء الحسابات من جديد، مما يجعل الحرب أمراً حتمياً بحكم سؤ الحسابات من واشنطن وبغداد معاً.
إنَّ شعب العراق هو أهمّ من حاكمه الآن أو من أيّ حاكم آخر عليه، ومقدّرات الوطن أهمّ من مغانم السلطة أينما كانت، والنظام الحالي في بغداد هو أشدّ قسوةً على شعبه ممّا كانت عليه أنظمة وشعوب أوروبا الشرقية. فتحرّر هذه الشعوب من حكوماتها المستبدّة لم يكن "مسألة خارجية" بل كان حصيلة إرادةٍ وطنية اختارت التغيير بعد انهيار رأس الأنظمة الشيوعية في موسكو.
العراق الآن أمام خيارين: إمّا إدارة عسكرية أميركية تستتبع الحرب المدمّرة، أو إدارة وطنية عراقية بإشرافٍ عربي ودولي (كما جاء في المبادرة الإماراتية). ونظام بغداد من جهة، والبيت الأبيض الأميركي من جهةٍ أخرى، هما الطرفان الوحيدان القادر كلّ منهما على الأخذ بأحد الخيارين.
فعدم تنحّي نظام الحكم الآن في بغداد يعني عدم تعطيل ذرائع الحرب ويعني التمهيد لمجيء حاكمٍ عسكري أميركي على بغداد.
ومن المصادفات، أن تكون المبادرة الرسمية العربية الوحيدة التي تحمل مضموناً عملياً قابلاً للتنفيذ وصالحاً لمنع حدوث الحرب على العراق، هي مبادرة دولة الإمارات التي عمرها كدولة أقلّ من عمر نظام الحكم الحالي في بغداد، لكنّها استطاعت في ثلاثة عقود أن تنتقل من حالة القبائل الصحراوية المتصارعة إلى دولةٍ حديثة موحّدة، تعيش نهضةً اقتصادية وعمرانية وثقافية أصبحت مثالاً لدولٍ عديدة في العالم، رغم محدودية عدد سكانها.
أمّا في العراق، فإنَّ النظام الحالي، بعد ثلاثة عقود من سلطته وتسلّطه، حوّل العراق من بلدٍ واحد، غنيّ بالثروات وبالطاقات والكفاءات البشرية، إلى بلدٍ يعاني من الخوف والجوع وتشرّد الكفاءات، وإلى أرضٍ مستباحة برّاً وبحراً وجوّاً، وإلى شعبٍ يتمّ فرزه إلى شعوبٍ وكيانات ..
الانهيار حدث في الأمور كلّها .. إلا انهيار السلطة!!
وكم هو مؤسفٌ أن ينهار وطن ويصمد نظام ..
5 آذار/مارس 2003
• مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن