نهرو عبد الصبور طنطاوي
الحوار المتمدن-العدد: 1489 - 2006 / 3 / 14 - 10:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حوار أجري مع الكاتب نهرو عبد الصبور طنطاوي (مدرس بالأزهر) حول كتابه "قراءة للإسلام من جديد" أجرته جريدة الوفاق القومي المصرية بتاريخ 7/2/2006م.
مما لا شك فيه أن النبش في الثوابت والموروثات يعد دخولا إراديا في عش الدبابير خاصة في مجتمعنا الإسلامي المتمسك بثوابت متوارثة لقي كل من اقترب منها هجوما عنيفا بين الرافضين لمبدأ التجديد أو حتى التفكير فيه ... وصل في بعض الأحيان إلى حد التكفير كما حدث لعلماء كثيرين ... وبلغ ذروته إلى حد القتل .
ووسط هذه المخاوف ظهر كتاب جديد لباحث مصري يحمل الكتاب اسم (قراءة للإسلام من جديد) ... ومؤلفه هو الباحث " نهرو عبد الصبور طنطاوي " مدرس بالأزهر قرر الخوض في بحور القرآن الكريم محاولا الوصول إلى فهم متعمق لمعانيه الربانية ... حتى وصل إلى نتيجة أن القرآن هو الحقيقة الوحيدة الموجودة على وجه الأرض ... وهو المعجزة الربانية الباقية إلى يوم الدين ... وتوصل " نهرو " إلى العديد من الرؤى والتفسيرات لمعاني وآيات القرآن الكريم حاولنا الوصول معه إلى فهم لما وصل إليه ... من خلال هذا الحوار الذي انفردت به " الوفاق القومي " .
*بما تصف كتابك الذي يحمل عنوانا يشير إلى فكر جديد أو مذهب فقهي ... قد ينسب إليك فيما بعد ؟
** هذا الكتاب ليس بفكر جديد وليس بمذهب فقهي وليس برأي ... إنما هو إعادة لقراءة الإسلام من جديد , وقراءة أحكامه وتشريعاته وأوامره ونواهيه وكذلك تحليله وتحريمه بعيدا عن أي إضافات قد تكون دخلت عليه بداية من الأحاديث الضعيفة وصولا إلى آراء الناس وقياساتهم وحتى اجتهاداتهم ... وعن طريق النبع الصافي الذي هو القرآن الكريم .
* ولكن ما هي دوافعك أو بمعنى أدق ما هي ملاحظاتك عما هو متبع من تعاليم الدين الإسلامي الآن .
** في البداية أحب أن أوضح أنني بدأت حياتي قارئا جيدا وحافظا للقرآن الكريم وخلال بحثي عن الطريق الأصح لفهم الدين انضممت لمعظم التيارات الدينية الموجودة في المجتمع بداية من الإخوان المسلمين مرورا بالجماعات الإسلامية وغيرها ... وخلال رحلة البحث قرأت في معظم المذاهب الفقهية حتى اكتشفت أن الخلاف بين المذاهب وسوء الفهم لأصل الدين سببه اجتهادات العلماء في أمور وضحها القرآن دون لبث ولا تحتاج إلى تفسير .
واكتشفت أن القرآن الكريم مفسر لنفسه لأن الله سبحانه وتعالى أرسل رسولا وأنزل إليه كتابا ... ذلك الكتاب هو الدين وهو حكم الله وشرعه .. ولكن بعد وفاة الرسول قام البشر بخلط هذا الكتاب المقدس بآرائهم واجتهاداتهم وتشريعاتهم وأقوالهم فاختلط النبع الصافي بالأهواء والظنون والتفسيرات والتحليلات البشرية التي ما أنزل الله بها من سلطان ونتج عن هذا الخلط دينا جديدا .. لا هو دين الله الذي أنزله على رسوله ولا هو دين بشري خالص .. وإنما الكارثة أنه خليط من الدين الإلهي والأهواء البشرية التي تحولت مع مرور الزمن إلى مقدسات لا يمكن الاقتراب منها .. لذلك أحاول في هذا الكتاب أن أفصل بين ما هو إلهيّ مقدس وبين ما هو بشري .
* ولكن على مر العصور أجمع علماء المسلمين على أهمية اجتهادات الفقهاء الذين فسروا الدين ليسهلوا على الناس فهمه فكيف ترفض هذا التراث الإسلامي الكبير .
** أصل اعتراضي على هذه الآراء أو ما يسمونها اجتهادات هو القرآن نفسه الذي لا شك في حرف واحد بما أنزله الله سبحانه وتعالى فالأمر باتباع القرآن وحده والنهي عن اتباع ما سواه أمر به الله سبحانه وتعالى وليس رأيي أنا كما جاء في قوله تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } صدق الله العظيم ... فبهذا النص القرآني العظيم قطع الله الطريق على كل مصدر للدين الإسلامي غير القرآن الذي أنزل إلينا من ربنا, ونهانا أن نتبع من دون القرآن أولياء سواء كان الأولياء علماء أو مفسرين أو مجتهدين أو فقهاء أو خطباء أو حتى أحاديث مشكوك في صحتها تنسب ظلما وزورا إلى الرسول صلي الله عليه وسلم .
* إذا هناك حكمة من النهي عن اتباع غير القرآن الكريم ؟
** بالقطع .. كان من حكمة الله سبحانه وتعالى نهيه عن اتباع الأولياء من دون القرآن الذي أنزل إلينا من ربنا هو أن الأولياء قد يثبت بما لا يدع مجالا للشك كما أخبر القرآن أنهم قليلا ما تذكرون ؟ وإذا كانوا قليلي التذكر فهم كثيرو الغفلة والخطأ والنسيان , وقد يثبت بما لا يدع مجالا للشك للأولياء من دون ما أنزل الله قد أضاعنا وأضاع منا كل شيء فقد أضاع قوتنا ومزقنا حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من تشرذم وتخلف وضعف ووهن .
* إذا ندخل إلى صميم كتابك ونسأل سؤالا مهما ... وهو هل يحتاج القرآن الكريم إلى تفسير من خلال كتب التفاسير التي تزيد كل يوم بما يعكس صعوبة فهم القرآن وأحكامه ؟
** يجيب الله سبحانه وتعالى على تساؤلاتك التي تدور بكلمات بسيطة وهي أن القرآن أحسن تفسيرا ... مصدقا لقوله تعالى : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } صدق الله العظيم ... فكيف يكون القرآن أحسن تفسرا ويحتاج إلى تفسير ؟ بل هناك الكثير من الآيات التي تثبت أن القرآن سهل وميسر لكل من أراد أن يتفكر ويتدبر في آياته وأحكامه وعدله ورحمته بالبشرية جمعاء , ولكن الأسلاك الشائكة والأسوار التي وضعت حول فهم القرآن وتدبر آياته وأحكامه إلا عن طريق بوابة التفاسير والشروحات والسنة , وما يسمى بالتاريخ الإسلامي والسير ما هو إلا لأغراض شخصية وأهواء ... وهو ما يذكرني بقول الله تعالى الذي جاء في صورة الفرقان : {قال الرسول يا رب قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} صدق الله العظيم .
*حديثك يدعو في بعض الأحيان من بين السطور إلى إنكار السنة وهذه أول تهمة ممكن أن تتهم بها ... فكيف ترد ؟
** أعرف أن هجوما عنيفا واتهامات كثيرة ممكن أن تلحق بي ولكن الحقيقة أنني لا أنكر السنة ولي فيها كلام كثير وحاولت في كتابي مناقشة السنة من خلال خمسة محاور رئيسية هي :
1- تأكيد طاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم وفرضها على المسلمين الذين عاصروا رسول الله في حياته .
2- كيفية طاعة الرسول بعد مماته .
3- ما هي وظيفة ومهمة الرسول التي وردت في القرآن ؟
4- هل لرسول الله أن يأتي بأحكام أو يحرم أشياء غير التي وردت في القرآن؟
5- مراجعة نصوص الأحاديث ومدى مطابقتها للقرآن .
ولكل واحدة من هذه التساؤلات أو المحاور أسباب عديدة وردت في القرآن ولا يمكن لأحد أن ينكرها ... ولكن على أن أركز على أمرين مهمين وهما طاعة الرسول بشكل عام ... والتي قسمتها إلى قسمين :
القسم الأول : طاعته صلي الله عليه وسلم فيما أنزل الله من قرآن .. وهذا لا خيار لمسلم فيه لأن ما جاء به الرسول وبلغه عن ربه من قرآن هو كلام الله وحكمه وأمره للناس فليس لمسلم يؤمن بهذا الدين أن يناقش ما جاء في القرآن أو يجادل فيه أو يرده ما دام أنه رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولا .
أما القسم الثاني : فهو طاعة الرسول بعد وفاته فيما ورد عنه من أحاديث وسنن ومرويات فينبغي التوقف عندها قبل الأخذ بها واتباعها وطاعتها لعدة أسباب :
أولا : السنة لم تنقل إلينا بمجملها عن طريق التواتر كالقرآن .
ثانيا : وفقا لأكثر الأقوال أن ما نقل إلينا بطريق التواتر كالقرآن لا يتجاوز 309 أحاديث فقط من أصل ما يزيد على 600 ألف حديث , وأن 99% من هذه الأحاديث وردت بطريق الآحاد يعني ما رواها عن الرسول شخص واحد أو اثنين على الأكثر .
وأن جميع ما ورد عن الرسول من غير المتواتر فهو ظني , ومعنى ظني أنه مشكوك في ثبوتها ونسبتها للرسول وهذا بشهادة علماء السنة والأصول جميعا ويكفي قول الله تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } ولو كانت السنة مهمة لفهم القرآن لكان الله تكفل بحفظها كما تعهد بحفظ القرآن الكريم أضف إلى ذلك أن كثيرا من الأحاديث فيها مخالفة صريحة لنصوص القرآن ولا يوجد حديث في حكم أو مسألة إلا ويوجد حديث آخر يناقضه فتجد حديث يحلل وتجد حديثا مضادا له يحرم .
* ولكن ما هي وظيفة علماء لمسلمين إذا كنت لا تجد أهمية لاجتهاداتهم أو اللجوء للأحاديث في أوقات أخرى ؟
** العلماء أمناء على ما أنزل وعلى شرعه وعلى دينه ووظيفتهم هي فهم كتاب الله وإبلاغه للناس كما هو دون تحريف للكلام أو المعنى ودون كتمان أو إخفاء , ومن وظيفتهم أيضا تعليم الناس الكتاب , كتاب الله فقط , لا يشتتون عقول الناس بما يسمونه علوم الدين من الأحاديث الظنية والاجتهادات وغيرها من العلوم التي فرقت الأمة وحادت بها عن كتاب الله النبع الصافي وأي علم غير علم الكتاب هو الظن . والظن لا يغني عن الحق شيئا فقال تعالى : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وأن هم إلا يظنون } صدق الله العظيم .
* وما قولك في الاجتهاد ؟
** الاجتهاد ليست له أي علاقة بالدين بمعنى أنه ليس تشريع ديني بل هو اختراع اخترعه العلماء لإضافة أحكام جديدة على الدين لم يشرعها الله عز وجل ويحرموا على الناس ما أحل الله أو يحلوا ما حرم الله عليهم .. لأن النصوص الدينية ثابتة ومحددة ... أما الاجتهاد فهو يقوم بعملية إضافة إلى الدين .. بمعنى أن العلماء اتخذوا من الاجتهاد وسيلة لجعل الدين شيئا مطاطيا يتسع حسبما تقتضي الظروف ويضيق حسبما تقتضي أو توظفه في خدمة الأغراض والأهواء والتطلعات والمجاملات . وأنا أعتبر أن الاجتهاد هو باب الشر الذي أحاط بالدين منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام .. وأن إغلاق هذا الباب مع الفهم الصحيح لنصوص القرآن يعد عودة إلى أصل الدين .. والتشريع الإلهي .
* ذكرت في الكتاب أنك تنفي وجود نسخ في القرآن فما قولك في ذلك ؟
هذا الموضوع قد زل فيه الناس قديما وحديثا واتخذه بعض أهل الكتاب " اليهود والنصارى " وبعض المنتسبين للإسلام مطية للنيل من الإسلام والتشكيك في القرآن كما تقرأ في بعض الكتب ونشاهد على شبكة الإنترنت وفي إحدى القنوات الفضائية وذلك أن القرآن الكريم هو بين أيدي المسلمين منذ أن توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا ليس فيه آية واحدة أو حكم أو كلمة أو حرف واحد منسوخ بل كله محكم قطعي واجب الاتباع باستثناء الآيات المتشابهة التي نهانا الله عن تتبعها والمنسوخ قد رفعه الله من القرآن قبل وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وهناك أحكام نسخها الله في حياة الرسول ومحرمات نسخها الله أيضا في حياة الرسول وكلها قد رفعها الله ومحاها وأنساها للرسول وأحكم آياته التي هي بين دفتي المصحف الآن فكل الآيات التي في المصحف بلا استثناء ليس فيها آية واحدة منسوخة لا في أحكام الأوامر أو النواهي أو التحليل أو التحريم .
* ما رأيك في كثرة الاختلافات والفتاوى المتعددة والتي تذاع يوميا على الفضائيات حتى إنها تحولت إلى مادة خصبة يجتمع حولها الناس في برامج تعد ناجحة ؟
أن الاختلاف في الدين منبعه هو البغي والتعدي على دين الله وتحكيم العقول والأهواء والاجتهادات في الدين وجهل العلماء المفتين بالطريقة الشرعية التي نص عليها القرآن والتي نص عليها الدين , وجهلهم بهذه الطريقة جعل من الدين مرتعا للفتاوى الضالة والمضلة على أيدي الدعاة الدجالين الجدد والمتربحين من وراء هذا الموضوع الذي ينافسون فيه نجوم السينما والغناء أما الطريقة الشرعية وهي أن المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن لأن السنة ليست مصدرا للتشريع وفهم القرآن يكون عن طريق اللغة العربية .. كما أوضحت هذه النقطة بالتفصيل في كتابي ... وأؤكد أن اختلاف المسلمون سواء كانوا مذاهب مثل السنة والشيعة أو فقهاء أو مفتين أو مجتهدين جميعهم اختلفوا كما اختلف اليهود والنصارى , ويرجع هذا الاختلاف عند المسلمين إلى أمر أساسي أولا وهو فهم النص بعيدا عن اللغة العربية وتقطيع وتجزئة النص وفهم النص في ضوء الأحاديث الظنية والاجتهاد والقياس ... هذه العوامل هي التي تسببت في تفرقة المسلمين واختلافهم في دينهم .
* إذن أنت ترفض المقولة المأثورة " أن اختلاف العلماء رحمة " ؟
** نعم أرفض هذه المقولة .. بل هي أكذوبة افتراها البعض للعب بالدين وأن الاختلاف نقمة وليس رحمة , نقمة حلت بالمسلمين وبعباداتهم وتشريعاتهم ومعاملاتهم فكيف يكون الاختلاف رحمة وهناك عشرات النصوص في القرآن الكريم تحذر من الاختلاف والفرقة وأنا بصدد إصدار مصنف جديد تحت عنوان " الفقه القرآني " الذي ليس فيه خلاف أو اختلاف ... وسوف أتناول فيه جميع أمور الدين من عقائد وعبادات ومعاملات في ضوء القرآن الكريم فقط وبعيدا عما يسمى بالسنة والمذاهب الفقهية وخرافات العلماء .
* ترفض الخلافات ولكنها موجودة بالفعل وراسخة في عقول وتراث الأمة فهل لك رؤية في علاج هذا الاختلاف ؟
قال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فكمه إلى الله } هذه الآية علاج لكل خلاف واختلاف والرجوع إلى الله في كل مكان ما هو ديني بالطريقة الربانية المقدسة " اللغة العربية " وسياق النص وموضوعه والجمع بين النصوص كما بين الله في كتابه العظيم والشيء غير الديني بمعنى أنه لم يرد فيه شيء في القرآن فهو مباح لنا فعله متى شئنا وبأي كيفية شئنا , فكل شيء على هذه الأرض مباح وحلال لنا أكله ولبسه وفعله وقوله ما لم يرد فيه نص بالحرمة أو النهي بطريقة قطعية محكمة , أما كل من يقول في دين الله برأيه أو يستند إلى الأحاديث الظنية المخالفة لنصوص القرآن أو يستند إلى المذهب والهوى والآراء والقياسات والقول على الله بلا علم فهو من يبذر بذور الاختلاف والشقاق والفرقة بين الأمة وكل قول أو فعل لم يرد فيه نهي في القرآن ... قال تعالى : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } ولا يظن أحد أن كل مباح وحلال هو بعيد عن حكم الله بل هو حكم الله فليس حكم الله بالحرمة والنهي فقط بل ما سكت الله عنه هو حكمه فيه بأنه حلال وهذا هو معنى قوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } فما وجدناه في كتاب الله محرم أو منهي عنه فهو حرام مأمورون بعدم فعله أو قوله وما لم نجده في كتاب الله محرما أو منهيا عنه فحكم الله فيه أنه مباح , فما ذكره الله في القرآن هو حكمه وما لم يذكره فهو حكمه أيضا , فيصبح كل شيء قد حكم الله فيه بالحرمة والمنع أو بالإباحة أو الحل أو السكوت عنه فهو حكم الله سبحانه أحكم الحاكمين .
* يرفض البعض الخلط بين الدين والسياسة ويتعمد البعض الخلط بينهما فما وجهة نظرك فيها ؟
** كثير ما يخلط الناس بين الحكم والسياسة , فالحكم : بمعنى القضاء والفصل في المنازعات وتشريع الأحكام شيء , والسياسة بمعنى الحاكم ونظام الحكم وتدبير شئون الناس وإصلاحها شيء آخر , هذا فارق مهم كان لا بد من الإشارة إليه والتنبيه عليه أكثر من مرة لأن البعض في التيار العلماني والإسلامي ما يخلطون بين الأمرين , بين الحكم بمعنى القضاء والفصل في المنازعات ,وبين الحكم بمعنى الرياسة والنظام السياسي والحاكم والتدبير وإدارة الدولة , وبتفصيل أكثر نقول الآتي :
الحكم له معنيان هما :
- الأول : القضاء بين الناس , حكم بينهم : قضى بينهم , بمعنى : فصل في المنازعات أو الأحكام التي تفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه , كأحكام الله التي وردت في القرآن من حلال وحرام وحقوق وواجبات وزواج وطلاق وإرث وغيرها , هذه كلها ترد بمعنى الحكم , كالقوانين والتشريعات الوضعية فكلها أيضا يطلق عليها مسمى الحكم , فنص التشريع ونص القانون يسمى الحكم.
- الثاني : الحكم بمعنى الرياسة أو الإمارة أو السلطة أو السياسة بمعنى التدبير والقيام على أمور الناس وإصلاحها وهذا النوع من الحكم يختص فقط بالحاكم ونظامه وإدارته للدولة أو الأمة , ولا يختص بإصدار القوانين والتشريعات لأن القوانين والتشريعات حكم , والنظام السياسي والرئاسي حكم , فهذا حكم وهذا حكم .
وكما سبق وأشرنا أن كثيرا من الإسلاميين وخصومهم من العلمانيين ما يخلطون بين هذين النوعين فيطلقون على كلا النوعين سياسة , فإذا قال الإسلاميون نحن نريد تطبيق الشريعة أي أحكام القرآن من عقوبات وحلال وحرام , يسارع العلمانيون بقولهم لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين , وإن كان العلمانيون يقصدون بالسياسة هنا أحكام الدين والتشريعات سواء كانت دينية أو وضعية ليست بسياسة , أما إن كنوا يقصدون بالسياسة هنا أحكام الدين وتشريعاته فهم مخطئون لأن القوانين والأحكام والتشريعات سواء كانت دينية أو وضعية ليست سياسة , أما إن كانوا يقصدون بالسياسة نظام الحكم والرياسة وإدارة الدولة فهم مصيبون في قولهم لأنه فعلا لا سياسة بهذا المعنى في الدين , بمعنى ليس في القرآن أي آية تشير إلى كيفية إقامة نظام سياسي كتنصيب رئيس الدولة , فكل هذا لم يرد في القرآن وما دام أنه لم يرد فيه نص إذا فهو متروك للناس يقننونه كما يشاءون ويحددون النظام الذي يرغبون فيه لكن ثمة شيء هام ينبغي الإشارة إليه وهو أن لم يكن القرآن قد أورد كيفية إقامة النظام السياسي وتركه لخيار الناس فقد وضع مبادئ لا بد وأن يقوم عليها النظام السياسي نذكر منها مثلا:
- الشورى : قال تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } .
- العدل : قال تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .
وحكم الله هو العقوبات الست التي شرعها الله في كتابه " القتل – الزنا – السرقة – القذف – الحرابة – السحاق واللواط " أما المحرمات الأخرى والمنهيات فلم يرد لها أي عقوبة في القرآن , فينبغي على الحاكم المؤمن أن يحكم بين المؤمنين وإن رأى الناس أن الناس أن يضعوا لها عقوبات وضعية فلهم ذلك , فلم يرد أي نص في القرآن يمنع الحاكم من وضع عقوبات للجرائم التي لم ترد لها عقوبة في القرآن وتكون العقوبات مناسبة لحجم الجرم ولا تكون أكبر وأفظع من الجرم ولا تصل إلى القتل لأن الله لم يشرع القتل إلا للقاتل العامد والباغي المحارب المعتدي سواء كان مسلم أو غير مسلم فقط هذان الصنفان هما اللذان أحل الله قتلهما .
وإن كان التيار الإسلامي يرى أن الحكم بمعنى سياسة الناس ورياستهم وتدبير أمورهم من الدين فهم مخطئون , لأن الحكم بمعنى السياسة والرياسة ونظام الحكم وتنصيب الحاكم وغيره من كيفية إدارة الدولة وتنظيم الأمور الحياتية والوظيفية . كل هذا لم يرد به أي نص القرآن وهو متروك لتدبير الناس وتنظيمهم بالطريقة التي تصلح لهم إذا ارتكزت هذه الطريقة على مبدأ العدل والشورى والمساواة بين الناس , ولا مانع من يختلف الناس فيما بينهم حول كيفية وضع النظام السياسي وحول ما لم يرد فيه نص ولكن دون قتال ودون تكفير ودون عداوة وبغضاء .
* يعطى البعض لنفسه الحق في تكفير الآخرين وإصدار الأحكام عليهم بالقتل وتنفيذها في بعض الأحيان فما رأيك في هذه المسألة ؟
** إن إطلاق الأحكام على جرائم الكفر والخروج من ملة الإسلام يتطلب التحقق من عدة أمور مستحيل أن يطلع عليها إلا الله وحده ولذلك لا يحل لأحد ولا يحق له إطلاق حكم الكفر لشخص منتسب إلى الإسلام ينطق بالشهادتين ويقيم شعائره مهما صدر منه من أقوال أو أفعال توجب الكفر ما لم يعلن ردته وانسلاخه عن الإسلام صراحة واعتناقه دينا آخر أو لم يعتنق فهذا كافر مرتد ولا يحل قتله لعدم وجود نص في القرآن بقتل المرتد , أما الأفعال والأقوال التي قد تصدر من الأشخاص المنتسبين إلى الإسلام كإنكار شيء من الدين أو رفضه أو الاستهزاء بدين الله أو ترك فرض من فروض الدين أو استحلال ما حرم الله وغير ذلك من الأفعال التي توجب الكفر أو تعد في دين الله كفرا , فلا يحل لأحد ولا يحق له إطلاق الكفر عليه لعدم التحقق من ذلك ولا يستطيع أحد التحقق من ذلك إلا الله سبحانه وتعالى , ما دام هذا الشخص لم ينكر الدين جملة ولم يعلن ردته وانسلاخه الكلي عن الإسلام , ولا يحل لأحد قتله أو عقابه لعدم ورود نص قرآني ينص على ذلك , بل إن كثيرا من المسلمين على عهد الرسول فعلوا الكفر وقالوا الكفر ولم يروى أن رسول الله قتل أحدا منهم ولم يأت القرآن بقتلهم بل بقوا كما هم في صفوف المسلمين ومنهم من تاب وقبل الله توبته ومنهم من لم يقبل الله توبته ومن لم يقبل توبته لم يأمر بقتلهم .
* ذكرت في كتابك المسلم المرتكب للكبيرة وغير التائب منها سوف يخلد في النار ولن يخرج منها أبدا ... نريد توضيحا لذلك ؟
** إن من عصى الله سبحانه وتعالى عامدا متعمدا وتعدى حدوده وانتهك محارمه ومات بغير توبة نصوح فهو خالد مخلد في النار أبدا كما جاءت بذلك نصوص القرآن القطعية المحكمة منها :
قال تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفارا أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما } ,, وقوله تعالى : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ,, وقوله تعالى : { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } .
من هذه النصوص نتبين أن من عصى الله عامدا متعمدا سواء أكان من المسلمين أو من غير المسلمين لن يدخل الجنة أبدا ومصيره الخلود في النار.
وإن موضوع دخول النار والخروج منها لم يرد أي نص في القرآن يشير من بعيد أو من قريب إلى أن من دخل النار سيخرج منها ويدخل الجنة لا بالشفاعة ولا بغيره بل إن ما ورد في القرآن يشير إلى أن من دخل النار لن يخرج منها أبدا .
* ذكرت في كتابك أن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم وفقا لما جاء في القرآن في حياته فقط وليس بعد وفاته ... ويعد هذا كلام خطير سوف يعرضك لهجوم شرس من عموم المسلمين ... فما قولك ؟
إن تكرار القرآن وتأكيده على طاعة الرسول مرات كثيرة لم يكن لمجرد التكرار أو لمجرد التذكير بطاعة الرسول وحسب بل كانت هناك أسباب أخرى يقرأها المسلم في سياق النصوص التي جاءت تأكد على طاعة الرسول وتحذر وتنذر من معصيته , ولها أسباب معروفة , فأهل مكة كانوا لا يصدقون أن يرسل الله رسولا من البشر وكان كثير من الصحابة في حالة شك من كون محمد صلي الله عليه وسلم هو رسول من عند الله حقا فضلا عن أن بعض الصحابة كانوا يصرون على معصية الرسول ونقض عهودهم معه ومنهم من لا يؤمن به لكن الأهم من ذلك أن معظم الآيات التي وردت في طاعة الرسول تحدثت عن طاعته في الخروج إلى الجهاد مع الرسول ... وكان البعض لا يرضى بحكم رسول الله ومنهم من كانوا يتخلفون عن رسول الله ويرغبون عنه ومنهم من يذهب دون أن يستأذن رسول الله ومنهم من يرفع صوته عند رسول الله ويجهر له بالقول , ومنهم ممن لم يرضى بقسمة الرسول للغنائم .
ولأن كل ما ذكرت مأخوذ من نصوص قرآنية وليس من السيرة فإني أؤكد أن طاعة الرسول وتكرارها في القرآن كان للذين معه ومعظم هذه الآيات في الأمر في الخروج للجهاد وعدم مخالفة أمره .. وليس كما يزعم العلماء إنها وردت فيما ورد من أحاديث تنسب رسول الله ظلما وبهتانا , أما طاعتنا للرسول بعد وفاته فيما جاء به من قرآن وفي بيانه لكيفية عبادة الله من صلاة وزكاة وصيام وحج وطهارة وغيرها من العبادات .
* ومع توقعنا بتعرضك لبعض الانتقادات أو الملاحظات على أرائك فكيف يتم الاتصال بك من أراد الاستفسار أو المراجعة ؟
** أنا على استعداد لتلقى جميع الاستفسارات والأسئلة على هذا الإيميل
Nehro_basem @ hotmail.com
#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟