|
علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1488 - 2006 / 3 / 13 - 09:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لم يُقدر لسورية ، المستقلة ، الإكتساء بحلة الديمقراطية ، سوى لعقد واحد من السنين ؛ بما جدّ من رقع الإنقلابات المغامرة والهيمنة الناصرية . إلى أن جاء يوم الثامن من آذار 1963 ، البعثي ، ليطرح عن جسد " عرين العروبة " هذه الحلة نهائياً ، مستبدلاً بها معطفاً عسكرياً خشناً وفظاً ، ما فتئت منذئذٍ تتلبّسه وتبتليه . ما أسرع أن إستحوذ هذا العرين " أسدٌ " قادم ، بدوره ، على ظهر الدبابة الإنقلابية ، مبعداً رفاق الدرب إفرادياً أو جملة ً عن مناهب فريسته الفاخرة . كان خطاب تحرير فلسطين ، من النهر للبحر ، هو فاتحة " البيان رقم واحد " للبعث وأسلافه من ديكتاتوريي سورية ؛ علاوة على أندادهم في الدول العربية ، الثورية . هذا الخطاب ، إنتهى عملياً في نكسة 1967 بفقدان المزيد من الأرض العربية ؛ ومنها هضبة الجولان التي سلمها وزير الدفاع ، آنذاك ، الفريق حافظ الأسد ، بدون مقاومة تقريباً : بحجة أنّ الحفاظ على " النظام التقدمي " في دمشق ، هو المهمة الأكثر أهمية وإلحاحاً للجيش العقائدي ؛ المهمة المتواصلة أداءً منذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة .
ما كانت " تقدمية " النظام الجديد ، سوى قناعاً لوجهه الحقيقي ، الطائفي . وكذلك الأمر بالنسبة لخطابه القومي المستلهم ، شكلاً وحسب ، عقيدة البعث ، الأصلية . كان طريدو السلطة السورية ، من كتلة " القيادة القومية " للحزب ( بزعامة المدني ميشيل عفلق والعسكري أمين الحافظ ) ، قد وجدوا ملاذاً لهم في حِمى رفاقهم إنقلابيي عراق 1968 ؛ أولئك التكارتة المجتمعون على عصبيّة سنيّة عروبية ، متطرفة ، تحاول عبرها إخضاع المذهبية الشيعية والقومية الكردية . بالمقابل ، فإنّ مشروع " علونة " سورية ، كان يحبو رويداً على أرض الغالبية السنيّة ، غير الممهَدة ؛ المشروع المتخمّر ، منذ البداية ، في ذهن الأسد وكتلته الإنقلابية : هاهم أمام وضع إقليميّ ، غاية في التعقيد ، متمثل بالجار البعثي التكريتي ، المنافس ، المتحالف مع الملك الهاشمي ، الأردني ؛ يماثله وضع داخليّ ، غير مستتبّ بعدُ ، بتحديات سنيّة قوية ، شوكتها جماعة الإخوان المسلمون ، فضلاً عن قوى يسارية وقومية نشطة ، كالشيوعيين والناصريين . الطريف والمأساوي في آن ، أنّ هذا النظام وبحكم عقلية أقطابه ، العسكرية المحتقرة لكل فعل مدنيّ ، ما كان له فيما بعد إلا أن يهمّش تلك الأحزاب والحركات جميعاً ؛ بما فيها البعث نفسه . وكمثال لا يُدحَضُ ، ما نعرفه عن خبايا تأسيس " جمعية المرتضى " برئاسة جميل الأسد _ عم الرئيس الحالي _ والتي أنيط بها بشكل سافر محاولة " علونة " الجماعات السنيّة ، تحديداً ؛ وخصوصاً الأكراد والشركس وعرب العشائر .. إلى أن صدر أمر رسميّ ، من الرئيس حافظ الأسد ، بحل الجمعية عام 1984 ، إثر لغط طويل على مستوى الشارع السوري وحتى داخل صفوف البعث وحلفائه . وبهذا الشأن ، يجدر التنويه أن الحزب الشيوعي ، الحليف ، كان في حينه قد أصدر بياناً ندد فيه بما أسماه : " قيام البعض يتأسيس التنظيمات الطائفية في سورية " ؛ مما أوغر صدر الشقيقيْن جميل ورفعت غضباً ، تجلى بإعتقالات عشوائية لمنتسبي ذلك الحزب ، إضافة لحرمان مرشحيه ، ومنهم وصال فرحة ، من كرسي العضوية في ما يسمى بـ " مجلس الشعب " .
مسنوداً بحليف دوليّ قويّ ، هو الإتحاد السوفييتي ، أدخل الرئيس الأسدُ شيوعيي البلد في ربقة ما أسميَ " جبهة وطنية تقدمية " ، لم يتخلف عن ركبها أحزاب اخرى إشتراكية ووحدوية . إنّ إضفاء الشرعية الثورية على نظامه ، عاضده الرئيسُ بإنفتاح مماثل على ممثلي الأغلبية السنيّة من إخوان ورجالات دين وتجار وغيرهم . لقد كان في تقدير هؤلاء الأخيرين ، أنّ النظام الجديد بصفته الطائفية ، العلوية ، هو أفضل الشريْن مقارنة بسلفه ؛ نظام صلاح جديد ، اليساري المتطرف ، والمنتمي أيضاً للصفة الطائفية نفسها . هذا التقديرُ ، المغلوط بإعتراف الجميع اليوم ، إستغله الأسد إلى مداه القصيّ ؛ عامداً لتزيين نظامه الطائفي برتوش سنيّة ، تجميلية ، بتقديم هذا التكنوقراطي الدمشقي أوبتزكية ذاك العسكري الحمصي . وقد لاحظ الباحث باتريك سيل ، في كتابه عن سيرة الأسد ، المعنون " مسيرة مقاتل " ، أنّ قادة الأجهزة الأمنية ، العلويين برمتهم ، هم وحدهم الذين يعتمد عليهم الرئيس ويمحضهم ثقته . وعلاوة على تلك الأجهزة الأمنية ، المهتمة بدرجة أساسية بمراقبة القيادات العسكرية ، كان ثمة تنظيمات مقاتلة ، منفصلة ، تحمي ظهر النظام : كـ " سرايا الدفاع " ، التي أسسها الشقيق الأصغر ، المتهوّر ، رفعت الأسد ، من نواة قوّة المغاوير البعثية ؛ و " سرايا الصراع " بإمرة إبن العم عدنان الأسد ؛ و " الوحدات الخاصة " بعهدة القريب محمد علي حيدر ؛ إضافة لـ " الحرس الجمهوري " الذي يقوده خال الرئيس الحالي ، محمد مخلوف : القطعات الثلاث الأولى ، أوكل لها في بداية الثمانينات ، في خضم المواجهة مع عناصر تنظيم الإخوان المسلمين ، مهمة التنكيل بالمدن السنيّة ، العربية ؛ كحلب وإدلب وجسر الشغور .. ومن ثم تنفيذ مجازر مروّعة ؛ كما جرى في سجن تدمر ، ومن ثمّ تدمير حماة على رؤوس ساكنيها ، في واحدة من أبشع أعمال الإبادة الجماعية في العصر الحديث . أمّا الحرس الجمهوري ، الذي صادر مهمات سرايا الدفاع ، المحلولة ، فهو الآن ذراع النظام الضاربة ؛ كما تجلى ذلك قبل عاميْن ، أثناء إنتفاضة 12 آذار الكردية .
مشروع أهل النظام ، الطائفي المستتر ، المتعارض مع المشروع الوطني ، المزعوم المعلن ، كان قد أوصل البلد لهزيمة جديدة على جبهة الحرب مع اسرائيل ، لا تقلّ فداحة عن نكسة عام 67 . إن ما أسمي بـ " حرب تشرين التحريرية " ، كانت في الواقع خسارة لمزيد من الأرض السوريّة ، وتثبيتاً مؤبداً على ما يبدو للإحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان ؛ هذه التي أعلنت تل أبيب ، " رسمياً " ، ضمها عام 1981 . إن الفشل العسكري للنظام تلاه إخفاقه الديبلوماسي في المفاوضات المقترحة مع إسرائيل ، وبرعاية أمريكية ، منذ أواسط سبعينات القرن المنصرم وحتى مستهل القرن الحالي . أضحى واضحاً الآن ، وبلا أي لبس ، أن قضية الجولان بالنسبة لنظام الأسد الطائفي الديكتاتوري ، ما هي إلا بضاعة يبيعها في سوق المزايدات الوطنية ؛ بضاعة يستبدلها بإستمرارية نزفه لخزينة الدولة السورية ، بلا وازع أو رقيب ؛ بدوام قوانينه الإستثنائية ، المكبلة لأي نشاط سياسي معارض فعال ؛ بشرعنة نهبه السافر لعوائد الثروة النفطية ولكل المرافق الحيوية للدولة ومصادر دخل المواطنين ؛ هؤلاء الذين بات أكثر من ستين بالمئة منهم ، تحت معدلات الفقر العالمية : مأثرة البعث ، الكبرى ، بعد ثلاثة وأربعين عاماً من إنقلابه !
عقلية النظام ، الطائفيّة ، كان لها " مختبر " آخر ، هناك في لبنان ؛ البلد الصغير ، الساحر ، ذو النظام المؤسَس على الصفة التمثيلية الدستورية ، وبتوافق مكوناته الطائفية . هذا البلد ، عُدّ دوماً " مثالاً سيئاً " ، غاية في الخطر ، بحكم تلك العقلية الأسدية ، المستبدة . لا غرو أن يكون تدمير البلد الجار وتخريب نظامه الديمقراطي ، في ذهن عقلية ضيّقة يقوم تحكمها بسورية على أسس طائفيّة محضة ، غير توافقية أو تمثيلية دستورية ؛ بل إنتقامية ثأرية ، ديدنها القمع والإرهاب والنهب والفساد . هكذا إذاً تلاعبَ الأسدُ بالفرقاء اللبنانيين خلال الحرب الأهلية مستعملاً ، هنا وهناك ، أدواته الفلسطينية ، ثمّ الإيرانية لاحقاً . فمن زعيق إعلامه بداية الحرب الأهلية عن " الإنعزاليين " بتوصيفه للمسيحيين اللبنانيين وضرورة إنهاء المؤسسة السياسية الطائفية ، مروراً بنجدة الجيش السوري لأولئك " الإنعزاليين " أنفسهم وما تلاه من ضرب " الحركة الوطنية اللبنانية " وحلفائها الفلسطينيين ، وحتى الإنقلاب مجدداً على الحلفاء المسيحيين ونعتهم بالعمالة لإسرائيل : متواليات من التحالفات والتحالفات المضادة ؛ العداوات والمصالحات ؛ التفجيرات والإغتيالات والتصفيات .. الخ . تلك كانت مآثر الطغمة البعثية في لبنان ، المترافقة مع النهب والسلب وغسيل الأموال والإبتزاز ؛ طغمة ٌ / مافيا ، إعتادت دوماً أن تدير جمهورية ً / مزرعة ً . وحتى إسم الجمهورية _ يا للمهزلة ! _ صار في الآونة الأخيرة إلى التلاشي في سورية الأسد ، بشيوع تقليد وراثة العهد ؛ هذا التقليد الذي سرعان ما تفشى في باقي الدول العربية ، الجمهوريّة ، الشقيقة .
من جهة اخرى ، فإنّ تعويل النظام السوري على " تمثيله " للطائفة العلوية ، لحشدها في معاركه الداخلية بهدف دوام إحتكاره للسلطة ، المحصورة بالعائلة المقدسة ومحالفاتها العشائرية ؛ هذا التعويل ، كما تبيّن إثر مرور عقود من حكم آل الأسد ، كان على درجة كبيرة من سوء التقدير : فالتيارات اليسارية ، خصوصاً الراديكالية منها ، وجدتْ في إقليم الساحل السوري خيرَ مكان لنشاطها ورفد قوتها ، سواءً بسواء . إن تكديس الثروات الأسطورية من لدن قلة مرتبطة ، قرابة ووظيفة ، بالمؤسسة الرسمية _ من أبناء الطائفة العلوية ، تحديداً _ قابله رسوخ أغلبية واضحة من أبناء تلك الطائفة في درك الفقر والحاجة والحرمان . لا عجب إذاً أن يرفض هؤلاء الأخيرون ( وعلى الأخص فئاتهم المثقفة المسيّسة ) ، تجيير الطائفة العلويّة بما هي مكوّن وطنيّ سوريّ ، أصيل ، لخدمة سياسات النظام الأسدي ، الضيّقة الأنانيّة . هذه الحقيقة ، قابلها النظام المستبد بشراسة منقطعة النظير ؛ فطال قمعه الوحشيّ تلك الأوساط اليسارية الراديكالية بشكل خاص ، منهالاً بواسطة أجهزته الأمنية على أعضائها زجاً بالمعتقلات وبالتعذيب الشنيع المودي في كثير من الحالات للموت : هاهنا ، بحسب مفهوم أهل النظام ، خونة " الطائفة المختارة " ، يجب التنكيل بهم درساً للآخرين ؛ لكل من تسوّل له نفسه الخروج عن سلطة العائلة المقدسة والأب القائد .. والإبن القائد ، لاحقاً .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بلقنة سورية : جذور 8 آذار
-
نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
-
نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
-
مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
-
أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
-
الوثنيّة الإسلاميّة
-
الموساد ، من كردستان إلى لبنان
-
التعددية ، في وصفة بعثية
-
عيدُ الحبّ البيروتي
-
عبثُ الحوار مع البعث ، تاريخاً وراهناً
-
المقاومة والقمامة : حزب الله بخدمة الشيطان
-
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية 2 / 2
-
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية
-
إعتذار صليبي من قلعة الإسلام
-
التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية
-
الإجتماعيات الكرديّة : تقاليدٌ وتجديد
-
الإجتماعيات الكردية : طِباعٌ وأعراف
-
الإجتماعيات الكردية : فقهٌ وتصوّف
-
القصبات الكردية (2 / 2)
-
الإجتماعيات الكردية : عامّة وأعيان
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|